الفلاسفة الوجوديون

بدأت الفلسفة الوجودية (Existentialism) في القرن التاسع عشر واستفاضت في القرن العشرين، ولا تزال أشهر المدارس الفلسفية في هذه السنوات لأنها تشتمل على مذهب من مذاهب السلوك، ويغلب على مذهبها الشائع في السلوك أنه يدعو إلى الإباحة وإطراح العرف والخلق وعقائد الأديان.

لكن «الوجودية» مدرسة واسعة النطاق ينتمي إليها المؤمنون والملحدون، وبين فلاسفتها أناس متدينون متصوفون لعلهم أكثر عددًا من الوجوديين المنكرين، إذ ليست «الوجودية» في ذاتها دعوة مخالفة للدين ولا للعقائد الخلقية، وليس بين مذاهبها من وحدة مشتركة غير إنصاف «الشخصية الإنسانية» أمام الجماعة في عصر شاعت فيه قيمة الكثرة والزحام، وقلت فيه قيمة المزايا والصفات. وما عدا ذلك من التفصيلات فإنما يقع فيه الخلاف تبعًا لموضوع النزاع بين الحرية الشخصية وطغيان الجماعات.

فالوجودي المتدين قد يؤمن بالله أشد الإيمان ولكنه لا يؤمن بالمراسم والشعائر ولا يذعن لسلطان الكنيسة ورجال الدين.

والوجودي الإباحي قد يكون من أقوم الناس خلقًا وأطهرهم سيرة ولا تتراءى منه الإباحة إلا حين يتمرد على المحظورات التي لا حجة لها غير مجاراة العادة والاستسلام للتقاليد والموروثات.

والوجودي الذي يتهالك على الشهوات ويختار لنفسه ما يهواه يتعلل بحق الفرد أو بحق الشخصية الإنسانية في حياتها الخاصة، ولكنه لا يستطيع أن يجعل ذلك الحق قانونًا ملزمًا لجميع الشخصيات، وإنما يدين به في سلوكه ولا يجهل المصير الذي قد يعرضه له ذلك السلوك، حيث يصطدم بالجماعة أو يصطدم بغيره من آحاد الناس.

وقد تسمى الوجوديون بهذا الاسم لأنهم يعتبرون وجود الإنسان مقدمًا على ماهيته، أو يعتبرون أن وجوده لذاته أهم من كونه واحدًا من نوع متعدد الآحاد، فلا حقيقة للنوع الإنساني كله إلا بوجود هذا الإنسان وذاك الإنسان، ولا يصح لهذا أن يكون وجود النوع معطلًا لاستقلال الشخصية الإنسانية وهي الأصل في الوجود.

فليس من الضروري إذن أن يخرج الإنسان على العقائد الدينية لأنه من الوجوديين، وقد تكون الوجودية الدينية — كما تقدم — أعم من الوجودية المنكرة أو الإباحية، ومن تدين من الوجوديين فهو لا يقنع بما دون الوصول إلى معتقده ببحثه ودأبه ونفاذه إلى ما وراء «النسخ المكررة» من عقائد المقلدين، ومنهم من يسمي عقائد المقلدين بالعقائد «المرجوعة» تشبيهًا لها بالثياب التي يلبسها غير واحد بغير قياس، وفيها ما فيها من البقايا والأدناس.

•••

هذه الوجودية المتدينة متعددة بطبيعتها على أوسع ما يكون التعدد تحت عنوان واحد. لأنها من اجتهاد كل باحث بينه وبين ضميره، وهي أشبه ما تكون بالنحل الصوفية التي يهتدي فيها كل مجتهد بهديه. وقلما تتكرر على نحو واحد إلا في أعم المبادئ والغايات، وسنحاول في الخلاصات التالية أن نختار منها المذاهب التي يمثل كل منها وجهة متفقة بطبيعة التفكير والمزاج.

•••

من هذه المدارس مدرسة بردييف (Berdyaef) الروسي الذي ازدوجت ثورته على الشيوعية وعلى الديانة «الرسمية» واعتقد أن خلاص الإنسان عمل من أعمال الإنسان، فلا يخلصه أحد إن لم تكن في طويته عدة الخلاص، وقد ترددت له كلمات كأنها من كلمات الحلاج في الحلول، لولا أنه لا يؤمن بالحلول، وإنما يقول إن وجود الإنسان في العالم لازم كوجود الله، وإن الحب يمحو ما بين الخالق والمخلوق من الموانع والحجب، فالله يطلب الإنسان والإنسان يطلب الله، وباطل كل «حكم مطلق» في السماء كما هو باطل في الأرض بين المخلوق والمخلوق، وإنه لولا أن خلق الإنسان يضيف شيئًا جديدًا إلى حقيقة الحياة لما خلقه الله.

وعلى الإنسان أن يعلو بنفسه من الفردية إلى الشخصية؛ لأن الفردية عدد والشخصية قيمة، وفي سبيل القيمة قد ينبذ الفرد حياته ولا خسارة عليه.

كذلك ينبغي للجماعة أن ترتفع من كونها جمهرة إلى كونها رابطة روحية (Community). فإن الجمهرة مجموعة أفراد، وأما الرابطة فهي مجموعة «شخصيات» يضيف بعضها إلى بعض في قيم الحياة.

ولا بد للعملين من حرية، ولكن حرية الوسيلة غير حرية الغاية، فإذا طلبنا حرية الوسيلة فإنما نطلبها لنختار بين طريقين، وإذا طلبنا حرية الغاية فإنما هي حرية الضمير التي تخلص بها من قيود طباعه السفلى فلا يعوقه منها عائق عن الحق والخير، وينعي بردييف على المصلحين الدينيين في عصر النهضة أنهم جعلوا إرادة الإنسان كأنها مطية يركبها الله أو يركبها الشيطان، فإنما إرادة الإنسان هي التي تختار طريقها ومطيتها أو تعجز عن المسير فلا تخطو خطوة تستحق عناء المسير.

ولم تكن فلسفة بردييف فلسفة اطلاع ودراسة وحسب، بل كانت خبرته بالحياة أعظم أثرًا في نفسه من مطالعاته ودروسه، فاختبر أزمات الأمم الأوروبية في جميع أقطارها، وشهد القارة الأوروبية من مشرقها إلى مغربها وهي في أحرج أزماتها.

شهد أزمة القيصرية في روسيا ثم شهد أزمة الشيوعية فيها، ثم انتقل إلى برلين فضاق ذرعًا بالنازية وهجر البلاد الألمانية إلى فرنسا حيث أقام بباريس وظل مقيمًا بها إلى أن دخلها الألمان، فاعتقلوه برهة ثم أطلقوه فشهد في العاصمة كل نوع من أنواع الحكم وخالط كل مدرسة من مدارس الفكر إلى أن مات بها (سنة ١٩٤٨).

ولم تزده هذه الأزمات المطبقة إلا إيمانًا بالحرية الشخصية واعتصامًا بالضمير الروحاني في وجه العالم الخارجي بجميع أهواله وأوقاره، وساء ظنه بثقافة الغرب وحضارته في وقت واحد؛ لأن الثقافة تنزع إلى نقد كل شيء وتستقبل الحياة بروح مجزأة مبعثرة ثم تستغرق النفوس بالشواغل الدنيوية التي تنحصر في السطوة والمال. أما الحضارة فهي مجاز من الثقافة والتأمل والنقد إلى الحياة العملية الواقعية التي تختتم بانتحال العقيدة المادية الاقتصادية (Economic Materialism) كما حدث في ظل الحكم الأوروبي الحديث على تعدد عناوينه وأسمائه، ولا تستقيم حياة الإنسان — على مذهب بردييف — إلا بالاشتراكية الشخصية؛ أي بالقضاء على الاستغلال وسلطان المال مع الإبقاء على حرية الفكر والضمير، وهذه هي الحرية التي تسمح لكل معتقد بالاطمئنان إلى خلاص روحه حسب اجتهاده وعلى هداية فكره وبصيرته، فيدين كل ذي روح بالصوفية التي تقربه من الله وتتمم فيه مهمة الإنسان على هذه الأرض، وهي استحقاق الحرية والقداسة.
وفي الفصل الأخير من آخر كتاب ألفه قبيل وفاته١ يقول:
إننا نميز في الماضي ثلاثة أنماط من الصوفية: أولها تصوف الفرد وهو يبحث عن الله ويقترب منه، وهذا هو أشبه الأنماط بالصبغة الكنسية. وثانيها هو تصوف دعاة المعرفة (Gnostics) ولا يحسن الخلط بينه وبين الزندقة التي ظهرت في العصور المسيحية الأولى، وهذا النمط من التصوف يتجاوز حياة الفرد ويشمل الكون والحياة الإلهية. وثالث الأنماط هو تصوف النبوات والتبشير بالرسالات المخلصة، وهو نمط يتعلق بالقيامة وما وراء التاريخ وعنده تبتدئ النهاية. وكلها — أي الأنماط الصوفية الثلاثة — لها آمادها وحدودها.

والعالم اليوم يدلج في الظلام نحو صوفية وروحانية جديدة، لا محل فيها لتلفت النظرة النسكية إلى الدنيا ولا لما توحيه تلك النظرة النسكية من العزلة واجتناب الجماعات والآحاد، ولا يبقى فيها النسك إلا كوسيلة أو رياضة على التطهر والصفاء، وهو يتجه إلى الدنيا ولكنه لا يعتبرها نهاية الغايات. فهو مسلك من النسك أشد اتصالًا بالدنيا وأكثر تحررًا منها في وقت واحد، أو هو مسلك نحو العمق الروحاني تقوى فيه دعوة الخلاص وتتجلى فيه معرفة صادقة أقدر على السلامة من أوهاق الغايات الدنيوية التي ابتلي بها المعرفيون الأقدمون. وتتلاقى ثمة أشتات النقائض المعذبة والنحل الموزعة؛ لأن الصوفية الجديدة أعمق من الديانات وينبغي أن توحدها وتؤلف بينها، ويومئذ تنتصر الصوفية على أباطيل الدعوات الاجتماعية المتشبهة بها، وتنتصر دولة الروح على دولة قيصر.

وقد أخرجت ألمانيا الحديثة فيلسوفًا يضارع بردييف في دعوته «الوجودية» المتدينة، وهو كارل جاسبر (Karl Jasper) الذي بدأ حياته الفكرية بمعالجة الطب النفساني، وهدته التجربة في علاج النفس إلى مذهبه الفلسفي القائم على تصحيح الروح بالإيمان.
وكلمة «المذهب» لا تطلق على فلسفة جاسبر إلا مجاراة للعرف في الكلام على آراء الفلاسفة. أما أصح الأوصاف لفلسفته فهو أنها تمهيد يصل منه كل طارق إلى مذهبه الذي يختاره، فهي أصبع نافذة تشير إلى الوجهة المستقيمة، وعلى من فهم الإشارة أن يتجه إلى قرارة نفسه فيحقق لها كيانها الذاتي (Selfhood) الذي لا وجود لها بغيره. ومذهب الباحث على هذا الاعتبار هو ديانته الخاصة التي يستوحيها من بداهته ويظل دائبًا على استيحائها طول حياته، فهو ما عاش طالب هداية يترقى فيها من طور إلى طور ومن طبقة إلى طبقة، ولا بد له من الوصول إلى هداه الجدير بسعيه متى توفر على هذا السعي صادق الرغبة في محاولاته صابرًا على تكرار المحاولة كلما قصرت به عن الغاية، وخليق بكل من عرف حدود العلم وعرف ذاته في قرارها أن يلهم حقيقة الإيمان بالله ويبصر من حوله رموز هذا الإيمان وإشاراته في كل ظاهرة وخفية من ظواهر الوجود وخفاياه.

والفرق بين معرفة العلم ومعرفة الهداية الدينية أن معرفة العلم مستقلة عن شخص العالم قد يأخذها من غيره ويحملها إلى غيره ويتساوى فيها الآخذون والمانحون، وأما معرفة الهداية الدينية فهي جزء من حقيقة الإنسان لا تنفصل عنه ولا تخلو من مقوماته الشخصية، فلا تكفي فيها المعلومات والبراهين ولا تغني هذه المعلومات والبراهين عن معونة من بديهة الإنسان. إذ إن هذه البديهة جزء من الحقيقة التي يتم بها الإيمان، وليست الحقيقة كلها خارجية عالمية يتلقاها كاملة من غيره، سواء كان غيره إنسانًا حيًّا أو مظهرًا من مظاهر الكون بما حواه.

ونقص البراهين العقلية التي يستدل بها الفلاسفة على وجود الله أن البرهان قوة ترغم العقل على التصديق، ولا يأتي الإيمان بإرغام بل بطلب وشوق واجتهاد في التحصيل، فإن لم تشعر النفس بمكان الإيمان منها فلا محل للبرهان فيها. وإن شعرت بهذا المكان فالبرهان متمم لشيء موجود يعاونه ويزيد عليه.

قال في كتابه مجال الفلسفة الدائم٢ عند الكلام على مقومات العقيدة الفلسفية:
ويمكن تقرير العقيدة الفلسفية في هذه الدعائم التالية:
  • أن الله موجود.

  • وأن هناك أوامر مطلقة (absolute imperative).
  • وأن العالم طريق عارض بين الله والوجود.

فما يعلو على وجود العالم أو يسبقه فاسمه الله. والفرق شاسع جدًّا بين النظر إلى الكون كأنه موجود بنفسه كوجود الله، وبين النظر إليه كأنه موجود غير مستقل بوجوده، وإنما تفسير قوامه وتفسير قوامي يرجعان إلى شيء خارج عنه.

ولدينا براهين وجود الله قد أجمع المفكرون الأمناء منذ (أيام كانت) على أنها مستحيلة إن كان الغرض منها إفحام العقل كما تفحمه بالبراهين التي تثبت دوران الأرض أو وجوه القمر، ولكن براهين وجود الله لا تفقد صحتها وإن فقدت قوتها على الإقناع، فهي مدد العقيدة من جانب الأقيسة العقلية، وهي بصدقها وخلوصها تبده المفكر في تجاربه كأنها من أعمق الوقائع التي تمر به في حياته، ومتى مثلت للذهن وظلت ماثلة له تيسر للمفكر تكرار التجربة مرة بعد أخرى، ومزية الخواطر التي من هذا القبيل أنها تنشئ في الإنسان طورًا بعد طور وتفتح عينيه، وتزيد على ذلك أنها تصبح جزءًا منا بما توسع من شعورنا بالوجود وتعمق من معالمنا الشخصية.

وهذه البراهين تبدأ من شيء يمكن أن يوجد ويختبر في هذا العالم، كي نتأدى منه إلى هذه النتيجة: إن كان هذا فالله موجود. وبذلك نبرز خفايا الكون ونتيقظ لها ونتكئ عليها كأنها مرساة العبور إلى الله، أو نحن بعبارة أخرى نعالج الأقيسة العقلية التي يكون فيها الفكر بمثابة الانتباه لكياننا ومقدمة للانتباه إلى وجود الله.

ثم قال عن الأوامر المطلقة إنها تدرك بمعرفة القصد منها أو بالطاعة العمياء، وينبوعها في نفسي، بما أنها مساك كياني، وليس وجود الكائن الأبدي المطلق مسألة علم بل مسألة يقين، فإن العلم المحدود لا يمتد وراء الحدود.

ثم فسر معنى العقيدة الفلسفية التي تدلنا على أن العالم في طريق عارض بين الله والوجود، فقال إن إدراكنا للعالم يتوقف على طرفين: أحدهما العارف والآخر المعروف، وليس أدل من ذلك على أن العالم ليس كيانًا قائمًا بذاته وليس هو بالكيان كله، وأن العلم بحقيقته ليس من المعارف التجريبية بل من المعارف التي نترقى إليها بتجاوزه واستجلاء ما فوقه أو ما يليه.

يريد أن العقل العارف نفسه لا يحتوي المعرفة كلها لأنه طرف طرفين، وكذلك العالم الذي تدركه العقول.

ثم وازن بين دعائم الإيمان ودعائم الإنكار، فلخص دعائم الإنكار فيما يلي:
  • أولًا: لا إله، إذ لا وجود لغير العالم وقوانين الطبيعة، والعالم هو الله.
  • وثانيًا: لا أوامر مطلقة، فإن الأوامر التي اتبعها تنشأ بحكم العادة والتجربة والتقليد.
  • وثالثًا: أن العالم هو كل شيء وهو الحقيقة الوحيدة والصادقة وكل شيء فيه متغير نعم، ولكن العالم نفسه دائم مطلق غير معلق على سواه.

ولا تبنى على هذه الدعائم معرفة، ولا يصح التعلل بسلب المعرفة للروغان من كل جواب، وإزاء هذه المعرفة الممتنعة أو المسلوبة تأتي العقيدة فتستولي علي إلى الحد الذي يتيح لي أن أعيش بها، وترفعني إلى الحضور الإلهي بقوتها.

ولا يقوم الإيمان في فلسفة جاسبر على إله منعزل عن الخلق، فإن الإله بغير خلق فكرة مجردة يختفي فيها كل شيء، ولا يقوم على إله نعبده لنلجأ إليه بصلواتنا، فإننا بهذا نعبد أنفسنا ونجعلها محورًا لوجود الله وسائر الموجودات، ولا يقوم الإيمان على ادعاء اليقين بمقاصد الله ومشيئته في خلقه، فإن شرور التعصب كافة قد نجمت من هذا الادعاء، وإنما يقوم الإيمان على استخلاص «الذات» من الشوائب التي تحجبها ثم باتجاهها صافية إلى الله بغير حجاب، وفي هذا الاتصال الذي لا نهاية له حقيقة كل إيمان.

•••

وفي فرنسا تذيع الوجودية — عقيدة وسلوكًا من طرفي الإيمان والإنكار — قصاراها من الذيوع.

إلا أن الوجودية المؤمنة تنفرد في فرنسا بظاهرة خاصة لا تشاهد في غيرها، وهي التحول من الإلحاد إلى التدين بمذهب الكنيسة أو بالتوفيق بين هذا المذهب وبين التعبيرات الفلسفية التي يستعان فيها بالرمز والتمثيل.

وعلى هذا المثال تحول الفلاسفة الوجوديون المتدينون جاك ماريتان (Maritan) وجبرييل مارسل (Marcel) ولويس لافيل (Lavelle) وغيرهم ممن لم يبلغوا مبلغهم من المكانة والصيت.

وقد ألحد ماريتان ثم تتلمذ للفيلسوف برجسون فانتقل من الإلحاد إلى الإيمان بالقوة الخالقة، ثم شك في القوة الخالقة التي لا تني تتغير لأنها ناقصة بذاتها محتاجة إلى قوة دائمة تحيط بهذه الغير ولا تتغير معها، ثم أعلن انتماءه إلى الكنيسة مع إيمانه بأن إرادة الله تظهر من استقراء حوادث التاريخ كما تظهر من فهم وحيه وتنزيله على ضوء الرمز والتمثيل.

ويلجأ مارسل إلى العقيدة على أنها تكملة المجهود العقلي وليست بديلًا منه ولا نظيرًا يناظره ويتغلب عليه، فإذا اجتهد العقل غاية اجتهاده بقي العمل الذي تتولاه العقيدة وتخف إليه كما يخف المنجد إلى صديق قصر به المطاف دون النهاية، وآفة الآفات التي تساور النفس اليائسة في زماننا أنها تعامل الإنسان معاملة موضوع يفهم ويستفاد منه (Object) ولا تعامله كأنه ذات (Subject) تعاون ذاته وتمدها وتوسع معها نطاق المحسوسات والمعلومات.
والأستاذ لافيل يقسم الوجود إلى درجات على حسب ما فيه من العدم. فالوجود المحض الذي لا يقاربه العدم (Nothingness) هو الله، ووسيلتنا إلى العلم به وإدراكه هي نفس تبرأ من شوائب العدم وتمتلئ بالكيان الصادق، والفرق بين الوجود المحض والوجود الذي يقاربه العدم أن الوجود الأول فعل محض والوجود الثاني فعل وقابلية. أو قدرة حاصلة وقدرة موجودة بالقوة دون الفعل، وليس المقصود بالفعل ما تفعله الأيدي والأعضاء وحسب، بل من الفعل عند لافيل أن يتم الوعي والشعور، ومن كان وجوده وجودًا صادقًا كان أوفى وعيًا وأكمل إدراكًا لما يدخل في وعيه، فهو أقرب الموجودات إلى الله وأبعدها من العدم.

فالوجود يتراوح بين العدم والله، ووجود المادة التي لا تعي هو أقرب درجات الوجود إلى العدم، ووجود الوعي الواسع المحيط بما حوله هو أقربها إلى الله، وعلى الإنسان أن يصبح وجودًا محضًا في وعيه خالصًا غاية الخلوص من أوهاق الجثمان، فهو إذن على اتصال بالحضرة الإلهية، وهو إذن فعل لا يشتمل على قوة معطلة من قوى الموت والفناء.

•••

وفي سويسرة مدرسة وجودية تشبه المدرسة الفرنسية في بعض ملامحها وتخالفها في ملامح أخرى.

فمن وجوه الشبه بين الوجودية السويسرية والوجودية الفرنسية أن فلاسفة سويسرة الوجوديين يدينون بمذهب الكنيسة، ومن وجوه الاختلاف بين المدرستين أن هؤلاء الفلاسفة لم يبدأوا بالإلحاد ومعظمهم نشأوا على خدمة الدين على مذهب الكنيسة الإنجيلية.

وأشهر هؤلاء الفلاسفة كارل بارث (Barth) وإميل برونر (Brunner) ورينولد نيبهر (Niebuhr) وهو جرماني الأصل أمريكي النشأة.

أما كارل بارث فلولا أنه ولد في أواخر القرن التاسع عشر (١٨٨٦) أجاز أن يقال إنه من مواليد القرون الوسطى، لأنه يرد كل شيء في الدين إلى النصوص ويحسب الدين كله قائمًا على «كلمة الله» كما جاءت في تلك النصوص لا على اعتقاد الإنسان أو تفكيره، فليس المهم هو ما يعتقده الإنسان في الله بل المهم هو ما يعتقده الله في الإنسان، وهذا الاعتقاد الإلهي هو الذي يترجمه الواعظ والمبشر مستلهمًا فيه هداية الله، لينقذ الإنسان بالعون الإلهي من وصمة وجوده ووصمة الخطيئة.

أما إميل برونر فهو أقرب إلى القرن العشرين من صاحبه، وتقوم بشارته على طبيعة الإنسان وأنها إلهية في بعض خصائصها، فهي لا تتلقى الوحي الإلهي كأنه رسالة أجنبية، وأن علامة النفحة الإلهية في الإنسان هي الحب، فإذا عرف بعضهم الإنسان بأنه حيوان ناطق وعرفه بعضهم بأنه مدني بالطبع وعرفه غيرهم بأنه حيوان يستخدم الآلة، فتعريفه الأتم كما ينبغي أن يكون لا كما هو كائن على الدوام أنه حيوان محبة يستطيع أن يعيش بالمحبة مع الله.

أما نيبهر فهو يريد أن يعرف الإنسان بما يعبده لا بما يأكله كما يعرفه الماديون ولا بما يقبضه من الأجر كما يعرفه الماركسيون، وما دام الإنسان العصري يخلط بين معنى العقل (Reason) ومعنى الروح (Spirit) ويحسبها ملكة واحدة في النفس البشرية فهو في ضلال عن حقيقته، وقد يلتفت قليلًا إلى الفارق بين التقدم العلمي والتدهور الروحاني في العصر الحاضر ليفهم أن العقل والروح لا يترادفان في المعنى والعمل، وسيظل الناس في حرمان من السلام ما داموا في طلب السطوة معرضين عن طلب المحبة، وإنما تأتي المحبة من طريق الروح لا من طريق العقل والمادة.

وهؤلاء الوجوديون الذين ينتمون إلى هذه المدرسة — وإن لم يكونوا كلهم من سويسرة — أدنى إلى مدارس اللاهوت منهم إلى مدارس الفلسفة. ولكنهم يحرصون على «التبشير الفردي» ويعلن بعضهم أن كل فرد من المتدينين مفتقر إلى بشارة خاصة لهداية ضميره، ولعل هذا هو الفارق بينهم وبين اللاهوتيين الرسميين. ولعل الأمان في سويسرة حرمهم نعمة القلق وما يفتحه من أبواب الضمير.

ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الفلسفة الوجودية عامة في هذا العصر لا تنحصر في أمة ولا تخلو منها أمة؛ لأن ثورة الضمير الفردي على طغيان الجماعة ظاهرة عامة بين جميع الأمم الأوروبية، وكل ما هنالك من الاختلاف بين أمة وأمة في هذه الظاهرة هو مقدار حاجتها إلى المناداة بمبدأ الحرية الفردية، ففي إنجلترا مثلًا توجد الفلسفة الوجودية بغير اسمها وعنوانها، لأن مبدأ الحرية الفردية مفروغ منه من حيث المبدأ والفكرة، ولأنهم — في إنجلترا — قلما يتجمعون باسم مدرسة فكرية، وقلما تعرف المذاهب الفلسفية عندهم بغير أسماء أصحابها كمذهب هيوم ومذهب بركلي ومذهب داروين، وإن حدث أحيانًا في المذاهب المشتركة بين فلاسفة إنجلترا وفلاسفة القارة أن تعرف بعنوان جامع كمذهب النفعيين ومذهب التطور ومذهب المنطق الوضعي في العصر الحاضر.

ولكن السمة التي تمتاز بها الوجودية المتدينة هي الإيمان المستقل الذي يتحرر به ضمير الفرد من سلطان الشعائر المرسومة، ويغلب أن تقترن به سمة أخرى تلحظ في كل نزعة وجودية، وهي عمل المحنة النفسية في صهر الضمير واستخلاصه للإيمان، وبهذه الخصلة في الوجودية أصبح القرن العشرون موسمًا للوجودية المتدينة بين مذاهب المتدينين على التعميم، لأنه العصر الذي امتحن الضمير المستقل أشد امتحان وأقساه، فحيثما وجد ضمير صامد لمحنة الألم ومحنة الطغيان والتقليد فهو من زمرة الوجوديين وإن لم يصاحبه هذا العنوان.

١  كتاب دولة الروح ودولة قيصر لنقولاس بردييف The Realm Of Spirit and Realm of Caesar by Berdyaev.
٢  Perennial scope of Philosophy.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤