سمة العصر

في مفتتح القرن التاسع عشر وجه نابليون بونابرت سؤالًا إلى علامة الفلك في زمانه «لابلاس» عن عمل القدرة الإلهية في تنظيم الأفلاك السماوية، وكان لتوجيه هذا السؤال إلى «لابلاس» سبب خاص: وهو ظهور كتابه عن علم الحركة العلوية «أو الميكانيكا السماوية»، وفيه يشرح حركة الفلك ويعللها بالقوانين الآلية كما يدل اسم الكتاب، فقال علامة الفلك مجيبًا سائله الكبير الذي كان يقول في الدين بمثل قوله: إنني لم أجد في نظام السماء ضرورة للقول بتدبير إله!

ومضى القرن التاسع عشر إلى نهايته والرأي الغالب فيه بين المشتغلين بالعلم والمؤمنين به هو هذا الرأي الذي تحدث به لابلاس إلى نابليون: إن العلم كاف كل الكفاية لتفسير جميع الأسرار!

كتب السير جيمس فتز جيمس ستيفن في سنة ١٨٨٤ فصلًا يعتبر يومئذ مثالًا للآراء العلمية في تلك الفترة، فقال: إذا كانت الحياة الإنسانية في نشأتها قد استوفى العلم وصفها فلست أرى بعد ذلك مادة باقية للدين، إذ ما هي فائدته وما هي الحاجة إليه؟ إننا نستطيع أن نسلك سبيلنا بغيره، وإن تكن وجهة النظر التي يفتحها العلم لنا لا تعطينا ما نعبده فهي كفيلة أن تعطينا كثيرًا مما نستمتع به ونتملاه.

إن بعضهم يظن — أو يقول إنه يظن — إن الحياة كما يصورها العلم لا تستحق أن نحياها، وهو في رأيي ظن باطل، فنحن في هذه الحالة خلقاء أن نحيا على أصول غير التي تعودوا أن يعتقدوها، ومن حقق النظر إلى موقفه الصحيح وكان على حظ وسط من موارد العيش فالحياة ستظل عنده جد رضية، وإن الدنيا في نظري لموطن مستطاب جدًّا لو أنه يدوم، وفيها ملؤها من الناس الظرفاء والأشياء العجيبة، بحيث يسع الأكثرين — على ما أحسب — أن يغضوا أبصارهم عن إدمان النظر إلى طبيعتها الزائلة، وسيبقى الحب والإخاء والطموح والمعرفة والأدب والفن وأمور السياسة والتجارة والصناعات والحرف وألوف غيرها سارية في مسراها كما كانت من قبل دون حاجة إلى إله أو حياة مقبلة، ومن كان من الناس عاجزًا عن تصريف كل لحظة من لحظات يقظته في شاغل من هذه الشواغل، فهو لا محالة على حظ سيء بالغ السوء في تكوينه أو مرافق عيشه، أو هو لا محالة مخلوق جد هزيل.

ولا ننكر أن قضايا اللاهوت الكبرى نبيلة فخمة، وأننا إذ نتخيل أن الدنيا من صنع خالق على الغاية من الحكمة والغاية من القوة، وأنه على نحو خفي لا نحيط به هو كذلك على الغاية من الطيبة، وأن الأخلاق إنما هي شريعة صادرة إلى الناس من قبل هذا الخالق العظيم، وأن هذه العوالم الظاهرة إن هي إلا جزء يسير من هذه الشريعة التي يوصف بها خالقها — كل أولئك إذ نتخيله شيء عظيم.

نعم، وإن الذين يقدرون مخلصين أن ينظروا إلى الدنيا هذه النظرة لتسمو بهم عقيدتهم وترفعهم فوق صغائر الحياة، ويحق لهم أن يسوغوا هذه العقيدة أمام غيرهم حيث يرجع تسويغ العقيدة إلى جمالها وجدواها ولا يرجع إلى صحتها ودلائل ثبوتها.

أما إذا وجب أن نطرح هذه العقيدة جانبًا فلا أخال أن الحياة تخسر قيمتها وأن الأخلاق على الخصوص تنقطع وتزول، وسوف تموت الديانة مع اللاهوت. ولكننا كما أسلفت قادرون على أن نعيش عيشة حسنة بغير الديانة، وإن أقمناها على أصول غير هذه الأصول قلما تخالف في لبابها أصول العيش التي يدين بها نفسه كل ذي خلاق.

•••

انقضى القرن التاسع عشر وهذا هو الرأي الغالب على أصحاب الرأي فيه ممن يؤمنون بالعلم الحديث ويتوقعون له القدرة على الإحاطة في المستقبل بمجهولات الغيب التي لم يحط بها في ذلك الحين.

ونقول الرأي الغالب ولا نقول الرأي الجميع الشامل؛ لأننا لا نعلم أن عصرًا من العصور قد اتفق فيه أصحاب الرأي على وجهة واحدة في مسائل العقيدة الدينية، ولكن العصور مع ذلك تختلف وتتباعد في التفكير، ويحمل كل منها طابعه وسماته في شئون العقيدة الدينية، وفي غيرها من الشئون العامة التي تتسع فيها مطارح الآراء والأهواء.

فلم يكن عصر من العصور مؤمنًا كله ولا منكرًا كله، ولا بد في كل عصر من مؤمنين ومنكرين، ولكنهم مع هذا يختلفون بين عصر وعصر في معنى الإيمان والإنكار وفي أسباب هذا وذاك، وفي الموضوع الذي يتناوله المؤمنون والمنكرون.

فليس القرن السابع عشر مثلًا كالقرن العشرين، وليس القرن الثامن عشر كالقرن التاسع عشر، وليست القرون الحديثة كالقرون الوسطى أو القرون الأولى، وإن كان في كل منها إيمان وإنكار وشك ونفاق.

فإذا حسبنا لهذه المشابهات، أو هذه المفارقات، حسابها على جملتها، جاز أن يقال إن الحضارة الغربية تحولت منذ القرن السابع عشر من الشك في الدين، إلى الشك في العقل، إلى الشك في العلم الحديث، وإنها الآن تدخل في أبواب جديدة من الشكوك.

وربما كان الأصح أن يقال إن الحضارة الغربية بدأت بالشك في السلطة الدينية لا في الدين نفسه، وإن الدين الذي شكت فيه أو أنكرته كان هو الدين كما تشبث به الجامدون المتحجرون على التقاليد أو على العرف المقرر في عهود الجهل والطغيان.

وقد تزعزعت سلطة رجال الدين يوم تزعزعت كل سلطة، فشك الناس وأنكروا وثاروا على التقاليد وعلى العرف المحفوظ، ثم أذنوا لعقولهم أن تفكر وتقدر، واعتمدوا على العقل وحده في فهم جميع الأمور، وبخاصة ما كان فهمه مقصورًا على دعوى ذوي السلطان من أصحاب الدنيا والدين.

انتقل ذوو الرأي من الإيمان بالدين إلى الإيمان بالعقل حتى انتهى بهم العقل عند حدوده، فتحولوا من الإيمان بالعقل إلى الإيمان بالعلم الحديث.

وليس الإيمان بالعقل والإيمان بالعلم شيئًا واحدًا كما يلوح من النظرة العاجلة؛ لأن الناس آمنوا بالعقل وحسبوا أنهم يفهمون به كل شيء من طريق المنطق والقياس، ومن طريق القضايا والبراهين … فلما اختلطت عليهم الأمور وقصر بهم العقل دون العلم بالمحسوسات فضلًا عن المغيبات — تحولوا إلى التجربة الحسية ووقفوا عليها جهود العلم الحديث، فلا علم بغير سند من الحس والتجريب.

فاليوم — في القرن العشرين — أين تسير الحضارة الغربية بين هذه الشكوك التي بدأت بالشك في الدين، ثم مضت أشواطًا بعد أشواط تارة مع العقل وتارة مع العلم الحديث؟

ما هو الشك الذي يغلب على ذوي الرأي في القرن العشرين؟

نحسب أننا نجمل سمة القرن العشرين أصدق إجمال حين نقول إنها هي سمة الشك في الإنكار.

إن الأسباب التي كانت كافية للإنكار قبل ثلاثة قرون أصبحت لا تكفي للإنكار بتلك القوة الواثقة المتهجمة، بل أصبحت لا تكفي لإنكار ما كائنًا ما كان سبب الإنكار من العلم المعترف به بين العلماء.

تواضعت دعوى العقل في أوائل القرن التاسع عشر، وتواضعت دعوى العلم في أوائل القرن العشرين، وكاد العلماء أن يتفقوا على أن التفسير والتعليل فوق طاقة العلم ولا سيما تفسير الغايات والأصول، وحسبه من الدعوى أنه يصف ويجمع ويقابل ويعادل، ثم يترك العلل الأولى بعد ذلك لمن يستطيعها، أو يقول إنها حتى اليوم غاية لا تستطاع.

كان من العلماء من يخال أنه قادر على الإثبات، فليس من العلماء اليوم من يزعم أنه قادر على الإنكار بسند من العلم الصحيح.

ومن قال منهم إنه ينكر على سبيل الظن والترجيح، فحكمه في ذلك حكم القائل إنه يؤمن على سبيل الظن والترجيح: كلاهما على مسافة واحدة من دعوى العلم بالتجربة، أو دعوى التعلل بالبرهان.

وبديهٌ أن الشك في الإنكار غير الجزم بالإيمان، فليس من صحة الحكم ولا من صدق النظر أن يقال إن سمة الإيمان غالبة على القرن العشرين أو بينة الأثر فيه، ولكنه صحيح ولا ريب أن يقال إن المنكر في القرن العشرين لا يستطيع أن يستند إلى أسباب من العلم يسلم بها المفكرون، كما كانوا يسلمون بأسباب الإنكار في القرن السابع عشر، أو القرن الذي يليه إلى أوائل هذا القرن الذي نحن فيه.

•••

ونحن متتبعون أكبر الأسباب التي اقترنت بمسألة العقيدة منذ القرن السادس عشر، وكان لها شأن قوي في إضعاف العقائد الموروثة على تقدير الباحثين بالإجماع، وقد نرى من تتبعها كيف قويت على إضعاف العقائد التقليدية ثم نرى كيف آل الأمر بها أخيرًا حتى فقدت قوتها الأولى على زعزعة الإيمان وإثارة الشكوك، ونرى من أين طرأ عليها الضعف حتى انتقل بعضها من ترجيح التعطيل والإلحاد إلى ترجيح الاعتقاد وإعادة النظر في الموضوع.

هذه الأسباب على الإجمال خمسة ليس في أسباب التعطيل ما هو أقوى منها وأعظم فعلًا في عقول المفكرين الأوروبيين، وفي عقول غيرهم ممن نظروا إلى دلالتها مثل نظرتهم، وحكموا بها على الأديان مثل حكمهم. وهم غير قليلين بين المفكرين في مختلف الأقوام.

وهذه الأسباب الخمسة هي:
  • أولًا: كشف كوبرنيكس لمركز الأرض من المنظومة الشمسية ومن الأجرام السماوية على العموم.
  • وثانيًا: ظهور القوانين الطبيعية التي سميت بالقوانين المادية أو الآلية.
  • وثالثًا: مذهب النشوء والارتقاء.
  • ورابعًا: علم المقارنة بين الأديان والعبادات.
  • وخامسًا: مشكلة الشر، وهي ليست من مشكلات القرن العشرين خاصة، ولكنها تخصَّص بالقرن العشرين لما تفاقم فيه من الحروب العالمية الجائحة، وبما نشأ فيه من الآراء عن السلطان المحدود في الحكومات، وإمكان المشابهة بينه وبين السلطان المحدود أو المطلق في حكومة الكون على أوسع نطاق.

فقد كان كشف كوبرنيكس لمركز الأرض من المنظومة الشمسية صدمة عنيفة للذين اعتقدوا أن الأرض هي مركز الكون، وأن السماوات العليا وما فيها من الكواكب والشموس تبع للأرض — مركز الكون كله ومقر الإنسان، فلما عرفوا أن الأرض لا تعدو أن تكون نجمًا صغيرًا تابعًا للشمس بين ألوف من الشموس التي تحوم في أجواز السماء فزعوا من هوان الأرض كلها وهوان الإنسان كله، وخامرهم الشك في حكمة القصد والاختيار ورجحت عندهم ظنون المصادفة والإتقان.

ثم جاء العلماء الطبيعيون فكشفوا ما سموه قوانين المادة وزعموا أنهم يفسرون بها كل شيء حتى الحياة، فكل ما في الطبيعة آلات خاضعة لتلك القوانين، تجري في حركاتها على السنن المطردة في حركات الآلات.

ثم جاء مذهب النشوء والارتقاء فألحق الإنسان بسائر الحيوان في نشأته وتطوره، وفهم بعض النشوئيين أن تطوره من المادة الحية الأولى يبطل القول بالخلق وتمييز الإنسان بين عامة المخلوقات.

أما علم المقارنة بين الأديان والعبادات فقد جمع المشابهات بين العبادات البدائية والعبادات المقررة في الديانات العليا، فاتخذ أصحاب المذاهب المادية من ذلك دليلًا على تسلسل العبادات من أطوارها الأولى بين البدائيين، بغير حاجة إلى الوحي والتنزيل.

وقد أسلفنا أن المشكلة العظمى — وهي مشكلة الشر — لم تكن من مشكلات القرن العشرين خاصة لأنها أقدم المشكلات التي ساورت عقول المفكرين وعقائد المتدينين، ولكنها قويت جدًّا في القرن العشرين لتفاقم الشرور من الحروب والفتن وتنبه الناس إلى المحاسبة وتقرير التبعات، فحق لمن يشاء أن يحسبها إحدى المشكلات الخاصة بهذا الزمن الأخير.

وسنرى فيما يلي عند عرض هذه الأسباب، كل منها على حدة، كيف تبدل النظر إليها حديثًا حتى ابتعدت الشقة بينها وبين دواعي التعطيل والإنكار واقتربت على الأقل من دواعي الشك في الإنكار، إن لم نقل من دواعي الإيمان والبحث عن مسوغات التدين والاعتقاد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤