من أمريكا تحيا مصر

مجلة الإذاعة والتليفزيون
العدد: ٢١٢٢
١٥ نوفمبر ١٩٧٥

وصلت إلى أمريكا قبل أن يصل إليها الرئيس بيوم، فكان من الطبيعي أن أكلِّم ابنة عمي وزوجها الدكتور إبراهيم الترعي الطبيب المشهور، وكان قد ترك مصر في تلك الأوقات التي جعلت مثله يتركون مصر، تبادلنا التحية، وعرف الدكتور الترعي أنني لن أستطيع أن أذهب إليهم لبُعدهم الشاسع عن المنطقة التي تدور الرحلة فيها، وقبل أن تنتهي المكالمة وجدت الدكتور إبراهيم يهتف «تحيا مصر»، ووجدت نفسي أهتف «تحيا مصر»، ومنذ هذه اللحظة وحتى الآن وأنا أكتب هذه الكلمات، وأنا لا أتوقف عن الهتاف «تحيا مصر»، وقلتها وأنا أرى رئيس مصر يستقبله الرئيس الأمريكي في البيت الأبيض، ويستقبله معه الرسميون ووحدات رمزية من الجيش، وأهم من ذلك جميعًا مجموعة كبيرة من الشعب الأمريكي، وقد خُصِّص لها مكان في الاحتفال تلوح بالعلم المصري والعلم الأمريكي لرئيسنا.

وهتفتُ بها وأنا أرى الحفل الذي أعَدَّه الرئيس الأمريكي في البيت الأبيض، وقد وقف الرئيسان، مع كلٍّ منهما السيدة قرينته يستقبلون جميعًا ضيوف الحفل.

وهتفت بها، وهتفت وأنا أرى الشعب الأمريكي جميعًا ممثَّلًا في نوَّابه وشيوخه يستقبلون الرئيس المصري، واقفين جميعًا وقد أخذوا يصفقون له تصفيقًا لا يريد أن ينتهي، حتى إن الرئيس السادات أخذ يشير لهم مرات أن يجلسوا وهم مستمرون في التصفيق.

ثم هم يقاطعونه مرتين بالتصفيق أثناء الخطبة، مرةً حين قال إننا جئنا لا نريد مالًا ولا سلاحًا، وإنما نريد أن نوطد صداقتنا بالشعب الأمريكي، ومرةً حين قال إننا نمثِّل حضارة تمتد سبعة آلاف سنة في أعماق التاريخ، حتى إذا انتهى الخطاب نزل الرئيس قاصدًا باب الخروج يحف به التصفيق الحادُّ، والنواب على الجانبَين يصافحونه على غير معرفة شخصية، ويصاحبه التصفيق حتى يخرج تمامًا من باب الكونجرس، وأهتف أنا، وأهتف: «تحيا مصر».

مصر التي … بذلت دماءها ومالها من أجل العرب جميعًا.

… مصر التي شمخت على الإذلال، وترفَّعت عن المهانة، وتكبَّرت على الجبروت!

… مصر التي أنارت العالم العربي جميعًا بالفكر الأدبي والعلمي، وما زالت رفيعة المصابيح وضاءة الإشعاع.

مصر التي شاء الله أن يمتحنها بفترة قاسية من عمرها، فكتب عليها الهزيمة حين كانت تحارب في ظل قيادة لا تنير الطريق، حتى إذا تزعمها مَن يحبها ولا يحب نفسه، ومَن يريد لها الرفعة ولا يريد لنفسه التألُّه، ومن يبث الإيمان في نفوس أبنائها المحاربين بالله وبها، لا بالشيطان ولا بنفسه، حاربَتْ حربها المنتصرة وخاضتها ضارية؛ لأنها بها تريد السلام لنفسها وللبلاد العربية وللعالم.

وقد كانت الأيدي التي تصفِّق في أمريكا تصفِّق عن مشاعر عرفَتِ السلام الذي تريده مصر، ورأته حين انتصرت مصر، فلم تتكبر لأن الكبار يكبرون ولا يتكبرون، وكانت الأيدي تصفِّق عن تقدير لرئيس مصر الذي يعمل في عظمة الواثق بنفسه، وبوطنه العريق، لا في جنون المتعاظم، ولا في تشدُّق هواة الخطب، ولا في عربدة المحاربين بالشعارات.

فئتان في أمريكا قتلهما الغيظ من نجاح زيارة الرئيس السادات هما: الصهيونيون والفلسطينيون، لقد اتفق الصهيوني والفلسطيني في الولايات المتحدة وفي إنجلترا على مهاجمة الرئيس السادات، حتى لقد وقفَتْ جماعة من كلٍّ منهما أمام فندق كلاردج بلندن، حيث كان ينزل الرئيس، يهتفون بلسان واحد وبلغة واحدة، ولم يخجل الفلسطينيون!

إن كان الرئيس قد قبل أن يُرضي الصهاينة فلماذا يهتف ضده الصهاينة؟!

وإن كان بتحرُّكه هذا يغضبهم، فلماذا يهتف ضده الفلسطينيون؟!

كيف يتفق السارق والمسروق، وكيف يهتف كلاهما بلسان واحد، وينبض قلب كلٍّ منهما بمشاعر واحدة؟!

أم تُرى كلاهما سارق؟ إحدى الفئتَين سرقت دولة، والفئة الأخرى تسرق أموال دول، والتقَتِ المصالح المتضاربة، والتأم الشرُّ والجشع، واتفق النهب وقطع الطريق، ونطق لسان واحد عن فئتَين تدَّعي كلٌّ منهما للأخرى بغضًا، وتعيش كلٌّ من الفئتَين حياتها على حساب هذا البغض، فأما فئة الصهاينة فتدَّعي أمام أمريكا أن العرب يكرهونها، فهي تريد السلاح والمال لتدافع عن نفسها ضد العرب، وأما الفئة الأخرى فتدَّعي أن فئة الصهاينة لا تريد أن تعيدهم إلى وطنهم، فهم يريدون المال والسلاح ليقتحموا على الصهاينة الوطن السليب، ويصبح السلاح بعد ذلك سلاحًا على العرب، ويذهب المال إلى متاجر الصهاينة في لندن ونيويورك! لا يهم، إنما المهم ألا تنتهي القضية إلى سلام، فإن قَبِل زعيم عربي حصيف سلامًا فهم عليه حرب، وإن اتفقوا في ذلك مع الصهاينة؟!

… نعم وإن.

ولكن كبار الساسة في العالم يدركون، وتقف أمريكا كلها تحيِّي الرئيس، ونلتقي برجل الشارع في أمريكا فنجده متابعًا زيارة السادات في حبٍّ وإعزاز، ويقول لي أحدهم (وكنت معه على عشاء): إننا نرى في وجه رئيسكم وجه رجل صادق، حتى ليُخيَّل إليَّ أنني لو التقيتُ به وطلب إليَّ أن أفعل أي شيء لفعلتُه دون تردُّد.

ويسألنا سائق السيارة الأجرة عن الرئيس وعن زوجته، ويقول لنا آخَر إنه سعيد أن الرئيس استُقبل هذا الاستقبال من نواب أمريكا وشيوخها.

… وتنبح الكلاب في موكب السلام، ولكن صوتها مخنوق بالباطل الذي تدين به، وبالجشع الذي يتملكها، وتعلو الكلمة الحرة البعيدة عن الغرض، الرفيعة عن التملُّق، المتأبية عن السوقية.

وتحيا مصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤