العقيدة الأخلاقية

تنوعت بحوث العلوم في القرن العشرين، وتعددت مراجع البحث في كل علم منها، وأولها — بل أخصها علم الأخلاق — فإن العلوم المختصة به في جملته أو في بعض فروعه لا تقل عن ستة علوم، بعد أن كان الكلام في الأخلاق كلها قائمًا على نصيحة من هنا وحكمة من هناك، أو على عبرة في قصة من القصص تحسب من حنكة السن وخبرة الأحداث.

فمن العلوم المختصة ببحث الأخلاق علم الحياة أو البيولوجية؛ لأنه يدرس الناسلات (Genes) وعملها في وراثة الغرائز والأخلاق، ويرتبط بركن من أهم أركان الخلائق الإنسانية: وهو ركن المسئولية، كما يرتبط بتحديد الفوارق بين الاستعداد للخلق وبين الخلق نفسه. فيكون الولد وارثًا لأبيه حقًّا ثم يخالفه في أعماله من جراء تلك الوراثة؛ لأنه ورث الاستعداد لبعض الأعمال ولم يرث العمل نفسه، وقد يظهر الاستعداد للشجاعة في الحرب كما يظهر في حملة أدبية لمكافحة الحروب على الرغم من غلبة الآراء واندفاع الجمهرة من الناس في هذا الاتجاه.
ومن العلوم المختصة ببحث الأخلاق علم وصف الإنسان، أو الأنثروبولوجي (Anthropology) لأنه يدرس العرف والعادة في جميع الأمم، ويتتبع ضروب العرف والعادة إلى مناشئها الأولى في القبائل الهمجية، ويقارن بينها وبين أسبابها كما يقارن بين العوامل الإقليمية والاجتماعية وآثارها في التشابه أو التباعد بين قواعد الأخلاق.

ومن تلك العلوم علم النفس والطبيعة النفسية، ومن علمائه من يرى أنه وقف على أساس الأخلاق كلها ومن يرد الأخلاق إلى الوعي الباطن ويرد الوعي الباطن إلى منازعات الغريزة الجنسية والسيطرة الأبوية، ومنهم من يردها إلى روح الجماعة وطبيعة حب البقاء في النوع كله، ويفسر كل فضيلة في الفرد بما لها من الأثر في بقاء النوع وتغليب مصالح الجماعات الباقية على مطامع الآحاد.

ومن تلك العلوم علم الحيوان أو الزولوجية؛ لأنه يبحث الصفات العليا في الإنسان وما يقابلها من الصفات الفطرية في أنواع الأحياء، ويستخلص من المقابلة بينها شواهد الوحدة أو التباين في نشأة الأخلاق المكتسبة والأخلاق العريقة في الطباع.

ومن تلك العلوم علم السلالات البشرية أو الأثنولوجية (Ethnology) لأنه يرقب أصول الأخلاق في النوع الإنساني بجميع سلالاته وأجناسه، ثم يميز بين الأجناس بمزاياها التي اختص بها كل جنس منها، ويضع المقاييس للحسن والقبيح من الآداب والعادات في كل سلالة بشرية، ويحاول أن يردها إلى مقياس واحد، أو يعلل اختلاف المقاييس بالعلل المحلية والتاريخية.

ومن تلك العلوم كل علوم الاجتماع والسياسة والاقتصاد مجتمعات أو متفرقات، ومن أصحاب هذه البحوث من يقرر أن أخلاق الفرد والجماعة كافة تنعكس من أحوال الاقتصاد ووسائل الإنتاج، ومنهم من يفرق بين مقاييس السياسة ومقاييس الأخلاق، ويجيز بمقياس منها ما لا يجوز بمقياس آخر.

وهذه العلوم غير العلم المستقل بدراسة الأخلاق وهو الأثولوجية (Ethology) وعنده تلتقي هذه العلوم والبحوث جميعًا وتنتظم في ميدان واحد، ثم تتقبل في كل يوم مددًا من سائر العلوم، وإن بعدت الشقة بين موضوعاتها وهذا الموضوع.

ونضرب المثل لهذه الأمداد الغريبة بمسألة حرية الإرادة وقوانين المادة التي سبقت الإشارة إليها، فإن علم الطبيعة لم يكن من العلوم التي تقرر الآراء في أصول الأخلاق قبل الكلام في الذرة والقوانين الحتمية على أجزاء المادة في جميع حركاتها، فلما كشف علماء الطبيعة عن مواطن الخلل في تجارب هذه القوانين تفتحت الأبواب للكلام عن حرية الإرادة ونصيب الإنسان منها، إذ كانت حركات المادة تتسع على هذا الاعتبار — في نظر بعض الباحثين على الأقل — لشيء من التصرف بسند إلى العقل والضمير.

وقد تكلم الكيميون عن قوانين الألفة بين العناصر ورجا بعضهم أن تطبق يومًا على عوامل الألفة النفسية، ولكنه رجاء مرهون بالمستقبل لم يظهر منه بعد مذهب واضح في بحوث الأخلاق إلا أن هذا لم يمنع أن يكون بين الكيميين من يضع للأخلاق قاعدة واحدة تسري على القوى النفسية كما تسري على القوى المادية، وفي طليعة هؤلاء ولهلم أوستوالد (Wilhelm Ostwald) صاحب القاعدة التي يعارض بها قاعدة «كانت» التي اشتهرت باسم الأمر المطلق (Categorical Imperative) ومؤداها أن يتوخى الإنسان في عمله أن يصلح قانونًا عامًّا يستقيم عليه أمر الناس أجمعين.
أما القاعدة التي وضعها أوستوالد مقابلًا بها قاعدة كانت فهي أن يتجنب الإنسان دائمًا تبديد الطاقة، فشعاره في الأخلاق الفاضلة: «لا تبدد الطاقة» (Do not Waste Energy) وهو شعار جامع لأسباب الفضائل كما يرى الكيمي الكبير، وإذا ظهر لأول وهلة أن الإنسان يبدد طاقته في الرياضة مثلًا فهو في الواقع يجمع الطاقة بهذا التبديد الظاهر، وهكذا يحدث عندما ينفق طاقته في الإشفاق والحزن على مصائب الناس، فإن هذا الإنفاق سبيل الادخار أو سبيل الحماية والعزاء.

وغني عن القول أن هذه العلوم قد شعبت دراسات الأخلاق غاية التشعيب، إلا أنها لم تخرج بها عن محورها، أو على الأصح عن محوريها اللذين تدور عليهما، منذ القدم وهما أصول الأخلاق ومقاييس الأخلاق.

فما هي الأصول التي يرجع إليها في تعليل الأخلاق الإنسانية؟ وما هي المقاييس التي نستند إليها حين نفضل خلقًا على خلق وحين نثني على بعضها ونقدح في البعض الآخر؟ وإذا اختلفت مذاهب الناس في التفضيل فهل هناك مقياس محيط بجميع المقاييس يرجع إليه بين المختلفين؟

هذان هما المحوران اللذان ينتهي إليهما مدار البحث في هذه العلوم جميعًا، ولم ينته الباحثون فيهما إلى مقطع الرأي الأخير.

فالطبيعيون الذين يعللون كل شيء بما في الطبيعة يرجحون القول بأن الأخلاق جميعًا إنما هي حيطة فطرية لوقاية النوع الإنساني، وأن الفرد ينسى نفسه بحكم الغريزة النوعية أو الاجتماعية حين يتخلق بالخلق الذي لا مصلحة له فيه، وقد يكون فيه تفويت بعض المصالح عليه. وتنقسم الأخلاق عند أصحاب هذا التعليل أقسامًا كثيرة على حسب الغاية منها، فما ينفع الناس جميعًا في جميع الأزمان أفضل مما ينفعهم في زمن واحد، وأفضل مما ينفع قبيلًا من الناس في الزمن الطويل ويعود بالضرر على غير ذلك القبيل.

والمقياس العام الذي يختاره جمهرة النشوئيين في العصر الحاضر هو مقياس الدكتور وادنجتون (Waddington) المحاضر في علم الحيوان بجامعة كمبردج. وقد بدا له من بحوثه في علم الحيوان (Zoology) وبحوثه في علم الحياة أن الحي يتطور وأن الأطوار المتقدمة هي «التصفية» التي بلغتها عوامل البقاء والتقدم، فمن نتائج التطور ينبغي أن نستخرج الهداية إلى أقوم الطرق وأفضل الأخلاق، وكل ما تحقق به الخير الأعظم على هدى هذه السنة فهو المقياس الأخير الذي ترجع إليه جميع المقاييس.

وقد أقنع هذا المقياس الجمهرة الغالبة من النشوئيين ولم يقنعهم جميعًا، ولعله لم يقنع أحدًا من معارضيه وهم كثيرون بين فلاسفة ما بعد الطبيعة على التخصيص.

ومن هؤلاء الفلاسفة من يرفض القول بالتطور أصلًا؛ لأن الكون قديم بجميع عناصره ومواده فلا محل فيه لشيء جديد، ولا يعقل أن تكون الحياة قد وجدت فيه بعد انعدامها إلا على اعتبار واحد: وهو الإيمان بأنها من صنع إله يحدثها في الكون ويرتب لها موعدها من الزمان.

ومنهم من ينكر المقياس الذي اختاره وادنجتون وأصحابه النشوئيون، لأن قياس الشيء بنفسه لا ينتهي إلى طائل، وقياس التطور بالتطور لا يدل على شيء، ومن قال إن التطور خير بدليل ما وصل إليه التطور، فكأنما يقول إن هذا الجسم مثلًا خمسة أضعاف خمسة وعشرة أضعاف عشره، فلا نتيجة لأمثال هذا القياس.

وقد ناقش هذا المقياس فلاسفة لا ينكرون مذهب النشوء والتطور، ولكنهم ينكرون الاعتماد عليه وحده في تفسير القيم الإنسانية، ومن هؤلاء الأستاذ جود رئيس شعبة الفلسفة وعلم النفس بكلية بيركبك (Birkbeck)، فرد عليه الدكتور وادنجتون ردًّا لم يخل من المغالطة حيث قال: إننا نقيس أبعاد الكون بجزء من الكون، فلا بدع في قياس الأخلاق المتطورة بمقياس من التطور، ووجه المغالطة في هذا الرد أن المقياس الذي نقيس به أجزاء الكون بمقياس محدود متفق عليه، ولكن المقياس الأخلاقي هنا غير محدود في زمن من الأزمان.
وقد جمعت مناقشات وادنجتون ومعارضيه في كتاب عنوانه العلم والأخلاق (Science and Ethics) اشترك فيه نحو عشرين باحثًا بين عالم وفيلسوف ولاهوتي وأديب، ولم يزد عدد المقرين لآراء وادنجتون في هذه المجموعة على اثنين، أحدهما جوليان هكسلي زميل وادنجتون في دراسات علم الحيوان وعلم الحياة.
والغريب في اتجاه هكسلي ووادنجتون أنهما عالمان من علماء الحيوان، ولكنهما يبنيان آراءهما على مدرسة التحليل النفساني ويدخلان هذه المدرسة بزاد غزير من دراسة الغرائز في الحيوان، ومن المقابلة بين الطفولة الحيوانية والطفولة الإنسانية في دور الاعتماد على الأبوين. ويقول هكسلي إن الوازع الأكبر في الديانات وقوانين الأخلاق إنما هو الأم مكبرة متعالية نامية في مخيلة الطفل مع نموه في الحياة العقلية والاجتماعية، ولا يستبعد قول القائلين إن الأخلاق الاجتماعية مستمدة في نشأتها الأولى من روح القبيل أو ما يسمونه بالنفس القبيلية (Tribal self)، ولكنه يستند إلى دراساته للغرائز فيخطئهم في اعتبار الغرائز عادات موروثة وفي القول بأن الضمير غريزة من الغرائز، ويقول إن مذهبهم يرجع بكل شيء إلى القبيل ولا يدع محلًّا للفضيلة الفردية، وقد جمع هكسلي مساجلاته في هذه المباحث وضمها إلى ردوده على جده توماس هكسلي الكبير، ونشرها بعنوان التطور والأخلاق بين سنتي ١٨٩٣ و١٩٤٣ (Evolution and Ethics 1893–1943).
وليس جوليان هكسلي بالعالم الوحيد الذي ينكر اعتبار الضمير غريزة من الغرائز الحيوانية، ولكنه في العصر الحاضر أشهر المنكرين لذلك استنادًا إلى تجارب علم الحيوان وعلم الحياة، وهو في كليهما من الثقات المعدودين. أما الباحثون الفلسفيون والأدبيون الذين يرفضون اعتبار الضمير من الغرائز الموروثة فهم الكثرة الراجحة في العصر الحاضر، وحجتهم الغالبة هي أن الإنسان يصاب في ضميره فترجع به النكسة إلى غرائزه الأولى، وأن المفاضلة بين إنسان ذي ضمير وإنسان خلو من الضمير هي مفاضلة في الأوج لا في القرار، أي إنها لا ترجع بنا إلى الأغوار السحيقة في الماضي بل تتقدم بنا أحيانًا إلى المستقبل البعيد، فيكون الرجل صاحب الضمير سابقًا لزمانه بمرحلة واسعة، ومن شاء من فلاسفة العصر أن يستند إلى العلم في تعليل ضمير الإنسان زعم أن كبار المصلحين والقادة الدينيين أشبه بالفلتات التي تفسر التحول الفجائي (Mutation) في عالم النبات، فقد يتغير النبات قليلًا ثم تظهر فيه فجأة فلتات غير منظورة (Sports) تترقى به طفرة ولا يقاس عليها في جميع الأحوال، وكذلك المصلحون والقادة الدينيون الذين ترتفع ضمائرهم إلى الذروة العليا بين أقوامهم وأبناء عصورهم، فإنهم طفرة في سبيل التقدم وليسوا بالرجعة إلى الغرائز المتروكة منذ زمن سحيق، وكثيرًا ما يكون التقدم هنا ناشئًا عن ترك أثر قديم واكتساب مزية جديدة، فهو ارتفاع في الأوج وليس بالغوص في القرار.

•••

ومن نظرة سريعة يتبين لنا أن اشتراك العلوم الكثيرة في دراسة الأخلاق كان لها أثران متعارضان: أحدهما إلى التعسير والآخر إلى التيسير.

تفتحت الأبواب وتشعبت المسالك فازدادت مصاعب السير فيها وتقاطعت مداخلها ومخارجها فتعسر الوصول إلى غاياتها.

لكن هذا التشعب قد كان له أثر ميسر يعين الباحث على التمييز والتبسيط شعبة شعبة من مراحل الطريق. فقد تشعبت المتشابهات فظهرت الفروق التي بينها وتيسرت التفرقة بين أشتات من المسائل كانت ملتبسة متشابكة إلى زمن قريب.

أصبح الباحث الأخلاقي يميز بين ألوان مختلفة من الواجبات والمحرمات ومن الأوامر والنواهي، واتضحت أمامه إلى اليوم مناهج ثلاثة يستطيع أن يلمس حدودها في مواقعها البارزة ومراميها القريبة على الأقل، إن لم يلمسها في كل موقع وفي كل مرمى.

فلا التباس اليوم بين وازع الأخلاق ووازع القانون ووازع العقيدة الدينية، وليس اتفاقها في الإباحة والتحريم أحيانًا بالذي يمنع الباحث أن يعرف لها صيغتها ويميز طبيعتها، فلا يخلط بين أوامر القانون وأوامر الأخلاق وأوامر الدين.

والغالب على الأوامر القانونية أنها إرادية تكتفي بتحقيق السلامة، ولا تذهب وراء الأسلم الألزم إلى شوط بعيد.

والغالب على الأوامر الأخلاقية أنها لدنية تعمل فيها الإرادة شيئًا ولكنها لا تعمل كل شيء، بل يتولى الشعور أهم البواعث في أعمال الأخلاق، ويشاهد فيها كثيرًا نزوع إلى ما وراء السلامة واللزوم، وتفضيل للأجمل الأمثل من الأمور. فصاحب الوازع الأخلاقي لا يقنع بفروض القانون ولا يزال متطلعًا إلى درجة أعلى من درجات القانعين باجتناب العقاب والتزام أدنى الحدود.

أما الغالب على الأوامر الدينية أو على آداب العقيدة، فهو الشمول الذي يحيط بالإرادة والشعور والظاهر والباطن، ولا يسمح لجانب من النفس أن يخلو منه، ولا يقنع بالسلامة والجمال إلا أن تكون معهما الثقة التي لا تتزعزع في صميم الحياة، بل في صميم الوجود.

ومن السهل أن يقال إن حاسة القانون تتولد في الإنسان لأنه عضو في مجتمع، وإن حاسة الأخلاق تتولد فيه لأنه فرد من أفراد النوع الإنساني كله، ولكن ليس من السهل أن يقال إن الإنسان يهتم بمصيره في الكون لأنه عضو في المجتمع أو فرد من أفراد النوع.

فنحن قد نفسر احترام القانون بانتماء الإنسان إلى مجتمع، وقد نفسر احترامه للأخلاق الحسنة بانتمائه إلى الإنسانية، ولكننا لا نفسر التدين بهذا ولا بذاك. وإنما يتدين الإنسان لأنه يهتم بمصيره ومعنى وجوده ويطلب له قرارًا أوسع جدًّا من علاقاته الإنسانية أو علاقاته بالمجتمع، ويحب أن يطلب عقيدة تحتويه ولا يكتفي بعقيدة يحتويها ويريدها كما يشاء.

ولهذا وجدت العقائد التي لا تبالي بقاء النوع الإنساني كله، والتي يقطع المعتقدون بها حبل النسل طواعية واختيارًا ليخلصوا بأرواحهم إلى مصدر الوجود وقبلة كل موجود.

ولهذا هان على الأمم أن تخوض أهوال الحروب وأن يحكم بعضها على بعض بالفناء في سبيل العقيدة، لأن سلامة النوع الإنساني كله لا معنى لها عند المعتقد إن لم يكن للوجود معنى أكبر من حياة الإنسان وجميع بني الإنسان.

ولم يحدث أن حاسة الأخلاق حفزت الأمم إلى الجهاد كما تحفزها الحاسة الدينية، فلا تناقض ولا غرابة في تعليل نشوء الأخلاق بغريزة حب البقاء في نوع الإنسان، ولكن التناقض كبير في تعليل التدين بهذه العلة، ولا سيما التدين كما ارتقى إليه الإنسان بعد عصور الهمجية والجهالة الأولى.

طالب العقيدة يطلب معنى الوجود كله أو معنى الكون كله، ولا يفسر له هذا المعنى أنه متصل بأمة أو متصل بالأمم جمعاء.

ومحصل البحوث المتشعبة هو هذه التفرقة الواضحة بين حاسة القانون وحاسة الأخلاق وحاسة التدين، وما من باحث جاد في بحثه يستطيع أن يفهم أن تتولد في الإنسان حاسة قانونية لأنه جزء من وطن، أو تتولد فيه حاسة أخلاقية لأنه جزء من نوع، ثم لا تتولد فيه حاسة أقوى من هذه وتلك لأنه جزء من أصل الوجود كله لا تنقطع له صلة به كيف كان. وما من باحث جاد في بحثه يستطيع أن يفهم أن الإنسان يوجد في الكون ويدركه ثم تكون غاية إدراكه له أنه لا يطمئن إليه ولا يخرج منه بمعنى غير العبث والضياع.

ومن التفرقة الواضحة بين بواعث القانون وبواعث الأخلاق وبواعث الدين نعلم أن طبيعة القانون وطبيعة الأخلاق لا تغنيان عن طبيعة الاعتقاد، ولعل «العلوم الطبيعية» كما يسميها أبناء العصر صدقت أسماءها بظاهرة هامة في القرن العشرين، وهي «أن العقيدة طبيعية» في الإنسان، وأن خلوه من الاعتقاد هو الغريب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤