الأدب في عصر العلوم

الأهرام – العدد ٣٢٧١٨
١ يوليو ١٩٧٦

عجيب أمر هذا الأدب، كيف استطاع أن يخترق هذه الأجيال جميعًا ليصل إلينا، كيف استطاع التراث العربي أن يركب الأجيال إلى زماننا هذا، فنعرف ما قاله امرؤ القيس وعنترة والمنخل اليشكري، ثم يزيد التاريخ فيروي قصصهم بعد أن تناقلتها الأجيال أشياء مسموعة لم تُسجَّل في ورق، حتى جاء عصر الكتابة فتمكَّنَت قصصهم وتمكَّن شعرهم من التاريخ وتصدره، وراح ينفذ من جيل إلى جيل، حتى جاء عصرنا هذا ليروي الشعر الجاهلي وما بعده من أموي وعباسي، بل إن التاريخ حتى لم يُسقط الشعر الهزيل الذي نُظم أيام المماليك والذي يشبه المزحة السخيفة في تاريخ مصر.

ونفس هذه الدهشة تتولانا مما نُقل إلينا من الأدب العربي الرفيع منه والهزيل، تحافظ عليه الأجيال وتتناقله كمعالم من خُطى الحضارة في البشرية.

ولكن هذه الدهشة تنقلب إلى ذهول حين نجد أن الأدب ما يزال موضع إجلال وتكريم في هذا العصر الذي تعمق فيه العلم وبلغ ذروة العالَم وتسيَّد الحياة في شموخ مخيف، ومشى الإنسان على القمر وطاول المريخ وداعب الزهرة.

ماذا أبقى على الأدب في عصر العلم الشامخ هذا؟ وكيف كتب له أن يعيش وأن يظل مزدهرًا؟

بل الأعجب من ذلك، لماذا يحاول كثير من العلماء أن يكتبوا شعرًا أو قصة أو ينتموا إلى دنيا الأدب من أي سبيل، مع أنهم أساتذة في علومهم ولا يحتاجون إلى شهرة، ولعل قائلًا يقول: وأي عجيبة فيما ترى؟ إن عصر العلم لم يُلغِ الموسيقى ولا إقبال الناس عليها وعلى الغناء، ولكن الأمرَين مختلفان كلَّ الاختلاف، وأين الاسترخاء الذي تُسلم نفسك إليه وأنت تستمع إلى الموسيقى من الجهد العقلي والنفسي الذي يلمُّ بك إذا أنت قرأت أدبًا حقيقًا خليقًا بأن يحمل اسم الأدب.

ما الذي يجعل القارئ يبحث عن رواية ويقرؤها، أو عن مجموعة قصص قصيرة أو مسرحية جادة ذات أعماق.

تُرى هل لأن الأدب هو علم الإنسان، والإنسان مصاب دائمًا بنرجسية لا تبارحه يحب أن يرى نفسه، ويحب استطلاع ما لا يستطيع منه فكاكًا، يحب أن يعرف أعماق غيره، بل لعله فيما يقرأ يرى أعماق نفسه ويُخيَّل إليه أو يُهيِّئ هو لنفسه أنها أعماق غيره.

ما كان أغناه عن هذا؛ فإن العلم أيضًا لم يُفلتْ هذه الناحية للأدب وطلعَ عليه بعلم النفس الخالص، وليس على مَن يُنشد تعمُّق نفسه إلا أن يقرأ كتب علم النفس، وقد يقول قائل شتان، وأين العلم الجامد الصلب من الرواية أو القصة أو المسرحية، تتسلَّل إلى خوافي النفس وإلى خلجات المشاعر ونأمات الضمير لتكوِّن أخلاق الناس وتُريهم الكون جميعًا في أحرف وكلمات.

ولكن هل يفكر القارئ كلَّ هذا التفكير حين يشتري رواية أو مجموعة قصص أو مسرحية، أم إن الفن الأدبي طبيعة من طبائع النفس الإنسانية تحب أن تسمعه وأن ترويه وأن تنفعل به وأن تستثير به انفعال الآخَرين؟ وإن لم تكن، فما سر بقاء الأدب حتى اليوم علمًا خفاقًا من أعلام الثقافة العالمية يعتبره الكثيرون أسمى الأعلام وأرفعها شأنًا؟ لأنه يقوم على عنصر الإبداع.

ولعل هذا العنصر هو الذي يجتذب إليه المشاهير من العلماء وغيرهم، محاولين أن ينتسبوا إلى عالم الأدب واجدِين في ميدانه شرفًا، لعله أكبر من شرف الميدان الذي ينتسبون إليه في نظرهم على الأقل.

ثروت أباظة

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤