عندما يلوي الناقد لسانه

الأهرام – العدد ٣٢٧٢٥
١٦ يوليو ١٩٧٥

هناك

فئة من الناس تتعالى على أدبنا وموسيقانا وفنوننا التشكيلية، فالأدب متأخِّر ساذج، وأين القصة عندنا والرواية من القصة أو الرواية الأوروبية … وأين الموسيقى العربية المتأخرة من السيمفونيات والموسيقى الغربية الرفيعة … وأين الرسَّامون من أعلام الفنون التشكيلية في العالم المتحضِّر؟

هؤلاء الناس ضِعاف، لا ثقة عندهم ببلادهم ولا بتراثهم، وهم حتى في تقديرهم للفنون الغربية مُقلِّدون وليسوا أصلاء، فإننا نستطيع أن نعجب بالفنون الغربية، ولكن الذي لا شك فيه أننا لا نستطيع أن نَصِل من أعماق هذه الفنون إلى المدى الذي يَصِل إليه أبناء بيئتنا الذين تُقدَّم لهم هذه الفنون.

فكل فنان هو في الحقيقة نبت البيئة التي وُلد بها ولا يستطيع أن يعرف القيمة الحقيقية لفنه إلا أبناء بيئته.

وحين أقول البيئة لا أقصد دولة، وإنما أقصد البيئة العامة التي تسود المجتمع العربي من شرقه إلى غربه.

ولكن الكارثة الحقيقية التي مُنيَ بها أدبنا أن نجد بين نُقَّادنا مَن يلوي لسانه باللغة الأجنبية وهو ينقد أعمالنا المصرية رافضًا تمامًا ما نقدِّمه، عاقدًا دائمًا المقارنة بين أدبنا وبين الأدب الغربي.

والأمر الذي لا شك فيه أن هذا الناقد لم يستطع أن يتعمَّق أسرار الفن الأدبي العربي ولا الفن الأدبي الغربي.

فهو يرفض تراثه ويرفض وطنه وينظر إلى تراثٍ أجنبي ووطن غربي، ولكن التراث الأجنبي غريب عنا والوطن العربي هو الذي يرفضه في هذه المرة؛ لأنه ليس منه، ولا يستطيع أن يقبل حكمه على أدبه ولغته بنفس الثقة التي يقبل بها حكم الناقد الغربي على أدب بلاده ولغتها.

هذا الناقد مسكين، لا هو متمسِّك بأصوله وبيئته وعروبته، ولا هو استطاع أن يُلحق نفسه بالأدب الذي يريد أن ينتمي إليه ويرتمي بين أحضانه.

إن القصة والرواية والمسرحية عندنا نظرت — على طول طريقها — إلى الأدب الغربي، وأفادت منه ولكن مع طول الممارسة أصبحت هناك قصة مصرية عربية ومسرحية مصرية عربية، ولو أن المسرحية المصرية هي الغالبية.

فحين كتب الدكتور محمد حسين هيكل رواية زينب، وحين كتب تيمور الكبير ولاشين القصة، وحين كتب أستاذنا توفيق الحكيم المسرحية (أطال الله عمره!) لم يكن هناك أصول ينظر إليها هذا الرعيل الأول إلا الأصول الغربية.

ولكن حين أخذَت الرواية مسارها بعد ذلك على يد طه حسين وتوفيق الحكيم والمازني، وجاء الجيل التالي من نجيب محفوظ ومحمد عبد الحليم عبد الله والسباعي وعبد القدوس والشرقاوي، ومن محمود تيمور ومن بعده يوسف جوهر ومحمود البدوي وأمين يوسف غراب، أصبح للرواية والقصة المصرية العربية تراث، وإن كان الشأن في المسرح غير الشعري مختلفًا، فالذين تأثروا بمسرح الحكيم الشاهق أنتجوا مسرحيات باللغة العامية، ولا نكاد نرى مَن سارَ حتى دربه من الجيل التالي له إلا علي أحمد باكثير.

إن الناقد المتفرنج يقف من الإنتاج الضخم الذي قدَّمه هؤلاء جميعًا وغيرهم من جيلهم وممَّن تلاهم موقفًا متعاليًا مقارنًا في لسان ملتوٍ بلغة أهل الفرنجة رافضًا، أو شبه رافض، دون حتى أن يكون عادلًا في حيثيات رفضه.

ولهذا لم يكن غريبًا أن يرفض القارئ مثل هذا الناقد، فالكُتَّاب المصريون عرب، ويكتبون لمصريين عرب، واللغة بينهم واحدة، والمنبت واحد، والبيئة هي نفس البيئة، فمَن يتعالى على بيئته لا بد أن يقبل الجزاء الطبيعي، وهو أن ترفضه بيئته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤