مقهى في عرض البحر الأبيض المتوسط

الأهرام – العدد ٣٢٧٢٢
١٣ يوليو ١٩٧٦

الصيف عندي هو البحر، ولا شيء آخَر، والرياضة كل الرياضة التي أقوم بها عوم عاجز على شاطئ من شواطئ الإسكندرية، وفي البحر الأبيض المتوسط أغرق متاعب عام بأكمله، وأنا في هذا العام أحتاج إلى محيط فما أحسب البحر يكفي متاعبي ولكن ما لا يُدرَك كله لا يُترَك كله، فبحسبي هذا الشاطئ الحبيب الذي أهفو إليه كلَّ عام، أسعى إليه في عامي هذا وأنا لأول مرة في حياتي أعمل في مكان ثابت أحمل فيه مسئولية بعينها، ومَن يدري؟ فربما يشاء القدَر أن أغرق وظيفتي أيضًا مع متاعبي في البحر الأبيض، وما يدفعني إلى هذا القول أيُّ بوادر أو مقدمات، وإنما هي النفس التي عُوِّدت أن تكون بلا وظيفة مدة خمسة وعشرين عامًا ولم تُعوَّد أن تثبت في مكان واحد.

تخرَّجت في كلية الحقوق وسعيتُ إلى الوظيفة سعيًا حثيثًا، ولكني لم أستطع منها نيلًا، ولعل أطرفَ ما مَرَّ بي في هذا السعي ما كان بيني وبين عبد الملك بك حمزة رحمه الله، فقد كنت أعرف أنه صديق لأبي، وأن أبي تمرَّن في مكتبه عندما تخرج في كلية الحقوق، قصدت إليه وهو رئيس مجلس إدارة شركة الملح والصودا طالبًا أن أُعيَّن بها، فكان في كلِّ مرة يقول تعالَ بعد أسبوع، وفي أسبوع من هذه الأسابيع ظهر كتابي الأول ابن عمار، فحملتُه إليه لعله يكون شفيعًا، وقال قولته الثابتة: تعالَ بعد أسبوع، وذهبت بعد أسبوع.

– يا ابني أنا لن أعيِّنُك …

– شكرًا.

– أنت عبقري …

– عبقري؟!

– ولا يمكن أن أدفن عبقريتك في الوظيفة!

وهكذا ظلَّت عبقريتي بلا وظيفة خمسًا وعشرين سنة أبيع فيها أرضي وأنفق من ثمن البيع، وهكذا قُدِّر لي ألا يأخذ مني الإصلاح الزراعي قيراطًا واحدًا، وطبعًا يرجع الفضل في هذا إلى عبقريتي المزعومة وحدها التي رفض عبد الملك بك أن يدفنها بالوظيفة، ورفضَتْ كلُّ الجهات من بعده أيضًا أن تدفنها بالوظيفة، سواء كانت هذه الوظيفة عملًا في جريدة أو مجلة تؤهلني له عبقريتي هذه ذات النوع العجيب، أو كان العمل إداريًّا أو قانونيًّا تؤهلني له شهادة الحقوق التي بذلت في سبيل الحصول عليها ثلاثة وعشرين عامًا.

وكنت قبل أن أذهب إلى عبد الملك بك قد طلبت من أبي عندما تخرَّجتُ أن يُكلم الدكتور حافظ عفيفي أن يُعيِّنني كمحامٍ في بنك مصر، فإذا أبي يقول في تعفُّف لم أعرفه في غيره: هل تتصور أن أرفع سماعة التليفون لأقول لأيِّ شخص عيِّن ابني؟

وخجلت من نفسي وأنا أقول: لا … لا أتصور.

وهكذا ضعت أنا بين كبرياء أبي وعبقريتي، وظللتُ خمسًا وعشرين سنة بلا وظيفة، وها أنا ذا أذهب إلى الإسكندرية لأول مرة موظفًا، فهل تراني أستطيع التمتُّع بالإسكندرية كما تعودتُ أن أتمتع؟ تلك تجربة جديدة لا بد أن أمُرَّ بها حتى أستطيع الإجابة عن هذا التساؤل.

فقد تعوَّدنا منذ سنوات طويلة أن نجلس على مقهى داخل الأمواج، وليس الجلوس على كراسي، وإنما هو تحريك الأرجل واليدين بالصورة التي تبقي على جسومنا طافية، وأعضاء المقهى هم الدكتور الدمرداش أحمد، وكيل وزارة الصحة السابق، وعضو مجلس النواب، ومجلس الأمة السابق أيضًا، فقد خرج من مجلس الأمة إلى المعتقل، وأُصيبَ فيه بأزمتَين في القلب، وظلَّ في المعتقل مع ذلك، وكلُّ هذا لأنه تجرأ فناقش نقاشًا جادًّا في أمرٍ هو فيه متخصِّص، وهو الطب الوقائي.

وأما العضو الثالث فهو الدكتور إبراهيم الدمرداش — ولا قرابة بين الرجلين — والدكتور إبراهيم الدمرداش رجل ذو شهرة واسعة في عالم الهندسة، وقد كان عميدًا لكلية الهندسة وهو واسع الثقافة بشكل يدعو إلى الذهول.

والحديث في الندوة شعرٌ من محفوظ الدكتور الدمرداش أحمد، فهو من هواة الأدب الفطاحل، أو ذكريات من ذكرياته، فصِلاته الاجتماعية متسعة تشمل العالم أجمع، لا أستثني منه قطرًا.

ويروي الدكتور إبراهيم شعرًا من شعره، فهو عضو في المجمع، ثم ينتقل بنا الحديث إلى الأزمة الاقتصادية، حتى إذا فرغنا منها وحللناها انتقلنا إلى حلِّ أزمات البلاد الأخرى، مثل إنجلترا والأزمة الاقتصادية بها، وإيطالية والأزمة السياسية التي تعانيها، فإذا قضينا على هذه الأزمات جميعًا وأصبحَتْ محلولة في أمان الله ضربنا في الماء ذراعًا أو ذراعَين وخرجنا إلى ملابسنا على موعد لقاء في اليوم التالي.

وحين نلتقي نتبيَّن أن هناك بعض الفروع من الأزمات لم نتعرَّض لها في أمْسِنا، فنتناولها بالتمحيص ثم بالتشخيص ثم بالدواء، فتنحلُّ الأزمة بين أيدينا بقدرة قادر.

وهكذا نقضي صيفًا هانئًا على مقهى بين الأمواج … أتُرى تُتيح لي الصفحة الأدبية التي لا بد أن أعرف محتوياتها كلمةً كلمة، والمفكرة التي لا مفرَّ من كتابتها كلَّ أسبوع، أن أقضي صيفًا مثل الذي كنت أقضي، وإن لم، فمَن إذن سيحل مشاكلنا الاقتصادية ومشكلة لندن وإيطاليا وما يستجد من مشكلات في أثناء الموسم؟ لا سبيل لنا إلا أن نترك الأمر بكامله لله الذي لا يغفل ولا ينام سبحانه على كل شيء قدير.

القرية وخطبة الجمعة

كنت أظن أن إخواننا الفلاحين سيعتمدون على الراديو الترانزستور الذي انتشر في القرى انتشارًا هائلًا في معرفة دينهم، ولكن العجيب أنهم ما زالوا يعتمدون على خطباء الجمعة في معرفة هذه الشئون، وبعض هؤلاء الخطباء علماء حقيقةً، تلقَّوْا علومهم في الأزهر الشريف وتمكَّنوا من أصول التشريع الإسلامي، ولكن بعضهم يخطب لأن أباه كان يخطب الجمعة، ولقد سمعت أحد هؤلاء يدعو أن يؤيد الله السلطان فؤاد ويعز ملكه وينصر جنده، وكان هذا في عام ١٩٦٥.

لعل هؤلاء الخطباء في حاجة إلى كتب حديثة تكون في متناول اليد زهيدة الثمن، وما أعظم أن يؤلِّف هذه الكتب علماء من فقهاء الوعظ الأئمة.

ولا بأس حتى أن تُوزَّع مجانًا دون أي إلزام بالقراءة منها في الخطبة، وإنما تُترك لمَن يريد أن يستعين بها.

إن هذه الكتب لو قام عليها الأزهر الشريف أو وزارة الأوقاف تجعل شرح القرآن الكريم وتعاليمه في أيدٍ أمينة عليه، فإن الأمر أخطر مما نتصوَّر إنْ هو تُرك لمَن لم يتعمَّق في الدين الحنيف والقرآن والسنة.

إنه لا بد للناس جميعًا أن يكون الحرام عندهم واضحًا والحلال بينًا، ولا بد لهم أن يعرفوا رُخَصهم، وأن الله يحب أن تُؤتى رُخَصه كما يحب أن تُؤتى عزائمه.

ولقد اهتم رسول الله بأمر الذين يشرحون الدين اهتمامًا بالغًا، ويكفي أن نذكر حديثه الشريف:

«مَن أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا فليتبوأ مكانه من النار» لنعرف مدى اهتمامه بأن تعرف قواعد الدين على حقيقتها بلا تضييق يمسك بخناق الناس، ولا توسُّع يحلِّل الحرام ويهدم القيم.

هذا رجاء أضعه أمانةً تحت أعين الأئمة، واثقًا أنني ناديتُ مجيبًا وأسمعتُ أمينًا.

تحية وعتاب للإذاعة

من أحسن البرامج التي أعجب بها في الإذاعة برنامج ثقافي درامي يُذاع في البرنامج العام اسمه من الأدب العالمي، يختارون فيه قصة لأديب عالمي ويُقدِّمونها بعجالة موجزة عن حياة الكاتب، ثم يُقدِّمون القصة وقد أُعِدَّت إعدادًا دراميًّا أجده أنا في غاية الجمال والإتقان.

إذن، فالإذاعة تعرف كيف تكون الدراما رائعة، وهي لا شك تدرك جمال اللغة العربية في الأذن فهذه القصص تُعَدُّ باللغة العربية.

العجيب أن البرنامج العام الذي يُقدِّم هذا، نسمع له تمثيليات لا شك أن مؤلفيها يجهلون الفن الدرامي جهلًا تامًّا، فالحوار مباشر دائمًا، والنصيحة تخبط النصيحة، والحكمة تصك الحكمة والذي كنا تعلمناه أن الدراما والقصة والرواية جميعًا قد صُنعت لتنقذ الناس من النصائح والحِكم، فإذا ذكرت النصيحة أو الحكمة في العمل الفني سقط العمل الفني جميعًا كأنه لم يكن، والمؤلم أننا كثيرًا ما نجد هذا التهافت في المسلسلات التي تستمر شهرًا … وهذه المسلسلات تحظى باهتمام كبير من المستمعين وما أجمل أن ننتهز هذه الفرصة لنُقدِّم للناس عملًا فنيًّا مرتفعًا يستطيع أن يرتقي بالذوق العام.

ولستُ أدري لماذا تقتصر التمثيليات الإذاعية على اللغة العامية فيما عدا برنامج من القصص العالمي، ألا نستطيع أن نُقدِّم أيضًا من القصص العربي، ونجعل الناس يسمعون لغة عربية بعد أن كادت تكون غريبة عليهم؟ إنه مجرد أمل، فهل إلى تحقيقه من سبيل!

ثروت أباظة

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤