الجزء الأول

مَنْدالي

١

في كشك الطعام لم يعرف إلا شخصٌ واحد حقيقة الصوت الذي أتى عبر السهل، بطول المنحني الفضي لإرَّاودِّي،١ بجوار الحائط الغربي لحصن مَنْدالي.٢ كان هنديًّا يُدعى رَجْكومار،٣ ولدًا في الحادية عشرة — لم يكن مصدر ثقة يُعتدُّ به.
كان الصخب غريبًا ومثيرًا، دويًّا نائيًا، تبعه هدير متقطع منخفض، يشبه أحيانًا حفيف تويجات جافة، فجائيًّا وغير متوقَّع. تحول، فجأة، إلى قعقعة عميقة رجَّتْ كشك الطعام وحركت إناء الحساء الذي يتصاعد منه البخار. لم يكن في الكشك إلا طاولتان اكتظَّتَا بأناس يجلسون محشورين بجوار بعضهم. كان الجو باردًا، بداية منتصف شتاء بورما القصير، شديد البرودة، ولم تكن الشمس ساطعة بما يكفي لإذابة الشبورة التي اندفعت في الفجر من النهر. حين وصلت الدمدمة إلى الكشك ساد صمت، تبعته موجة أسئلة وإجابات هامسة. تطلَّع الناس حولهم في ذهول: ما هذا؟ با لي؟٤ ماذا يمكن أن يكون؟ ثم قطع صوت رَجْكومار، الحاد المستثار، طنين التكهن. قال بلهجة بورمية طليقة وعميقة: «مدفع إنجليزي. يطلقون النار في مكان قريب من النهر، يصوِّبون في هذا الاتجاه.»
ظهر وجوم على وجوه بعض الزبائن وهم يلاحظون أن الولد الذي يقوم بالخدمة هو الذي تكلم، وكان كالا٥ من عبر البحر — هنديًّا، أسنانه بيضاء كعينيه، وبشرته بلون الخشب الصلب المصقول. كان يقف في منتصف الكشك، يمسك بكمية من الأواني الخزفية المكسورة. ابتسم ببلاهة، كما لو كان مرتبكًا من عرض معرفته المبكرة.
اسمه يعني الأمير، ومظهره أبعد ما يكون عن مظهر الأمير، بصدرة ملوثة بالزيت، ولُنْجِي٦ معقود بإهمال، وقدمين حافيتين عليهما خفٌّ سميكٌ من القشف. كان يقول، حين يسأله الناس عن عمره، خمسة عشر، وأحيانًا ثمانية عشر أو تسعة عشر، وقد منحته القدرة على المبالغة بهذه الطريقة الهمجية إحساسًا بالقوة والقدرة؛ بدا كبيرًا وقويًّا، جسديًّا وذهنيًّا، ولم يكن إلا طفلًا. قد يزعم أنه في العشرين ويصدقه الناس، لأنه ولد ضخم قوي البنية، أطول من كثير من الرجال وكتفاه أعرض. وكان من الصعب، لشدة سواده، القول إن ذقنه بنعومة راحتَي يديه، خالية إلا من بعض آثار الزغب.
كانت الصدفة وحدها مسئولة عن وجود رَجْكومار في مَنْدالي في ذلك الصباح من نوفمبر. كان مركبه — سَمْبان٧ يعمل عليه مساعدًا ويقوم بمهام أخرى — في حاجة لإصلاحات بعد الإبحار إلى إرَّاودِّي من خليج البنغال. سيطر الرعب على صاحب المركب وهو يقول إن الإصلاحات قد تستغرق شهرًا، وربما أكثر. لم يكن يستطيع تحمل إطعام الطاقم طوال تلك الفترة، فقرر أن يبحث بعضهم على أعمال أخرى. وطلب من رَجْكومار أن يسير إلى المدينة، على بعد ميلين من الشاطئ. ويسأل في بازار أمام الجدار الغربي للحصن عن امرأة نصف هندية تدعى ما شو،٨ تدير كشكًا صغيرًا للطعام؛ قد يكون لديها عمل له.

رأى رَجْكومار للمرة الأولى طريقًا مستقيمًا، وهو يسير في مدينة مَنْدالي، في الحادية عشرة من عمره. على جانبَي الطريق أكواخ جدرانها من البامبو وأكواخ بسقوف من سعف النخيل، قِطع من الروث وأكوام من النفايات. لكن المسار المستقيم لمجرى الطريق لم يكن ملطَّخًا بالفوضى التي تحيط به: يشبه ممرًّا يقطع بحرًا متلاطم الأمواج. تقود خطوطه العين إلى المدينة مباشرة، بجوار جدران الحصن، الحمراء الساطعة، إلى المعابد البعيدة في هضبة مَنْدالي، المتألقة كسلسلةٍ من الأجراس البيضاء على المنحدر.

كان رَجْكُومار، بالنسبة لعمره، على خبرة طيبة بالسفر. كان يعمل على مركبٍ ساحليٍّ، يبحر عمومًا في المياه المفتوحة، قاطعًا المسافة الطويلة التي تربط بورما بالبنغال. زار رَجْكُومار شيتاجُنْج وباسين٩ وعددًا كبيرًا من البلدات والقرى التي تقع بينهما. لكنه في كل أسفاره لم يمر أبدًا بطُرقٍ كطرق مَنْدالي. اعتاد على حواري وأزقة تلتف حول نفسها إلى ما لا نهاية بحيث لا ترى أبدًا أبعد من المنحني التالي. كان هنا شيء جديد: طريق مستقيم، مسار منتظم، يبدو الأفق وسط المساكن تمامًا.

توقف رَجْكومار وسط الطريق حين بدا الحصن بضخامته الهائلة. كانت القلعة معجزة لا يمكن تصورها، تمتد أسوارها أميالًا وحولها خندق مائي هائل. وكانت المتاريس، التي تحتوي على فتحات لإطلاق النار، ترتفع ثلاثة طوابق تقريبًا، تحلق بخفة، حمراء اللون، وفي قمتها مداخل مزخرفة بأسقف من سبع طبقات. كانت الجدران على الطرق الطويلة المستقيمة تشع، مكونة شبكة هندسية دقيقة. هكذا بدتْ روعة النمط الدقيق للشوارع التي تجول فيها رَجْكومار شاردًا ومستكشفًا. وحين حل الظلام، تذكَّر سبب مجيئه للمدينة. عاد إلى الجدار الغربي للحصن وسأل عن ما شو.

«ما شو؟»

«لديها كشك تبيع فيه الطعام — بايا جاو١٠ وأشياء أخرى. نصف هندية.»

«آه، ما شو»، كان بحث هذا الولد الهندي الرث عن ما شو مفهومًا: كثيرًا ما عمل في الكشك هنود ضالون. «هناك، النحيفة.»

كانت ما شو ضئيلة الجسم، تبدو منهكة، تتدلى على جبهتها خصلات من الشعر الخشن، مثل مظلة بأهداب. في منتصف الثلاثينيات؛ تبدو بورمية أكثر منها هندية. كانت مشغولة بقلي الخضراوات، تحدِّقُ في الزيت المدخن في حماية ذراعها المرفوعة. حدقت في رَجْكومار بتوجس. «ماذا تريد؟»

قاطعتْه بمجرد بدء الحديث عن القارب والإصلاحات وحاجته لعمل عدة أسابيع. صرختْ بأعلى صوتٍ وعيناها مغلقتان: «ماذا تعتقد — هل لدي أعمال تحت إبطي، ألتقطها وأقدمها لك؟ هرب ولد في الأسبوع الماضي بإناءين. من يضمن لي أنك لن تفعل الشيء نفسه؟» وهلم جرًّا.

فهم رَجْكومار أن هذه الثورة ليست موجهة إليه مباشرة: موجهة إلى الغبار والزيت الذي يطش وأسعار الخضراوات أكثر مما كانت موجهة إلى وجوده أو إلى كلمة مما تفوه به. خفض عينيه ووقف في جَلَد، حتى هدأت الزوبعة.

توقفتْ، لاهثة، وتفحصته. نطقت أخيرًا، وهي تجفف عرق جبهتها بكمِّ أينجيها١١ المصبوغ بالعرق: «من أبواك؟»

«ليس لي أب أو أم. ماتا.»

اعتقدت أن الأمر انتهى، وقالت وهي تعضُّ شفتها: «طيب، اعملْ، لكن تذكَّرْ أنك لن تحصل إلا على ثلاث وجبات ومكان تنام فيه.»

ابتسم. «ذلك كل ما أحتاج إليه.»

كان في كشك ما شو طاولتان تحت دعائم كوخ جدرانه من البامبو. كانت تطبخ وهي تجلس على مقعد صغير قرب نار متوهجة. إضافة إلى قلي البايا جاو، تعدُّ أيضًا المكرونة والحساء. كانت مهمة رَجْكومار توصيل أطباق المكرونة والحساء للزبائن. وفي لحظات أخرى ينظف الأواني، ويعتني بالنيران ويقطع الخضراوات في إناء الحساء. لم تثق ما شو فيه في إعداد السمك أو اللحمة وكانت تتولى أمرهما بنفسها بِدَا١٢ حاميةٍ بذراع قصيرة. كان يغسل الأطباق في المساء، ويحمل جردل الأواني إلى خندق الحصن.

كان بين كشك ما شو والخندق طريق واسع مغبَّر يحيط بالحصن من كل جهة، مكوِّنًا ميدانًا هائلًا. لم يكن على رَجْكومار إلا عبور هذه الساحة المفتوحة ليصل إلى الخندق. كان أمام كشك ما شو مباشرة جسر يؤدي إلى مدخل أصغر للحصن، البوابة الجنائزية. كان ينظف الحوض تحت الجسر بإزاحة أكوام اللوتس التي تغطي سطح الماء. صار المكان بقعته: يغسل هناك ويستحم — تحت الجسر، حيث ألواح الخشب سقفه وملاذه.

كانت جدران الحصن على الجانب الآخر من الجسر. وكل ما يمكن رؤيته في الداخل برج بتسعة أسقف ينتهي بمظلة متألقة مذهبة — الهتي١٣ الذهبي العظيم لملوك بورما. وتحت البرج غرفة العرش في القصر، حيث يحكم ثيبو، ملك بورما، مع زوجته الرئيسية، الملكة سوبايالات.١٤

كان رَجْكومار فضوليًّا تجاه للقصر، لكنه يعرف أن تخومه أرض محرَّمة على أمثاله. سأل ما شو ذات يوم: «هل دخلْتِه؟ أقصد الحصن؟»

أومأت ما شو باهتمام: «ثلاث مرات، على الأقل.»

«كيف يبدو من الداخل؟»

«إنه ضخم جدًّا، أضخم مما يبدو بكثير. مدينة مستقلة، فيه طرق طويلة وقنوات وحدائق. في البداية تجد منازل المسئولين والنبلاء. وبعد ذلك تجد نفسك أمام حاجز من أعمدة من خشب الساج. بعد أجنحة العائلة الملكية وخدَمِها مئاتٌ ومئات من الغُرف، بقوائم مذهَّبة وأرضيات مصقولة، وفي المنتصف تمامًا بهوٌ فسيحٌ يشبه ممرًّا عظيمًا من النور، بجدرانه الكريستال البرَّاقة وسقوفه المرصَّعة بالمرايا. يسميه الناس القصر الزجاجي.»

«هل غادر الملك الحصن في يوم من الأيام؟»

«لم يغادره أبدًا في السنوات السبع الأخيرة. لكن الملكة وخادماتها يسرن أحيانًا بجوار الأسوار. ويقول من رأوهن إن خادماتها أجمل نساء الأرض.»

«مَن أولئك الخادمات؟»

«فتيات صغيرات، يتيمات، معظمهن مجرد أطفال. يُقال إنهن جُلِبْن إلى القصر من الجبال البعيدة. تبنَّتْهُنَّ الملكة وربَّتهن ويعملن وصيفات لها. يُقال إنها لا تثق إلا فيهن لخدمتها هي وأطفالها.»

قال رَجْكومار: «متى تذهب الفتيات إلى أعمدة البوابات. كيف يلمحهن؟»

لمعتْ عيناه، وبدا على وجهه توق شديد. سخرتْ ما شو منه: «لماذا، هل تفكر في الدخول إلى هناك، أيها الهندي الأحمق، أنت الكالا الأسود كالفحم؟ سيعرفونك من على بعد ميل ويقطعون رأسك.»

في تلك الليلة تطلَّع رَجْكومار، وهو منبطح على حصيرته، في الفجوة بين قدميه ورأى الهتي المذهَّب الذي يميز القصر: يبرق مثل منارة في ضوء القمر. بصرف النظر عما تفوهت به ما شو، قرر عبور الخندق — قبل مغادرة مَنْدالي، سيجد طريقة للدخول.

•••

كانت ما شو تسكن فوق الكشك في غرفة بجدران من البامبو، مرفوعة على دعامات؛ وكان يصل الغرفة بالكشك سلَّمٌ من قطع رديئة من الخشب. قضى رَجْكومار لياليه تحت مسكن ما شو، بين الدعامات، في الفراغ الذي يجلس فيه الزبائن في النهار. كانت أرضية ما شو من ألواح خشبية رديئة غير متناسقة. وكان رَجْكومار يرى ما شو بوضوح من شقوق الأرضية حين تشعل لمبتها لتغير ملابسها. يستلقي على ظهره، وأصابعه معقودة خلف رأسه، ينظر إلى أعلى ولا تطرف له عين وهي تفك الإينجي المعقود دون إحكام حول ثدييها.

كانت ما شو في النهار امرأة منهكة وسليطة بعنف، تنتقل بسرعة من مهمة إلى أخرى، وتصرخ بحدَّةٍ في كل مَنْ في طريقها. وفي الليل، حين ينتهي عمل النهار، يصيب حركاتها وهنٌ. تُكور ثدييها وتكشفهما؛ تهوِّي على نفسها بيديها؛ تتهادى أصابعها في شق صدرها، إلى نتوء بطنها، إلى ساقيها ووركيها. ورَجْكومار يشاهدها من أسفل تتسحب يده ببطء تحت عقدة لنجيِّه، حتى عانته.

ذات ليلة استيقظ رَجْكومار فجأة على صوت صرير منتظم في الألواح فوقه، مع أنين ولهاث وتنفس سريع. لكن مَنْ معها؟ لم يرَ أحدًا يدخل.

في الصباح التالي، رأى رَجْكومار رجلًا ضئيل الجسم، بنظارة، يشبه البومة، ينزل السلم الذي يؤدي إلى غرفة ما شو. كان الغريب يرتدي ملابس أوروبية: قميصًا وبنطلونًا وقبعةً رقيقة. رفع الغريب قبعته بطريقة رسمية وفحص رَجْكومار بنظرة وقورة متأنية. قال: «كيف حالك؟ كيسا هي؟ سب كوشه ثيك ثاك؟»١٥
فهم رَجْكومار الكلمات بدقة — كانت ما يُتوقَّع من هنديٍّ — لكن فمه ظلَّ مفتوحًا في دهشة. منذ أتى إلى مَنْدالي قابل أنواعًا كثيرة ومختلفة من الناس، لكن هذا الغريب لا ينتمي لأي منها. ملابسه أوروبية ويبدو أنه يعرف الهندوستانية —١٦ إلا أن ملامح وجهه لم تكن ملامح رجل أبيض أو هندي. بدا صينيًّا في الحقيقة.

ابتسم أمام ذهول رَجْكومار، رفع قبعته مرة أخرى قبل أن يختفي في البازار.

سأل رَجْكومار ما شو حين نزلت السلم: «مَنْ هذا؟»

أزعجها السؤال بوضوح، رمقته بنظرة تبين منها أنها تفضل ألا تردَّ. لكن فضول رَجْكومار ازداد، وأصرَّ: «مَن هذا، ما شو؟ أخبريني.»

«هذا …» بدأتْ ما شو تتكلم باندفاعات انفجارية قصيرة كأن الكلمات تأتي من اضطراب عنيف في بطنها. «إنه … معلِّمي … ساياجي.»١٧

«معلمكِ؟»

«نعم … يعلمني … على معرفة بأمور كثيرة …»

«أية أمور؟»

«لا تبالِ.»

«أين تعلم الهندوستانية؟»

«في الخارج، لكن ليس في الهند … إنه من مكان ما في الملايو. من ملقا١٨ على ما أعتقد. اسأله.»

«ما اسمه؟»

«لا يهمُّ. ستناديه سايا، مثلما أناديه.»

«سايا فقط؟»

تحولتْ عنه في غضب: «سايا جون. هذا ما نناديه به جميعًا. إذا أردْتَ معرفة المزيد فاسأله بنفسك.»

مدَّتْ يدها في نار الطبخ الباردة، سحبت حفنة رماد وألقتْها على رَجْكومار: «مَنْ قال إنك يمكن أن تجلس وتتكلم طول الصباح، أيها الكالا الأبله؟ انشغلْ بعملك.»

لم يظهر سايا جون في تلك الليلة أو الليلة التالية.

قال رَجْكومار: «ما شو، ماذا حدث لمعلِّمكِ؟ لماذا لم يأتِ ثانيةً؟»

كانت ما شو تجلس قرب نيرانها، تقلي بايا جاو. قالت باختصار وهي تحدِّق في الزيت الساخن: «سافرَ.»

«أين؟»

«في الأدغال …»

«الأدغال؟ لماذا؟»

«إنه مقاول. يقدم إمدادات لمعسكرات الساج. يغيب معظم الوقت.» سقطت المغرفة فجأة من قبضتها ووارتْ وجهها بيديها.

بتردد اقترب رَجْكومار منها: «لماذا تبكين، ما شو؟» مرر يده على رأسها في إيماءة خرقاء على التعاطف: «هل تريدين الزواج منه؟»

بحث عن ثنايا لُنْجيه الرث ومسح دموعها بالثوب المنتفخ.

«ماتتْ زوجته منذ عام أو اثنين. كانت صينية، من سنغافورة. له ابن، ولد صغير. يقول إنه لن يتزوج مرة أخرى أبدًا.»

«قد يغير رأيه.»

أزاحتْه بعيدًا في إحدى إيماءات غضبها: «لا تفهم، أنت كالا غبي. إنه مسيحي. كلما أتى لزيارتي، ذهب إلى كنيسته ليصلي ويطلب الغفران. هل تعتقد أني أريد الزواج من رجل مثله؟» التقطتْ مغرفتها من الأرض وضربته بها: «عد الآن إلى عملك وإلا قليتُ وجهك الأسود في الزيت الساخن …»

بعد عدة أيام عاد سايا جون. مرة أخرى حيَّا رَجْكومار بهندوستانية مكسرة: «كيسا هي؟ سب كوشه ثيك ثاك؟»

قدم له رَجْكومار سلطانية مكرونة ووقف يشاهده وهو يأكل. وأخيرًا سأل بالبورمية: «سايا، كيف تعلمْتَ لغةً هندية؟»

تطلع سايا جون إليه وابتسم. قال: «تعلمتُها وأنا طفل، لأني مثلك، يتيم، لقيط. تربيتُ على أيدي كهنة كاثوليك في بلدة تدعى ملقا. كانوا من كل مكان — البرتغال وماكو وجوا.١٩  منحوني اسمي — جون مارتينز، ولم يكن كذلك. اعتادوا أن ينادوني جواو،٢٠ لكني غيرته فيما بعد إلى جون. كان أولئك الكهنة يتحدثون لغات عديدة، ومن الجويين تعلمت كلمات هندية قليلة. وحين بلغتُ سن العمل ذهبتُ إلى سنغافورة، حيث عملتُ لبعض الوقت عامل ارتباط في مستشفى عسكري. كان معظم الجنود من الهنود، وكانوا يسألونني هذا السؤال نفسه: كيف تتكلم لغتنا، مع أنك تبدو صينيًّا وتحمل اسمًا مسيحيًّا؟ وحين حكيتُ لهم كيف حدث ذلك، ضحكوا وقالوا: أنت دُهْبي كا كوتَّا — كلبُ غسَّالٍ — نا جهار كا نا جهات كا —٢١ لا تنتمي لأي مكان، على الماء أو الأرض، وقلتُ: نعم، هذا هو أنا بالضبط. ضحك بصخب مُعْدٍ، وشاركه رَجْكومار.
ذات يوم جاء سايا جو بابنه إلى الكشك. اسم الولد ماثيو،٢٢ في السابعة، طفل وسيمٌ بعينين براقتين وبوادر قدرة مبكرة في السيطرة على الذات. وصل للتو من سنغافورة، حيث يعيش مع عائلة أمه ويدرس في مدرسة تبشيرية شهيرة. كان سايا جون يرتب له زيارتين في العام إلى بورما لقضاء إجازة.
بداية المساء، وقت يزدحم الكشك فيه، ولكن ما شو قررت إغلاقه ذلك اليوم على شرف ضيفيها. سحبتْ رَجْكومار جانبًا، وطلبتْ منه أن يفسِّح ماثيو، لساعة فقط أو نحو ذلك. كان في الناحية الأخرى من الحصن بوي؛٢٣ قد يستمتع الولد بما يدور في الساحة.

«وتذكَّرْ» — وهنا ارتبكتْ إيماءاتها بعنف — «لا تنطقْ بكلمة عن …»

ابتسم لها رَجْكومار ابتسامة بريئة: «لا تقلقي، لا أنطق بكلمة عن دروسك.»

«كالا غبي.» أمطرته بقبضتيها بوابل من الضربات على ظهره: «اخرجْ، اخرجْ من هنا.»

ارتدى رَجْكومار لُنْجيه السليم ولبس الصدرة البِنِّية٢٤ المتهرئة التي أعطتها له ما شو. دفع سايا جون بعض العملات في كفه. «اشترِ شيئًا، لكما، استمتعا.»

في الطريق إلى البوي، شاهدا بائع بندق. كان ماثيو جائعًا وألحَّ على رَجْكومار لشراء حفنتين من البندق. ذهبا وجلسا قرب الخندق ودلَّيا أقدامهما في الماء ناشرين البندق حولهما في الأوراق الجافة التي كان ملفوفًا فيها.

أخرج ماثيو من جيبه ورقة عليها صورة — لعربة بثلاث عجلات إطاراتها من السلك، عجلتان كبيرتان في المؤخرة وعجلة صغيرة في المقدمة. حدق رَجْكومار فيها، مقطِّبًا: بدا أنها عربة خفيفة، لكن لم يكن هناك موضع لتعليق حصان أو ثور.

«ما هذا؟»

«عربة بمحرك.» وأشار ماثيو للتفاصيل — محرك احتراق داخلي صغير، عمود كَرَنْك عمودي، عجلة اتزان أفقي. وبيَّن أن الآلة يمكن أن تولِّد طاقة مثل حصان تقريبًا، وتسير بسرعة تصل إلى ثمانية أميال في الساعة. كشف النقاب عنها كارل بِنْز،٢٥ في تلك السنة، ١٨٨٥م، في ألمانيا.

قال ماثيو بهدوء: «ذات يوم، سيكون عندي واحدة منها.» لم تكن نبرته متبجحة ولم يشكَّ رَجْكومار فيه لحظة. تأثر بشدة لأن طفلًا في هذا العمر يعرف ما يريد بهذه البراعة في موضوع بتلك الغرابة.

ثم قال ماثيو: «كيف جئت إلى هنا، إلى مَنْدالي؟»

«كنتُ أعمل على مركب، سمبان، كالذي تراه في النهر.»

«وأين أبواك؟ عائلتك؟»

«ليس لي أبوان.» توقف رَجْكومار. «فقدْتُهما.»

كسر ماثيو بندقة بين أسنانه. «كيف؟»

«كانت هناك حمَّى، مرض. مات في بلدتنا، أكاب،٢٦ كثير من الناس.»

«لكنك عشْتَ؟»

«نعم. مرضْتُ، لكني عشْتُ. أنا الوحيد الذي تبقى من عائلتي. كان لي أب وأخت وأخ …»

«وأم؟»

«وأم.»

ماتت أم رَجْكومار على سمبان انحرف في مصب نهر مغطى بالقرام.٢٧ يتذكر مطبخ المركب الذي يشبه النفق وسطحه المصنوع من خيزران وقش؛ كانت قرب رأس أمه لمبة زيت، على أحد الألواح المتعارضة في السفينة. كانت حولها هالة من حشرات الليل، جعلتْ لهبها الأصفر المترنح شاحبًا. كان الليل ساكنًا ومكتومًا، وأشجار القرام وجذورها التي تقطر ماء تقاوم النسيم بصلابة مثبتة المركب بين الضفاف العميقة والوحل. ساد القلق في الظلام الرطب حول المركب. من وقت لآخر، سمع ارتطام أكياس البذور تندفع في الماء وصوت انزلاق السمك ينشط في الوحل. كان الجو حارًّا في مطبخ السمبان الذي يشبه الجحر، وأمه ترتجف. طاف رَجْكومار بالقارب، وغطاها بكل ما وجد من ملابس.
عرف رَجْكومار الحمى جيدًا. جاءت إلى منزلهم عن طريق أبيه، وكان يعمل يوميًّا في مستودع قرب الميناء. كان رجلًا هادئًا، عمل طوال حياته دوباش ومُنشي٢٨ — مترجمًا وكاتبًا — لمجموعة من التجار على طول الساحل الشرقي لخليج البنغال. كان بيت أسرته في ميناء شيتاجُنْج، لكن أباه تشاجر مع أقاربه ورحل بأسرته، تنقل ببطء عبر الساحل، باع معرفته بالأرقام واللغات، واستقرَّ في النهاية في أكاب، الميناء الرئيسي في أَرَكان — امتداد الشاطئ نتيجة المد حيث تتصادم بورما والبنغال في دوامة من المشاكل. بقي هناك حوالي اثنتي عشرة سنة، وأنجب ثلاثة أطفال — أكبرهم رَجْكومار. كان بيتهم على خليج صغير تفوح منه رائحة السمك المجفف. واسم عائلتهم رها،٢٩ وحين سأل جيرانهم عنهم وعن المكان الذي أتوا منه، قالوا إنهم هندوس من شيتاجُنج. هذا كل ما كان يعرف رَجْكومار عن ماضي أسرته.

كان رَجْكومار المريض التالي، بعد أبيه. أفاق ليجد نفسه وقد شفي في البحر مع أمه. كانا في طريق العودة للموطن الأصلي في شيتاجُنْج، كما أخبرتْه، ولم يعد هناك سواهما — هلك الآخرون.

كان الإبحار بطيئًا لأن التيارات ضدهم. ناضل السَّمْبان المبحر بثبات وملاحوه الخلاسيون٣٠ لشق طريقهم إلى الساحل، بمحاذاة الشاطئ. استعاد رَجْكومار صحته بسرعة، وجاء دور أمه في المرض. بدأتْ ترتجف وهما على بعد يومين فقط من شيتاجُنْج. كان الشاطئ مزدحمًا بغابات القرام؛ وذات مساء دفع المالك السَّمْبان في رافد واستقرَّ هناك ينتظر.

غطَّى رَجْكومار أمه بكل ساري وجده في صرة ملابسها، ولنجيات استعارها من البحارة، حتى الشراع المطوي. لكنه لم يكد ينتهي حتى بدأتْ أسنانها تصطك من جديد، برفق، مثل زهر الطاولة. نادتْه إلى جانبها، مشيرة بالسبابة. حين اقترب بأذنه من شفتيها، شعر بجسمها متوهجًا مثل فحم متَّقِدٍ على وجنته.

أرتْه عقدةً في طرف ساريها، ملفوفًا فيها خلخالٌ من الذهب. أخرجتْه وأعطته له وطلبتْ أن يخبئه في عقدة الخصر في سارُنْجه.٣١ أخبرته أن النَّاخوده،٣٢ مالك الزورق، رجل عجوز جدير بالثقة؛ وطلبتْ من رَجْكومار أن يعطيه الخلخال حين يصلوا إلى شيتاجُنْج — حينها فقط وليس قبل ذلك.
طوتْ أصابعه حول الخلخال؛ كان ساخنًا من الحرارة الشديدة المنبعثة من جسمها، وبدا أن المعدن ينطبع في راحته. همستْ: «ابقَ حيًّا، بِشي ثاكو،٣٣ رَجْكومار. عشْ يا أميري؛ حافظ على حياتك.»
حين تلاشى صوتها سمع رَجْكومار فجأة الخفقان الخافت لسمك السلور٣٤ يحفر في الوحل. تطلَّع ليرى مالك الزورق، النَّاخوده، يقبع في مقدمة السَّمْبان، ينفث دخان نارجيلته المصنوعة من قشور جوز الهند، ويعبث بأصابعه في لحيته البيضاء الخفيفة. احتشد رجال طاقمه حوله يشاهدون رَجْكومار وهم يعانقون ركبهم القوية المثنية. لم يعرف الولد إن كان ما يكمن خلف خواء عيونهم شفقة أم نفاد صبر.

لم يكن يملك إلا الخلخال: كانت أمه تنتظر منه أن يستخدمه لدفع مصاريف عودته إلى شيتاجُنْج. لكن أمه ماتتْ فلماذا يعود إلى مكانٍ هجره أبوه؟ لا، الأفضل أن يعقد اتفاقًا مع الناخوده. أخذ رَجْكومار الرجل العجوز جانبًا وطلب ضمه للطاقم، وعرض الخلخال هدية لتعلم المهنة.

تفحَّصه الرجل العجوز. كان الولد قويًّا مفعمًا بالإرادة، وقد نجا من حمى قاتلة قضت على كثير من سكان بلدات الساحل وقراه. وهذا وحده ينمُّ عن خصائص جسدية وروحية مفيدة. أومأ للولد وأخذ الخلخال — نعم، ابقَ.

في الفجر توقف السَّمْبان عند حاجز رملي وساعد الطاقمُ رَجْكومار في بناء محرقة أمه. ارتجفت يدا رَجْكومار وهو يضع النار في فمها. هو، وكان غنيًّا بعائلته، صار وحيدًا، يتعلم مهنة خلاسي مقابل ميراثه. لكنه لم يخفْ لحظةً. كان في أسًى — لأنهم تركوه بهذه السرعة، مبكِّرًا جدًّا، بدون أن يذوق الثراء أو المكافآت التي عرفها، التي كانت ستئول له ذات يوم، بكل تأكيد.

•••

مضى وقت طويل لم يتكلم رَجْكومار عن أسرته. لم يُناقَش هذا الموضوع بين زملائه البحَّارة إلا نادرًا. كثير منهم من عائلات سقطتْ ضحايا لكوارثَ زارت ذلك الامتداد الساحلي كثيرًا. فضَّلوا عدم الخوض في هذه الأشياء. غريب أن يجعله هذا الطفل، ماثيو، بكلامه البارع وسلوكه المهذب، يتكلم بحرية. لا حيلة لرَجْكومار في أن يتأثر. في طريق العودة إلى ما شو، وضع ذراعه على كتفَي الولد. «كم تبقى هنا؟»

«أرحل غدًا.»

«غدًا؟ لكنك وصلْتَ للتو.»

«أعرف. كان يجب أن أبقى أسبوعين، لكن أبي يعتقد أنه ستحدث مشكلة.»

بحْلق فيه رَجْكومار: «مشكلة! أية مشكلة؟»

«يستعد الإنجليز لإرسال أسطول إلى إرَّاودِّي. ستنشب حرب. يقول أبي إنهم يريدون كل خشب الساج في بورما. لن يتركهم الملك يأخذونه؛ لذا سيطيحون به.»

انفجر رَجْكومار في الضحك: «حرب على الخشب؟ من سمع شيئًا كهذا؟» خبط رأس ماثيو بخفة غير مصدق: كان الولد طفلًا، رغم كل شيء، رغم أساليبه الناضجة ومعرفته بأمور غريبة؛ ربما رأى حلمًا مزعجًا في الليلة الماضية.

لكن ثبت أنها أول مناسبة، من مناسبات كثيرة، ظهر فيها ماثيو أكثر وعيًا وبصيرة من رَجْكومار. بعد يومين اجتاحت إشاعات الحرب المدينة كلها. خرجتْ من الحصن قوات كبيرة نزلتْ إلى النهر، باتجاه معسكر ماينجان.٣٥ عمَّ الصخبُ البازار؛ أفرغت بائعات السمك بضائعهن في أكوام الزبالة وهرولن إلى بيوتهن. جاء سايا جون أشعث يعدو إلى كشك ما شو، وفي يديه ورقة. أعلن: «بيان ملكي، صادر بتوقيع الملك.»
صمتَ كل من في الكشك حين بدأ يقرأ:

إلى كل رعايا الملك وسكان الإمبراطورية الملكية: وضع هؤلاء الزنادقة، الكالا الإنجليز الهمج، أفظع الخطط لإفساد ديننا وتدميره، وانتهاك عاداتنا وتقاليدنا وإذلال جنسنا، يقومون باستعراض واستعداد كأنهم على وشك شنِّ حرب على بلادنا. تم الرد عليهم طبقًا للاتفاقيات مع الأمم الكبرى وبكلمات مشروعة وقانونية. وإذا جاء هؤلاء الغرباء الزنادقة، رغم ذلك، وحاولوا التحرش بأية طريقة ببلادنا أو إثارة الاضطراب فيها، فإن جلالته حريص على ألا يتعرض ديننا وبلادنا للخطر، سينطلق بنفسه مع جنرالاته، والرواد والضباط مع قوات كبيرة من المشاة وسلاح المدفعية والأفيال والفرسان، في البر والبحر، وبقوة جيشه يمحو هؤلاء الزنادقة ويفتح بلادهم ويستولي عليها. لنعلي من ديننا، لنعلي من شرفنا القومي، لنعلي من شئون بلادنا، سيعود علينا ذلك بمصلحة ثلاثية الأبعاد — مصلحة ديننا ومصلحة سيدنا ومصلحة أنفسنا — ونكسب النتيجة المهمة بوضعنا على طريق السماوات والنيرفانا.

رفع سايا جون وجهه، وقال: «كلمات جريئة. لنرَ ما يحدث بعد ذلك.»

بعد هلع البداية، هدأت الشوارع بسرعة. فُتِح البازار من جديد، وعادتْ بائعات السمك يفتشن في أكوام الزبالة عن بضائعهن المفقودة. وفي الأيام القليلة التالية مضى الناس إلى أعمالهم كالمعتاد. وكان أبرز تغيير اختفاء وجوه الأجانب من الشوارع. لم يكن عدد الأجانب الذين يعيشون في مَنْدالي قليلًا — كان فيها مبعوثون ومبشرون من أوروبا؛ باعة وتجار من أصول يونانية وأرمينية وصينية وهندية؛ عمال وبحَّارة من البنغال والملايو وساحل كورومندل؛ ومنجمون بملابس بيضاء من مَنيبور؛ ورجال أعمال من جوجارات؛٣٦ تشكيلة من الناس لم يرها رَجْكومار أبدًا قبل الذهاب إلى هناك. اختفى هؤلاء الغرباء فجأة. أُشيع أن الأوروبيين غادروا عبر النهر وتحصن الآخرون في منازلهم.
بعد أيام قليلة أصدر القصر بيانًا آخر، بيانًا مبهجًا هذه المرة: أُعلِن أن القوات الملكية ألحقت بالمعتدين هزيمة كبيرة قرب حصن مِنهلا.٣٧ رُدَّت القوات الإنجليزية على أعقابها وفرَّتْ عبر الحدود. نزلت بارجة ملكية إلى النهر، تحمل أوسمة للجنود والضباط. وأقيم احتفال شكر في القصر.

عمَّت الشوارع صيحاتُ مرحٍ، وانقشعتْ سريعًا سحابة القلق التي سيطرت على المدينة في آخر بضعة أيام. شعر الجميع بارتياح لأن كل شيء عاد بسرعة إلى طبيعته: عادت حشود المتسوقين والباعة وازدحم كشك ما شو أكثر من قبل.

وذات مساء مر رَجْكومار، وهو يسرع إلى البازار لاستكمال مخزون ما شو من السمك، بالوجه الأليف ذي اللحية البيضاء لمالك المركب، الناخوده.

سأل رَجْكومار: «هل مركبنا على وشك الإقلاع؟ الآن انتهت الحرب؟»

ابتسم الرجل العجوز ابتسامة مبهمة من شفتين مضمومتين: «لم تنتهِ الحرب. ليس بعد.»

«لكنا سمعنا …»

«ما نسمعه في المناطق الساحلية يختلف تمامًا عما يقال في المدينة.»

سأل رَجْكومار: «ماذا سمعتم؟»

خفض الناخوده صوته، مع أنهما كانا يستخدمان لهجهتما الخاصة، وأجاب: «سيكون الإنجليز هنا خلال يوم أو يومين. رآهم الملاحون. إنهم قادمون بأسطول كبير، لم يبحر مثله أبدًا في نهر. لديهم مدفع يمكن أن يدك الجدران الصخرية لحصن؛ لديهم مراكب سريعة يمكن أن تجتاز ارتفاع المد؛ بنادقهم يمكن أن تنطلق أسرع مما تتكلم. آتون مثل المد: لا شيء يمكن أن يقف في طريقهم. سمعنا اليوم أن سفنهم أخذت مواقع حول ماينجان. ربما تسمع صوت النيران غدًا …»

كما هو متوقع، أتى في الصباح التالي صوتٌ هادرٌ من بعيد، يتدحرج عبر السهل، قاطعًا الطريق بطوله إلى كشك طعام ما شو قرب الجدار الغربي للحصن. كان السوق يعجُّ بالناس حين بدأ دوي إطلاق النيران. جاءت الفلاحات من ضواحي المدينة مبكِّرًا وفرشن حصيرهن في صفوف، ورصصن خضراواتهن في حزم صغيرة ببراعة. وقف الصيادون أيضًا بما اصطادوا من أسماك النهر في الليل. في ساعة أو ساعتين ستذبل الخضراوات وتبدأ عيون الأسماك تسودُّ. لكن كان كل شيء ناضرًا وطازجًا.

لم يُحدثْ دوي الطلقات الأولى من البنادق إلا توقفًا قصيرًا في حركة البيع في الصباح. تطلع الناس إلى السماء الصافية الزرقاء في حيرة وترك أصحاب المحلات بضائعهم ليتساءلوا. بذلت ما شو ورَجْكومار مجهودًا مضنيًا في العمل منذ الفجر. وكما هو الحال دائمًا في برودة الصباح، توقف عدد كبير لتناول شيء بسيط قبل العودة إلى بيوتهم. وفي ذلك الوقت قطع سكون وقت تناول الطعام دَويٌّ مفاجئ. تطلع الناس إلى بعضهم في قلق: ما هذه الجلبة؟

كان هذا حين تدخَّل رَجْكومار قائلًا: «مدفع إنجليزي، يصوبون في هذا الاتجاه.»

عوت ما شو منزعجة: «كيف تعرف حقيقة ما يحدث، أيها الولد الأحمق؟»

أجاب رَجْكومار: «رآهم الملاحون. يأتي أسطول إنجليزي كامل من هذا الطريق.»

كان لدى ما شو ملء غرفة من الناس لتناول الطعام وكانت في حالة مزاجية لا تجعلها تسمح لمساعدها الوحيد بالانشغال بجلبة بعيدة.

قالت: «كفَّ عن هذا الآن. عُدْ للعمل.»

اشتدَّ إطلاق النيران عن بعد، رجَّ الآنية على الطاولتين. توجس الزبائن خيفة. في المحل المجاور أسقط عامل كيسًا من الأرز، وتبعثرت الحبوب المسكوبة كبقعة بيضاء على الطريق المغبَّر والناس يتدافعون للهروب. نظف أصحاب المحلات طاولاتهم، ووضعوا بضائعهم في أجولة؛ وأفرغت الفلاحات سلالهن في أكوام الزبالة.

وقف زبائن ما شو فجأة، طرقوا على أوانيهم وأبعدوا الطاولتين. في فزع، التفتتْ ما شو إلى رَجْكومار: «ألمْ أَقُلْ لك اهدأْ، أيها الكالا الغبي؟ انظرْ، سبَّبْتَ الهلع لزبائني.»

«ليستْ غلطتي …»

«غلطة مَنْ إذن؟ ماذا أفعل بكل هذا الطعام؟ ماذا يحدث للسمك الذي اشتريتُه أمس؟» انهارتْ ما شو على مقعدها.

كانت الكلاب تتصارع خلفهما، في السوق الذي خلا، على بقايا اللحم المتروك، ملتفة في حلقات حول أكوام الزبالة.

٢

في القصر، على بعد أقل من ميل من كشك ما شو، كانت زوجة الملك الرئيسية، الملكة سوبايالات، تصعد سلالم شاهقة لتسمع طلقات البنادق بشكل أفضل.

كان القصر في وسط مَنْدالي، عميقًا في المدينة المحاطة بالأسوار، يمتد فيه مجمع الأجنحة، والحدائق والدهاليز، تجتمع كلها حول هتي ملوك بورما، ذي الأسقف السبعة. وكان يفصل المجمع عن الشوارع المحيطة به طوق من أعمدة طويلة من الساج. وكان عند كل ركن من الأركان الأربعة للطوق عمود للحراسة، عليه حراسات من الحرس الخاص للملك. قررت الملكة سوبايالات الصعود إلى أحد تلك الأعمدة.

كانت الملكة امرأة ضئيلة الجسم، نحيلة، خزفية البشرة، صغيرة اليدين والقدمين. وجهها صغير بارز العظام، ولم يكن يشوِّه تناسق ملامحها إلا عيب بسيط في وضع عينها اليمنى. كان خصر الملكة، الشهير بنحافته، يشبه الفتلة، ممتلئًا بالحمل الثالث، في الشهر الثامن.

لم تكن الملكة وحدها: خلفها مباشرة عدة خادمات، يحملن ابنتيها الصغيرتين، الأميرتين الأولى والثانية، أشين هتيك سو مات فيا جاي وأشين هتيك سو مات فيا لات.٣٨ بسبب الحمل المتقدم قلقت الملكة على مكان الطفلتين. وفي الأيام الأخيرة لم تسمح بغياب ابنتيها عن عينيها لحظة.

كانت الأميرة الأولى في الثالثة، تشبه أباها، ثيبو، ملك بورما، شبهًا كبيرًا. كانت هادئة ومطيعة، وجهها مدور وابتسامتها حاضرة. وكانت الأميرة الثانية أصغر بعامين، لم تكن هادئة؛ كانت طفلة مختلفة تمامًا، تشبه أمها تمامًا. كانت تعاني من مغص، وتصرخ ساعات متواصلة. قد تصاب بنوبات غضب عدة مرات يوميًّا. يتصلب جسمها وتغلق قبضتيها الصغيرتين؛ ويعلو صدرها ويهبط، وتفتح فمها عن آخره ولا يخرج صوت من حنجرتها. حتى المربيات ذوات الخبرة كن يفزعن حين تصاب الأميرة الصغيرة بإحدى هذه النوبات.

للتعامل مع الطفلة، أصرَّت الملكة على أن يكون تحت تصرفها في كل الأوقات عدد من أخلص المرافقات — إفِلين وهيمو وأُجُسْتا ونان بو.٣٩ فتيات صغيرات، في بداية المراهقة تقريبًا، يتيمات كلهن تقريبًا. اشتراهن وكلاء الملكة في قرى صغيرة، كاشين ووا وشان٤٠ على الحدود الشمالية للمملكة. البعض من عائلات مسيحية، والبعض من عائلات بوذية — وكان هذا لا يهم بمجرد أن يأتين إلى مَنْدالي. تربَّيْنَ تحت إرشاد خدم القصر، وتحت إشراف الملكة شخصيًّا.
حقَّقتْ صغرى هؤلاء الخادمات أكبر نجاح في التعامل مع الأميرة الثانية. كانت طفلة نحيلة في العاشرة، تدعى دُلِّي، رعديدة كتومة، عيناها رائعتان وجسدها مرن كجسد راقصة وأطرافها طرية. جاءت دُلِّي إلى مَنْدالي في سنٍّ مبكرة جدًّا من بلدة لَشيو٤١ الحدودية؛ لا تتذكر شيئًا عن أبويها أو أسرتها. ويُعتَقَد أنها من الشان، لكنها مسألة حدس، اعتمادًا على نحافتها، ومظهرها الرقيق، وبشرتها الحريرية الناعمة.

في ذلك الصباح لم تنجح دُلِّي في التعامل مع الأميرة الثانية. أقلقت البنادق الطفلة الصغيرة من نومها وأخذتْ تصرخ من حينها. وقد أصاب دُلِّي، التي ترتعد بسهولة، فزع شديد. حين بدأت البنادق، غطَّتْ أذنيها وانزوت في ركن، تصرُّ على أسنانها وتهزُّ رأسها. لكن الملكة أرسلت في طلبها، وبعدها انشغلت دُلِّي تمامًا، محاولةً إلهاء الأميرة الصغيرة ولم يعدْ لديها وقت للشعور بالرعب.

لم تكن دُلِّي قوية بما يكفي لأخذ الأميرة الصغيرة وصعود السلالم إلى قمة الطوق؛ كُلِّفتْ إفلين، وكانت في السادسة عشرة وقوية بالنسبة لعمرها، بحملها. تبعت دُلِّي الأخريات، وكانت آخر من وصلن إلى عمود الحراسة — منصة خشبية، حولها سياج من قضبان خشبية ثقيلة.

كان يتجمع في ركنٍ أربعة جنود في ملابسهم الرسمية. أمطرتْهم الملكة بوابل من الأسئلة، لكن لا أحد مهم ردَّ ولا حتى نظر إلى عينيها. علقوا رءوسهم، واضعين أصابعهم على الخزانات الطويلة لزناد بنادقهم.

سألت الملكة: «كم تبتعد المعارك؟ ما نوع المدافع التي يستخدمونها؟»

هزَّ الجنود رءوسهم؛ كانوا لا يعرفون أكثر مما تعرف. حين بدأت الجلبة خمنوا سببها بشكل مثير. في البداية لم يصدقوا أن ذلك الهدير من عمل الإنسان. لم تُسمعْ في هذا الجزء من بورما بنادقُ بهذه القوة من قبل، ولم يكن من السهل تصور إطلاق النيران بسرعة إصدار خليط غير مميز من الأصوات.

رأت الملكة أنها لن تحصل على شيء من هؤلاء الرجال التعساء. أراحتْ جسمها على القضبان الخشبية لعمود الحراسة. لو كانت فقط أقل وزنًا، لو لم تكن مُرهَقة وبطيئة إلى هذا الحد!

ومن الغريب أنها في آخر عشرة أيام، منذ عبر الإنجليز الحدود، لم تسمع إلا أخبارًا طيبة. منذ أسبوع أرسل قائد الحامية برقية يقول فيها إن الغرباء توقفوا في مِنهلا، على بعد مائتي ميل من منبع النهر. احتفل القصر بالنصر، وبعث الملك بوسام للجنرال. كيف اقترب هؤلاء الغزاة بحيث يُسمَع صوت بنادقهم في العاصمة؟

جرت الأمور بسرعة كبيرة: منذ بضعة أشهر نشب نزاع مع شركة أخشاب بريطانية — مسألة فنية تتعلق ببعض زنود٤٢ خشب الساج. أخطأت الشركة؛ خرقت لوائح الجمارك في المملكة، وقطعت السجلات للتهرب من دفع الرسوم. فرض مسئولو الجمارك الملكية غرامة على الشركة، وطالبوا بدفع متأخرات عن خمسين ألف زند. اعترض الإنجليز ورفضوا الدفع؛ ورفعوا شكاواهم إلى الحاكم البريطاني في رَنْجون٤٣ وتبع ذلك إنذارات مهينة. اقترح كنون منجاي،٤٤ أحد كبار وزراء الملك، بتعقل أن قبول الشروط قد يكون أفضل؛ ربما يسمح البريطانيون للعائلة الملكية بالبقاء في القصر في مَنْدالي بشروط مماثلة لشروط الأمراء الهنود — مثل خنازير المزرعة، بتعبير آخر، يرعاها أصحابها ويسمنونها؛ خنزير، يقيم في زرائب زُيِّنَتْ بحلي تافهة.
قالت الملكة لكنون منجاي إن ملوك بورما ليسوا أمراء؛ إنهم ملوك، سادة، هزموا إمبراطور الصين، احتلوا تايلاند وأسام٤٥ ومنيبور. وخاطرتْ هي نفسها، سوبايالات، بكل شيء لتحفظ عرش ثيبو، زوجها وابن زوج أمها. هل يمكن تخيل أن توافق على التخلي عن هذا كله الآن؟ وماذا إذا كان الذي في بطنها ولدًا (وكانت في تلك المرة متأكدة من ذلك): كيف تبرر له أنها تنازلت عن إرثه بسبب نزاع حول بعض زنود الخشب؟ تغلبت الملكة، ورفض بلاط بورما الخضوع للإنذار البريطاني.
استمعت الملكة باهتمام، وهي تقبض على قضيب عمود الحراسة، لصوت طلقات البنادق عن بعد. تمنتْ في البداية أن تكون البارجة في تدريبات. كان أكثر جنرال يمكن التعويل عليه في الجيش، هلِثين أتوينون،٤٦ يتمركز في حصن ماينجان، على مسافة ثلاثين ميلًا، بقوة من ثمانية آلاف جندي.

أمس فقط سأل الملكُ، بشكل عابر، عن سير الحرب في الجبهة. يمكن أن تقول إنه اعتقد أن الحرب مسألة بعيدة، حملة نائية، مثل الحملات التي أُرسِلتْ إلى الشان العليا في سنوات سابقة لتعقب قطَّاع الطرق ورجال العصابات.

قالت له: كل شيء يسير كما يجب؛ لا شيء يدعو للقلق. وكانت الحقيقة بقدر ما تعرف. التقتْ بأكبر الضباط يوميًّا، كنون منجاي، تنجدا منجاي،٤٧ حتى الونجيين والوندوكوين والماوونين.٤٨ لا أحد منهم كان لديه ما ينمُّ عن وجود مشكلة. لكن لا شك في صوت تلك البنادق. ماذا تقول للملك؟

•••

فجأة ملأت الأصوات البهو أسفل الطوق.

ألقت دُلِّي نظرة أسفل الدرج. احتشد عشرات الجنود، يرتدون ألوان حراس القصر. لمحها أحدهم وبدأ يصيح — الملكة؟ هل الملكة فوق؟

تراجعت دُلِّي للخلف بسرعة، خارج مجال بصره. من هؤلاء الجنود؟ ماذا يريدون؟ سمعتْ وقع أقدامهم على السلالم. ومن مكان قريب صرخت الأميرة صرخات قصيرة بنفس متقطع. دفعتْ أُجُسْتا الطفلة بين يديها — هنا، دُلِّي، هنا، خذيها، لن تكفَّ. كانت الطفلة تصرخ، ضاربة بقبضتيها. وكان على دُلِّي أن تبعد وجهها لتتجنب الضربات.

صعد ضابطٌ عمودَ الحراسة؛ يمسك بسيفه المغمد في جرابه بيديه الاثنتين، كأنه صولجان. كلم الملكة، اقترح عليها مغادرة الكابينة، والنزول إلى القصر.

التوى وجه الملكة غضبًا: «نحن سجناء إذن؟ مَن بعث بك إلى هنا؟»

قال الضابط: «صدرت الأوامر من تنجدا منجاي. لسلامتكم، ميبيا.»٤٩

«سلامتنا؟»

امتلأ عمود الحراسة بجنود يسوقون الفتيات إلى الدرج. نظرت دُلِّي إلى أسفل: كانت السلالم شاهقة. لفَّ رأسها.

صرختْ: «لا أستطيع. لا أستطيع.» كانت تعرف أنها قد تسقط. الأميرة ثقيلة جدًّا عليها؛ والسلالم عالية جدًّا؛ تحتاج إلى يد خالية تمسك بها لتحفظ توازنها.

«تحرَّكي.»

«لا أستطيع.» كانت لا تسمع صوتها من صرخات الطفلة. وقفتْ ساكنة، لا تتزحزح.

«بسرعة، بسرعة.» كان خلفها جندي؛ ينخسها بمقبض سيفه البارد. شعرتْ بعينيها مترعتين بالدموع، غمرت الدموع وجهها. ألا يرون أنها قد تسقط، وتُفلت الأميرة من قبضتها؟ لماذا لا يساعدها أحد؟

«سريعًا.»

التفتتْ لتنظر في وجه الجندي المتجهم: «لا أستطيع. الأميرة بين ذراعيَّ، وهي ثقيلة جدًّا عليَّ. ألا ترى؟» لم يسمعْها أحد من عويل الأميرة.

«ما مشكلتك أيتها الفتاة؟ لماذا تقفين هنا؟ تحركي.»

أغمضتْ عينيها وخطتْ خطوة. ثم، وساقاها على وشك السقوط، سمعتْ صوت الملكة: «دُلِّي! قفي!»

«ليست غلطتي.» انتحبتْ، وعيناها مغلقتان بقوة. انتزع شخص ما الأميرة من ذراعيها. «ليست غلطتي. حاولتُ أن أخبرهم؛ لا يسمعون.»

جاء صوت الملكة حادًّا لا يخلو من عطف: «خير. انزلي الآن. بحرص.»

تعثرتْ دُلِّي وهي تنزل السلالم وتعبر البهو، وبكت ارتياحًا. شعرتْ بأيدي الفتيات الأخريات على ظهرها، يقدنها إلى الدهليز.

كانت معظم البنايات في مجمع القصر مباني خشبية منخفضة، تتصل بدهاليز طويلة. وكان القصر بناء حديثًا نسبيًّا، عمره ثلاثون عامًا فقط. صُمِّم على طراز المساكن الملكية في العواصم البورمية الأولى في أفا وأمارابورا.٥٠ نُقِلتْ أجزاء من المباني الملكية بالكامل بعد تأسيس مَنْدالي، لكن كثيرًا من البنايات الخارجية الأصغر لم تنتهِ وما زالت مجهولة، حتى لسكان القصر. لم تدخلْ دُلِّي أبدًا الغرفة التي سيقتْ إليها. كانت مظلمة، بجدران جصية رطبة وأبواب ثقيلة.

صرخت الملكة في الحرس: «أحضِرْ تنجدا منجاي إليَّ. لن أبقى سجينة. أحضرْه إليَّ. فورًا.»

انقضتْ ساعة أو اثنتان ببطء؛ عرفت الفتيات من اتجاه الظلال تحت الباب أن الصباح تحول إلى عصر. توقفت الأميرة الصغيرة عن البكاء وغلبها النوم بين ساقَي دُلِّي المتشابكتين.

فُتِحَت الأبواب وجاء تنجدا منجاي ينفخ.

«أين الملك؟»

«في أمان، ميبيا.»

كان رجلًا بدينًا، بشرته دهنية. كان فيما سبق جاهزًا دائمًا بالنصيحة، لكن الملكة لم تستطع الحصول على إجابة واضحة منه.

«الملك بخير. لا تقلقي.» اهتزَّ برفق الشعر الطويل المتدلي من شاماته قليلًا وهو يبتسم ويكشف عن أسنانه.

أظهر برقية: «حقق هلثين أتوينون نصرًا مدوِّيًّا في ماينجان.»

«لكن البنادق التي سمعتُها هذا الصباح ليستْ بنادقنا.»

«انتهى الغرباء. بعث الملك ميداليات وأوسمة للرجال.» أعطاها ورقة.

لم تهتم بالنظر إليها. رأت برقيات كثيرة في آخر عشرة أيام، امتلأت كلها بأخبار انتصارات مدوية. لكن البنادق التي سمعتْها ذلك الصباح ليست بورمية، لا شك في ذلك. قالتْ: «تلك البنادق إنجليزية. أعرف أنها إنجليزية. لا تكذب عليَّ. كم اقتربوا؟ متى، في اعتقادك، يصلون إلى مَنْدالي؟»

لم ينظر إليها: «حالة ميبيا دقيقة. عليك بالراحة الآن. أعود فيما بعد.»

أشارت الملكة إلى خادماتها، جالسات على الأرض: «راحة؟ الفتيات منهكات. انظرْ.» أشارت إلى عينَي دُلِّي الحمراوين ووجهها الممتلئ بالدموع. أين خادماتي الأخريات؟ أرسلْهم إليَّ. أحتاج إليهن.»

وصلت الخادمات الأخريات بعد ساعة. كانت وجوههن كئيبة. لم تفُه الملكة بكلمة حتى أغلق الحراس الأبواب. ثم احتشد الجميع بإحكام حول الوافدات الجدد. رفعتْ دُلِّي رأسها لتلتقط ما يقلن.

وهذا ما قلن: دمَّر الإنجليز الحصن في ماينجان بدقة متناهية بالمدافع، ولم يفقدوا جنديًّا واحدًا. استسلم هلثين أتوينون، وانهار الجيش؛ هرب الجنود في الجبال ببنادقهم. بعث كينون منجاي وتنجدا منجاي رُسُلا إلى الإنجليز. تصارع الوزيران معًا لوضع العائلة الملكية تحت الحراسة. كانا يعرفان أن الإنجليز سيمتنُّون لمن يسلم الملك والملكة؛ قد تكون هناك مكافآت سخية. ومن المتوقع أن يأتي الغرباء بسرعة لأسر الملك والملكة.

•••

تقدم الغزو بسهولة أدهشت حتى من خططوا له. عبر أسطول الإمبراطورية الحدود في ١٤ نوفمبر ١٨٨٥م. وبعد يومين، بعد ساعات قليلة من إطلاق القذائف، سيطر الجنود الإنجليز على نقط الحدود في نايونجبنمو وسنجبونجوي.٥١ وفي اليوم التالي، في مِنهلا، تقدم الأسطول تحت نيران كثيفة. كانت الحامية البورمية في مِنهلا صغيرة، لكنها قاومت ببسالة غير متوقعة.

كانت القوات الإنجليزية مسلحة بأحدث البنادق التي تشحن من أعقابها. وكان سلاح المدفعية مزوَّدًا بسبعة وعشرين مدفعًا آليًّا سريع الطلقات، أكثر مما اجتمع من قبل على قارة آسيا. لم يستطع البورميون مواجهة هذه النيران. بعد تبادل إطلاق النيران عدة ساعات، نزل المشاة الإنجليز إلى الشاطئ.

تألفتْ قوة الغزو البريطاني من حوالي عشرة آلاف جندي، معظمهم — الثلثان تقريبًا — من السيبو٥٢ الهنود. كانت بين الوحدات المنتشرة في مِنهلا ثلاث كتائب من السيبو، من فوج الهازارا٥٣ وروَّاد مدراس الأول. كانت القوات الهندية قوية محنكة. وأثبت الهازارا، وقد جُنِّدوا من الحدود الأفغانية، جدارتهم للإنجليز على مدى عقود من الصراع، في الهند وخارجها. كان رواد مدراس الأول من بين أخلص جنود مشاة بريطانيا. وقفوا بثبات بجانب سادتهم حتى في ثورة ١٨٥٧م، حين ثار معظم هنود الشمال ضد البريطانيين. كان للمدافعين البورميين في مِنهلا فرصة ضئيلة أمام هؤلاء السيبو، بمعداتهم البريطانية حديثة الصنع وتفوقهم العددي الكبير. انهارتْ قوة الدفاع الصغيرة الباسلة بعد ضرب الحاجز الدفاعي.
امتدتْ صدمة سقوط مِنهلا مسافات بعيدة عبر النهر. في بَكوكو انهارت الحامية؛ في ناونجو، قرب السهل المغطى بالمعابد في باجان، دمر المدفعيون البورميون مدفعهم بعد إطلاق طلقات قليلة. في ميجنجان،٥٤ وكانت تحت قيادة هلثين أتوينون، اضطر المدافعون إلى ترك أماكنهم بعد معركة استمرت عدة ساعات. بعد بضعة أيام، بدون إبلاغ الملك ثيبو، استسلم الجيش البورمي.

لم تستمر الحرب إلا أربعة عشر يومًا.

٣

بعد يومين من معركة ماينجان، كانت مَنْدالي هادئة تمامًا بصورة غريبة. ثم بدأت الشائعات. ذات صباح جرى رجل في السوق، بجانب كشك ما شو. صاح بأعلى صوته: رستْ سفنٌ غريبة على الشاطئ؛ يزحف الجنود الإنجليز إلى المدينة.

ضرب الهلعُ السوق. جرى الناس وتدافعوا. شقَّ رَجْكومار طريقه وسط الزحام ليصل إلى الطريق. لم يرَ عن بعد: على الطريق تحلق سحابة من الغبار، أثارتها مئات الأقدام المتسابقة. جرى الناس في كل اتجاه، تصادموا ودفعوا بتهور كل ما في طريقهم. زحف رَجْكومار باتجاه النهر. وهو يجري، شعر برجَّة في الأرض تحته، بنوعٍ من قرع الطبول في الأرض، رعشة منتظمة انتقلتْ إلى عموده الفقري عبر أخمصَي قدميه.

تناثر الناس أمامه وتفرقوا، متدافعين على جانبَي الطريق. فجأة صار في الصف الأمامي من الحشد، ينظر مباشرة في جنديَّين إنجليزيَّين يمتطيان حصانين بُنِّيَّيْن. يُبعد الفارسان الناس بسيفَيهما المجردَين، ويخليان الطريق. ترك الغبار أثره على حذاءيهما اللامعين. ولاحت خلفهما كتلة متماسكة من الأزياء الرسمية، تتقدم مثل موجة مد.

اندفع رَجْكومار إلى جانب الطريق واستند على حائط. تلاشى توتر البداية الذي أصاب الجماهير والفرقة الأولى من الجنود تمرُّ بهم والبنادق معلقة على الأكتاف. لم تكن هناك ضغينة على وجوه الجنود، لا مشاعر إطلاقًا. ولم يُلْقِ أيٌّ منهم نظرة على الجماهير.

قال شخص: «الإنجليز!» وانتقلت الكلمة بسرعة من فمٍ لفمٍ، وأخذت تعلو وتعلو حتى صارتْ هتافًا مبهمًا. وحين مرَّتْ طليعة الجيش وظهرت الفرقة التالية، خيَّمَ صمتٌ غريب على المشاهدين: لم يكن الجنود إنجليزًا — كانوا هنودًا. تحرك الناس حول رَجْكومار، كأن منظرَ هنديٍّ وسطهم أثار فيهم الفضول.

قال شخص: «مَنْ هؤلاء الجنود؟»

«لا أعرف.»

اندهش رَجْكومار فجأة لأنه لم يرَ وجهًا من الوجوه الهندية المعتادة في البازار طوال اليوم: لا أحد من الحمالين والإسكافيين وأصحاب المحلات الذين يأتون يوميًّا. للحظة بدا الأمر غريبًا، لكنه نساه واستغرق مرة أخرى في مشهد السيبو الزاحفين.

وجَّه الناس أسئلة إلى رَجْكومار: «ماذا يفعل هؤلاء الجنود هنا؟»

هزَّ رَجْكومار كتفيه. كيف يعرف؟ لا تزيد علاقته بالجنود عن علاقتهم بهم. احتشدتْ مجموعة من الرجال حوله، ازدحموا حوله، فتراجع خطوات للخلف: «من أين يأتي الجنود؟ لماذا هم هنا؟»

«لا أعرف من أين يأتون. لا أعرفهم.»

عرف رَجْكومار، وهو يتطلع فوق كتفه، أنه تراجع إلى زقاق مسدود، وحوله سبعة رجال أو ثمانية. سحبوا لنجياتهم، ربطوها على الخصر. ولم يكن السيبو — وكانوا بالمئات وربما بالآلاف — قد ابتعدوا إلا مسافة قصيرة. لكنه كان وحيدًا في الزقاق — الهندي الوحيد — بعيدًا عن أسماعهم، يحيط به هؤلاء الرجال، عازمين بوضوح على الانتقام منه لوجود الجنود.

لمعتْ يدٌ بين الظلال. دفعه رجل على الأرض، وهو يمسك بشعره. حرَّك ساقًا ودفعها للخلف، مصوِّبًا كعبه في عانة المعتدِي. رأى الرجل الركلة قادمة فصدَّها بيده. لوى رأس رَجْكومار وضربه في وجهه بظهر قبضته. اندفعت الدماء من أنف رَجْكومار. جمَّدتْ صدمةُ الضربة الوضع لحظة. بدا أن قوس الدماء يتوقف في مساره، معلَّقًا في الهواء، شفافًا بشكل رائع، مثل خيط من العقيق. ثم تلقى رَجْكومار ضربة بالكوع في بطنه، قطعت نفَسَه وألقتْ به إلى الحائط. تهاوى، ممسكًا ببطنه، كأنه يحاول إعادته إلى مكانه.

وصل العون فجأة. رنَّ صوتٌ عبر الممر: «توقفْ.»

التفت الرجال حولهم، في فزع.

«اتركه.»

كان صوت سايا جون يتقدم تجاههم وذراعه في الهواء، يبدو آمرًا بشكل غريب بقبعته ومعطفه. وقد دسَّ بأناقة في راحة يده المرفوعة مسدسًا صغيرًا بفوهة مفلطحة. تراجع الرجال ببطء، وبمجرد رحيلهم، دسَّ سايا جون المسدس في جيب معطفه. خاطب رَجْكومار: «أنت محظوظ لأني رأيتك. ألم تعرف ما هو أفضل من الخروج إلى الشوارع اليوم؟ تحصَّنَ الهنود الآخرون جميعًا في مجمع الحاج إسماعيل في سفح هضبة مَنْدالي.»

مدَّ يده وساعد رَجْكومار على الوقوف. نهض رَجْكومار وجفَّف الدماء من على وجهه المرتجف. خرجا من الزقاق معًا. على الطريق الرئيسية كان الجنود لا يزالون يسيرون. سار رَجْكومار وسايا جون متجاورَين وشاهدا عرض النصر.

قال سايا جون على الفور: «اعتدتُ أن أعرف جنودًا مثل هؤلاء.»

«سايا؟»

في سنغافورة، وأنا شاب، عملتُ فترةً عامل اتصال في مستشفى. وكان معظم المرضى سيبو مثل هؤلاء — هنودًا، عادوا من خوض حروب لصالح سادتهم الإنجليز. ما زلتُ أتذكر رائحة الضمادات العفنة على الأطراف المبتورة؛ صرخات أولاد في العشرين طوال الليل، وهم يجلسون في أسرَّتهم. كانوا قرويين، من قرى صغيرة: ما زالت رائحة دخان الخشب ونيران الروث تفوح من ملابسهم وعمائمهم. سألتهم: «لماذا تقاتلون بدل أن تزرعوا حقولكم في بلادكم؟» قالوا: «الفلوس»، ومع ذلك كانوا لا يكسبون إلا بضعة قروش٥٥ في اليوم، لا تزيد كثيرًا عما يحصل عليه حمال في حوض للسفن. من أجل بضع عملات معدنية سمحوا لسادتهم باستخدامهم كما يريدون، يدمرون كل أثر لمقاومة تواجه الإنجليز. حيَّرني ذلك دائمًا: لم يفعل القرويون الصينيون هذا أبدًا — لم يسمحوا باستخدامهم لخوض حروب الآخرين بمثل هذا المكسب التافه. نظرتُ في تلك الوجوه وتساءلتُ: ماذا إذا كان لديَّ ما أدافع عنه — بيت، بلد، أسرة — ووجدتُ هؤلاء الرجال الأشباح، هؤلاء الأولاد المؤتمنين، يهاجمونني؟ كيف تقاتل عدوًّا لا يقاتل بباعث العداوة أو الغضب بل خضوعًا لأوامر رؤسائه، بدون اعتراض وبدون ضمير؟

«في الإنجليزية تُستخدَم كلمة — جاءت في الكتاب المقدس — الشر. اعتدتُ التفكير فيها وأنا أتحدث إلى أولئك الجنود. أية كلمة أخرى يمكن استخدامها لوصف رغبتهم في القتل من أجل سادتهم، رضوخهم لأي أمر، بصرف النظر عن نتائجه؟ إلا أن هؤلاء السيبو، في المستشفى، قدموا لي هدايا، تعبيرًا عن امتنانهم — فلوتًا عليه نقوش، برتقالةً. نظرتُ في عيونهم ورأيتُ أيضًا نوعًا من البراءة، من البساطة. هؤلاء الرجال، الذين لا يرون ضيرًا في إحراق كل القرى إذا أمرهم ضباطهم، لديهم أيضًا نوع من البراءة. شر بريء. لا أظنَّ أن هناك ما هو أخطر.»

هزَّ رَجْكومار كتفيه بشكل عفوي: «سايا. إنهم مجرد أدوات. لا رأي لهم. لا يساوون شيئًا.»

نظر إليه سايا جون في فزع. في الولد شيء غير عادي — نوعٌ من التصميم اليقظ. لا مزيد من الامتنان هنا، لا هدايا أو عطايا، لا حديث عن الشرف مع الطعن في القلب. لا بساطة في وجهه، ولا براءة: عيناه مليئتان بالدنيا والفضول والجوع. هذا ما كان.

قال سايا جون: «إذا أردْتَ عملًا في أي وقت، تعال وكلمني.»

•••

قبل الغروب مباشرة انسحبتْ قوات الاحتلال من الحصن. حمَّلوا العربات بالغنائم التي أخذوها. واندهش سكان البلدة لأنهم انصرفوا بدون أن يضعوا فرق حراسة حول الحصن. للمرة الأولى على ما يتذكر الجميع بقيت بوابات القلعة مفتوحة بدون حراسة.

عاد الجنود من الطريق الذي أتوا منه لكن في شوارع خالية. وحين تلاشى وقع أقدامهم، خيَّمَ هدوء قَلِقٌ على المدينة. ومع حلول الليل انفجر الموقف فجأة، اندفعتْ نسوة من الحصن يجرين على الجسر الجنائزي، وأقدامهن تقرع كالطبل على سطحه الخشبي.

تعرفتْ ما شو على بعض النسوة. كُنَّ من خادمات القصر؛ رأتهن يدخلن ويخرجن من الحصن لسنوات، يمشين بغطرسة على الطريق ينتعلن الشباشب، ولنجياتهن مربوطة بأناقة فوق كواحلهن. كن يجرين، يتعثرن في الغبار بدون التفكير في ملابسهن. يحملن صررًا من الملابس وأكياسًا، وحتى أثاثًا؛ انحنتْ بعضهن مثل غسالات في طريقهن إلى النهر. جرت ما شو إلى الشارع واستوقفت إحدى النساء: «ماذا تفعلن؟ ماذا حدث؟»

«كان الجنود ينهبون القصر. ونحاول الاحتفاظ ببعض الأشياء لأنفسنا.» اختفت النسوة وهدأ كل شيء مرة أخرى. وتحركت الظلال حول الحصن. انتشرتْ موجات من النشاط في الظلام، كانتشار العثة في حنايا دولاب متعفن. زحف الناس ببطء من المساكن حول القلعة. تقدموا إلى الأسوار، حدقوا بشكٍّ في أعمدة الحراسة الخالية. لا جنود على مرمى البصر، ولا حتى حراس القصر. هل يمكن ترك البوابات بدون حراسة؟ مشى بعض الناس على الجسور، يختبرون الصمت. ببطء، ساروا على كعوب أقدامهم، وتقدموا باتجاه الضفة البعيدة للخندق الذي يبلغ اتساعه ثمانين قدمًا. وصلوا للجانب الآخر وزحفوا إلى البوابات، مستعدين للرجوع مع أدنى مراقبة.

ذهب الحراس والخفر تمامًا حقًّا. القصر بدون حراسة. تسلل المقتحمون عبر البوابات وتلاشوا في الحصن.

تفرجتْ ما شو في تردد، هارشةً ذقنها. التقطت الدَّا الحادة. ثبَّتت اليدَ الخشبية في خصرها، وسارتْ باتجاه الجسر الجنائزي. كانت أسوار الحصن بلون الدم في الظلام أمامها.

جرى رَجْكومار خلفها، وصل إلى الجسر بجانب الجماهير المهاجمة. كان أوهى جسور الحصن، ضيقًا جدًّا بالنسبة للكتلة التي تحاول عبوره. انفجر جنون التنافس، وقد قفز الرجلُ الذي بجوار رَجْكومار في الهواء وسقط على الجانب؛ طار لوح خشبي وقلب امرأتين أخذتا تصرخان في الخندق. تسلل رَجْكومار، وكان أصغر من الذين حوله وأخف حركة، بين الأجسام المتزاحمة، ومضى مسرعًا إلى الحصن.

تخيل رَجْكومار الحصنَ مليئًا بحدائق وقصور، مطلية بترف ومذهَّبة بسخاء. لكن الشارع الذي كان فيه ممر مستقيم وضيق وقذر، به منازل خشبية، ولا يختلف عن أي جزء آخر في المدينة. يقع أمامه مباشرة القصر وبرجه بأسقفه التسعة — رأى الهتي المذهب يومض في الظلام. تدافع الناس في الشارع، يحمل بعضهم كشافات متوهجة. لمح رَجْكومار ما شو تلفُّ في ركن بعيد. أسرع خلفها، ولنجيُّه مربوط بإحكام حول خصره. كان للطوق مداخل عديدة، من بينها بوابات مخصصة للخدم والتجار، منخفضة في الجدران، مثل جحور الفئران، لا يمر منها أحد بدون أن ينحني. عند أحد هذه المداخل الصغيرة التقى رَجْكومار بما شو مرة أخرى. دُفِعت البوابة بسرعة. تدفق الناس خلالها، كالماء فوق حافة ينبوع.

بقي رَجْكومار خلف ما شو مباشرة وهي تشق طريقها بكوعها إلى المدخل. دفعتْه وانحشرتْ عبر البوابة. شعر رَجْكومار بأنه سقط على ملاءة معطرة، تمرَّغ عليها ليجد نفسه مستلقيًا على سرير من العشب الناعم. كان في حديقة تتصل بقناة متدفقة: فجأة صار الهواء نقيًّا وباردًا، وخاليًا من الغبار. بوابات القصر باتجاه الشرق: الاتجاه الذي كان يأتي منه الزوار الرسميون، سائرين في طريق رسمي يؤدي إلى الجناح الكبير المكسو بالزجاج حيث بلاط الملك. على الجانب الغربي من الطوق — الجانب الأقرب للبوابة الجنائزية — تقع أجنحة النساء؛ القاعات والمباني التي أمام ما شو ورَجْكومار. نهضت ما شو وأسرعتْ لاهثة، في اتجاه مدخل حجري مقوس. كانت أبواب الغرفة الرئيسية في قصر النساء تقع مباشرة خلف فتحة واسعة. توقف الناس ليتحسسوا بأصابعهم ألواح الباب المرصع باليشم. سقط رجل على ركبتيه وبدأ يدق شرائح الخشب بصخرة، محاولًا خلع الزخارف. جرى رَجْكومار، إلى البناية، خطوتين خلف ما شو. كانت الغرفة كبيرة جدًّا، حوائطها وأعمدتها مكسوة بآلاف من قطع الزجاج. لمبات الزيت تخفق فوق حواملها، وبدت الغرفة كلها متوهجة، كل الأسطح تومض ومضات من الضوء الذهبي. امتلأت القاعة بضجة عمل، بطنين يشبه طنين عامل يقطع ويخبط، تكسير خشب وتهشيم زجاج. انهمك الناس، رجالًا ونساء، في كل مكان في العمل، مسلحين بفئوس ودات؛ ضربوا بالفئوس في أوك٥٦ مرصعة بحلي تملأ صناديق؛ وحفروا أحجارًا كريمة مزينة بالرسوم من الأرضية الرخام؛ مستخدمين الصنانير لخلع العاج المطعمة به صناديق الساديك٥٧ المطلية. كانت فتاة، مسلحة بصخرة، تخلع زخارف قانون على شكل تمساح؛ واستخدم رجل ساطورًا لكشط الطلاء الذهبي من عنق قيثارة سونج جاك؛٥٨ ونحتت امرأة بضراوة في عينين من الياقوت لأسد تشينثي٥٩ من البرونز. وصلوا إلى باب يؤدي إلى حجرة انتظار مضاءة بالشموع، بداخلها امرأة، تقف بجوار النافذة المتشابكة في الركن البعيد.

لهثتْ ما شو: «الملكة سوبايالات!»

صرخت الملكة، مطوحة بقبضتها: «اخرجوا من هنا. اخرجوا.» كان وجهها أحمر، مشحونًا بالغضب، كان مبعث ضراوتها العجز بقدر ما كان وجود رعاع في القصر. قبل ذلك بيوم، ربما سُجن شخص لأنه تطلع إلى وجهها مباشرة. أتى ذلك اليوم كل حثالة المدينة مندفعين إلى القصر ولا حيلة لها في مقاومتهم. لكن الملكة لم تكن مروَّعة أو خائفة، إطلاقًا. سقطت ما شو إلى الأرض، ويداها معقودتان على رأسها في شيكو٦٠ للتبجيل.

سقط رَجْكومار على ركبتيه، عجز عن النأي ببصره. كانت الملكة ترتدي ثوبًا واسعًا من الحرير القرمزي، ينبعج على بطنها المتضخم. كان شعرها ملمومًا في لفات مصبوغة على رأسها الصغير الرقيق؛ وعلى قناع وجهها العاجي ندبة تجهم كئيبة، منحوتة بنقطة عرق. كان ثوبها مرفوعًا فوق كاحلها، ولاحظ رَجْكومار أن ساقيها ملفوفتان في ثوب من الحرير القرنفلي — جورب، شيء لم يره من قبل أبدًا. حملقت الملكة في ما شو، وهي مستلقية على الأرض أمامها. كان في يد ما شو شمعدان من النحاس بقاعدة من الأقحوان.

انطلقت الملكة في المرأة الساجدة: «أعطيني هذا؛ من أين أخذْتِه؟ أرجعيه.» حاولت الملكة، مائلة بثبات على بطنها المنتفخ، انتزاع الشمعدان. ملصت ما شو يديها واندفعت للخلف، مثل سرطان البحر. همست الملكة لها: «هل تعرفين من أنا؟» انحنتْ ما شو بثني الركبة في تعبير آخر عن التقدير، ولم تفرط في شمعدانها. كأن التصميم على التشبث بغنيمتها لا يتناقض مع الرغبة في تقديم التقدير الواجب للملكة.

قبل يوم واحد فقط كانت جريمة دخول القصر الإعدام فورًا — هذا ما يعرفونه جميعًا — الملكة وكل من انضمَّ إلى الرعاع. لكن أمس انقضى: حاربت الملكةُ وانهزمتْ. لماذا لا تتغاضى عما فقدته؟ لم تعد هذه الأشياء ملكها: ماذا يُجنى من تركها ليأخذها الغرباء؟

في سنوات حكم الملكة كرهها سكان المدينة لوحشيتها، وهابوها لقسوتها وجرأتها. والآن بخيمياء الهزيمة تبدلت في عيونهم. كأن رابطة جديدة انبثقتْ للوجود. صارت للمرة الأولى في حكمها ما يجب أن تكون عليه الملكة، وكيلة شعبها. كل من عبر الباب سقط على الأرض في تعبير تلقائي عن الإجلال. الآن، وقد صارت بلا قوة لتعاقبهم، سعدوا بتقديم رموز الاحترام لها؛ سعدوا بلومها لهم. كان رائعًا أن يقدموا لها الشيكو وأن توبخهم. هل تقبل هزيمتها بخنوع، ولا يشعر أحد بالعار بعمق مثلهم. كأنهم يعهدون لها بعبء تحديهم المكبوت.

•••

وقعتْ عينا رَجْكومار على إحدى خادمات الملكة؛ فتاة نحيفة طويلة الأطراف، بشرتها بلون مسحوق الثاناكا٦١ الخفيف الذي تضعه على وجهها. عيناها واسعتان وداكنتان ووجهها طويل ومتناسقٌ تمامًا. كانت إلى حد بعيد أجمل مخلوق رآه على الإطلاق، فتنة تفوق التخيل.

بلع رَجْكومار ريقه ليسلِّكَ حنجرته، وقد تورمت وجفت فجأةً. كانت في ركن بعيد من الغرفة مع فتيات أخريات. أخذ طريقه إليها بجانب الحائط.

كانت مرافقة، خمَّن، ربما في التاسعة أو العاشرة. يمكن القول إن الفتاة الصغيرة التي بجوارها، وكانت تتحلى بالمجوهرات، أميرة. في الركن الذي خلفهن كمية ملابس غنية بالألوان وأشياء من النحاس والعاج. ومن الواضح أن الفتيات كن مشغولات بإنقاذ ممتلكات الملكة حين قاطعهن الرعاع.

نظر رَجْكومار إلى الأرض ورأى صندوق مجوهرات من العاج منسيًّا في ركن. كانت قبضة الصندوق من الذهب، وعلى جانبيه مقبضان صغيران، منقوشان على شكل دولفينين في وضع الوثب. عرف رَجْكومار ما عليه أن يفعله. التقط الصندوق من الأرض، وجرى عبر الغرفة وقدمه للفتاة الصغيرة النحيلة.

«خذي.»

لم تتطلع إليه. أدارتْ رأسها بعيدًا، تحركتْ شفتاها في صمت كأنها في ترنيمة.

قالت فتاة أخرى: «خذيه. يعطيه لك.»

قال لها مرة أخرى «خذي. لا تخافي.»

اندهش من نفسه حين أخذ يدها ووضعها بلطف على الصندوق: «أعدتُه إليك.»

تركتْ يدها تستريح على الغطاء. كان خفيفًا مثل ورقة شجر. نظرتْ عيناها في البداية إلى الغطاء المرصَّع بالمجوهرات وانتقلتا ببطء من العُقَد السوداء في مفاصل أصابعه إلى صدرته الممزقة القذرة وإلى وجهه. امتلأتْ عيناها فهْمًا وأنزلت بصرها. عرف أن عالمها مطوَّق بالخوف، كل خطوة تخطوها مغامرة في المجهول.

قال رَجْكومار: «ما اسمكِ؟»

همستْ بمقطعين غير مسموعين.

«دُ-لي؟»

«دُلِّي.»

كرر رَجْكومار: «دُلِّي، دُلِّي.» اعتقد أن لا شيء آخر يمكن أن يقال أو يساوي تكرار اسمها؛ كرر الاسم مرة أخرى بصوت أعلى وأعلى، حتى صاح: «دُلِّي. دُلِّي.»

رأى ابتسامة صغيرة تزحف على وجهها، ثم جاء صوت ما شو في أذنه. «الجنود. اجرِ.» عند الباب، التفتَ لينظر خلفه. كانت دُلِّي تقف كما تركها تمامًا، تمسك بالصندوق بين يديها، تحدِّقُ فيه.

شدَّتْ ما شو على ذراعه: «لماذا تحدق في الفتاة، أيها الكالا الغبي؟ خذ ما حصلْتَ عليه واجرِ. الجنود عائدون. اجرِ.»

كانت القاعة المليئة بالمرايا تردِّد صدى الصياح. عند الباب، عاد رَجْكومار ليومئ لدُلِّي، كانت إشارة أكثر مما كانت تلويحًا: «أراك ثانية.»

٤

قضت العائلة الملكية الليل في إحدى أبعد البنايات في أراضي القصر، قصر الحديقة الجنوبية، جناح تحيط به أحواض وقنوات وحدائق متواضعة. وفي اليوم التالي، قبل الظهر بقليل، خرج الملك ثيبو إلى البلكونة وجلس في انتظار المتحدث البريطاني، الكولونيل سلادِن.٦٢ وضع الملك وشاحًا ملكيًّا وجُنْج بُنْج٦٣ أبيض، عمامة الحِدَاد.

كان الملك ثيبو متوسط الطول، وجهه ممتلئ وشاربه خفيف وعيناه رائعتان. اشتهر في شبابه بجماله: وُصِف ذات مرة بأنه أوسم بورمي على الأرض (كان نصف شان، جاءت أمه إلى مَنْدالي من إمارة صغيرة على الحدود الشرقية). تُوِّج وهو في العشرين وفي السنوات السبع التي اعتلى فيها العرش لم يغادر مجمع القصر أبدًا. وأدت هذه الإقامة الطويلة إلى تشوُّهات مفزعة في مظهره. كان في السابعة والعشرين وبدا في منتصف العمر.

لم يكن الجلوس على عرش بورما في يوم من الأيام طموحًا شخصيًّا لثيبو. ولم يتخيل أبدًا شخصٌ في المملكة أن يئول إليه التاج ذات يوم. التحق في طفولته بدير بوذي تقليدي للأولاد، في طبقة الرهبان، بحماس غير معتاد في شخص من طبقته وأصله. قضى عدة سنوات في دير القصر، ولم يغادره إلا مرة، قصيرة، بناء على أمر أبيه، الملك مِنْدُن٦٤ المهيب. سجَّل الملكُ ثيبو وبعضَ أبناء زوجاته في مدرسة إنجليزية في مَنْدالي. تحت تأثير المبشرين الأنجليكيين تعلم ثيبو بعض الإنجليزية وأظهر موهبة في الكريكت.
لكن الملك مندن غيَّر رأيه، سحب الأمراء من المدرسة وطرد المبشرين في النهاية. عاد ثيبو سعيدًا إلى الدير على أرض القصر، على مقربة من الساعة المائية والمنزل المقدس لسن بوذا. وتقدم ليحقق تفوقًا في الدراسة الدينية، واجتاز في التاسعة عشرة امتحان باتاما بيان٦٥ وهو امتحان صعب.

ربما كان الملك مندن أكثر حاكم جلس على عرش بورما حكمةً وتعقُّلًا. مع أنه قدَّر مواهب ابنه إلا أنه أدرك أيضًا نواحي قصوره. أشار ذات مرة: «إذا صار ثيبو ملكًا، فستنتقل البلاد إلى أيدي الغرباء.» لكنه بدا احتمالًا بعيدًا. كان في مَنْدالي ستة وأربعون أميرًا غير ثيبو، حقوقهم في المطالبة بالعرش مثل حقوقه، ومعظمهم يتفوقون عليه في الطموح والقدرة السياسية.

لكن القدر تدخل في هيئة مألوفة، حماته: كانت أيضًا زوجة أبيه، الملكة ألينَنْدو،٦٦ الزوجة الكبرى والمدبرة الماكرة والقاسية لمكائد القصر. رتبتْ لزواج ثيبو من بناتها الثلاث في وقت واحد. وقدمته على منافسيه الستة والأربعين ونصَّبتْه على العرش. لم يكن أمامه اختيار إلا إعلان الموافقة: كان القبول بديلًا أسهل من الرفض، وأقل انطواء على الموت. لكن حدث تطور جديد مروِّع، شيء أفسد حسابات الجميع: وقع ثيبو في حب إحدى زوجاته، ملكته الوسطى، سوبايالات.

من بين كل أميرات القصر، كانت سوبايالات الأعنف والأكثر عنادًا، الوحيدة التي يمكن أن تساوي أمها في المكر والتصميم. من هذه المرأة لا يتوقع غير اللامبالاة حين يتعلق الأمر برجل ذي نزعة ثقافية مثل ثيبو. إلا أنها أيضًا، خروجًا على بروتوكولات مكائد القصر، وقعتْ بتهور في حبِّ زوجها، الملك. بدا أن طبيعته الطيبة غير الفعالة فجَّرتْ فيها ضراوةً مستلهمة من الأم. لحمايته من عائلتها جردت أمها من قواها ووضعتها في أحد أركان القصر، مع أخواتها والزوجات الأخريات. وبدأت تخلص ثيبو من منافسيه. أمرتْ بقتل كل فرد من العائلة الملكية يمكن أن يمثل تهديدًا لزوجها. ذُبِح تسعة وسبعون أميرًا بناء على أوامرها، كان البعض أطفالًا حديثي الولادة والبعض مسنين لا يستطيعون المشي. ولتمنع انسكاب الدم الملكي، لفَّتهم في سجاجيد وضربتهم بالسياط حتى الموت. وكانت الجثث تُلقى في أقرب نهر.

كانت الحرب أيضًا عمومًا من صنع سوبايالات: أثارت أكبر مجلس في البلاد، الهلوتدو،٦٧ حين أصدر الإنجليز إنذاراتهم من رنجون. فكر الملك في استرضائهم؛ قدم كنون منجاي، أوثقُ وزرائه، عرضًا طيبًا للسلام، وكان يُغرَى بالاستسلام. ثم ظهرت سوبايالات من مكانها ومضتْ ببطء إلى وسط المجلس. كانت حاملًا في الشهر الخامس، تتحرك بتأنٍّ شديد، بخطًى بطيئة زاحفة، تحرك قدميها الصغيرتين ما لا يزيد عن بضع بوصات في المرة، شخصية صغيرة وحيدة في اجتماع نبلاء معممين.

كانت الغرفة مغطاة بالمرايا. حين وصلتْ إلى وسطها، بدا أن جيشًا من السوبايالات يتجسدن حولها؛ في كل مكان، على كل قطعة من الزجاج، آلاف من النساء الضئيلات أيديهن معقودة على خصورهن المنتفخة. سارت إلى كنون منجاي البدين العجوز، وهو يجلس ممدَّدًا في مقعده. قالتْ وهي تدفع بطنها المنتفخ في وجهه: «لماذا، يا جد، أنت مَنْ عليه ارتداء جيبة وامتلاك حَجَر لطحن مسحوق الوجه؟» كان صوتها هامسًا، لكنه ملأ الغرفة.

انتهت الحرب، والملك يجلس في بلكونة جناح الحديقة، ينتظر زيارة الكولونيل سلادن، الناطق باسم البريطانيين المحتلين. في مساء اليوم السابق، استدعى الكولونيلُ الملكَ وأخبره، بأكثر اللغات كياسة وتحفُّظًا، أن على العائلة الملكية مغادرة مَنْدالي في اليوم التالي؛ وعلى جلالته أن يعمل جيدًا لاستغلال الوقت المتبقي للاستعدادات.

سبع سنوات لم يخطُ الملك خارج القصر؛ ولم يغادر منطقة مَنْدالي طوال حياته. ماذا تكون استعداداته؟ ربما مثل استعداد المرء لرحلة إلى القمر. كان الملك يعرف الكولونيل جيدًا. قضى سلادن سنوات في مَنْدالي مبعوثًا لبريطانيا وكثيرًا ما زار القصر. يتحدث البورمية بطلاقة وبدا دائمًا منضبطًا في سلوكه، أحيانًا دمثًا وحتى ودودًا. أخبر الملكُ سلادن بأنه يريد مزيدًا من الوقت، أسبوعًا، بضعة أيام. ما أهمية هذا الآن؟ كسب الإنجليز وخسر: أي فرق يصنعه يوم أو يومان؟

•••

أتى الكولونيل سلادن عصرًا، يسير في الطريق المؤدِّي إلى قصر الحديقة الجنوبية، ممر مليء بالحصى بين أحواض بديعة وجداول مليئة بأسماك ذهبية. ظلَّ الملك جالسًا والكولونيل سلادن يقترب.

سأل الملكُ: «كم من الوقت؟»

كان سلادن في كامل زيه الرسمي، وسيف معلق في خصره. انحنى أسفًا. شرح أنه تباحث طويلًا مع القائد. عبَّر الجنرال عن تعاطفه، لكن لديه أوامر وكان مقيدًا بمسئوليات منصبه. على جلالته أن يفهم؛ لو أن الأمور في يديه، سلادن، لأسعده إجراء تعديلات، لكن الأمور ليست في يديه، ولا في أيدي أي شخص فيما يتعلق بهذا الموضوع …

«كم من الوقت، إذن؟»

مدَّ سلادن يده في جيبه وأخرج ساعة ذهبية: «حوالي ساعة.»

«ساعة! لكن …»

كان حرس الشرف جاهزًا على بوابات القصر؛ ينتظر الملك.

روَّعت الأخبارُ الملكَ. استفسر في ذعر: «أية بوابة؟» شُحِن كل جزء من القصر بالنُّذُر. كان المدخل الرسمي الميمون باتجاه الشرق. من خلال بواباته جاء الزوار الكبار ومضوا. لسنوات كان المبعوثون البريطانيون إلى مَنْدالي يُرسَلون إلى البوابة الغربية المتواضعة. اشتكوا فترة طويلة من ذلك. شنَّ سلادن معارك كثيرة مع القصر بسبب هذه النقط الدقيقة في البروتوكول. هل يسعى لانتقام صارم ويرغم الملك على الخروج من البوابة الغربية؟ نظر الملك بتوجس إلى الكولونيل وأسرع سلادن يطمئن الملك. يجب أن يُسمَح له بالمغادرة من البوابة الشرقية. قرر البريطانيون في الانتصار أن يكونوا كرامًا.

نظر سلادن إلى ساعته مرة أخرى. لم يتبقَّ إلا وقت قصيرٌ جدًّا وهناك مسألة بالغة الأهمية لم تُحسَم: الحاشية التي ترافق العائلة الملكية إلى المنفى.

وسلادن يتباحث مع الملك، انشغل ضباط بريطانيون آخرون في تنظيم حشد في حديقة مجاورة. استُدعي عددٌ كبير من موظفي القصر، بما فيهم خادمات الملكة وكل الخدم الآخرين الموجودين. نظر الملك ثيبو والملكة سوبايالات والكولونيل يخاطب الخدم.

أخبر الكولونيل الوجهاء المحتشدين بأن العائلة الملكية ستُرسَل إلى المنفى. ستذهب إلى الهند، إلى مكان لم يُقرَّرْ بعد. تتمنى الحكومة البريطانية مدَّهم بمجموعة من المرافقين والمرشدين. وسيتحقق الأمر بطلب متطوعين.

ساد الصمت حين انتهى، تبعته نوبة من سعال الإحراج، موجة بشعة من تسليك الحناجر. حُكَّت الأقدامُ في الأرض وخُفِضت الرءوسُ، وفُحِصت الأظافرُ. أطلق الونجيون العظماء نظرات غير مباشرة إلى الوندوكين الأقوياء؛ حدَّق الماوونون المتعجرفون بشكل بشع في العشب. كثير من رجال الحاشية المحتشدين لم يكن لهم أبدًا بيت إلا القصر؛ لم يستيقظوا أبدًا في يوم لم تُقضَ ساعاته بأوامر الملك؛ لم يعرفوا أبدًا عالَمًا ليس مركزه هتي ملوك بورما، ذو الأسقف السبعة. كل حياتهم التي عاشوها دُرِّبتْ في خدمة سيدهم. لكن تدريبهم ربطهم بالملك فقط طالما يجسد بورما واستقلال البورمي. لم يكونوا أصدقاء الملك ولا مؤتمنين على أسراره، ولم يكن في قدرتهم أن يخففوا ثقل تاجه. أعباء الملكية تخصُّ ثيبو وحده، بمفرده ولا تخصُّ أحدًا منهم.

ذهبتْ مناشدات سلادن أدراج الرياح: لم يكن هناك متطوعون. مرَّتْ نظرة الملك، علامة الاستحسان التي بحث عنها بشغف، مرور الكرام على رءوس أفراد حاشيته. تبلَّد ثيبو وهو يشاهد أخلص خدمه يشيحون بوجوههم، لامسين بارتباكٍ الأوشحة التسلوي٦٨ الذهبية التي تميز فئتهم.

هكذا تنحسر القوة: في لحظة واقعية حية، بين انحسار إحدى فنتازيات الحكم واستبدالها بما يليها؛ في لحظة والعالم يحلِّق متحررًا من مرسى أحلامه ويكتشف أنه مطوَّقٌ في مسارات البقاء على قيد الحياة والحفاظ على الذات.

قال الملك: «لا يهمُّ من يأتي ومن لا يأتي.» والتفتَ إلى سلادن: «لكن لا بدَّ أن تأتي معنا، سلادن، لأنك صديق قديم.»

ردَّ سلادن: «أعتذر، هذا مستحيل، جلالتكم؛ تُبقيني واجباتي هنا.»

صوبت الملكة، وهي تقف خلف كرسي الملك، إحدى نظراتها القاسية إلى زوجها. كان مناسبًا تمامًا بالنسبة له أن يعبر عن عواطف رقيقة، لكنها حامل في الشهر الثامن، ومشغولة أكثر برعاية الطفلة الصعبة المصابة بالمغص. كيف تواجه ظروفها بدون خادمات ومرافقات؟ من يهدئ الأميرة الثانية حين تنتابها نوبة غضب؟ تفحصتْ عيناها الحشد واستقرتْ على دُلِّي، وكانت تقف على كعبيها، تجدل أوراق عشب.

تطلعتْ دُلِّي للنظرة التي صوبتها إليها الملكة من مكانها في بلكونة الجناح. صرخت وأسقطت الأوراق. هل حدث شيء؟ هل الأميرة تصرخ؟ وثبتْ وجرت باتجاه الجناح، تتبعها إفلين وأجستا وعدد من الأخريات.

تنفس سلادن الصعداء حين أتت الفتيات إلى سلالم الجناح. بعض المتطوعات أخيرًا!

قال والفتيات يسرعن، ليتأكد فقط: «هل تذهبن؟»

توقفت الفتيات ليحدقن؛ ابتسمت إفلين وضحكت أجستا. بالطبع سيذهبن؛ كن يتيمات؛ وحدهن من بين خدم القصر ليس لهن مكان آخر يذهبن إليه، لا وسيلة أخرى تعينهم. ماذا باستطاعتهن إلا الذهاب مع الملك والملكة؟

ألقى سلادن نظرة أخرى إلى رجال الحاشية وخدم القصر. ألن يصحب أحد آخر الملك؟ ردَّ صوت وحيد مرتعش بالإيجاب. صوت موظف متقدم في العمر، بادين ون.٦٩ يذهب لو استطاع أخذ ابنه معه.

«كم تبقى من الوقت؟»

نظر سلادن إلى ساعته: «عشر دقائق.»

عشر دقائق أخرى فقط.

قاد الملكُ سلادن إلى الجناح وفتح بابًا. رفَّ بصيصٌ من النور في الغرفة المظلمة منبعثًا من يراعة،٧٠ كاشفًا عن الذهب. في بورما أغنى مناجم الجواهر في العالم، وقد آلت ملكية الكثير من الأحجار الكريمة إلى الأسرة الحاكمة. توقف الملك ليضع يده على حقيبة مجوهرات تضمُّ أثمن ما يملك، خاتم نجاموك،٧١ صُنِع من أثمن ياقوت خرج من مناجم بورما. جمع أسلافه المجوهرات والأحجار الكريمة في وقت متأخر، كنوع من اللهو. بهذه الحلي عليه إعالة نفسه وأسرته في المنفى.

«كولونيل سلادن، كيف يُنقَل هذا كله؟»

تشاور سلادن بسرعة مع الضباط المرافقين له. كل شيء في الحفظ، طمأن الملك. سيُنقَل الكنز تحت حراسة إلى سفينة الملك. لكن حان وقت الرحيل؛ حرس الشرف في الانتظار.

خرج الملك من الجناح، بجواره الملكة سوبايالات وأمها. في منتصف المسار الملتوي، التفتت الملكة خلفها. كانت الأميرتان على بعد بضع خطوات منها مع الخادمات. حملت الفتيات أشياءهن في صناديق وصرر متنوعة. وضعت بعضهن زهورًا في شعورهن، وارتدت بعضهن أزهى ملابسهن. سارت دُلِّي بجوار إفلين، والأميرة الثانية على خصرها. كانت الفتاتان تقهقهان، غافلتين، كأنهما في الطريق إلى مهرجان.

مضى الموكب ببطء في الدهاليز الطويلة للقصر وعبر قاعة المقابلات الرسمية، المغطاة بالمرايا، بجانب البنادق التي يحملها حرس الشرف على الأكتاف والتحيات الخاطفة من الضباط الإنجليز.

بجوار البوابة الشرقية عربتان تنتظران. عربتا عجول، يثين،٧٢ أكثر المركبات شيوعًا في شوارع مَنْدالي. زُوِّدت العربة الأولى بمظلة رسمية. والملك على وشك الركوب لاحظ أن لمظلته سبع طبقات، الرقم المخصص لنبيل، وليس تسعًا، المستحقة لملك.

توقف ليلتقط أنفاسه. رغم كل شيء انتقم الضباط الإنجليز ذوو الكلام المعسول، وأضفوا على سكين النصر انحناءة صغيرة أخيرة. في مواجهته الأخيرة مع رعاياه السابقين، تنازل على الملأ مثل تلميذ منحرف. كان تخمين سلادن صائبًا: كانت، من بين كل الإهانات، آخر ما يتخيل ثيبو، وأبشعها.

•••

كانت عربتا الثيران صغيرتين لا تتسعان للخادمات. سرن خلفهما على الأقدام، موكب صغير مهلهل من ثماني عشرة فتاة، يتيمات في ثياب زاهية يحملن صناديق وصررًا.

اصطف مئات الجنود البريطانيين إلى جانب عربتَي الثيران والفتيات، مزوَّدين بأسلحة كثيرة، مستعدين لمواجهة أي اضطراب. لم يُتوقَّع من أهل مَنْدالي الجلوس بتراخٍ وملكهم وملكتهم يساقان إلى المنفى. سُمِعتْ تقارير عن تخطيط لشغب ومظاهرات، عن محاولات يائسة لتحرير العائلة الملكية.

اعتقد القائد الأعلى البريطاني أنها أخطر لحظة في العملية كلها. خدم بعضهم في الهند، وهناك حادثة من الماضي القريب تجثم بثقلها على عقولهم. في آخر أيام الثورة الهندية في ١٨٥٧م، أسر الميجور هُدْسُنْ٧٣ بهادر شاه ظَفَر،٧٤ آخر المغول، في ضواحي دلهي. كان الإمبراطور العجوز الضرير والعاجز قد لاذ بمقبرة سلفه همايون٧٥ مع اثنين من أبنائه. حين رافقه الميجور هو وابناه إلى المدينة، احتشد الناس بأعداد كبيرة على جانب الطريق. ازدادت هذه الجماهير بشكل عاصف، وازداد تهديدها. في النهاية، للسيطرة على الرعاع، أمر الميجور بإعدام الأميرين. دُفعا أمام الجماهير، وضرب دماغيهما على الملأ.

لم يمضِ أكثر من ثمانية وعشرين عامًا على هذه الأحداث، وذكراها محفوظة ناضرة في أحاديث الميسات والأندية. وهناك أمل ألا تتكرر مثل هذه النهاية — لكن لو حدث هذا لوجدت مرافقي الملك ثيبو مستعدين.

في مَنْدالي شوارع قليلة تستوعب موكبًا بهذا الحجم. قعقعتْ عربتا الثيران ببطء في الطرق الأوسع، ومالتا بحدة حول الأركان قائمة الزاوية. كانت شوارع المدينة، رغم استقامتها، ضيقة وغير معبَّدة. وقد حُفِرت في الأسطح القذرة شقوق عميقة تركها الحرث السنوي للرياح الموسمية. كانت عجلات عربتَي الثيران صلبة، منحوتة من قطعة واحدة من الخشب. تأرجحت الإطارات الجامدة وهم يشقون طريقهم في المنخفضات. وكان على الملكة أن تنحني على بطنها المنتفخ لتقي نفسها من الارتطام بجانبَي العربة.

لم يكن الجنود أو أسراهم الملكيون يعرفون الطريق إلى الميناء. ضلَّ الموكب طريقه بسرعة في المتاهة الهندسية لشوارع مَنْدالي. ضلَّ في اتجاه الهضاب الشمالية، وحين اكتُشِف الخطأ كان الظلام قد حلَّ تقريبًا. عادت العربتان إلى الطريق على ضوء كشافات منقوعة في الزيت.

في ساعات النهار حرص سكان المدينة على الابتعاد عن الشوارع: شاهدوا، من النوافذ وعلى الأسطح، عربتَي الثيران تسيران، على مسافة آمنة من الجنود وحرابهم. وحين حل الظلام، خرجوا من بيوتهم. طمأنهم الظلام فالتحقوا بالموكب في مجموعات صغيرة متناثرة.

بدت دُلِّي ضئيلة جدًّا حين لمحها رَجْكومار تسير بجوار جندي طويل، وصرة ملابس صغيرة ثابتة على رأسها. وجهها متسخ وهتامينها٧٦ مغبر.

كان لا يزال مع رَجْكومار بضعة أشياء مما وجده في القصر في الليلة الماضية. هرول إلى دكان واستبدل بها حفنات من حلوى سكر النخيل. لفَّ الحلوى في ورقة موز وربط اللفافة بخيط. أسرع عائدًا، ولحق بالموكب وهو يخرج من البلدة.

كان الأسطول البريطاني يرسو على بعد ميل تقريبًا، لكن الظلام حلَّ وكان السير بطيئًا عبر الطرق الخشنة غير المستوية. مع حلول الليل، تدفق آلاف من سكان مَنْدالي. ساروا بجوار الموكب، بعيدًا عن الجنود وأضواء الكشافات المتحركة.

أسرع رَجْكومار إلى الأمام وتسلق شجرة تمر هندي. حين ظهرت عربة الثيران الأولى، لمح الملك، وكان لا يُرى إلا من النافذة الصغيرة. يجلس وظهره مستقيم، وعيناه مثبتتان أمامه، وجسده يتطوح مع حركة العربة المترنحة.

شق رَجْكومار طريقه ببطء بين الحشد حتى صار على بعد بضعة أقدام من دُلِّي. حافظ على سرعته، ملاحظًا الجندي الذي يسير بجوارها. ابتعدت عينا الرجل لحظة ليتبادل كلمة مع شخص خلفه. رأى رَجْكومار فرصته: اندفع إلى دُلِّي وضغط لفافة ورقة الموز في يدها.

همس: «خذيها، فيها طعام.»

رمقته في دهشة غير مفهومة.

هزَّتْ إفلين كوعها: «الولد الكالا الذي رأيناه أمس. خذيها.»

عاد رَجْكومار مسرعًا إلى الظلال: على مسافة لا تزيد عشرة أقدام عن دُلِّي، يسير بجانبها، مستترًا بالليل. فتحت اللفافة وحدَّقتْ في الحلوى. ثم أخذت اللفافة، وقدمتها للجندي الذي يسير بجوارها. ابتسم الرجل وهزَّ رأسه رافضًا بودٍّ. قال شخص شيئًا بالإنجليزية، وضحك. ضحكت الفتيات أيضًا، ومعهن دُلِّي.

شعر رَجْكومار بدهشة، وحتى بغضب. ماذا فعلت دُلِّي؟ لماذا أعطت هذه الأطعمة الشهية لرجال يقودونها إلى الأسر والمنفى؟ لكن تحول بعد ذلك، ببطء، إحساسه الأوَّلي بالخيانة إلى ارتياح، وحتى امتنان. نعم، بالطبع، هذا ما عليها أن تفعله؛ فعلت دُلِّي ما يجب. ماذا يتحقق لهؤلاء الفتيات من إظهار استياء لا طائل من ورائه؟ كيف ينجحن في المواجهة وجيش المملكة نفسه استسلم؟ لا، من الأفضل إلى حد بعيد أن تنتظر، وأثناء ذلك تبتسم. بهذه الطريقة كانت دُلِّي تعيش.

على بعد نصف ميل من الميناء، شكل الجنود نطاقًا عبر الطريق لمنع الجماهير من التقدم. تسلق الناس الأشجار وتجمعوا على الأسطح، بحثًا عن مواضع متميزة. بشكل غير متوقع وجد رَجْكومار ما شو صدفة تجلس على جذل٧٧ شجرة تبكي وتحكي، بين الشهقات، لكل مَنْ يسمع قصة لقائها بالملكة في الليلة السابقة.

حاول رَجْكومار مواساتها بتمرير يده بلطف على رأسها. لم يرَ من قبل شخصًا كبيرًا يبكي على هذا النحو. لمَ تبكي؟ تطلَّع، كأنه يبحث عن إجابة على الوجوه من حوله. لم يكن قد لاحظ أن آخرين كثرًا يبكون أيضًا. حافظ على سرعته مع دُلِّي بحيث لا يلفت أنظار الناس من حوله. وهو ينظر إلى الجانب الآخر، رأى كل الوجوه غارقة في الدموع.

تعرف رَجْكومار على عدد من الناس شاركوا في أحداث النهب في الليلة السابقة. تذكر كيف حطموا الأثاث وحفروا الأرضيات. استلقى هؤلاء الرجال والنساء أنفسهم منبطحين تنتابهم مشاعر الأسى والحداد لفقد ملكهم، ينشجون فيما يبدو وكأنه محنة لا عزاء لها.

ارتبك رَجْكومار ولم يفهم هذا الأسى. كان، بطريقة ما، مخلوقًا وحشيًّا، لا يدرك أنه يوجد في بعض الأماكن روابط خفية تربط الناس بتجسيد عموميتهم. في البنغال حيث وُلِد قَطَعَ هذه الروابط قرنٌ من الاحتلال، ولم تعد موجودة حتى في الذاكرة. بعيدًا عن روابط الدم والصداقة والتبادل الفوري، لم يعرف رَجْكومار ولاء أو التزامًا أو قيدًا على نطاق حقه في العمل لنفسه. يدخر ثقته وعواطفه لمَنْ يستحقونها بوضوح ونية طيبة مؤكدة. بمجرد أن يُستَحَقَّ ولاؤه، يمنحه من كل قلبه، بدون شرط من الشروط العتيقة التي يحتمي بها الناس عادة من الخيانة. وهو في هذا أيضًا لا يختلف عن مخلوق عاد إلى البرية. كان هناك عالم من الولاء لا علاقة له به أو باحتياجاته الفورية — لم يكن مفهومًا إلى حد بعيد.

جرى لغط مبرِّح بين الجماهير: تحرك الأسرى، نزلوا من عربتَي الثيران، ودخلوا السفينة. قفز رَجْكومار بسرعة إلى أغصان شجرة قريبة. كان النهر بعيدًا ولم يرَ إلا سفينة بخارية وصفًّا من أشخاص ضئال امتلأ بهم المعْبَر. كان التمييز بين الأشخاص مستحيلًا. مضت أضواء السفينة واختفتْ في الظلام.

استيقظ آلاف كثر طوال الليل. كان اسم السفينة البخارية ثُريا،٧٨ الشمس. طلع النهار، حيث سطعت السماوات على الهضاب، رحلت.

٥

بعد خمسة أيام في إرَّاودِّي عبرت الثريا إلى نهر رنجون مع اقتراب العتمة في وقت متأخر من المساء. رستْ وسط النهر، على مسافة مناسبة من منطقة قريبة من حوض السفن المشغول في المدينة.

مع أول ضوء في اليوم التالي صعد الملك ظهر السفينة، يحمل منظارًا مذهَّبًا، نظارةً صُنِعتْ في فرنسا، إرثًا نفيسًا، كان ذات يوم من مقتنيات الملك مِندُن. كان الملك الأب أكثر ارتباطًا بالمنظار، حمله معه دائمًا، حتى في قاعة الزوار.

كان صباحًا باردًا وقد ارتفع ضباب قاتم من النهر. انتظر الملك بصبر أن تقشع الشمس الشبورة. حين قلَّ سُمْكها، رفع نظارته. فجأة رأى المنظر الذي تاق لرؤيته طوال حياته: الكتلة الشاهقة من معبد شوي داجون،٧٩ كانت أكبر مما تخيل، يرتفع هتيها في عنان السماء، عائمًا على سرير من السديم والضباب، متألقًا في ضوء الفجر. عمل هو نفسه في الهتي، وساعد بيديه في طلاء البرج بالذهب، واضعًا شرائح من ورق الذهب على بعضها. كان قالب الهتي عند الملك مندن، في مَنْدالي؛ أُرسِل إلى شوي داجون في بارجة ملكية. كان ثيبو مبتدئًا في الدير، وقد تنافس الجميع، حتى أقدم الرهبان، معًا لنيل شرف العمل في الهتي.
خفض الملك المنظار ليفحص المناطق الساحلية في المدينة. اكتظَّ إطار الآلة بكتلة معقدة من الأشياء: حوائط وأعمدة وعربات، وأناس يهرولون. سمع ثيبو عن رنجون من أخيه غير الشقيق، الأمير ثونزاي.٨٠ تأسست البلدة على يد جدهما ألونجببيا،٨١ ولم يزرها إلا عدد صغير من أسرتهما. استولى البريطانيون، قبل ولادة ثيبو، على البلدة، وكل المقاطعات الساحلية في بورما. ومن وقتها تراجعت تخوم مملكة بورما حتى منتصف إرَّاوَدِّي تقريبًا. من حينها لم يزر رنجون من أفراد العائلة الملكية إلا الثوار والمنفيون، الأمراء الذين اختلفوا مع القوى الحاكمة في مَنْدالي.
كان الأمير ثونزاي أحدهم: تشاجر مع الملك العجوز مندن وفرَّ عبر النهر، ولجأ إلى المدينة التي يسيطر عليها البريطانيون. ثم صدر عفو عن الأمير وعاد إلى مَنْدالي. في القصر حاصرتْه الأسئلة: طلب الجميع معلومات عن رنجون. كان ثيبو في سنِّ المراهقة، استمع مسحورًا والأمير يصف السفن التي تُشاهَد في نهر رنجون: السفن الشراعية الصينية والدَّهْو العربية وسمبانات شيتاجُنج والسفن الشراعية الأمريكية السريعة وسفن الخط البريطانية. سمع عن استراند وقصورها وبناياتها الكبيرة ذات الأعمدة، وشواطئها وفنادقها؛ عن رصيف مرفأ جدوين والمستودعات والطواحين الخشبية التي تملأ خليج بَزُندُنج؛ الشوارع الواسعة والحشود المهرولة والغرباء الذين تعج بهم الأماكن العامة: إنجليز وكورينجيون٨٢ وتاميل وأمريكيون وماليزيون وبنغال وصينيون.

ومن القصص التي اعتاد ثونزاي روايتها قصة عن بهادر شاه ظفر، آخر أباطرة المغول. بعد إخماد ثورة ١٨٥٧م نفى البريطانيون الإمبراطور المخلوع إلى رنجون. عاش في بيت صغير لا يبعد كثيرًا عن شوي داجون. وذات ليلة تسلل الأمير مع بعض أصدقائه لمشاهدة بيت الإمبراطور. وجدوه يجلس في شرفته، يسبِّح. كان كفيفًا وعجوزًا جدًّا. عزم الأمير وأصدقاؤه على الاقتراب منه، لكنهم غيروا رأيهم في آخر لحظة. ماذا تقول لمثل هذا الرجل؟

قال الأمير في رنجون شارع يحمل اسم الإمبراطور العجوز — شارع المغول، يعيش فيه كثيرٌ من الهنود: زعم الأمير أن عدد الهنود في رنجون يفوق عدد البورميين. جلبهم البريطانيون إلى هناك، للعمل في أحواض السفن والطواحين، لجرِّ العربات وإفراغ المراحيض العامة. من الواضح أنهم لم يعثروا على مواطنين للقيام بهذه المهام. وبالفعل، لماذا يقوم البورميون بهذه الأعمال؟ في بورما لم يجُعْ أحدٌ أبدًا، يعرف الجميع القراءة والكتابة، والأرض تجود بالخيرات: لماذا يجرون العربات ويحملون القاذورات؟

رفع الملك نظارته إلى عينيه ولمح وجوهًا هندية عديدة على طول الأماكن القريبة من المياه. أي قدرة هائلة، أي قدرة غير مفهومة، تنقل أناسًا بهذه الأعداد الهائلة من مكان إلى آخر — أباطرةً وملوكًا وفلاحين وعمالًا في أحواض السفن وجنودًا وحمالين ورجال شرطة. لماذا؟ لماذا هذه الحركة العنيفة — يؤخَذ أناسٌ من مكان إلى آخر، ليجروا العربات، ليجلسوا مكفوفين في المنفى؟

أين ذهب شعبه، صار جزءًا من هذه الإمبراطورية؟ لا يناسب شعبه، كل هذا التنقل. البورميون شعب لا يحبُّ التنقل؛ شخصيًّا، عرف هذا، جيدًا. لم يشأ أبدًا أن يذهب إلى أي مكان. إلا أنه كان في طريقه إلى الهند.

استدار لينزل من على سطح السفينة مرة أخرى: لا يحبُّ الابتعاد كثيرًا عن كابينته. اختفى عدد من نفائسه، بعضها في اليوم الأول، حين نقلها الضباط الإنجليز من القصر إلى الثريا. سأل عن الأشياء المفقودة، تجمد الضباط وبدا عليهم الاستياء وتحدثوا عن تشكيل لجنة للبحث. أدرك أنهم، رغم أساليبهم المتعجرفة وأزيائهم الرسمية الفخمة، ليسوا فوق شبهة السرقات الجماعية.

والغريب أنهم لو طلبوا منه لأهداهم بسعادةٍ بعض حليه الرخيصة؛ ربما أعطاهم أشياء أفضل من التي أخذوها — رغم كل شيء، ماذا يعرفون عن الأحجار الكريمة؟

حتى خاتمه الياقوت سُرِق. لم يهتم كثيرًا بالأشياء الأخرى — أشياء ضئيلة القيمة — لكنه شعر بالأسى على النجاموك. كان عليهم أن يتركوا له النجاموك.

•••

عند الوصول إلى مدراس، أُخِذ الملك وحاشيته إلى قصر أُعِدَّ لفترة إقامتهم في المدينة. منزل كبير فخم، فيه شيء محيِّر. ربما فرقة الجنود البريطانيين الذين يقفون على البوابة بمظهرهم العنيف، أو ربما شيء له علاقة بحشود المشاهدين الفضوليين الذين يتجمعون حول جدرانه يوميًّا. مهما يكن ذلك الشيء، لم تشعر أية فتاة بأنها في بيتها.

كثيرًا ما ألحَّ مستر كوكس٨٣ على المقيمين في المنزل بالخروج، للتمشية في الحدائق الرحبة المُنسقة (مستر كوكس الشرطي البريطاني الذي رافقهم في رحلتهم من رنجون وكان يجيد الحديث بالبورمية). سارت دُلِّي وإفلين وأجستا حول البيت مطيعات، لكنهن سعدن دائمًا بالعودة إلى الداخل.

حدثتْ أشياء غريبة. وصلت أخبار من مَنْدالي عن موت الفيل الملكي. فيل أبيض، عزيز جدًّا حتى إنه رضع لبن الصدر: كانت المرضعات يقفن أمامه وينزلن بلوزاتهن. عرف الجميع أن الفيل لن يبقى على قيد الحياة طويلًا بعد سقوط الأسرة الحاكمة. لكن من كان يظن أنه سيموت بهذه السرعة؟ كانت أعجوبة. خيمت الكآبة على المنزل.

شعر الملك، مرات لا تحصى، بتوقٍ للحم الخنزير. وبسرعة أصبح يستهلك كميات غير عادية من لحم الخنزير المقدَّد وفخذ الخنزير. ذات يوم أفرط في الطعام كثيرًا ومرض. وصل طبيب بحقيبة جلدية وتجول في المنزل بحذائه. وكان على الفتيات أن يتبعنه وينظفن الأرضية. لم ينمْ أحد تلك الليلة.

ذات صباح خرجت أبودو مهتا٨٤ تعدو، كانت امرأة عجوزًا تشرف على مربيات الملكة، وتسلقت شجرة. أرسلت الملكة المربيات الأخريات لإقناعها بالنزول. قضين ساعة تحت الشجرة، ولم تلتفت إليهن أبودو مهتا.
طلبت الملكة من المربيات العودة وأرسلت دُلِّي وفتيات أخريات ليتحدثن إلى أبودو مهتا. كانت شجرة نيم،٨٥ أوراقها كثيفة جدًّا. جلست الفتيات حول الجذع وتطلعن إلى أعلى. حشرت أبودو مهتا نفسها بين ملتقى فرعين.

قالت الفتيات: «انزلي. سيحلُّ الظلام عاجلًا.»

«لا.»

«لماذا لا؟»

«كنتُ سنجابا في ولادتي الأخيرة. تذكرتُ هذه الشجرة. أريد أن أبقى هنا.»

كان لأبودو مهتا كرش وفي وجهها ثآليل. همست إفلين: «تبدو أشبه بالضفدعة من السنجاب». غرقت الفتيات في الضحك وجرين إلى الداخل.

خرج يو مُنج جي،٨٦ المترجم، وهزَّها بقبضته. قال: الملك في طريقه للنزول من غرفته، وسيُحضر عصا ليضربك بها. وهنا نزلت أبودو مهتا مهرولة. عاشت في قصر مَنْدالي وقتًا طويلًا وكانت ترهب الملك.

كان أي شخص يمكن أن يخبرها أن آخر شيء يمكن أن يحدث في العالم أن يخرج الملك إلى الحديقة ويضربها بعصا. لم يخطُ خارج المنزل طوال مدة إقامته في مدراس. في بداية إقامتهم طلب مرة زيارة متحف مدراس. اندهش مستر كوكس وقال لا، بعنف شديد. بعد ذلك رفض الملك، فيما يشبه الاعتراض، أن يخطو خارج المنزل.

والملك يجلس في غرفته لا يجد ما يفعله، سيطرت على عقله نزوات فضولية. قرر إعداد طبق ضخم من الذهب استعدادًا لمولد طفله الجديد. سيكون وزن الطبق عدة أرطال ويرصع بمائة وخمسين من أفضل يواقيته. باع بعض مقتنياته لدفع تكلفة الطبق. وقام الموظفون التاميل المقيمون في المنزل بدور الوسطاء.

كان بعض هؤلاء الموظفين جواسيس؛ عرف مستر كوكس في الحال بالمبيعات. غَضِبَ. قال إن الملك يفقد ثروته، إضافة إلى أنه يُغَشُّ. باع خدمه أشياءه بجزء ضئيل من قيمتها.

صار الملك أكثر تكتمًا في تعاملاته. أعطى دُلِّي وإفلين جوهرة غالية وطلب بيعها. وكانت النتيجة انخفاض الأسعار التي يحصل عليها. عرف الإنجليز، عن طريق جواسيسهم حتْمًا، وأعلنوا أن الملك لا يمكن أن يؤتمن على المال وأصدروا قرارًا بالتحفظ على أقيم ممتلكات عائلته.

نزل هدوء تمردي على القصر. بدأت دُلِّي تلاحظ تغيرات غريبة على إفلين وأجستا وصديقاتها الأخريات. صار الشيكو اللائي يقدمنه يتسم باللامبالاة؛ اشتكين من قُرَحٍ في الرُّكَب ورفضن البقاء على أطرافهن الأربعة وهن ينتظرن الملكة، وعبسن في وجهها أحيانًا حين صرختْ فيهن.

ذات ليلة استيقظت الملكة عطشانة ووجدت كل خادماتها نائمات بجوار سريرها. غضبتْ بعنف وألقت بلمبة في الحائط وصفعت إفلين وماري.

انزعجت إفلين بشدة. قالت لدُلِّي: «لا يمكن أن يؤذونا ويضربونا بعد ذلك. يمكن ألا نبقى إذا أردنا.»

سألت دُلِّي: «كيف عرفْتِ؟»

«أخبرني مستر كوكس. قال إننا كنا جواري في مَنْدالي لكنا الآن حرائر.»

«لكنا سجينات، أليس كذلك؟»

قالت إفلين: «ليس نحن. مين٨٧ وميبيا فقط» — تقصد الملك والملكة.

فكرت دُلِّي في هذا برهة: «وماذا عن الأميرتين؟»

جاء دور إفلين في التفكير.

قالت في النهاية: «نعم، الأميرتان سجينتان أيضًا.»

وهذا حل المسألة التي تشغل دُلِّي. حيث توجد الأميرتان، عليها أن توجد أيضًا: لا تستطيع أن تتخيل حالهما بدونها.

ذات صباح وصل إلى البوابة رجل قال إنه جاء من بورما ليعيد زوجته إلى وطنها. كانت زوجته تُنجزين مِنثَمي،٨٨ إحدى المربيات المفضلات لدى الملكة. تركت أبناءها وراءها في بورما وكانت في شوق شديد إلى وطنها. قررت العودة مع زوجها.

ذكَّرَ هذا الجميعَ بما حاولوا نسيانه، مسألة العودة إلى الوطن متروكة لهم جميعًا — ولا أحد منهم كان هناك لأنه يريد ذلك. بدأت الملكة تخشى أن تتركها كل فتياتها؛ لذا بدأت تقدم هدايا لمن تفضلهن. كانت دُلِّي إحدى المحظوظات، لكن لم تحصل إفلين أو أجستا على شيء.

غضبت الفتاتان لتجاهلهما، وبدأتا تقولان تعليقات ساخرة على مسامع الملكة. تحدثت الملكة إلى بادين ون، فأخذهما إلى غرفة مغلقة وضربهما وشد شعورهما. لكن ذلك جعل الفتاتين أكثر امتعاضًا. وفي الصباح التالي رفضتا انتظار الملكة.

رأت الملكة أن المسألة تجاوزت الحد. استدعت مستر كوكس وأخبرته برغبتها في إعادة سبع فتيات إلى بورما. وكان عليها تدبير الأمر باستخدام خادمات محليات.

لم تكن هناك فرصة لحث الملكة على تغيير رأيها بمجرد أن تحزم أمرها على شيء. غادرت الفتيات السبع في الأسبوع التالي: إفلين وأجستا وماري وواهثو ونان بو ومِنْلوِن، وحتى هيمو،٨٩ وكانت من بينهم جميعًا الأقرب إلى دُلِّي في العمر. كانت دُلِّي تعتبرهن دائمًا أخواتها الأكبر، عائلتها. عرفتْ أنها لن تراهن ثانية أبدًا. في صباح رحيلهن أغلقتْ غرفة على نفسها، ولم تخرج، حتى لتشاهد عربتهن تخرج من البوابات. أخذهن يو مُنْج جي، المترجم، إلى الميناء. حين عاد، قال إن الفتيات بكين على ظهر السفينة.
استُخدِم عدد من الخدم الجدد، رجالًا ونساء، كانوا جميعًا محليين. كانت دُلِّي إحدى آخر من تبقوا من أعضاء الفرقة الأصلية التي أتت من مَنْدالي: وقع على عاتقها تعليم المجموعة الجديدة أساليب أهل المنزل. وكانت الأيات٩٠ والخادمات الجدد يأتين إلى دُلِّي حين يردن معرفة كيف كانت الأمور تجري في قصر مَنْدالي. كان عليها أن تعلمهن تأدية الشيكو والحركة حول غرفة نوم الملكة على أيديهن وركبهن. كان الأمر بالغ الصعوبة في البداية، لأنها لم تستطع التعبير بوضوح عما تريد. شرحت كل شيء بألطف أسلوب ولم يفهمن، صاحت أعلى وأعلى وكان رعبهن يزداد ويزداد. بدأن يفسدن أشياء ويكسرن مقاعد ويقلبن طاولات.

ببطء تعلمتْ بعض الكلمات التاميلية والهندوستانية، فصار العمل معهن أسهل، لكنهن لا يزلن يبدين بعض الخرق والحماقة بشكل غريب. كانت لا تقاوم الضحك أحيانًا — حين تراهُنَّ، على سبيل المثال، يجربن أداء الشيكو، يلوين المرافق ويعدلن الساري. أو حين تشاهدهن مكومات على ركبهن متذمرات، أو حين يتعثرن في ثيابهن وينبطحن على وجوههن. لم تستطع دُلِّي أبدًا أن تفهم لماذا يجدن التنقل على أيديهن وركبهن صعبًا إلى هذا الحد. بدا بالنسبة لها أسهل كثيرًا من الوقوف كلما أرادت عمل شيء. طريقة مريحة أكثر: وأنت لا تفعل شيئًا محدَّدًا، يمكنك الاسترخاء ووزنك على كعبيك. لكن الأيات الجدد اعتقدن أن الأمر صعب لدرجة الاستحالة. لا يمكن أبدًا أن تثق فيهن لحمل صينية إلى الملكة. قد يَسْكُبْن كل شيء وهن يحاولن السير في الغرفة، أو الزحف ببطء، وقد يستغرق الأمر منهن نصف ساعة للوصول من الباب إلى سريرها. كانت الملكة تفقد صبرها تمامًا، وهي تستلقي على جانبها تشاهد كوب الماء يتحرك عبر الغرفة كأن قوقعة تحمله. صاحتْ أحيانًا، وربما كان هناك الأسوأ. قد تسقط الأيا المفزوعة والصينية وكل شيء، وتُعاد العملية برمتها من البداية.

كان الأسهل بكثير، بالطبع، ألا تلحَّ الملكة بشدة على الالتزام بكل القواعد القديمة التي كانت متبعة في مَنْدالي — الشيكو، الزحف — لكنها لم تكن لتسمح بأي تغيير. قالت إنها كانت ملكة بورما، وإذا لم تصر على أن تُعامل بالشكل المناسب، فكيف تتوقع من أي شخص آخر أن يقدم لها ما تستحق؟

ذات يوم تسبب يو مُنْج جي في فضيحة كبرى. ذهبت إحدى مربيات الملكة إلى غرفة الأطفال فوجدتْه على الأرض مع مربية أخرى، ولُنْجيه مرفوع على خصره. وبدل أن يهرول خجلًا، استدار إلى مَن اكتشفته وضربها. طاردها إلى الدهليز وفي غرفة نوم الملك.

كان الملك يجلس إلى طاولة يلف شيروتًا.٩١ اندفع يو مُنج جي إلى المربية وهي تدخل عَدْوًا. تعثَّرتْ وأمسكتْ بمفرش الطاولة. طار كل شيء في الهواء: تناثر التبغ في كل مكان. عطس الملك واستمرَّ في العطس، استمرَّ فترة بدتْ ساعات. وحين توقف في النهاية، كان في حالة غضب لم يره أحد فيها من قبل. وكان هذا يعني أنه ما زالت هناك رحلات.
مع اعتقاد رئيسة المربيات أنها سنجاب وعودة أخرى إلى بورما، لم يبقَ للملكة إلا عدد ضئيل من المربيات اللائي يمكن الاعتماد عليهن، فقررت استخدام قابلة إنجليزية. عثر مستر كوكس على واحدة، مسز رايت.٩٢ بدتْ على قدر كبير من الدماثة والودِّ، لكن وصولها أدى إلى مشاكل أخرى. لم تؤدِّ الشيكو أو تنزل على يديها وركبتيها وهي تنتظر الملكة. احتكمت الملكة إلى مستر كوكس، لكن الرجل الإنجليزي وقف في صفِّ مسز رايت. قال، يمكنها أن تنحني، من الخصر، لكنها ليست في حاجة إلى لأداء شيكو ومن المؤكد أنها لن تزحف. إنها إنجليزية.

قبلت الملكة حكمه، لكنه لم يحبب مسز رايت إليها. ازداد اعتمادها على مدلِّك بورمي التحق بطريقة ما بالحاشية الملكية. كانت يداه رائعتين تزيلان آلام الملكة. لكن الطبيب الإنجليزي اكتشف الأمر وأثار ضجة هائلة. قال إن ما يفعله المدلِّكُ إهانة لعلم الطب. وقال إن الرجل يلمس جلالتها في مواضع غير صحية. رأت الملكة أنه مجنون ولم تبعد المدلِّك. انتقم الطبيب ورفض علاجها بعد ذلك.

ولحسن الحظ جاء مخاض الملكة قصيرًا والولادة سريعة وبدون مضاعفات. أنجبت بنتًا حملت اسم أشين هتيك سو مات بايا.٩٣

قلق الجميع لأنهم كانوا يعرفون رغبة الملكة في إنجاب ولد. لكن الملكة أدهشتهم. كانت سعيدة، وقالت: قد تكون الفتاة أكثر قدرة على تحمُّل آلام المنفى.

•••

لفترة صارت مَنْدالي مدينة أشباح.

بعد الغزو البريطاني فرَّ كثير من جنود الملك إلى الريف بأسلحتهم. تصرفوا بمفردهم، شنَّوا هجمات على المحتلين، تمَّتْ أحيانًا داخل المدينة في الليل. بدأ رد فعل الغزاة بتشديد قبضتهم. حدثت مطاردات وحالات إعدام وشنق. تردد صدى صوت نيران البنادق عبر الشوارع؛ قبع الناس في بيوتهم وابتعدوا عن البازارات. انقضت أيام كاملة لم تتلقَّ فيها ما شو طلبًا لإشعال نار موقدها.

ذات ليلة تحطم كشك ما شو. تعاون رَجْكومار وما شو ونجحا في إبعاد المعتدين. لكن حدث تدمير هائل بالفعل؛ أضاءت ما شو لمبة واكتشفت أن معظم القدور والطاسات والأدوات سُرقتْ أو هُشِّمتْ. صرختْ صرخة مترعة بالأسى: «ماذا أفعل؟ إلى أين أذهب؟»

قبع رَجْكومار بجوارها. اقترح: «لماذا لا تكلمين سايا جون؟ ربما يساعدك.»

شخرت ما شو باشمئزاز مختلط بالبكاء: «لا تحدثني عن سايا جون. ما فائدة رجل لا يوجد أبدًا حين تحتاج إليه؟» انتحبتْ، ويداها تغطيان وجهها.

انبعثت الرقة في رَجْكومار. مرر يديه بعدم دراية على رأسها، ممشِّطًا شعرها المجعد بأظافره: «لا تبكي، ما شو. توقفي، ما شو. توقفي.»

دعكت أنفها واعتدلت. قالت بصوت أجش: «كل شيء على ما يرام. لا شيء.» متعثرة في الظلام، مدَّتْ يدها إلى لُنْجيه، ومالتْ إلى الأمام لتجفف الدموع من وجهها.

كثيرًا ما انتهتْ نوبات بكاء ما شو بهذه الطريقة، وهي تجفف وجهها بثوبه القطني الرقيق. لكن في تلك المرة، وأصابعها تلمُّ الملابس المهلهلة، سبب احتكاك القماش أثرًا جديدًا على رَجْكومار. شعر بتوهج الحرارة في أعماق جسده، وبشكل لا إرادي اندفع حوضه إلى الأمام، باتجاه أصابعها، وهي تغلق قبضتها. سحبتْ ما شو، غير مدركة للهجوم، قبضة من الملابس بفتور إلى وجهها، مسحتْ وجنتيها، ومسَّت الغضون حول فمها، ومرَّتْ على تجويفَي عينيها المبللتين. ترنح رَجْكومار، وكان يجلس بجوارها تمامًا، لفَّ مفصلَي وركيه ليحافظ على المسافة مع يدها. لم يكشف القماش أمره إلا حين مررتْ طرف القماش المضموم بين شفتيها المتباعدتين. بين ثنايا الملابس المطبقة، وقد ابتلت والتصقت، شعرتْ بتصلب لا شكَّ فيه يلمس الزاويتين الرقيقتين لفمها. شدَّدتْ من قبضتها، انتبهتْ فجأة، وضغطت على القماش المتجمع لتجسَّه. أُخِذ رَجْكومار، وقوَّس ظهره.

«أوه؟» نخرتْ. ثم، وبرشاقة مروِّعة، طارت إحدى يديها إلى عقدة لُنْجيه وحلَّتْها؛ ودفعته الأخرى لينزل على ركبتيه. فتحت ساقيها، وشدته، راكعًا، إلى مقعدها. صارتْ جبهة رَجْكومار على وجنتها؛ اندفع طرف أنفه الأسود في التجويف الذي تحت فكها. شمَّ رائحة الكركم والبصل تنبعث من بين ثدييها. وبعد ذلك ومض البياض المغشي أمام عينيه ودُفِع رأسُه إلى الخلف بأقصى ما يمكن، مشدودًا بتشنجات في عموده الفقري.

دفعتْه فجأة بعواء اشمئزاز. صرختْ: «ماذا أفعل؟ ماذا أفعل مع هذا الولد، هذا الطفل، هذا الكالا الغبي؟» أزاحته بكوعها، صعدت سلمها وتوارت في غرفتها.

مضى بعض الوقت قبل أن يستجمع رَجْكومار شجاعته ليتكلم. قال بصوت رفيعٍ متردِّدٍ: «ما شو، هل أنت غضبانة؟»

جاء النباح من فوق: «لا، لستُ غضبانة. انسَ ما شو ونمْ. فكِّرْ في مستقبلك.»

لم يتحدثا أبدًا عما حدث تلك الليلة. في الأيام القليلة التالية لم يرَ رَجْكومار ما شو إلا نادرًا: تختفي مبكرًا في الصباح، وتعود في وقت متأخر من الليل. وذات صباح استيقظ رَجْكومار ليجدها رحلت إلى الأبد. تسلق، لأول مرة، السلم إلى غرفتها. ولم يجد فيها سوى لُنْجِي جديد أزرق، مطبَّق في منتصف الغرفة. عرف أنها تركتْه له.

ماذا يفعل؟ إلى أين يذهب؟ افترض دائمًا أنه سيعود في النهاية إلى سمبانه لينضم إلى رفاقه البحارة. لكنه حينذاك، وهو يفكر في حياته على المركب، عرف أنه لن يعود. رأى الكثير في مَنْدالي وصارت لديه طموحات كثيرة.

فكر كثيرًا، في آخر بضعة أسابيع، فيما قال ابن سايا جون، ماثيو — من أن الغزو البريطاني بسبب الساج. لا شيء آخر يمكن أن يُحسَب بدقة أكثر ليستقر في عقل مثل عقل رَجْكومار، فضولي ونهَّازٍ معًا. إذا قرر البريطانيون خوض حرب من أجل مجموعة أشجار، فلا يمكن أن يحدث ذلك إلا لأنهم يعرفون أن في الغابة ثروة خفية مخبأة. لم يعرف حقيقة تلك الثروات بالضبط، ومن الواضح أنه لن يعرف إلا إذا رأى بنفسه.

كان يسير بسرعة، حتى وهو يفكر في هذا، مبتعدًا عن البازار. اكتشف، وهو يتلفت ليعرف موضعه، أنه أتى إلى واجهة كنيسة بيضاء. قرر التسكع سائرًا بجوار الكنيسة مرة ومرة. لفَّ وانتظر، وبشكل مؤكد، لمح قبل مرور ساعة سايا جون يقترب من الكنيسة ويده في يد ابنه.

«سايا.»

«رَجْكومار!»

الآن وجد رَجْكومار، وهو يقف وجهًا لوجه أمام سايا جون، نفسَه يعلِّقُ رأسه في حيرة. كيف يخبره عن ما شو وهو المسئول عن خيانة سايا؟

بدأ سايا جون بالكلام: «هل حدث شيء لما شو؟»

أومأ رَجْكومار.

«ماذا؟ رحلتْ؟»

«نعم، سايا.»

تنهد سايا جون تنهيدة طويلة، محوِّلًا عينيه إلى السماء. قال: «ربما كان هذا أفضل. أظنها علامة على أن الوقت حان ليعود هذا الآثم أعزب.»

«سايا؟»

«لا تبالِ. ماذا ستفعل الآن، رَجْكومار؟ تعود إلى الهند في مركبك؟

هزَّ رَجْكومار رأسه: «لا، سايا. أريد البقاء هنا، في بورما.»

«وماذا ستفعل لتعيش؟»

«قلْتَ، سايا، إنني لو احتجتُ عملًا في أي وقت فعليَّ أن آتي إليك. سايا؟»

•••

ذات صباح قرأ الملك في الصحف أن نائب الملك سيأتي إلى مدراس. أرسلَ إلى مستر كوكس في حالة استثارة هائلة.

سأل: «هل سيدعونا نائب الملك؟»

هزَّ مستر كوكس رأسه: «جلالتكم، لم أُخبَرْ بذلك.»

«يتطلب البرتوكول ذلك. ملوك بورما أنداد لملوك سيام وكمبوديا وأباطرة الصين واليابان.»

«آسف، جلالتكم، ربما كان الوقت متأخرًا جدًّا بشكل لا يسمح بإجراء تعديل على خط رحلة نائب الملك.»

«لكن يجب أن نراه، مستر كوكس.»

«تحدد بالفعل عن وقت نائب الملك. أنا آسف.»

«لكنا نريد معرفة ما تنوي الحكومة أن تفعله معنا. حين أتينا إلى هنا، قيل لنا إنه لن يكون المقر الدائم لنا. نودُّ معرفة أين سنعيش ومتى نذهب إلى هناك.»

انصرف مستر كوكس ليعود بعد عدة أيام. قال: «جلالتكم، أنا سعيد لأني أستطيع أن أخبركم بأن مسألة المقر الدائم لكم ولعائلتكم حُلَّتْ نهائيًّا.»

قال الملك: «أوه، وأين يكون؟»

«مكان اسمه رَتْناجيري.»٩٤

حدَّق فيه الملك، في حيرة: «ماذا؟ أين هذا المكان؟»

«حوالي مائة وعشرين ميلًا جنوب بومباي. مكان رائع، به مشاهد جميلة على البحر.»

«مناظر جميلة؟»

طلب الملك خريطة وطلب من مستر كوكس تحديد مكان رَتْناجيري. أشار مستر كوكس إلى نقطة في مكان ما بين بومباي وجوا. ونبَّه الملك إلى أن المكان أقل أهمية من أن يُحدَّد على الخريطة.

«لكن يجب أن نكون في مدينة، مستر كوكس. هنا في مدراس. أو بومباي. أو كلكتا. ماذا نفعل في قرية صغيرة؟»

«رَتْناجيري عاصمة مقاطعة، جلالتكم، وليست قرية بحال من الأحوال.»

«كم نبقى هناك؟ متى يُسمَح لنا بالعودة إلى بورما؟»

كان مستر كوكس رجلًا عطوفًا، بطريقته الفظة. قال بصوت هادئ ومهذب: «جلالتكم، يجب أن تعدَّ نفسك للبقاء في رَتْناجيري بعض الوقت. أخشى أن يكون وقتًا طويلًا. ربما …»

«ربما إلى الأبد؟»

سعل مستر كوكس: «لم أقل ذلك. ليس تمامًا. هذا ما أقول. لا، يجب أن أؤكد، لم أقل …»

نهض الملك فجأة وذهب إلى غرفته. ولم يخرج منها مرة أخرى لعدة أيام.

غادروا مدراس بعد شهر على سفينة بخارية اسمها كليف.٩٥ رحلة مختلفة تمامًا هذه المرة. أبحروا على طول الساحل ولم يبعد الشاطئ عن عيونهم إلا نادرًا. ساروا عبر مضيق بوك،٩٦ والطرف الشمالي لسيلان ظاهر على اليسار وأبعد نقطة جنوب الهند، رأس كُمورين،٩٧ في المشهد على اليمين.

بعد أربعة أيام من مغادرة مدراس دخلت كليف خليجًا واسعًا مشمسًا. كانت هناك منحدرات على جانبَي الخليج، شاطئ جارف ونهر متعرج. البلدة على هضبة فوق الخليج؛ تغطيها أشجار جوز الهند بكثافة بحيث لا يمكن رؤية إلا القليل جدًّا منها.

قضوا الليل على السفينة البخارية وذهبوا إلى الشاطئ في الصباح التالي. اندفعت كليف بجانب حاجز يمتدُّ مسافة طويلة في الخليج الضحل. كانت العربات تنتظرهم في الطرف البعيد، قرب قرية لصيد السمك. وتمت تحية الملك ببندقية وحارس شرف. ثم انطلقت العربات في مجموعة واحدة في مسار ضيق تظلله الأشجار. على جانبَي الطريق كانت المنازل مطلية باللون الأحمر، مع حدائق من أشجار المانجو وأشجار الأريقة.٩٨ كان رجال الشرطة في كل مكان، يبعدون الناس الذين احتشدوا للفرجة. مروا ببازار وسجن بحوائط رمادية وصف من ثكنات الشرطة. وانتهى الطريق عند بنجلو٩٩ كبير من طابقين داخل حديقة حولها سور. كان على جرف عال فوق البلدة، يطل على الخليج. اسمه منزل أُطْرام.١٠٠

دخل الملك في البداية وصعد السلالم ببطء. ذهب إلى غرفة نوم كبيرة ودخلها. غرفة مؤثثة بمنضدة وسرير وثلاثة مقاعد؛ مفتوحة على بلكونة صغيرة ناحية الجنوب، باتجاه البحر. تجوَّل الملك ببطء شديد بين الغرف. عبث بالدُّرف الخشبية المضلعة، خدش زهرية الشموع ومرر إصبعًا على لوحة على الحائط شبه مطموسة، وفتَّتَ الجص المشقق بين إصبعه وإبهامه. كانت رائحة عفن خفيف تفوح في الغرفة وآثار فطر عفن على الحائط. حاول تسجيل تلك الأشياء في ذاكرته، لأنه يعرف أنها ستشحب بمرور الزمن ويأتي يوم يريد أن يتذكرها — حيوية أول لقاء له بموضع أسْرِه، رائحة عفونته الفظيعة وخشونة ملمسه على البشرة.

في الدور الأرضي كانت دُلِّي تجري عبر الحديقة مع الأميرة الأولى، تطارد سحلية حمراء زاهية. كان المنزل مختلفًا عن قصر مدراس، أصغر بكثير لكنه أكثر رحابة. هنا يمكن للمرء أن يجري ويلعب الاستغماية بين جذوع أشجار جوز الهند المتمايلة. ذهبتْ إلى شجرة مانجو فروعها تصل إلى نافذة في الدور العلوي من البنجلو. ربما كانت غرفتها، نافذتها، والأغصان الصغيرة تحف في الزجاج.

قُرِع جرس في المعبد، في مكان ما من البلدة. توقفتْ لتسمع، نظرت إلى منحدر الحديقة، عبر قبة من أوراق جوز الهند، باتجاه الخليج الواسع المتلألئ. شمَّتْ رائحة السمك المجفف والبخور. كم كان مشرقًا، كم كان هادئًا. بدا كل شيء آمنًا جدًّا هنا، خلف هذه الجدران الحجرية المرتفعة.

سمع الملك الأجراس أيضًا. خرج إلى بلكونة غرفة النوم في الدور العلوي. البلدة كلها تتمدد تحت، يحيط بها اندفاع الخليج والنتوءان المرتفعان على الجانبين. مشهد رائع، كما قال مستر كوكس. عاد إلى غرفة النوم. جلس في مقعد وشاهد الظلال الشبحية لأشجار جوز الهند تتمايل على جدران الغرفة المطلية بالجص الأبيض. مثل حبات الرمل، ستتراكم الساعات في هذه الغرفة حتى تدفنه.

١  نهر إرَّاودِّي Irrawaddy: (أو آيارودي Ayeyarwady) يتدفق من شمال بورما (ميانمار). وهو أكبر أنهارها، ويبلغ طوله حوالي ١٣٥٠ ميلًا (٢١٧٠كم)، وهو من أهم الطرق التجارية.
٢  مَنْدالي Mandalay: مدينة في وسط بورما على نهر إرَّاودِّي شمال رنجون. كانت عاصمة مملكة بورما من ١٨٦٠–١٨٨٥م، حين استولى عليها البريطانيون، تعرضت لدمار هائل أثناء الحرب العالمية الثانية.
٣  رَجْكومار: Rajkumar، والاسم مشتق من كلمة راجا rajah أو raja، وتعني أميرًا هنديًّا أو ملكًا.
٤  با لي: Ba le.
٥  كالا Kalaa: لقب كان البورميون يصفون به الهنودَ المقيمين فيها.
٦  لُنْجِي (الجمع لنجيات) longyi: ثوب يخاط على شكل أسطواني، يُلبس حول الخصر وينزل إلى القدمين، ينتشر في بورما، وتوجد ثياب مماثلة له في عدد من البلاد الآسيوية.
٧  سَمْبان sampan: مركب آسيوي صغير مسطح بمجدافين.
٨  ما شو: Ma Cho.
٩  شيتاجُنْج Chittagong: مدينة تقع جنوب شرق بنجلاديش بالقرب من خليج البنغال. وهي ميناء كبير ومركز صناعي. باسين Bassein: عاصمة مقاطعة آيارودي، بورما. تقع على الحافة الغربية لدلتا نهر إرَّاودِّي، على نهر باثين، على مسافة ١١٨ ميلًا غرب رنجون.
١٠  بايا جاو baya-gyaw: فطيرة البسلة الصفراء بالتوابل، تقدم كمشهيات أو وجبة خفيفة مع الشاي أو القهوة.
١١  أينجي aingyi: نوع من البلوزات.
١٢  دا da (الجمع دات das): نوع من السكاكين.
١٣  هتي: hti.
١٤  ثيبو Thebaw: آخر ملوك بورما. سوبايالات Supayalat: زوجة ثيبو ورفيقته في منفاه.
١٥  كيسا هي؟ سب كوشه ثيك ثاك؟: Kaisa hai? Sub kuchh theek-thaak?.
١٦  الهندوستانية Hindustani: مجموعة من اللهجات الهندية تشمل الهندية والأوردو.
١٧  ساياجي Sayagyi: اسمه سايا جون Saya John، جي تضاف للتبجيل؛ أو جون مارتينز John Martins.
١٨  الملايو Malaya: شبه جزيرة في جنوب شرق آسيا تضم جنوب غرب تايلاند وغرب ماليزيا وجزيرة سنغافورة. ملقا Malacca: بلدة صغيرة في غرب ماليزيا (تأتي كلمة ملقا في مواضع أخرى من الرواية بمعنى ساق نخيل الخيزران الهندي، ومنه تصنع العصي وأيدي الشمسيات).
١٩  ماكو Macao أو Macau: مقاطعة تابعة للبرتغال تشمل شبه جزيرة ماكو وجزيرتين في بحر الصيني الجنوبي غرب هونج كونج. جوا Goa: مقاطعة على الساحل الغربي للهند. والجويون: Goans نسبة إلى جوا.
٢٠  جواو: Joâo.
٢١  دُهْبي كا كوتَّا: a dhobi ka kutta؛ نا جهار كا نا جهات كا: na ghar ka na ghat ka.
٢٢  ماثيو: Matthew.
٢٣  بوي: pwe.
٢٤  بِنِّي: pinni.
٢٥  كارل بِنْز Karl Benz (١٨٤٤–١٩٢٩م): رائد ألماني في مجال صناعة السيارات، صنَّع أول سيارة تسير بمحرك احتراق داخلي، وسجلت براءة الاختراع عام ١٨٨٦م.
٢٦  أكاب Akyab: مدينة ساحلية غرب بورما، كانت الميناء الرئيسي في أَرَكان Arakan وهي منطقة ساحلية في جنوب غرب بورما على خليج البنغال.
٢٧  القرام أو المنجروف mangrove: شجر استوائي تنبثق من أغصانه جذور جديدة، ينمو على الشواطئ.
٢٨  دوباش: dubash. مُنشي: munshi.
٢٩  رها: Raha.
٣٠  الخلاسي khalasi: الخادم أو العامل من أصل هندي، وخاصة البحَّار (هندي).
٣١  سارُنْج sarong: جيبة تلف حول الخصر، يرتديها الرجال والنساء في ماليزيا وإندونيسيا وجزر المحيط الهادي.
٣٢  ناخودة: nakhoda.
٣٣  بِشي ثاكو: Beche thako.
٣٤  سمك السلور catfish: نوع من السمك بدون قشور، يعيش في المياه العذبة، ويتميز بشوكة تشبه شارب القطة تمتد من الفك العلوي.
٣٥  ماينجان: Myingan.
٣٦  كورومندل Coromandel: منطقة ساحلية جنوب شرق الهند على خليج البنغال جنوب كشمير. مَنيبور Manipur: ولاية شمال شرق الهند. جوجارات Gujarat: منطقة غرب الهند على بحر العرب.
٣٧  مِنهلا: Minhla.
٣٨  أشين هتيك سو مات فيا جاي: Ashin Hteik Su Myat Phaya Gyi. أشين هتيك سو مات فيا لات: Ashin Hteik Su Myat Phaya Lat.
٣٩  إفِلين: Evelyn؛ هيمو: Hemau؛ أُجُسْتا: Augusta؛ نان بو: Nan Pau.
٤٠  كاشين Kachin: سكان ولاية في أقصى شمال بورما، تحدها الصين من الشمال والشرق؛ وا Wa: مجموعة عرقية، في منطقة تقع إلى الشرق من ولاية الشان، ومعظمهم من الصين؛ الشان Shan: قبائل تسكن الهضاب في شمال شرق بورما والأجزاء المجاورة من الصين ولاوس وتايلاند.
٤١  دُلِّي Dolly أو دلي سين Dolly Sein. لَشيو: Lashio.
٤٢  زنود logs: الزند جزء كبير من جزع شجرة، أو قطاع طويل ثقيل من الخشب.
٤٣  رَنْجون Rangoon: اسمها الرسمي ينجون Yangon منذ ١٩٨٩م، عاصمة بورما وأكبر مدنها، تقع في جنوب البلاد على نهر رنجون، قرب مصبه في دلتا نهر إرَّاودِّي.
٤٤  كنون منجاي Kinwun Mingyi: الوزير كنون.
٤٥  أسام Assam: مملكة سابقة في أقصى شمال شرق الهند، وهي الآن ولاية تفصلها بنجلاديش عن بقية البلاد.
٤٦  هلِثين أتوينون: Hlethin Atwinwun.
٤٧  تنجدا منجاي Taingda Mingyi: الوزير تنجدا.
٤٨  ونجي wungyi: مستشار؛ وندوك wundauk: وكيل وزارة junior minister؛ ماوون myowun: مسئول كبير، حاكم مقاطعة.
٤٩  ميبيا Mebya: الملكة.
٥٠  أفا Ava: مدينة، تابعة لمقاطعة مَنْدالي إلى الجنوب من أمارابورا، على نهر إرَّاودِّي، واسمها الحالي إنوا Innwa. أمارابورا Amarapura: مدينة تقع على بعد ١١كم إلى الجنوب من مَنْدالي.
٥١  نايونجبنمو: Nyaungbinmaw. سنجبونجوي: Singbaungwe.
٥٢  السيبو sepoys: الجنود الهنود الذين كانوا يخدمون في الجيش الإنجليزي.
٥٣  هازارا: Hazara.
٥٤  بَكوكو Pakokku: بلدة تقع وسط بورما على نهر إرَّاودِّي. ناونجو Nyaungu: بلدة تقع شمال بَكوكو. باجان Pagan: بلدة تاريخية مهمة في بورما، تقع على الضفة الغربية لنهر إرَّاودِّي. ميجنجان: Mygingan.
٥٥  قروش annas: عملات نحاسية كانت تستخدم في الهند وباكستان.
٥٦  أوك: Ook.
٥٧  ساديك sadaik: نوع نادر من الصناديق البورمية المطلية باللك الأحمر.
٥٨  سونج جاك: saung-gak.
٥٩  تشينثي chinthe: كائن يشبه الأسد يرى على مداخل المعابد في بورما ودول جنوب شرق آسيا، ويوجد دائمًا في أزواج بهدف حماية المعابد، وهو مطبوع على العملة البورمية.
٦٠  شيكو shiko: طقس للتبجيل، حيث يركع المرء ويداه معقودتان على رأسه.
٦١  الثاناكا thanaka: كريم تجميل أبيض مصفر، يوضع على الوجه والذراع في بورما.
٦٢  الكولونيل سلادِن Sir Edward Bosc Sladen (١٨٣١–١٨٩٠م): ضابط هندي، ولد في مدراس ١٨٣١م وتوفي في لندن ١٨٩٠م، رافق القوة التي أرسلت لإسقاط الملك ثيبو، دخل قصر مَنْدالي في ٢٨ ديسمبر ١٨٨٥م، واستلم وثيقة تنازل الملك عن العرش.
٦٣  جُنْج بُنْج gaung-baung: عمامة، واللون الأبيض لون الحداد في بورما، وجننج بالبورمية تعني الرأس، وبنج تعني «يلف حول الرأس.» تعرف أحيانًا بعمامة ميانمار، تصنع من الحرير أو القطن.
٦٤  مِنْدُن Mindon: والد ثيبو، ملك بورما من ١٨٥٣م إلى ١٨٧٨م، أسس مَنْدالي واتخذها عاصمة له ١٨٦٠م.
٦٥  باتاما بيان patama-byan: امتحان ديني عالي المستوى.
٦٦  الملكة ألينَنْدو Alenandaw Queen: زوجة مندن وأم سوبالايات.
٦٧  الهلوتدو Hluttdaw: البرلمان البورمي.
٦٨  التسلوي tsaloe: نوع من الأوشحة.
٦٩  بادين ون: Padein Wun.
٧٠  اليراعة firefly: نوع من الخنافس الليلية، يتميز بوجود مواد كيميائية مضيئة في القمة الخلفية لبطنه ينبعث منها وميض.
٧١  خاتم نجاموك Nagamauk ring: خاتم من الياقوت، قصة سرقته معروفة في تاريخ بورما.
٧٢  يثا yetha: عربة تجرها العجول.
٧٣  الميجور هُدْسُنْ Major Hodson (١٨٢١–١٨٥٨م): قائد بريطاني أثناء ثورة الهند في ١٨٥٧م.
٧٤  بهادر شاه ظَفَر Bahdur Shah Zafar (١٧٧٥–١٨٦٢م): أبو ظفر سراج الدين محمد بهادر شاه ظفر آخر أباطرة المغول في الهند.
٧٥  همايون Humayun: نصر الدين محمد همايون، ثاني أباطرة المغول (١٥٠٨–١٥٥٦م).
٧٦  هتامين htamein: ثوب نسائي يشبه اللنجي عند الرجال، يلف حول الخصر.
٧٧  جذل stump: هو أصل الشجرة الباقي بعد قطع جذعها، والجمع جذول.
٧٨  ثُريا Thooriya: بالعربي في الأصل، والثريا مجموعة من النجوم في صورة الثور (المعجم الوسيط) وليس الشمس كما يقول المؤلف.
٧٩  معبد شوي داجون Shwe Dagon Pagoda: يعرف أيضًا بالمعبد الذهبي، عبارة عن برج هرمي مذهب ارتفاعه ٩٨ مترًا، يوجد في ينجون، بورما. ويقع المعبد على هضبة غرب إحدى البحيرات. وهو من أكثر المعابد قدسية عند بوذيي بورما.
٨٠  يثونزاي: Thonzai.
٨١  ألونجببيا Alaungpaya (١٧١٥–١٧٦٠م): ملك بورما ١٧٥٢–١٧٦٠م. مؤسس أسرة كُنْبُنج Konbaung.
٨٢  استراند: Strand. جدوين: Godwin. خليج بَزُندُنج: Pazundaung Creek. كورينجيون: Cooringhees.
٨٣  مستر كوكس: Mr. Cox.
٨٤  أبودو مهتا: Apodaw Mahta.
٨٥  نيم neem: شجر طويل ينمو في شرق الهند والمناطق الاستوائية في آسيا، يستخرج من حبوبه زيت عطري.
٨٦  يو مُنج جي: U Maung Gyi.
٨٧  مين Min: الملك.
٨٨  تُنجزين مِنثَمي: Taungzin Minthami.
٨٩  واهثو: Wahthau. نان بو: Nan Pau. مِنْلوِن: Minlwin. هيمو: Hemau.
٩٠  أيا ayah: المربية أو الخادمة الهندية، وسوف أجمع الكلمة على أيات.
٩١  شيروت cheroot: نوع من السيجار، كل من طرفيه على شكل مربع.
٩٢  مسز رايت: Mrs. Wright.
٩٣  أشين هتيك سو مات بايا: Ashin Hteik Su Myat Paya.
٩٤  جيريرَتْناجيري Ratnagiri: مدينة (في مقاطعة تحمل نفس الاسم) على بحر العرب، في أقصى جنوب غرب الهند.
٩٥  كليف: Clive.
٩٦  مضيق بوك Palk Strait: ممر مائي بين جنوب شرق الهند وشمال سريلانكا، مشهور بأخطاره ومياهه الغادرة.
٩٧  رأس كُمورين Cape Comorin: نقطة أقصى جنوب الهند، تمتد في المحيط الهندي.
٩٨  الأريقة areca: نوع من النخيل ينمو في بعض المناطق الاستوائية.
٩٩  بنجلو bungalow: منزل صغير يتكون عادة من دور واحد ويضاف له أحيانًا دور آخر، ويحاط بفراندة واسعة.
١٠٠  منزل أُطْرام: Outram House.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥