رَتْناجيري
٦
كان موسم الشغل السنوي بالنسبة لرَجْكومار وسايا جون حين يرتفع النهر. كل بضعة أسابيع يحمِّلان حمولة من الأكياس والأقفاص والصناديق على مركب نهري من أسطول السفن البخارية في إرَّاودِّي: سفن بخارية تتحرك بعجلة تجديف، يقودها غالبًا اسكتلنديون ومعظم ملاحيها من خلاسي شيتاجنج، وهو العمل الذي سعى رَجْكومار له ذات يوم. مع ثقل النهر الممتلئ خلفها، يندفعون مع التيار من مَنْدالي بسرعات تعرقل رحلات الأسطول. عند الغروب، وقت الاندفاع إلى الشاطئ، كثيرًا ما رسوا على ضفة النهر خلف قرية صغيرة من أكواخ بسقوف من القش، تجتمع حول ساحة عرض قسم شرطة.
كان سايا جون يحقق مكاسب هائلة من توفير إمدادات ومؤن عبر النهر لمعسكرات الساج. ومع أنه لم يكن شغوفًا بالفخامة، إلا أنه شعر بضرورة الحصول على قسط كافٍ من النوم في الليل وهو يبحر على رحلات الإمدادات. وكانتْ كابينة في الدرجة الأولى على ظهر سفينة بخارية في إرَّاودِّي، رغم كل شيء، رفاهية بسيطة.
وحين يعود رَجْكومار إلى الشاطئ في اليوم التالي، تكون عيناه حمراوين، وسايا جون منتعشًا، يتناول فطوره بشهية مفعمًا برغبة قوية لتفريغ بضائعه، ليشقَّ طريقه إلى المعسكر الذي يتوجه إليه. وكان الجزء الأول من الرحلة يتمُّ عادةً على عربات ثيران، تقاوم وحل الأنهار وهي تقعقع في اتجاه الجبال البعيدة.
لم تكن الزنود غالبًا تسقط فرادى بل مجموعات، عشرات الأطنان من الخشب الصلب تسقط معًا في الجدول: حين ترتطم ببعضها، يمتدُّ التأثير بطول الضفتين. أحيانًا، كان يصطدم زند بجذع شجرة تحت المياه، في تدفقها أو على الشاطئ، وفي دقائق يرتفع في الماء سد متشابك يعوق التيار. مرة بعد أخرى تتصادم الزنود معًا مضيفة إلى وزن الخشب الجامد المتراكم. قد يرتفع وزن الكتلة بشكل لا يُقاوَم. وفي النهاية يحدث شيء؛ يتحرك زند، محيطه تسعة أقدام، كعود ثقاب. بانفجار هائل ينقلب وتنظف موجة مد من الخشب والماء منحدرات الجبل.
كان سايا يحب القول: «جداول شونج هي الرياح التجارية للساج.»
في موسم الجفاف، حين تتشقق الأرض وتذبل الغابات، تتضاءل الجداول وتصبح قطرات على المنحدر، لا تقدر على حمل حفنة من أوراق الشجر، مجرد مجارٍ هزيلة من الوحل بين خيوط من البرك في قاع النهر الغائم. في ذلك الموسم يمشط الخشابون الغابة بحثًا عن الساج. وبمجرد العثور على الأشجار، تُقتَل وتُترَك لتجف، لأن الساج لا يبقى طافيًا وقلب الخشب رطبًا. يتم القتل بحزام من الحز، تُنحَت شرائح رفيعة في عمق الخشب على ارتفاع أربعة أقدام وست بوصات من الأرض (تحكم الساج، رغم نموه في البراري، قيودٌ إمبراطورية تتعلق بأدق التفاصيل).
تُترَك الأشجار المغتالة لتموت حيث تقف، ثلاث سنوات أحيانًا وربما أكثر. ولا يشار بقطعها إلا بعد أن تجفَّ بما يكفي للطفو. يأتي رجال بالفئوس، وأسلحتهم على أكتافهم، يحدِّقون بطول الشفرات لتحديد زوايا سقوط الضحايا.
ميتة إذا جاز التعبير، تَدقُّ الأشجارُ محتجةً نواقيسَ هائلةً وهي تسقط، انفجارات رعدية مدوية تُسمَع على بعد أميال، موقعة بكل ما في مسارها: مجموعاتٍ من الشجيرات، شِبَاك الخيزران الهندي الملتفة. تُسوَّى قوائم البامبو في لحظات، تنفجر آلاف الأطراف المترابطة بشكل متزامن انفجارات انشطارية قاتلة، ملقية بغيوم من أطلال عش الغراب.
كانت الزنود تُسحَب إلى ضفاف الشونج، تُكدَّس في أكوام وتترك حتى يستيقظ الشونج من سُبَات الموسم الحار. مع الأمطار الأولى، تتحرك البرك بطول قيعان الجداول وتتمدد وتربط الأطراف، ترتفع ببطء حتى تنظف البقايا المتراكمة طوال أشهر الجفاف. ثم، خلال أيام، والأمطار تهطل، ترتفع في قيعانها، ترتفع مئات المرات: كانت ذاوية تحت الأغصان وأوراق الشجر، إلا أنها بعد أسبوع تُلقِي بزنود يزن الواحد منها طنين في الجداول مثل سهام من الريش.
هكذا تبدأ رحلة الزنود إلى شوادر الخشب في رنجون: والأفيال تدفعها على المنحدرات إلى المياه المزبدة في جداول الشونج. بعد وضعها على الأرض، تشق طريقها من الجداول المغذية إلى الروافد، وتصل في النهاية إلى أنهار السهول الطافحة بالمياه.
ذات مرة، وسايا جون يستظل بجوار جذع شجرة ساج محتضرة ومطوَّقة، أعطى رَجْكومار ورقة نعناع ليمسك بها في يد وورقة سقطت من الشجرة في الأخرى. قال، جِسَّهما، افركْهما بين أصابعك.
ورقة النعناع في حجم إبهام رَجْكومار، والأخرى في حجم قدم فيل؛ إحداهما عشب يستخدم لإضافة نكهة للحساء، والأخرى من شجرة أهلكت أسرات حاكمة، وتسببت في الغزو، خلقتْ حظوظًا وخلقتْ طريقة جديدة للحياة. وحتى رَجْكومار، الذي لم يكن يميل بحال من الأحوال إلى الانغماس في الغريب أو العجيب، اعترف بأن هناك، بين الشعيرات الواهية لإحداهما والفراء النسيجي الخشن المنتصب للأخرى، علاقة لا شك فيها، رابطة أسرية محسوسة.
•••
كانت أجراس الأفيال تميز معسكرات الساج. يُعتمد على الصوت دائمًا، حتى حين يخرسه المطر أو المسافة، لإنتاج تأثير سحري في طابور من الحمالين، يسرعون وينشطون.
كانت معسكرات الساج على شاكلة واحدة دائمًا، إلا أنها مختلفة تمامًا، لم يشيَّدْ أبدًا معسكران في الموضع نفسه بين موسم والموسم التالي. كانت الأفيال تبدأ بالنزول إلى الغابة، والنتيجة أن تحمل حتمًا المناطق منزوعة الأشجار آثار أشجار مقلوبة وحفر لم تردم جيدًا.
كان هؤلاء المعاونون رجالًا مغرورين شاردين. يرتدي سايا جون قبل أن يذهب لمقابلتهم ملابس أوروبية دائمًا، قميصًا أبيض وبنطلونًا قطنيًّا. ويشاهد رَجْكومار عن بعد سايا جون يقترب من الطاي ويلقي التحية، وإحدى يديه تستريح باحترام على الدرجة السفلى من السلم. إذا وجهت له الدعوة، يتسلق السلم ببطء، واضعًا قدمًا بعد الأخرى باحتراس. ثم تأتي موجة ابتسامات وانحناءات وتحيات. يعود في دقائق أحيانًا؛ وكان المعاون يقدم له، أحيانًا، كأسًا من الويسكي ويطلب منه البقاء لتناول العشاء.
لم يكن رَجْكومار يعرف الإنجليزية، لكن لا شكَّ في أنَّ في صوت المعاون غضبًا وازدراء. للحظة رأى رَجْكومار سايا جون بعيني المعاون: صغيرًا وشاذًّا وغريبًا بملابسه الأوروبية غير المناسبة، وقد بدا أكثر بدانة في بنطلونه القطني ذي الشرائط المعلقة في ثنيتين سميكتين حول كاحليه، بقبعته السولا البالية تجلس غير مستقرة على رأسه.
كان رَجْكومار في خدمة سايا جون منذ ثلاث سنوات ويراه مرشده في كل شيء. ازداد غضبه وسخطه من سلوك معلمه. جرى عبر المنطقة منزوعة الأشجار إلى الطاي، بنيَّةٍ صادقة لصعود السلم ومواجهة المعاون في الفراندة.
لكن في تلك اللحظة نزل سايا جون مسرعًا، ووجهه مكفهر وحزين.
«ساياجاي! أصعد …؟»
«تصعد أين؟»
«إلى الطاي. لأُرى ذلك اللقيط …»
«لا تكن أحمق، رَجْكومار. اذهب وابحث عن شيء مفيد تفعله.» بنبرة انزعاج، أعطى سايا جون ظهره لرَجْكومار.
أخذت معسكرات الساج، نتيجة لهذا الاقتصاد، شكل قرى جبلية صغيرة: مبانٍ عائلية تجتمع في نصف دائرة خلف منزل الريس. وكان هذا مضلِّلًا، لأن الإقامة مؤقتة تمامًا. يستغرق بناء المعسكر يومًا أو اثنين من فريق الأوسيين، لا يستخدمون إلا الكرم والبامبو المقطوع حديثًا والبوص المجدول. في نهاية الموسم، يُهجَر المعسكر للغابة، وفي العام التالي يقام معسكر آخر في موضع آخر.
في كل معسكر يخصص للهسن أوق أكبر كوخ، وفيه يقيم عادة سايا جون ورَجْكومار. غالبًا ما يجلس سايا جون ورَجْكومار، حين يكونان في المعسكر، في بلكونة الكوخ، يتحدثان إلى وقت متأخر من الليل. كان سايا جون يدخن الشيروت ويستغرق في ذكرياته — عن حياته في الملايو وسنغافورة وعن زوجته الراحلة.
في الليلة التي وبخ المعاون فيها سايا جون، استلقى رَجْكومار وقتًا طويلًا مستيقظًا، يحدق في الأنوار المرتجفة في الطاي. برغم نصيحة سايا جون لم يستطع التخلص من سخطه على تصرف المعاون.
ورَجْكومار ينجرف في النوم، سمع شخصًا يزحف خارجًا إلى البلكونة. كان سايا جون، مسلَّحًا بعلبة كبريت وشيروت. استيقظ رَجْكومار فجأة من جديد غضبان مثلما كان في أول المساء.
انفجر رَجْكومار: «ساياجاي، لماذا لم تقلْ شيئًا والرجل يصرخ بتلك الطريقة؟ غضبتُ وكنتُ أريد أن أذهب إلى الطاي وألقِّنه درسًا.»
ألقى سايا جون نظرة عبر المنطقة مقطوعة الأشجار إلى طاي المعاون، وكان الضوء لا يزال مشتعلًا. كان شبح المعاون واضحًا، محدَّدًا على حوائط البوص الرقيق؛ كان يجلس في مقعد، يقرأ كتابًا.
«لا حق لك في أن تغضب، رَجْكومار. هنا يجب ألا تبالي، وربما أسوأ. ما يحيرني أن معظمهم ليسوا على شاكلة هذا الشخص.»
«لماذا، ساياجاي؟»
قال رَجْكومار: «أنت أيضًا بعيد عن وطنك، ساياجاي. وأنا أيضًا.»
«لكنا لسنا بعيدين مثله. وأمر بقائنا هنا، نجني ثمار هذه الغابة، متروك لنا. انظر إلى الأوسيين في هذا المعسكر؛ انظر إلى هسن أوق، يستلقي على حصيرته، دائخًا من الأفيون؛ انظر الزهو الزائف الذي ينتابهم لمهارتهم كمدربين للأفيال. يعتقدون، لأن آباءهم وعائلاتهم عملوا جميعًا مع الأفيال، أن لا أحد يعرف حيواناتهم مثلهم. لكن لم يفكر أحد منهم أبدًا في استخدام الأفيال لنقل الخشب حتى جاء الأوروبيون. لم تُستخدَم أفيالهم إلا في المعابد والقصور، في الحروب والاحتفالات. الأوروبيون هم الذين رأوا أنه يمكن استغلال هذه الأفيال الأليفة في العمل لصالح الإنسان، وابتكروا كل ما نراه حولنا في هذا المعسكر لتقطيع الخشب ونقله. هذا الأسلوب في الحياة برمته من ابتكارهم. هم الذين فكروا في هذه الطرق لتحزيم الأشجار، طرق نقل الزنود بالأفيال، نظام تعويمها في النهر. حتى تفاصيل بناء هذه الأكواخ ومكانها، تصميم الطاي، استخدام سقوف البامبو والخيزران الهندي — لم يفكر الأوسيون بحكمتهم العتيقة فيها. جاءت كل هذه الأشياء من عقول رجال مثل هذا الرجل الذي يجلس في هذا الطاي — هذا الولد الذي لا يكبرك بكثير.»
أشار التاجر بإصبعه إلى شبح الشخص الذي في الطاي. قال: «هل ترى ذلك الرجل، رَجْكومار؟ هذا شخص يمكن أن تتعلم منه. لتخضع أعمال الطبيعة لإرادتك؛ لتجعل أشجار الأرض مفيدة للبشر — ماذا يمكن أن يكون أكثر روعة، أكثر إثارة من هذا؟ هذا ما أودُّ قوله لأي ولد في مقتبل العمر.»
كان رَجْكومار يعرف أن سايا جون لا يفكر فيه، في اللوجا لي، بل في ماثيو، ابنه الغائب، مما أدى إلى غصة مفاجئة ومروعة من الأسى. لكن الألم لم يستمر إلا لحظة، وحين تلاشى شعر رَجْكومار أنه الأقوى جدًّا والأفضل إعدادًا. كان هنا، رغم كل شيء، في هذا المعسكر وماثيو بعيدٌ في سنغافورة.
٧
في رتناجيري اعتقد كثيرون أن الملك ثيبو أول من يعرف دائمًا متى يطلب البحر ضحية. كان يقضي الساعات في البلكونة يوميًّا، يرنو للبحر بنظارته ذات الإطار الذهبي. وتعلم الصيادون التعرف على الومضتين المتشابهتين المحددتين لمنظار الملك. كانوا، وهم عائدون إلى الخليج في المساء، ينظرون في اتجاه البلكونة على قمة الهضبة، كأنهم يطمئنون. قال الناس، لا شيء حدث في رتناجيري، إلا والملك أول من يعرف.
مسَّتْ عيون الأميرات كل مَنْ نظروا إليها. كن أطفالًا: ماذا فعلن ليعشن بهذا الشكل؟ لماذا يمنعن من زيارة عائلات المنطقة؛ من تكوين صداقات مع الأطفال الماراتيات المتعلمات؟ لماذا يصرن نساء بدون أن يصحبن إلا الخادمات؟
كانت الملكة تخرج في العربة، مرة أو مرتين في العام، مع بناتها، وجهها قناع أبيض، صارم ومتبلد، وشفتاها مصبوغتان بالبنفسجي الداكن المميت بفعل الشيروت. يحتشد الناس في الشوارع ليشاهدوها وهي تمر بهم، لكن لا يبدو أبدًا أنها لاحظتْ، وهي تجلس منتصبة مثل قضيب بوجه صارم متبلد، أي شخص أو أي شيء.
وكانت هناك مس دُلِّي، بشعرها الأسود الطويل ووجهها الصريح، جميلة مثل أميرة في قصة خرافية. على مر السنين، ابتعد ببطء كل مَنْ رافقوا العائلة الملكية إلى رتناجيري — الخادمات والأقارب وموظفو المنزل. لم يبقَ إلا مس دُلِّي.
•••
عرف الملك ما يقوله الناس عنه في رتناجيري، وإذا كان قد انتبه للقوى التي تُعزَى إليه، فإنه كان يتسلى أيضًا ولم يكن متملِّقًا تافهًا. حاول بطرق بسيطة أداء واجبه طبقًا للدور الذي أُلقِيَ على عاتقه. وقفتْ نساء على السطوح أحيانًا، ورفعن أطفالًا حديثي الولادة على أمل جذب البرَكَة المتخيلة لنظرته. كان يبقي نظارته موجهة إلى أولئك الأمهات الساذجات عدة دقائق في كل مرة. بدا شيئًا صغيرًا جدًّا لا يستحق السؤال لماذا لا يهب الأشياء التي في قدرته أن يعطيها؟
قال الملك: «سوانت، هبت عاصفة في البحر.» وشرح ما حدث. هرول سوانت إلى أطراف الهضبة، ووصلت الأخبارُ قريةَ الصيادين قبل عودة المراكب. هكذا بدأت أسطورة ملك رتناجيري اليقظ.
تطلع سكان رتناجيري إلى الملك للحصول على معلومات يُعتد بها عن هبوب الرياح الموسمية أيضًا. كل عام يستيقظ ذات صباح ليرى زيادة طفيفة، وجلية، في لون الخط الذي يشطر نافذته. تلك البقعة في الأفق، الرفيعة مثل خط أنتيمون على جفن العين، تكبر بسرعة وتتحول إلى كتلة متحركة من المطر. كان منزل أُطرام، على قمة الهضبة، أول مكان تصل إليه الرياح الموسمية على اليابسة؛ تأتي الأمطار بغزارة إلى البلكونة؛ يتسرب الماء تحت الباب ومن شقوق النافذة، ويتجمع بعمق بوصات تحت سرير الملك.
«سوانت! المطر هنا. أسرعْ! أحكمْ إغلاق النافذة، هات الجرادل وانقل كل ما على الأرضية.»
في دقائق تطير الأخبار إلى أطراف الهضبة. «رأى الملك الأمطار.» تحدث حركة هائلة أسفل الهضبة؛ تندفع الجدات لنقل المخلل من الشمس، ويجري الأطفال منشرحين خارج منازلهم.
كان الملك أول من يلحظ السفن البخارية تتجه إلى الخليج. في رتناجيري، كان قدوم هذه السفن وذهابها يشير لمرور الوقت، وهو ما تقوم به طلقات المدافع وساعات الأبراج في البلدات الأخرى من المقاطعة. في الصباح والسفينة البخارية على وشك الوصول، يحتشد الناس بأعداد كبيرة في مرفأ مندفي. تنزلق مراكب صيد السمك إلى الخليج في الفجر بحمولات من السمك المجفف. ويسير التجار في عربات الثيران المحملة بالفلفل والأرز.
كان الملك يلمح السفينة البخارية عادة وهي بعيدة في البحر، على بعد حوالي ساعة من المرفأ. «سوانت! المركب» وفي دقائق يكون الحوذي في طريقه في البرام.
صارت العربة بشارةَ السفينة البخارية. لم يعد الناس ينتظرون طول اليوم في المرفأ: كان نزول البرام إشعارًا كافيًا بوصول السفينة البخارية. بهذه الطريقة، انتقل عبء تحديد الأيام ببطء من السفن البخارية إلى العربة السوداء بشعار الطاووس: كأن الزمن نفسه انتقل إلى عهدة ثيبو. صار ثيبو، مختفيًا في بلكونته، الروح الحارسة للبلدة، صار ملكًا من جديد.
•••
ودُلِّي في الخامسة عشرة انتشر الطاعون على طول الساحل. تلقتْ رتناجيري بشكل خاص ضربة قاسية. اشتعلت النيران ليلًا ونهارًا في محرقة الجثث. خلت الشوارع. غادر البلدةَ أناسٌ كثيرون؛ ومكث الآخرون في منازلهم.
كان منزل أُطرام بعيدًا عن أماكن انتشار الوباء، بعيدًا جدًّا عن المراكز الرئيسية للسكان مما يجعله في مأمن من العدوى. لكن تبين والهلع ينتشر في المقاطعة أن هذه العزلة لم تكن بدون مخاطر: حوصِر منزلُ أُطرام بالإهمال. لم يكن في البنجلو صرف صحي أو إمدادات مياه. كان الكناسون يفرغون المراحيض يوميًّا من القاذورات؛ والماء يحمل في جرادل من أقرب جدول. ومع انتشار الطاعون، توقف الكناسون عن المجيء واستلقى حمالو المياه قلقين بجوار المطبخ.
قامت دُلِّي عادة بدور الوسيط بين العاملين في المجمع والعائلة الملكية. نتيجة النقص، على مدار السنوات، وقع على عاتقها المزيد والمزيد من الواجبات اليومية لسكان المنزل. لم تكن مهمة التعامل مع أعداد كبيرة من العاملين في المجمَّع سهلة — الحمالين والسوَّاس والبستانيين والأيات والطهاة. حتى في أفضل الأوقات وجدت دُلِّي مشكلة في العثور على خدم أو تشجيعهم على البقاء. وكانت المشكلة دائمًا في عدم توفر الأموال لدفع الرواتب. باع الملك والملكة كل ما جاءا به تقريبًا من مَنْدالي: نفد الكنز، كله باستثناء بضع هدايا تذكارية وتذكارات الماضي.
شعرتْ دُلِّي، والبلدة ساكنة خوفًا من المرض، بما تعنيه إدارة المنزل بدون مساعدة. بانتهاء اليوم الأول، فاحتْ من المراحيض نتانة لا تُحتمَل، وفرغت الخزانات ولم تكن هناك مياه للغسيل أو الاستحمام.
لم يتبقَّ من الخدم إلا عدد قليل، يعيشون في العزبة، ومنهم سوانت. ترقَّى سوانت بسرعة من سائس إلى حوذي، وألقى عليه تبلده ومرحه بعض المسئولية رغم حداثة سنه. في لحظات الأزمة لجأ إليه الجميع.
«انتظري.»
وجد سوانت حلًّا: إذا سمحت الملكة لعمال المنزل ببناء ملاجئ مؤقتة حول جدران المجمَّع، فسيكونون أيضًا في مأمن من العدوى. سيعودون، والأكثر من ذلك، سيكونون دائمًا في متناول اليد للقيام بمهامهم. ولن يكون على السعاة بعد ذلك الذهاب والعودة بين المجمع والبلدة، لاستدعاء هذا الطاهي أو تلك الأيا؛ ولن يكون هناك بعد ذلك كلام عن ترك العمل. يصبحون قرية صغيرة تتمتع باكتفاء ذاتي، أعلى الهضبة.
ضغطتْ دُلِّي على ذراعه ضغطة امتنان: «موهانبهي!» للمرة الأولى منذ أيام تشعر بالقدرة على التنفس مرة أخرى. يمكن الاعتماد عليه، جاهز دائمًا بحلٍّ. ماذا يفعلون بدونه؟
لكن، كيف تحصل على موافقة الملكة؟ تشكو دائمًا من صغر المجمع، وضيقه، ومن أنه يشبه سجنًا. ماذا تقول على منظر انتقال العاملين كلهم من البلدة؟ كان الوقت يمضي بسرعة. ذهبتْ دُلِّي إلى باب الملكة.
«ميبيا.»
«نعم؟»
رفعتْ دُلِّي رأسها من الأرض وجلستْ على كعبيها: «توقف الخدم عن الحضور بسبب المرض في البلدة. خلال يوم أو يومين يهربون إلى الريف. لن يبقى أحد في رتناجيري. بعد وقت قصير لن يكون هناك ماء في المنزل. ستطفح المراحيض. ويكون علينا حمل القاذورات بأنفسنا إلى أسفل الهضبة. يقول موهانبهي، لماذا لا ندعهم يبنون بعض الحجرات حول المجمع، وراء الجدار؟ ويرحلون حين ينتهي الخوف. يحلُّ هذا كلَّ شيء.»
تحولت الملكة عن الفتاة الراكعة لتنظر من النافذة. كانت أيضًا منزعجة من التعامل مع الخدم — تعساء، تعساء عاقين، ماذا تقول عنهم أيضًا؟ كلما أعطيتهم أكثر، بدا أنهم يريدون الأكثر — نعم، حتى الطيبون، مثل هذه الفتاة دُلِّي. مهما أخذوا، هناك دائمًا شيء آخر، طلب آخر — مزيد من الملابس، عِقْد آخر. وبالنسبة للآخرين، الطهاة والكناسين والأيات، لماذا بدا العثور عليهم أصعب مع كل سنة تمرُّ؟ ما كان عليك إلا أن تخطو خطوة للخارج لترى آلاف الناس يقفون هنا وهناك، يحملقون، وليس هناك ما يفعلونه أفضل من التسكع على جانب الطريق. إلا أنك قد تعتقد أنك تعيش في عالم من الأشباح حين تحتاج إلى خدم.
ومع انتشار المرض، كانوا على يقين من أنهم سيهلكون بالآلاف. ثم ماذا؟ صار الذين يريدون العمل أكثر ندرة — مثل الأفيال البيضاء. الأفضل السماح لهم بالانتقال قبل مرور الوقت. ما قالتْه الفتاة صحيح: بقاؤهم على الهضبة أكثر أمنًا، بعيدًا عن البلدة. وإلا نقلوا المرض إلى المجمع. وهناك مميزات تعوض البشاعة. سيكونون تحت الطلب كلما احتجنا إليهم، ليلًا أو نهارًا.
التفتت الملكة إلى دُلِّي: «قررتُ. ليبنوا ملاجئهم على الهضبة. اطلبي من سوانت أن يخبرهم بأنه يمكنهم البدء فورًا.»
بعد شهر انقشع الوباء وكان حول المجمع حوالي خمسين عائلة يعيشون. لم يبدُ دليل على عودتهم إلى بيوتهم القديمة في الدروب المكتظة في البلدة: العيش على الهضبة المنعشة أجمل بكثير. تشاورتْ دُلِّي في الأمر مع الملكة، وقررتا ترك المستوطنين يقيمون. قالت الملكة: «ماذا لو حلَّ وباء آخر؟ رغم كل شيء، لا نعرف إن كان قد انتهى حقًّا.»
سعدت الأميرات ببقاء الأكواخ: لم يكن لهن أبدًا من قبل رفاق لعب في عمرهن. صار لديهن العشرات. كانت الأميرة الأولى في الثامنة، والصغرى في الثالثة. قضين أيامهن يجرين حول المجمع مع أصدقائهن الجدد، واكتشفن ألعابًا جديدة. حين يجعن يجرين إلى أكواخ أصدقائهن ويطلبن شيئًا يأكلنه؛ بعد الظهيرة، حين لا تسمح حرارة الجو باللعب في الخارج، يغلبهن النوم على الأرضيات الطينية في عشش بسقوف من النخيل.
بعد أربع سنوات حلَّ وباء طاعون آخر. انتقل مزيد من الناس إلى الهضبة. كما توقع سوانت، صار البَسْتي حول المجمع قرية صغيرة في ذاتها، بأزقة متعرجة ومحلات في الأركان. لم تعد المباني تقتصر على الأكواخ والعشش. ظهرت منازل من الطوب اللبن، واحدا واحدًا. لكن المستعمرة الصغيرة لم تكن مزودة بالصرف الصحي أو أية تسهيلات أخرى. حين تحول النسيم، اجتاحت منزل أُطرام رائحة البراز والزبالة، قادمة من الوهاد على الجانب البعيد من الجُرْف.
اهتمَّ المسئول الإنجليزي عن المقاطعة بمسألة تعليم الأميرات ورتب لاستخدام مربية إنجليزية. أبدت الأميرة الصغرى فقط استعدادًا للدراسة. كانت هي ودُلِّي أكثر من استفادتا من وجود المربية. بسرعة تحدثتا الإنجليزية بطلاقة، وبدأت دُلِّي ترسم بالألوان المائية. لكن المربية لم تمكث طويلًا. استاءت بشدة من أحوال أسر العائلة الملكية واختلفتْ مع المسئولين البريطانيين في المنطقة. عادت في النهاية إلى إنجلترا.
كبرت الأميرات، وكذلك رفاق اللعب. أحيانًا يشدُّ الأولاد، وهم يجرون حول المجمع، ضفائر الفتيات ويتحرشون بهن. بدأ سوانت يأخذ دور الحامي والنصير. ينطلق مندفعًا إلى البَسْتي، ليعود بكدمات على وجهه وجروح في شفته. فتجتمع دُلِّي والأميرات حوله في هلع صامت: بدون أن يسألن يعرفن أن جروحه كانت دفاعًا عنهن.
كان سوانت شابًّا طويلًا داكن اللون بصدر عميق وشارب أسود مشذَّب. لم يكن مجرد حوذي لكنه كان بوابًا أيضًا. ولذلك خُصِّصتْ غرفة حراسة بجوار البوابة لاستخدامه الخاص. غرفة صغيرة، بنافذة واحدة فقط وسرير ضيق، لا يزينها إلا صورة لبوذا — تذكارًا لتحول سوانت تحت تأثير الملك.
كانت غرفة سوانت، في السياق الطبيعي، محرمة على الفتيات، لكن لم يستطعن البقاء بعيدًا وهو في الداخل، يعالج جروحه التي حدثت من أجلهن. وجدن طرقًا للتسلل إليها، متخفيات، ومعهن أطباق من الطعام وعلب الحلوى.
«لا.»
اعترض: «لمستِني في البداية.»
لم ترد. جلستْ ساكنة وهو يتحسس أربطتها ومشابكها. كان ثدياها صغيرين، تأخرا في النمو، أعلاهما حلمتان ضئيلتان ناضرتان. كانت على يدي الحوذي نتوءات شائكة، وكانت حواف راحتيه خشنة على الحلمتين الرقيقتين. وضعتْ يديها على جانبيه وحركتهما إلى ضلوعه. انحلَّتْ خصلة من الشعر على صدغه، ونزلت قطرات العرق ملتفة إلى الجدائل، منقطة ببطء من طرف، على شفتيه.
«دُلِّي، أنت أجمل فتاة في العالم.»
لم يعرف أحد منهما ما عليه أن يفعل. بدا توافق أطرافهما معًا مستحيلًا. انزلق جسماهما، متعثرين، ومتورطين. ثم شعرت فجأة باشتعال لهب الألم العظيم بين ساقيها. صرختْ بصوت عالٍ.
فكَّ لنجُته القطني وجفَّفَ دمها، مسحه من على وركيها. أمسكتْ بطرف اللنجت ونشَّفت البقع الحمراء على حشفته المحمرة. مدَّ يده بين ساقيها ونظَّف عانتها برقة. استراحا على كعوبهما، متواجهين وركبتا كل منهما بين ساقي الآخر. نشر قطعة الملابس البيضاء المبللة على سيقانهما المتشابكة: كان دمها الساطع مرقَّطًا ببقع من منيه. حدَّقَا في قطعة الملابس الزاهية في دهشة صامتة: كانت من صنع أيديهما، راية اتحادهما.
رجعتْ في اليوم التالي وفي أيام كثيرة بعد ذلك. كان سريرها في غرفة الملابس في الدور العلوي. والأميرة الأولى تنام في غرفة النوم المجاورة. بجوار سرير دُلِّي نافذة، وفي الخارج شجرة مانجو، يسهل الوصول إليها. اعتادت دُلِّي التسلل إلى الخارج في الليل والعودة متسلقة قبل الفجر.
بعد ظهيرة أحد الأيام، في غرفة سوانت، غلبهما النوم، وعرقا على الخيط الرطب لسريره. دوَّتْ صرخة في الغرفة فانتفضا مستيقظين. كانت الأميرة الأولى تقف بجوارهما، وعيناها تبرقان، ويداها في خصرها. في حرارة غضبها تحولتْ من فتاة في الثانية عشرة إلى امرأة.
«كنتُ محتارة، وقد عرفتُ الآن.»
أمرتْ دُلِّي بارتداء ملابسها، ومغادرة الغرفة: «إذا رأيتكما وحدكما معًا مرة أخرى، فسأخبر جلالتها. أنتما خادمان. سيُلقى بكما إلى الخارج.»
ركع سوانت، عاريًا تقريبًا، على ركبتيه، مشبِّكًا يديه معًا: «أميرة، كانت غلطة، غلطة. أسرتي، يعتمدون عليَّ. افتحي قلبك، أميرة. كانت غلطة. لن تتكرر مرة أخرى أبدًا.»
منذ ذلك اليوم، تتبعتهما عينا الأميرة الأولى حيث يذهبان. أخبرت الملكة بأنها رأت لصًّا يتسلق شجرة المانجو. اقتُطِعت الشجرة ووُضِعتْ قضبان في إطار النافذة.
•••
لم يكن هناك مجال لإنكار هذه الحقيقة. بمرور السنوات صار منزل أطرام شبيها بالأحياء الفقيرة المحيطة به. تهشم الطوب اللبن ولم يستبدل. سقط الجص من على الجدران، كاشفًا كميات هائلة من الطوب. مدَّتْ فروع شجرة التين جذرًا في الشقوق وتحولت بسرعة إلى شجيرات ثابتة. في الداخل، زحف عفن الفطر من الأرض إلى أعلى حتى بدت الحوائط وكأن عليها ستارة من القطيفة السوداء. صار التحلل شارة التحدي عند الملكة. قالت: «صيانة هذا المنزل ليست مسئوليتنا. اختاروه ليكون سجننا، فليهتموا به.»
صدم الزائرون القليلون الذين سمح لهم بدعوتهم من منظر البَسْتي، ورائحة القمامة والبراز، وكثافة دخان الخشب الذي يعلق كثيفًا في الهواء. كثيرًا ما نزلوا من عرباتهم ونظرات دهشة مهولة على وجوههم، عاجزين عن تصديق أن مكان إقامة آخر ملوك بورما صار نواة لبلدة من الأكواخ.
كانت الملكة تحييهم بابتسامتها المتكبرة الباهتة. نعم، انظروا حولكم، انظروا كيف نعيش. نعم، نحن الذين حكمنا أغنى أرض في آسيا وصلنا إلى هذا الوضع الآن. هذا ما فعلوه بنا، هذا ما سوف يفعلونه ببورما كلها. أخذوا مملكتنا، واعدين بطُرُق وسكك حديد وموانئ، لكن تذكروا كلماتي، هكذا تنتهي. في عقود قليلة تنتهي الثروة — كل المجوهرات والخشب والزيت — وحينها يتركونها أيضًا. بورما في عصرنا الذهبي، لم يجع فيها أحدٌ ولم يكن أحدٌ فقيرًا بحيث لا يكتب ولا يقرأ، لن يبقى إلا الفقر المدقع والجهل، المجاعة واليأس. كنا أول من سُجِنوا باسم تقدمهم؛ ملايين آخرون يتبعوننا. هذا ما ينتظرنا جميعًا؛ هكذا ننتهي جميعًا — سجناء، في بلدات أكواخ أنجبها الطاعون. بعد مائة سنة من الآن سوف تقرءون اتهام الجشع الأوروبي في الاختلاف بين مملكة سيام ودولة عالمنا المستعبد.
٨
تقع القرية على تلٍّ رملي حيث يدخل شونج منحني متعرج واسع. كان الجدول ضحلًا هناك، يمتد ضيقًا على قاع ممتلئ بالحصى، وفي معظم أيام السنة تكون المياه بارتفاع الركبة — عمق رائع لأطفال القرية، الذين يحرسونه خلال اليوم بأقواس صغيرة. امتلأ الجدول بضحية سهلة، سمك، بظهور فضية، يدور في المياه الضحلة، يدوخ نتيجة التغير المفاجئ في سرعة الماء. معظم السكان المقيمين في هوي زيدي من الإناث: يكون ذكور القرية الأصحاء، من الثانية عشرة فيما فوقها، خلال معظم السنة، بعيدًا في أحد معسكرات الساج على منحدرات الجبال.
سأل دوه سي: «وماذا عنك؟ هل هناك فتاة تفكر فيها؟»
كان رَجْكومار يهزُّ كتفيه عادة، وذات مرة ألحَّ دوه سي فردَّ بإيماءة.
«مَنْ؟»
«اسمها دُلِّي.»
أول مرة يتحدث فيها رَجْكومار عنها؛ مضى وقت طويل ولم يعد يتذكر شكلها إلا بصعوبة. كانت مجرد طفلة، لكنها أثرت فيه كما لم تؤثر أخرى ولا شيء قبلها. في عينيها الواسعتين، المشبعتين بالخوف، رأى وحدته تبرز، تظهر، تشق الجلد.
«وأين تعيش؟»
«في الهند، على ما أعتقد. لا أعرف بالضبط.»
حكَّ دوه سي ذقنه: «عليك أن تبحث عنها ذات يوم.»
ضحك رَجْكومار: «بعيدة جدًّا.»
«سيكون عليك أن تذهب. ليست هناك وسيلة أخرى.»
•••
كانت الجمرة الخبيثة شائعة في غابات وسط بورما وكان منع الأوبئة صعبًا. قد يكمن المرض في الأراضي العشبية مدة تصل إلى ثلاثين عامًا. قد يظهر فجأة أن مسارًا أو طريقًا، يبدو هادئًا وآمنًا بعد أن بقي سنوات كثيرة لا يُستخدَم، دربٌ معبَّدٌ إلى الموت. قد تقتل الجمرة الخبيثة في أكثر أشكالها قسوةً فيلًا في ساعات، فيلًا هائلًا، يرتفع خمسة عشرة ذراعًا كاملة عن الأرض، يأكل بأمان في الظلام ويموت في الفجر. قد يُفقَد في بضعة أيام قطيعٌ عاملٌ من مائة فيل برمته. يقدر الفيل الناضج بآلاف الروبيات، وكانت تكلفة وباء تؤثر في سوق لندن للأوراق المالية. لا تقامر معظم شركات التأمين بالتأمين ضد الإصابة بمرض من هذا النوع.
تكثر الجمرات في مؤخرة الحيوان، وهي تكبر قد تسدُّ فتحة الشرج. تستهلك الأفيال كميات هائلة من العلف وتتبرز باستمرار. لا يتوقف عمل أجهزتها الهضمية مع بداية المرض؛ تستمر أمعاؤها في إنتاج الروث بعد سدِّ منافذ الإخراج، ويندفع الروث الحبيس على شكل انفجار في الممر الشرجي المسدود.
كانا معًا في معسكر ذات يوم حين هجم الوباء. كان سايا جون ورَجْكومار يقيمان، كالمعتاد، مع هسن أوق المعسكر، رجل ضئيل الجسم محدودب، بشارب يشبه رباط الحذاء. في وقت متأخر من المساء اندفع دوه سي ليخبر الهسن أوق بفقد أوسي: يُعتقد أن فِيلَتَه قتلته.
لم يستوعب الهسن أوق الأمر. كانت الفِيلة في رعاية أوسيها منذ حوالي خمسة عشر عامًا ولم يُعرَف أنها تسببتْ في مشكلة من قبل. إلا أن الأوسي قبل موته مباشرة قاد مطيته بعيدًا عن القطيع وقيَّدها. كانت تحرس جثته ولا تدع أحدًا يقترب. لا يجب أن يحدث هذا. ما المشكلة؟ في وقت متأخر، اتجه الهسن أوق إلى الغابة مع دوه سي وبضعة أشخاص آخرين. قرر سايا جون ورَجْكومار الذهاب معهم.
سمع رَجْكومار الفِيلَة عن بعد. ازدادت الجلبة مع اقترابهم، قبل أن يندهش رَجْكومار من هول ارتفاع الصوت، من أن هذا الصوت يمكن أن يصدر عن فيل واحد: صوت أبواق وصرخات حادة وانتفاخ وارتطام شتلات وشجيرات. كان يختلف عن صخب عربدة وقت تناول الطعام: اخترقت نبرة ألم الأصوات الأخرى المألوفة.
وصلوا إلى مكان الحادث ليجدوا الفيلة اقتلعت مساحة كبيرة حولها، وسوَّتْ بالأرض كل ما في متناولها، والأوسي الميت يرقد تحت شجرة، طريحًا غارقًا في الدماء، على بعد ياردة أو اثنتين من الشجرة المقيدة فيها أقدام الفيلة.
شاهد سايا جون ورَجْكومار عن بعد، وشكَّل الهسن أوق ورجاله دائرة حول الفيلة الغضبى، محاولين تحديد المشكلة. ثم صرخ الهسن أوق ورفع يده ليشير إلى ردف الحيوان. برغم خفوت ضوء الكشاف، إلا أن رَجْكومار رأى أورامًا على مؤخرة الفيلة، حمراء فاقعة.
على الفور استدار الهسن أوق ورجاله واندفعوا مسرعين بتهور إلى الغابة، يتسابقون عائدين من حيث أتوا.
«ساياجاي، ما هذا؟ لماذا يجرون؟»
كان سايا جون يسرع بين الشجيرات، محاولًا الإبقاء على كشافات الأوسيين في مجال البصر: «بسبب الجمرة الخبيثة، رَجْكومار.» دفع سايا جون بالكلمة متقطع الأنفاس بسرعة.
«ماذا، سايا؟»
«الجمرة الخبيثة.»
«لكن سايا، لماذا لا يحاولون إنقاذ الجثة؟»
قال سايا جون: «لا أحد يستطيع الاقتراب من هذا الكائن الآن خوفًا من العدوى. وعلى أية حال لديهم أمور أكثر إلحاحًا للتفكير فيها.»
«أكثر إلحاحًا من جسد صديقهم؟»
«أكثر بكثير. يمكن أن يفقدوا كل شيء — حيواناتهم ووظائفهم وأرزاقهم. فَقَدَ الرجل الميت حياته وهو يسعى لمنع انتقال العدوى من هذه الفِيلَة إلى البقية. يدينون له بإبعاد القطيع عن الأذى.»
رأى رَجْكومار أوبئة كثيرة تأتي وتنقشع — التيفود والجدري والكوليرا. ونجا من وباء قتل عائلته: المرض بالنسبة له مخاطرة وليس خطرًا، تهديدًا يتعايش معه من يوم إلى يوم. لم يصدق أن الأوسيين تركوا جثة رفيقهم بسهولة.
ضحك رَجْكومار: «جروا وكأن نمرًا وراءهم.»
وهنا التفت إليه سايا جون، وكان عادة رصينًا وربما لطيفًا، في غضب مفاجئ: «احذر، رَجْكومار.» وهدأ صوت سايا جون: «الجمرة الخبيثة طاعون، كان الرب يرسله لعقاب المغرورين.»
لم يفهم رَجْكومار إلا كلمات قليلة، لكن كانت نبرة صوت سايا جون كافية لإسكاته.
عادا إلى المعسكر فوجداه خاليًا. رحل دوه سي والآخرون بالقطيع غير المحمَّل. لم يبقَ إلا الهسن أوق، ينتظر المعاون. قرَّر سايا جون البقاء معه.
في وقت مبكر من الصباح التالي عادا إلى مكان الحادثة. كانت الفِيلة المصابة أهدأ، دائخةً، أوهنها الصراع مع المرض. كبرت الأورام وصارت في حجم الأناناس، وبدأ جلد الفيلة يتشقق ويتفسخ. بمرور الساعات، ازداد حجم الإصابات وتعمقت الشقوق. وبسرعة نزَّت البثور نزًّا أبيض. وفي وهلة بلَّلَ الإفراز جلد الحيوان. تساقطت على الأرض جداول من الصديد المعرَّق بالدماء. تحولت التربة حول أقدام الفِيلة إلى وحل، يموج بالدماء والنَّزِّ. لم يعد رَجْكومار يستطيع النظر إليها. تقيأ، وانحنى على خصره، وشدَّ لُنْجيه.
قال سايا جون: «إذا كان هذا ما فعله بك هذا المنظر، فكِّرْ فيما تعنيه للأوسي رؤية أفياله تفنى بهذه الطريقة. يرعى هؤلاء الرجال حيواناتهم كأنها من عشيرتهم. لكن حين تصل الجمرة الخبيثة إلى هذه المرحلة لا يمكن للأوسيين إلا النظر إلى هذه الجبال الهائلة من اللحم وهي تتحلل أمام أعينهم.»
ماتت الفيلة المصابة بعد الظهر بوقت قصير. وبعد قليل استعاد الهسن أوق ورجاله جسد رفيقهم. تطلع سايا جون ورَجْكومار عن بعد والجثة المشوَّهة تُحمل إلى المعسكر.
•••
تاق رَجْكومار لمغادرة المعسكر، وقد أوهنته أحداث الأيام الأخيرة. لكن سايا جون صمد أمام توسلاته. قال إن الهسن أوق صديق قديم، وعليه أن يبقى برفقته حتى يُدفَن الأوسي الميت وتنتهي المحنة.
في السياق المعتاد للأمور، يجب إقامة الجنازة بعد استعادة الجسد مباشرة. لكن نظرًا لغياب معاون الغابة ظهر أمر غير متوقع. كان من العرف أن يتم إخلاء طرف الميت من كل روابطه الأرضية بشكل رسمي بتوقيع مذكرة. لم يُلاحَظ هذا الطقس بهذه الصرامة في أي مكان أكثر مما يلاحظ بين الأوسيس، الذين تبقى حياتهم في مخاطرة يومية مع الموت. إلا أنه يجب توقيع مذكرة إخلاء طرف الرجل الميت، ولم يكن لغير المعاون، باعتباره مستخدِمه، أن يوقعها. بُعِثتْ رسالة للمعاون. كان من المتوقع أن يعود في اليوم التالي بالمذكرة الموقعة. لم يبق إلا الانتظار طوال الليل.
مع الغروب هُجِر المعسكر كله تقريبًا. بقي رَجْكومار وسايا جون وعدد قليل. رقد رَجْكومار مستيقظًا وقتًا طويلًا في بلكونة الهسن أوق. شعَّ النور في الطاي وسط المنطقة منزوعة الأشجار في المعسكر. أشعل لوجا لي المعاون كل مصابيحه وفي ظلمة الغابة كان للطاي الخالي جلال رهيب.
في وقت متأخر من الليل خرج سايا جون إلى البلكونة ليدخن شيروتًا.
قال رَجْكومار في نبرة شكوى: «لماذا ينتظر الهسن أوق كل هذا الوقت لإقامة الجنازة؟ ما الضرر الذي قد يلحق به، سايا، إذا دفن الرجل الميت اليوم وأبقى المذكرة إلى وقت لاحق؟»
سحب سايا جون نفَسًا عميقًا من شيروته، تألق طرف الشيروت محمَرًّا على نظارته. صمت فترة طويلة حتى شكَّ رَجْكومار أنه سمع السؤال. لكن وهو على وشك تكرار السؤال بدأ سايا جون يتكلم.
قال: «كنتُ في معسكر ذات يوم، حين حدثتْ حادثة مروعة ومات أوسي.» لم يكن المعسكر بعيدًا عن هذا المعسكر، مسيرة يومين على الأكثر، وكانت قطعانه في مسئولية مضيفنا — هذا الهسن أوق نفسه. جرت الحادثة في ذروة موسم العمل، قرب انتهاء الأمطار، وموسم العمل يقترب من نهايته. لم يكن متبقيًا إلا بضعة أكوام حين سقط زند ضخم بانحراف عبر ضفتَي الشونج، فأغلق المنحدر الذي يُستخدَم لدحرجة أكوام الساج إلى الجدول. انحشر الزند بين عقبَي شجرتين، بطريقة تشلُّ كل شيء: لا يمكن دحرجة زند آخر قبل تحريك هذا الزند.
حدث سد المنحدر حوالي التاسعة صباحًا — والعمل على وشك الانتهاء. كان الهسن أوق قريبًا، أرسل على الفور باكيكه لربط الزند بالسلاسل حتى يمكن جره. لكن الزند كان محشورًا بزاوية بشعة تجعل السلاسل لا تُربَط جيدًا. حاول الهسن أوق في البداية تحريكه بربطه بفيل واحد قوى، وحين لم تنجح المحاولة أتى بفيلتين من أقوى أفياله. ذهبت جهوده أدراج الرياح: لم يتزحزح الزند. في النهاية، أمر ماك كي ثاكين، وقد نفد صبره، الهسن أوق بإرسال فيل أسفل المنحدر ليخلص الزند العنيد.
كان المنحدر شديد الانحدار وبعد شهور من السحق بعدد هائل من الزنود، كان سطحه يتفتت ويتحول إلى مسحوق. كان الهسن أوق يعرف أن قيادة أوسي لفيل في منطقة بمثل هذا الموطئ المتقلب عمل بالغ الخطورة. لكن صبر ماك كي ثاكين نفد، وباعتباره الموظف المسئول، تغلب رأيه. أمر الهسن أوق، رغمًا عنه، أحد رجاله، أوسيًّا صغيرًا، ابن أخته. أخطار المهمة المطلوبة واضحة تمامًا، وكان الهسن أوق يعرف أنه لن يطاع إذا طلب من شخص آخر النزول إلى المنحدر. ابن أخته مسألة أخرى. قال الهسن أوق: «انزل، كن حذرًا، ولا تترددْ في العودة.»
تم الجزء الأوليُّ من العملية بشكل جيد، وبمجرد تخليص الزند فَقَدَ الأوسي الصغير موطئ قدمه واندفع مباشرة في مسار زند، وزنه طنان، يتدحرج. حدث المحتوم: سُحق. كان جسده خاليًا من الخدوش حين اكتُشِف، لكن كانت كل عظامه محطمة، مسحوقة.
يدَّعِي من يعرفون الأفيال جيدًا أنهم يستطيعون معرفة بعض مشاعرها — الغضب واللذة والغيرة والأسى. اغتمت شوي دوك بكل معنى الكلمة لفقد مدربها. ولم يكن الهسن أوق أقل حزنًا، انهار تمامًا نتيجة الشعور بالإثم وتأنيب الذات.
لكن الأسوأ لمَّا يأتِ بعد. في ذلك المساء، بعد إعداد الجسد للجنازة، أخذ الهسن أوق الخطاب التقليدي لإخلاء الطرف إلى ماك كي ثاكين وطلب منه التوقيع.
لم يكن ماك كي ثاكين قد استرد صوابه. عبَّ زجاجة من الويسكي، وعاودته الحمى. لم تؤثر فيه توسلات الهسن أوق. لم يفهم المطلوب منه.
عبثًا وضَّح الهسن أوق أنه لا يمكن تأجيل الدفن، ولن يبقى الجسد، ويجب إخلاء طرف الرجل قبل إتمام الطقوس. ناشد وتوسل، وفي يأسه حاول صعود السلم ليشقَّ طريقه داخل الطاي. لكن ماك كي ثاكين رآه قادمًا فخرج بخطوات واسعة وفي يده زجاجة وفي الأخرى بندقية صيد من عيار ثقيل. صرخ وهو يفرغ خرطوشة في السماء: «الرحمة، ألا يمكن أن تتركني وحدي هذه الليلة فقط؟»
انصرف الهسن أوق وقرر المضي قدمًا في إجراءات الجنازة. دُفِن جسد الرجل الميت حين حلَّ الظلام.
كنتُ أقضي الليل، كالمعتاد، في كوخ الهسن أوق. تناولنا وجبة خفيفة وبعد ذلك خرجتُ لأدخن شيروتًا. يكون المعسكر ممتلئًا وصاخبًا في ذلك الوقت من اليوم: من المطبخ يصدر خبط هائل للأطباق الصفيح والقدور المعدنية، وتخترق الظلام في كل مكان أطراف الشيروت المتوهجة حيث يجلس الأوسيون بجوار أكواخهم، يستمتعون بآخر شيروت في اليوم ويمضغون القطعة الأخيرة من البيتل. حينها لم أرَ أحدًا حولي، اندهشتُ؛ لم أسمع إلا الضفادع والبوم والخفقان الخفيف لفراشات الأدغال الكبيرة. غاب أيضًا رنين أجراس الأفيال، أكثر الأصوات ألفة وبعثًا على الطمأنينة في المعسكر. من الواضح أنه بمجرد ردم قبر الرجل الميت هرب الأوسيون الآخرون من المعسكر، مع أفيالهم.
لم يبقَ من الأفيال قرب المعسكر إلا شوي دوك، مطية الرجل الميت. تحمل الهسن أوق بعد الحادثة مسئولية فيلة ابن أخته، وكانت بدون راكب. قال إنها قلقة وعصبية، وكثيرًا ما تهز أذنيها وتضرب الهواء بطرف خرطومها. لم يكن هذا غير مألوف أو غير متوقع، لأن الفيلة، رغم كل شيء، صنيعة العادة والروتين. وفسَّر ذلك بأن غياب مدربها الذي اعتادت عليه فترة طويلة قد يغضب حتى ألطف الأفيال، وبصورة خطيرة غالبًا.
والحال على هذا النحو، قرر الهسن أوق ألا يدع شوي دوك ترعى خلال الليل. قادها إلى منطقة منزوعة الأشجار، على بعد حوالي نصف ميل من المعسكر، وقدَّم لها كومًا هائلًا نضرًا من غصون قمم الأشجار. ثم قيدها بشكل جيد بين شجرتين هائلتين راسختين. وليتأكد تمامًا من بقائها مقيدة لم يستخدم القيود الخفيفة المعتادة التي تقيد بها الأفيال في الليل؛ استخدم سلاسل جرٍّ من الحديد، تستخدم في ربط الزنود. قال كان هذا احتراسًا.
سألته: «احتراس من ماذا؟» كانت عيناه فاترتين بتأثير الأفيون. نظر إليَّ بطرف عينه وقال بصوت خفيض مراوغ: «مجرد احتراس.»
لم يكن المطر غزيرًا في النهار، لكن مع اقتراب المساء تجمعت السحب في السماء، فأطفأتُ مصباحي وطويتُ حصيرتي ولم أرَ نجمة في السماء. بسرعة هبَّتْ عاصفةٌ. تدفقت الأمطار، ودوى الرعد عبر أرجاء الوديان، وتردد صداه بين المنحدرات. كنتُ نائمًا ربما من ساعة أو اثنتين حين أيقظني جدول من مياه تسربتْ من سقف البامبو. نهضتُ لأنقل حصيرتي إلى ركن جاف من الكوخ، نظرتُ عبر المعسكر. فجأة انبثق الطاي من الظلام، أضاءته ومضة من البرق: انطفأت لمباته.
كنت قد نمتُ من جديد تقريبًا حين سمعتُ بين وقع المطر صوتًا منخفضًا واهيًا، رنينًا بعيدًا، بعيدًا لكنه يقترب بثبات، وهو يقترب أكثر تعرفتُ على الرنين الجلي لجرس فيل. بسرعة، في التوتر الواهي لحِزَم بامبو الكوخ، شعرتُ بثقل حيوان، يسير مسرعًا.
همستُ للهسن أوق: «هل تسمع هذا؟ ما هذا؟»
«الفيلة، شوي دوك.»
يعرف الأوسي الفيلَ من جرسه: بمتابعة الصوت يحدد مكان مطيته كل صباح بعد الرعي طوال الليل في الغابة. وليمارس هسن أوق وظيفته بشكل صحيح عليه أن يعرف صوت كل حيوان في القطيع؛ عليه، إذا تطلب الأمر، تحديد موقع كل حيواناته ببساطة بالتركيز على رنين أجراسها. كان مضيفي هسن أوق يتمتع بقدرة وخبرة عظيمتين. عرفتُ أنه لا يوجد أدنى احتمال في أن يخطئ في تحديد الجرس المقترِب.
غامرتُ: «ربما، أصاب شوي دوك هلع نتيجة العاصفة؛ ربما نجحت في الإفلات من قيودها.»
«قال الهسن أوق: لو أنها أفلتت لبقيت السلاسل مجرورة في أقدامها.» توقف ليسمع: «لكني لا أسمع سلاسل. لا. حررتها يد إنسان.»
سألتُ: «ولكن يد مَنْ؟»
أسكتني فجأة بإشارة من يده. اقترب الجرس كثيرًا، واهتزَّ الكوخ من وطأ الفيلة.
بدأتُ أسير باتجاه السلم فجذبني الهسن أوق. قال: «لا. ابقَ هنا.»
في اللحظة التالية شق البرقُ السماء. في الومضة الخاطفة لهذا الشعاع البسيط رأيتُ شوي دوك أمامي مباشرة، تتحرك باتجاه الطاي ورأسها إلى أسفل وخرطومها ملتف تحت شفتها.
قفزتُ واقفًا وبدأتُ أصيح محذِّرًا: «ثاكين؛ ماك كي ثاكين …»
كان ماك كي ثاكين قد سمع الأجراس، وشعر برجفة وزن الفيلة المقتربة. اشتعل لهب في إحدى نوافذ الطاي وظهر شاب في الفراندة، عاريًا، وفي إحدى يديه فانوس وفي الأخرى بندقية صيد.
على بعد عشرة أقدام من الطاي توقفت شوي دوك تمامًا. خفضتْ رأسها كأنها تفحص البناية. كانت فيلة عجوزًا، تدرَّبتْ مع قطيع الأُنجنج، وهي حيوانات ماهرة في فنون التدمير. لا يستغرق الأمر منها أكثر من نظرة لتقدر حجم سدٍّ من خشب عالق وتحدِّد نقطة الهجوم.
أطلق ماك كي ثاكين النار حين بدأت شوي دوك مهمتها. كانت قد اقتربت بحيث لا يمكن أن يخطئها: أصابها حيث قصد، في نقطة ضعفها، بين الأذن والعين.
لكن زخم مهمة شوي دوك جعلها تستمر حتى وهي تحتضر واقفة. ضربت هي أيضًا الطاي حيث قصدتْ، في نقطة الارتباط بين الحزمتين المتعارضتين اللتين تمسكان به. بدا أن البناية تنفجر، والزنود والحزم والسقف تطير في الهواء. قُذِف ماك كي ثاكين إلى الأرض على رأس شوي دوك.
هذه حركة أقدام فيلة أنجنج ماهرة تحفظ اتزانها على حافة شلال، تجلس مثل ونش على جلمود صغير وسط جدول، تلفُّ في مكان يتعثر فيه بغل. بهذه الخطوات الصغيرة العملية التفَّتْ شوي دوك لتواجه جسد المعاون المسجى. وببطء شديد، تركتْ وزنها المحتضر ينهار على رأسه أولًا، التفَّ وزنها في حركة دائرية، في إنجاز تقني دقيق لعملية سقوط فيلة أنجنج — توظيف الاندفاع بدقة ليجعل كتلة وزنها عشرة آلاف طن من الساج تنحل مثل عقدة بحار. انطفأ فانوس ماك كي ثاكين، الملقى بجواره، ولم نرَ شيئًا.
ألقيتُ بنفسي من على سلم الكوخ والهسن أوق خلفي. وأنا أجري باتجاه الطاي، تعثرْتُ في الظلام ووقعْتُ على وجهي في الوحل. كان الهسن أوق يساعدني حين شقَّتْ صاعقةٌ من البرق السماءَ. فجأة ترك يدي وأطلق صرخة جشاء متلعثمة.
صرختُ: «ما هذا؟ ماذا رأيت؟»
«انظر! انظر إلى الأرض.»
أومض البرق ثانية، ورأيتُ، أمامي مباشرة العلامة الهائلة الممزقة لأقدام شوي دوك. وبجوارها أثر أصغر، بلا شكل تمامًا، مستطيل تقريبًا.
قلتُ: «ما هذا؟ ما الذي فعل هذه العلامة؟»
قال: «بصمة قدم إنسان، إلا أنها سُحقتْ وشُوِّهت بطريقة لا يمكن معرفتها غالبًا.»
تجمدتُ وبقيتُ حيث كنتُ، داعيًا من أجل صاعقة أخرى من البرق لأتأكد بنفسي من حقيقة ما قال. انتظرتُ وانتظرتُ، لكن بدا أن دهرًا سينقضي قبل أن تسطع السماوات مرة أخرى. وأثناء ذلك أمطرت وتلاشت العلامات من على الأرض.
٩
في عام ١٩٠٥م، بعد عشرين سنة من نفي الملك، وصل جابي مقاطعة جديد إلى رتناجيري. والجابي هو الرئيس الإداري للمقاطعة، والمسئول في النهاية عن التعامل مع العائلة الملكية البورمية. كانت وظيفة مهمة، وكان الذين يُعيَّنون في هذا المنصب أعضاء في الخدمة المدنية الهندية غالبًا — كادر مهيب للمسئولين الذين أداروا ممتلكات بريطانيا في الهند. وكان على طالبي الالتحاق بالخدمة المدنية الهندية اجتياز امتحان صعب يعقد في إنجلترا. كانت غالبية المؤهلين بريطانيين، لكن كان من بينهم بعض الهنود.
كان الملك ثيبو ينظر من بلكونته حين اجتمع الموظفون عند مرفأ رتناجيري لاستقبال الجابي الجديد وزوجته الشابة. وكان أول ما لاحظ أن مدام الجابي الجديد ترتدي ملابس غير مألوفة. أعطى منظاره للملكة في حيرة: «ماذا ترتدي؟»
نظرت الملكة طويلًا. قالت في النهاية: «مجرد ساري. ساري من طراز جديد.» شرحت أن المسئولة الجديدة اتبعت طريقة جديدة في ارتداء الساري، بإضافات مستعارة من التقاليد الأوروبية — جيبة وبلوزة. سمعتْ أن النساء في كل أنحاء الهند يستخدمون الطراز الجديد. لكن كل شيء يأتي بالطبع متأخِّرًا إلى رتناجيري — هي نفسها لم تعرف هذه الموضة الجديدة للوهلة الأولى.
رأت الملكة جباة كثرًا يأتون ويذهبون، هنودًا وإنجليزًا؛ اعتبرتهم أعداءها وسجَّانيها، مغرورين لا يستحقون أدنى احترام. لكنها في هذه المرة كانت فضولية: «آمل أن يحضر زوجته حين يأتي للزيارة. من اللطيف أن أعرف كيف يُرتدَى هذا الساري.»
برغم هذه البداية المبشرة كاد أول لقاء للعائلة الملكية مع الجابي الجديد ينتهي بكارثة. وصل الجابي دي وزوجته حين زاد اهتمام الناس بالسياسة. نُشِرتْ يوميًّا تقارير عن اجتماعات ومسيرات وعرائض: طُلب من الناس مقاطعة البضائع البريطانية؛ وصنعت النساء مشاعل من ملابس لنكشاير. في الشرق الأقصى حرب دائرة بين روسيا واليابان، وبدا لأول مرة أن دولة آسيوية قد تتغلب على قوة أوروبية. امتلأت الصحف الهندية بأخبار هذه الحرب ومعناها بالنسبة للدول الاستعمارية.
انحنى الجابي بثبات حتى الخصر، وقال: «اطلعتُ بالفعل على التقارير، جلالتكم. لكن يجب أن أعترف أني لا أرى أنه حدث كبير الأهمية.»
قال الملك: «أوه؟ حقًّا، إنني مندهش جدًّا لسماع ذلك.» عبس بطريقة تبين بوضوح أنه لن يدع الموضوع يُغلق.
في الليلة السابقة اطلع الجابي وأوما بإسهاب على تعليمات زيارتهما المقبلة إلى منزل أطرام. قيل لهما إن الملك لم يحضر أبدًا في هذه الحالات: تستقبلهما الملكة، في غرفة الاستقبال في الدور الأرضي. لكنهما دخلا فوجدا الملك: يرتدي لُنْجيًا مجعدًا ويذرع الغرفة، خابطًا وركه بجريدة مطوية. وجهه شاحب ومنتفخ، وشعره الرمادي الناعم منكوش على قفاه بدون تسريح.
وكانت الملكة، من ناحية أخرى، في مكانها، تجلس منتصبة بصرامة على مقعد طويل وظهرها إلى الباب. وكان هذا، كما تعرف أوما، جزءًا من نظام محدد للمعركة: ومن المتوقع أن يدخل الضيفان ويجلسان على مقعدين منخفضين حول جلالتها، بدون نطق كلمة ترحيب على الجانبين. كانت طريقة الملكة في الحفاظ على روح بروتوكول مَنْدالي: يصرُّ ممثلو بريطانيا على رفض أداء الشيكو لها، وتسجل بدورها نقطة بعدم الاعتراف بدخولهم إلى حضرتها.
عبر الغرفة، كان الملك يخبط جريدته بقوة على كفه. قال: «حسنًا، جابي صاحب، ألم تفكر أبدًا في أنك قد تعيش لتشهد يومًا تهزم فيه بلد شرقية قوة أوروبية؟»
حبست أوما أنفاسها. على مدى الأسابيع الأخيرة خاض الجابي مناقشات كثيرة حامية عما يعنيه تحقيق نصر ياباني على روسيا. انتهى بعضها بنوبات غضب. بدتْ قلقة وزوجها يسلك حنجرته.
قال الجابي بهدوء: «أدرك، جلالتكم، أن النصر الياباني أدى إلى ابتهاج واسع بين الأهالي في الهند وبدون شكٍّ في بورما أيضًا. لكن هزيمة القيصر لم تثر دهشة أحد، ولم تؤدِّ إلى مواجهة مع أعداء الإمبراطورية البريطانية. الإمبراطورية اليوم أقوى مما كانت في أي يوم. ليس عليك إلا أن تنظر إلى خريطة العالم لترى هذه الحقيقة.»
«لكن الآن، جابي صاحب، يتغير كل شيء. لا شيء يبقى على حاله إلى الأبد.»
صار صوت الجابي أكثر حدة: «ربما أذكِّر جلالتكم أن الإسكندر الأكبر لم يقضِ في سهوب آسيا الوسطى إلا بضعة أشهر، لكن الولايات التي أسسها استمرَّتْ قرونًا بعد ذلك؟ إمبراطورية بريطانيا، على العكس، لها أكثر من قرن، وتأكدْ، جلالتكم، من أن تأثيرها سيستمر لقرون قادمة. تبرهن قوة الإمبراطورية على وجودها أمام كل التحديات وسوف تبقى في المستقبل المنظور. ربما تكون لي الحرية، جلالتكم، في توضيح أنك ما كنت لتكون هنا اليوم لو عرفت هذا الأمر قبل عشرين عامًا.»
كانت أوما تجلس بين دُلِّي والأميرة الثانية. استمعت إلى حوار زوجها مع الملك في صمتٍ رهيب، وهي تجلس متجمدة في مكانها. كانت على الجدار الذي أمامها لوحة مائية صغيرة. لوحة تصوِّر منظرًا طبيعيًّا عند الشروق، سهلًا أحمر مقفرًا مرصعًا بآلاف المعابد المكللة بالسحب. فجأة، صرخت أوما صرخة مدوية وهي تصفق بيديها: «باجان!»
كان للكلمة تأثير انفجار في مكان ضيق. قفز الجميع، والتفتوا إلى أوما. رفعتْ يدها لتشير: «على الحائط — صورة باجان، أليس كذلك؟»
كانت الأميرة الثانية تجلس بجوار أوما. قبضتْ بشغف على هذا التحول: «نعم — إنها كذلك. يمكن أن تخبرك دُلِّي — لقد رسمتْها.»
التفتتْ أوما إلى المرأة النحيفة المنتصبة على يسارها. تذكرت أن اسمها دُلِّي سين: قُدِّمت عند الدخول. لاحظت أوما فيها شيئًا غريبًا، لكنها كانت شديدة التركيز في البروتوكول على نحو لم يسمح لها بمزيد من التفكير في الموضوع.
قالتْ: «هل رسمْتِ حقًّا هذه اللوحة؟ مدهشة.»
قالت دُلِّي بهدوء: «شكرًا لك، نسختُها عن كتاب به لوحات.» تلاقت نظراتهما وتبادلتا ابتسامة سريعة. فجأة عرفت أوما ما أثار انتباهها: ربما كانت مس سين ألطف امرأة وقعتْ عليها عيناها.
نقرت الملكة ذراع مقعدها: «مدام الجابي، كيف عرفْتِ أنها صورة باجان؟ هل زرْتِ بورما؟»
قالت أوما بندم: «لا. أتمنى زيارتها، لكني لم أزرْها. لي عم في رنجون وقد أرسل لي صورة ذات يوم.»
«أوه؟» أومأت الملكة؛ تأثرت بطريقة تدخل الشابة لإنقاذ الموقف. كانت السيطرة على النفس صفة أثارت إعجابها دائمًا. كان في المرأة، أوما دي، شيء جذاب؛ تتناقض حيوية أسلوبها بلطف مع عجرفة زوجها. لولا حضور ذهنها لأمرت بطرد الجابي خارج المنزل ولم يكن ذلك لينتهي إلا بشكل سيئ. لا، أحسنتْ مسز دي التصرف بالكلام حين تكلمت.
قالت الملكة: «نودُّ أن نسألك، مدام جابي، ما اسمك الحقيقي؟ لم نتعود أبدًا على طريقتكم في تسمية النساء بأسماء آبائهن وأزواجهن. لا نفعل هذا في بورما. ربما لن تعترضي على أن تذكري لنا اسمك الأصلي.»
«أوما ديبي — والجميع يدعونني أوما.»
قالت أوما: «تعلمت الهندوستانية وأنا طفلة، جلالتكم. عشنا في دلهي فترة.»
مضت أوما إلى الملكة وحنتْ رأسها.
همست الملكة: «أوما، نودَّ لو نفحص ملابسك.»
«جلالتكم!»
«كما ترين، ترتدي بناتي الساري على الطراز المحلي. لكني أفضل هذه الموضة الجديدة؛ أكثر أناقة — يبدو الساري أشبه بهتامين. هل نثقل عليك إذا طلبنا منك الكشف عن أسرار هذا الطراز الجديد؟»
انطلقت أوما في الضحك: «يسعدني، وقتما تشائين.»
انصرف الجابي، ورغم النُّذُر الأولى لكارثة، انتهت الزيارة ودية جدًّا، مع بقاء أوما في منزل أطرام ما تبقى من بعد الظهيرة، تدردش مع دُلِّي والأميرات.
•••
اندهشت أوما من المشهد: النهر المتعرج والمصب ومنحني الخليج ومنحدرات في مهب الريح — ترى الوادي من هنا أفضل مما تراه من المقر على قمة الهضبة. عادت في اليوم التالي والذي يليه. يأتي رعاة الأغنام عند الشروق ويُهجَر المكان بقية اليوم. اعتادت التسلل من المنزل كل صباح، تاركة باب غرفة النوم مغلقًا ليعتقد الخدم أنها لا تزال بالداخل. تجلس في الظل العميق للبيبول ساعة أو اثنتين ومعها كتاب.
«كيف عرفت أنني هنا؟»
«حوذينا قريب حوذيكم.»
«نعم.»
«يا للعجب كيف عرف بشجرتي السرية.»
«قال إنه سمع عنها من الرعاة الذين يأتون بأغنامهم إلى هنا في الصباح. إنهم من قريته.»
«حقًّا؟» صمتتْ أوما. كان غريبًا أن تعتقد أن رعاة الأغنام يدركون وجودها كما تدرك وجودهم: «حسنًا، المنظر عجيب، ألا تعتقدين ذلك؟»
ألقتْ دُلِّي نظرة روتينية على الوادي: «كبرتُ معتادة عليه تمامًا ولم أعد أفكر فيه.»
«أعتقد أنه مدهش. آتي إلى هنا كلَّ يوم تقريبًا.»
«كل يوم.»
«لوقت قصير فقط.»
«أفهم لماذا تأتين؟» توقفتْ لتنظر إلى أوما. «لا بدَّ أنك تشعرين بأنك وحيدة هنا في رتناجيري.»
«وحيدة؟» اندهشتْ أوما. لم يخطر ببالها استخدام الكلمة لتصف نفسها. لم تكن المسألة أنها لا تقابل أحدًا أبدًا أو أنها تحتاج إلى ما تفعله دائمًا — كان الجابي متأكدًا من ذلك. كان مكتبه يرسل لها كل اثنين مذكرة تعدد نشاطاتها في أسبوع — مهمة محلية، يوم رياضي في مدرسة، تسليم جوائز في الكلية المهنية. كان لديها عادة موعدٌ واحد يوميًّا، لم تكن المواعيد كثيرة حتى لا تُرهَق، أو ضئيلة فتشعر أن أيامها طويلة بشكل بشع. كانت تتفحص القائمة حين تصلها بدايةَ الأسبوع، وتضعها على التسريحة، وعليها شيء ثقيل حتى لا تطير. كانت فكرة ضياع موعد تزعجها، مع أن فرصة حدوث ذلك نادرة. كان مكتب الجابي بارعًا في التذكير بالمواعيد: يأتي ساعٍ إلى المقر قبل كل موعد بساعة تقريبًا ليخبر كنهوجي بإحضار الجاري. كانت تسمع الجياد واقفة تحت الرواق؛ تصهل وتركل الحصى، وكنهوجي يطرقع لسانه، تك — تك — تك.
قالت أوما: «وماذا عنك، دُلِّي؟ هل أنت وحيدة هنا؟»
«أنا؟ عشتُ هنا عشرين عامًا تقريبًا، وهذا المكان الآن بيتي.»
«حقًّا؟» تأثرت أوما لوجود شيء يكاد لا يُصدَّق في فكرة أن امرأة بكل هذا الجمال والاتزان قضتْ معظم حياتها في بلدة صغيرة في مقاطعة ريفية.
«هل تتذكرين شيئًا عن بورما؟»
«أتذكر قصر مَنْدالي. وخاصة الحوائط.»
«لماذا الحوائط؟»
«كانت المرايا تغطي الكثير منها. وكانت هناك قاعة ضخمة اسمها القصر الزجاجي. كان كل شيء من الكريستال والذهب. كنت ترين نفسك في كل مكان إذا استلقيت على الأرضية.»
«ورنجون؟ هل تتذكرين رنجون؟»
«رست السفينة هناك ليلتين، لكن لم يُسمَحْ لنا بالنزول إلى المدينة.»
«لي عم في رنجون. يعمل في بنك. إذا زرْتُه فسوف أحدثك عنها.»
التفتتْ دُلِّي بعينيها إلى وجه أوما. «هل تعتقدين أني أريد أن أعرف شيئًا عن بورما؟»
«ألا تريدين؟»
«لا أريد. لا أريد إطلاقًا.»
«لكنك بعدْتِ عنها فترة طويلة.»
ضحكت دُلِّي: «أظن أنك تشعرين بأسف من أجلي. أليس كذلك؟»
تلعثمتْ أوما: «لا، لا.»
«ليس هناك ما يجعلك تأسفين من أجلي. اعتدتُ العيش في أماكن عالية الجدران. لم تكن مَنْدالي تختلف كثيرًا. لا أتوقع أكثر من ذلك.»
«هل تفكرين في العودة؟»
جاء صوت دُلِّي قاطعًا: «إطلاقًا. إذا ذهبتُ إلى بورما الآن فسأكون غريبة — ويدعونني كالا كما يدعون الهنود — آثمة، دخيلة من عبر البحار. أظن أن ذلك صعب جدًّا. لن أستطيع أبدًا تخليص نفسي بفكرة الرحيل مرة أخرى في يوم من الأيام، كما كنتُ من قبل. تفهمينني إذا عرفْتِ معنى الرحيل؟»
«هل كان رهيبًا جدًّا؟»
«لم أعدْ أتذكر الكثير، وأفترض أن ذلك نوع من الرحمة. أرى منه نتفًا أحيانًا. يشبه خربشة على جدار — مهما رسمْتِ عليها، يظهر جزء دائمًا، لكنه لا يكفي لتذكر الكل.»
«ماذا ترين؟»
«غبارًا، أضواء كشافات، جنودًا، جماهير تختفي وجوههم في الظلام …» ارتجفتْ دُلِّي. «أحاول ألا أفكر في ذلك كثيرًا.»
في وقت قصير جدًّا صارت دُلِّي وأوما صديقتين حميمتين. تأتي دُلِّي إلى المقر مرة أسبوعيًّا على الأقل، وأحيانًا مرتين وربما أكثر، ويقضيان اليوم سويًّا. تتحدثان عادة وتقرآن، لكن من وقت لآخر تطرح دُلِّي فكرة الخروج. يأخذهما كنهوجي إلى البحر أو الريف. وكانت دُلِّي تقيم برفقة أوما حين يكون الجابي بعيدًا يتفقد المقاطعة. في المقر عدة غرف للضيوف، خصصت أوما إحداها لدُلِّي. كانتا تستمران في الحديث إلى وقت متأخر من الليل. وكثيرًا ما استيقظتا مكومتين على سرير إحداهما، وقد غلبهما النوم وسط الحديث.
ذات ليلة أشارت أوما، مستجمعة شجاعتها: «أسمع أشياء بشعة عن الملكة سوبايالات.»
«ماذا؟»
«قتلتْ أناسًا كثيرين … في مَنْدالي.»
لم ترد دُلِّي، لكن أوما ألحَّتْ، قالت: «ألا يرعبك أن تعيشي في منزل واحد مع واحدة بهذا الشكل؟»
هدأتْ دُلِّي لحظة، وخشيتْ أوما أن تكون قد جرحت مشاعرها. ثم تحدثت دُلِّي، قالت بصوت رقيق: «تعرفين، أوما. كلما أتيتُ إلى منزلك، ألاحظ تلك الصورة التي تعلقينها على الباب الخارجي …»
«تقصدين صورة الملكة فيكتوريا؟»
«نعم.»
ارتبكتْ أوما: «ماذا عنها؟»
«ألم يدهشك أحيانًا عدد مَنْ قُتِلوا باسم الملكة فيكتوريا؟ لا بد أنهم ملايين، أليس كذلك؟ أظن أني سأكون في حالة هلع حين أعيش مع إحدى تلك الصور.»
بعد بضعة أيام خلعتْ أوما الصورة وأرسلتها إلى الكتشيري، لتعلق على مكتب الجابي.
•••
كانت أوما في السادسة والعشرين، متزوجة منذ خمس سنوات. كانت دُلِّي أكبر ببضع سنوات. قلقت أوما: ماذا عن مستقبل دُلِّي؟ ألن تتزوج أبدًا أو يكون لها أبناء؟ وماذا عن الأميرات؟ الأميرة الأولى في الثالثة والعشرين، والصغرى في الثامنة عشرة. هل على هؤلاء الفتيات ألا يتطلعن إلا إلى حياة السجن؟
قالت أوما للجابي: «لماذا لا يفعل أحد شيئًا، لترتيب زواج الفتيات؟»
ردَّ الجابي: «ليس شيئًا لم يحاوله أحد. الملكة لا تسمح به.»
وجد الجابي، في مكتبه في الكتشيري، ملفًّا سميكًا لتدوين مراسلات أسلافه للتعامل مع مسألة مستقبل الأميرات. كانت الفتيات في بداية أنوثتهن. إذا حدثت فضيحة أو حادثة في منزل أطرام، سيعتبر الجابي القائم بالعمل مسئولًا: أمانة سر بومباي لم تدع مجالًا للشك في هذا السجل. حاول عدد من الجباة السابقين، لتحصين أنفسهم، البحث عن عرسان مناسبين للأميرات. وكتب أحدهم لزملائه في رنجون يطلب البحث عن عزاب بورميين جديرين بالزواج من الأميرات — فعرف أنه لا يوجد إلا ستة عشر فقط من هؤلاء الرجال.
كان من تقاليد الأسر الحاكمة في بورما أن يتم الزواج من المقربين جدًّا في العائلة. لم يكن الرجل جديرًا بالزواج من العائلة الملكية إلا إذا كان من دماء كُنْبُنج خالصة. كانت الملكة مسئولة عن ضآلة عدد هؤلاء الأمراء ذوي الدماء النقية: أهلكتْ معظم أسرتها بذبح كل المنافسين المحتملين لثيبو. وبالنسبة للرجال القليلين الجديرين لم يلق أي منهم استحسانًا عند الملكة. أعلنت أن لا أحد منهم كفؤ لأميرات كُنْبُنْج الأصيلات. ولم تكن لتسمح لبناتها بتدنيس دمائهن بالزواج ممن هم دونهن.
قالت أوما للجابي: «لكن ماذا عن دُلِّي. دُلِّي لا تنشغل بالعثور على أمير.»
قال الجابي: «هذا صحيح، لكن قد تكون الظروف بالنسبة لها أكثر غرابة. قضتْ حياتها كلها بصحبة الأميرات الأربع. لكنها أيضًا تابعة، خادمة، من أصول عائلية مجهولة. كيف تنشغلين بالعثور على زوج لها؟ من أين تبدئين: هنا أمْ في بورما؟»
أحيانًا، حين يكثر القرويون حولهما، يوبخهم كنهوجي من مقعده، ويطلب منهم إخلاء الطريق لجارى الجابي، مهدِّدًا باستدعاء البوليس. تنظر النساء والأطفال إلى أوما؛ تتسع عيونهم وينسحبون حين يتعرفون على زوجة الجابي.
قالت دُلِّي ذات مرة وهي تضحك: «ترين، شعب بلدك يألف السجناء أكثر مما يألف السجانين.»
«لستُ سجانتك.»
«مَنْ أنت، إذن؟» قالتْ دُلِّي مبتسمة، بنبرة تحدٍّ واضحة في صوتها.
«صديقة. بالتأكيد؟»
«أيضًا، لكن بالصدفة.»
سعدتْ أوما، رغمًا عنها، بنبرة التوبيخ في صوت دُلِّي. كانت عقارًا مقويًّا ضد الحسد والخنوع الذي قابلتْه في كل مكان، باعتبارها زوجة الجابي والممصاحب المرموقة للمقاطعة.
ذات يوم، في العربة، تبادلت دُلِّي كلمات حادة مع كنهوجي عبر نافذة الاتصال. استغرقا بسرعة في الجدال وبدا وكأن دُلِّي نسيتْ وجود أوما تقريبًا. حاولت على فترات استعادة أسلوبها الطبيعي، بالإشارة إلى العلامات وتقديم حكايات عن القرى. لكن غضبها كان، في كل مرة، يتغلب عليها ويسيطر عليها مرة أخرى في لحظات، قاذفة الحوذي بكلمات أخرى.
ارتبكتْ أوما: كانا يتحدثان الكونكانية ولم تفهم شيئًا مما يقولان. عم يتجادلان بأصوات تبدو عنيفة حقًّا، أصوات لها نبرات الشجار العائلي؟
«دُلِّي، دُلِّي.» هزتْ أوما ركبتها: «ما المسألة؟»
قالتْ دُلِّي، ضاغطة شفتيها معًا بتكلف: «لا شيء، لا شيء إطلاقًا. كل شيء على ما يرام.»
كانتا في الطريق إلى معبد بهجفتي، على منحدرات في مهب الريح فوق الخليج، تحميه جدران حصن رتناجيري، حصن من القرون الوسطى. بمجرد توقف الجاري أمسكت أوما بذراع دُلِّي وقادتها إلى المتاريس المنهارة. صعدتا إلى فتحات إطلاق النيران ونظرتا منها: تحتهما يمتد الجدار بعيدًا في خطٍّ مستقيم، هابطًا إلى البحر مائة قدم.
«دُلِّي أريد أن أعرف المسألة.»
هزَّتْ دُلِّي رأسَها بذهول. «أتمنى أن أخبرك، لكن لا أستطيع.»
«دُلِّي، لا يمكن أن تصرخي في حوذيَّ وترفضين إخباري بما كنتما تتحدثان عنه.»
تردَّدتْ دُلِّي وألحَّتْ عليها أوما مرة أخرى: «يجب أن تخبريني، دُلِّي.»
عضَّتْ دُلِّي شفتها، ونظرتْ متعمدة في عيني أوما، وقالت: «إذا أخبرتُك، تعدينني بألا تخبري الجابي؟»
«نعم، بالطبع.»
«تعدينني؟»
«بصدق. أعدك.»
«عن الأميرة الأولى.»
«نعم؟ استمري.»
«إنها حامل.»
صُعِقتْ أوما، طارتْ يدها إلى فمها غير مصدقة: «والأب؟»
«موهان سوانت.»
«حوذيكم؟»
«نعم. وهذا سر غضب كنهوجي. إنه عم موهانبهي. وتريد أسرته أن توافق الملكة على الزواج حتى لا يولد الطفل لقيطًا.»
«لكن، دُلِّي، كيف تسمح الملكة لابنتها بالزواج من حوذي؟»
قالتْ دُلِّي بحدة: «لا نعتبره حوذيًّا. إنه، بالنسبة لنا، موهانبهي.»
«لكن ماذا عن أسرته، عن أصله؟»
خبطتْ دُلِّي رسغها في إشارة اشمئزاز. قالتْ: «أوه، أنتم أيها الهنود. كلكم متشابهون، كلكم مشغولون بطوائفكم وبزيجاتكم المنظمة. في بورما حين تحبُّ امرأةٌ رجلًا، فهي حرة في أن تفعل ما تشاء.»
اعترضتْ أوما: «لكن، دُلِّي، سمعتُ أن الملكة صارمة بشدة في هذه الأمور. تعتقد أنه لا يوجد رجل في بورما جدير بالزواج من بناتها.»
ضحكت دُلِّي: «سمعْتِ إذن عن قائمة الأزواج المرشحين؟ لكن، تعرفين، كانوا مجرد أسماء. لم تعرف الأميرات شيئًا عنهم. الزواج من أحدهم مسألة معقدة، مسألة دولة. لكن ما حدث بين موهانبهي والأميرة ليس شيئًا معقَّدًا إطلاقًا. بالغ البساطة: مجرد رجل وامرأة قضيا سنواتٍ معًا، ويعيشان خلف الجدران نفسها.»
«لكن الملكة؟ أليست غاضبة؟ الملك؟»
«لا. ترين، كلنا مرتبطون جدًّا بموهانبهي — مين وميبيا أكثرنا. أعتقد أننا جميعًا بطرقٍ مختلفة نحبه بعض الشيء. كان معنا في كل شيء، وقف بجانبنا دائمًا. إنه، بطريقة ما، الشخص الذي أبقى علينا أحياء، أبقى علينا عقلاء. الشخص الوحيد المنزعج من هذا هو موهانبهي. يعتقد أن زوجك سيسجنه حين يعرف.»
«ماذا عن الأميرة؟ ماذا ترى؟»
«يبدو الأمر كأنها وُلِدتْ من جديد — نجتْ من منزل الموت.»
«وماذا عنك، دُلِّي؟ لم نتحدث أبدًا عنك أو عن مستقبلك. ماذا عن توقعاتك للزواج، أن يكون لك أبناؤك؟ هل تفكرين في هذه الأشياء؟»
مالت دُلِّي على الجدار، مركزة عينيها على البحر العارم: «لأقول لك الحقيقة، أوما، فكرْتُ في الأطفال طوال الوقت. لكن بمجرد علْمِنا بطفل الأميرة — طفل موهانبهي — حدث شيء غريب. تلاشتْ تلك الأفكار من عقلي. الآن حين أستيقظ أشعر أن الطفل طفلي، يكبر بداخلي. هذا الصباح، سمعتُ الفتيات يسألن الأميرة الأولى: «هل كبر الطفل؟» «هل شعرتِ به يتحرك في الليلة الماضية؟» «أين كان كعباه هذا الصباح؟» «هل يمكن أن نلمس رأسه بأيدينا؟» وحدي لم أكن في حاجة للسؤال عن شيء: شعرتُ أني أستطيع الإجابة على كل هذه الأسئلة بنفسي؛ كأنه طفلي.»
قالت أوما برقة: «لكنه ليس طفلك، دُلِّي. مهما بدا أنه طفلك، فهو ليس طفلك ولن يكون أبدًا طفلك.»
«لا بدَّ أن الأمر يبدو غريبًا عليك، أوما. أستطيع أن أفهم أن يكون كذلك بالنسبة لك. لكنه مختلف بالنسبة لنا. في منزل أطرام نعيش حياة صغيرة جدًّا. كل يوم على مدى السنوات العشرين الأخيرة استيقظنا على الأصوات نفسها والكلمات نفسها والمناظر نفسها والوجوه نفسها. علينا أن نقنع بما لدينا، أن نتطلع إلى السعادة التي يمكن أن نجدها. بالنسبة لي لا يهمُّ مَنْ تحمل الطفل. أشعر بصدق أني مسئولة عن حمله. يكفي أن يأتي إلى حياتنا. سأجعله طفلي.»
رأتْ أوما، وهي تنظر إلى دُلِّي، عينيها مترعتين بالدموع. قالت: «دُلِّي، ألا ترين أنه لن يبقى شيء على حاله بعد ولادة الطفل؟ ستنتهي الحياة التي عرفتموها في منزل أطرام. دُلِّي، ارحلي متى استطعْتِ. أنت حرة في أن تذهبي: أنت هنا وحدك بإرادتك.»
ابتسمت لها دُلِّي: «أين أذهب؟ لا أعرف إلا هذا المكان. هذا وطني.»
١٠
كان تأثير جداول الرياح الموسمية، المحملة بالأخشاب وهي تتدفق في إرَّاودِّي، يشبه تصادم القطارات. الاختلاف في أن هذا التصادم يحدث باستمرار، يستمر بلا توقف نهارًا وليلًا، لأسابيع بانتظام، حين يكون النهر سيلًا جارفًا تتلاطم فيه التيارات والدوامات. حين تندفع الجداول المغذية إلى النهر مباشرة، يُلقى زند وزنه طنان كقطعة عملة في الهواء؛ تُقذَف جذوع أشجار يبلغ طولها خمسين قدمًا عبر المياه مثل حصاة مفلطحة. وكان الصخب صخب بارجة مدفعية، وكان صوت الانفجارات يسمع على بعد أميال في المناطق القريبة.
كان يحرس نقط التقاء الجداول مستردون متخصصون في القبض على الزنود المحمولة في النهر واستردادها: عمومًا، كان هؤلاء السباحون يشكلون، مقابل ثلاثة قروش لكل زند، شبكة إنسانية عبر النهر، يخلصون الزنود من التيارات ويسحبونها إلى الشاطئ. في بداية الموسم تنقل قرى كاملة مواقعها لشغل محطات على طول النهر. ويظل الأطفال يتفرجون على طول الضفتين وكبارهم يصارعون التيارات، ينطلقون بين جذوع الساج الضخم، ويخوضون المياه حول الدوامات المزبدة. يعود بعض هؤلاء المستردين إلى الشاطئ منبطحين على الزنود التي قبضوا عليها ويعود آخرون وهم يمتطونها، وسيقانهم متدلية. ويعتلي بعضهم الزنود الدوارة المغطاة بالطحالب وهم واقفون، يوجهونها بأصابع أقدامهم: هؤلاء ملوك النهر، سادة الاسترداد المشهود لهم.
كانت الزنود تُثبَّت وتُربط بمجرد جلبها إلى الضفاف. وحين يتجمع عدد كافٍ منها، يربطها رمَّاثون مهرة معًا في مركب جدير بالسير النهر. وكانت هذه الرموث كلها بالحجم نفسه، وعدد الزنود التي تحملها محدد، بقانون الشركات، بثلاثمائة وستين لكل منها، أي ثلاثين دستة. وإذا كان كل زند طنًّا أو أكثر فإن كل رمث يحمل حمولة سفينة حربية صغيرة وتكون مساحة ظهره أكبر بعدة مرات، مساحة واسعة تستوعب أرض معرض. في منتصف كل منصة من هذه المنصات الهائلة الطافية، كوخ صغير، يبنيه الرمَّاثون كمنزل للطاقم. مثل البنايات المؤقتة في معسكرات الساج، كانت هذه الكهوف المحمولة على الرموث تقام في ساعات. كانت كلها متشابهة تمامًا في التصميم ومختلفة دائمًا في التنفيذ — يُميَّز كوخ بالغصون الممتدة لكرمة سريعة النمو، وآخر بعشة فراخ أو حتى تعريشة لخنزير أو عنزة. كان كل رمث يحمل سارية طويلة وعمودًا مع حفنة أعشاب ملصقة في القمة، عرض لناتات النهر. وقبل إقلاع الرموث تُرقَّم، وتوضع الأرقام على صواريها مع أعلام الشركات التي تمتلكها. كانت الرموث تسير فقط بين الفجر والغسق، قاطعة ما بين عشرة أميال إلى خمسة عشر ميلًا يوميًّا، يدفعها ببطء تدفق النهر وتُوجِّهها المجاديف فقط. وكانت الرحلة إلى رنجون من الغابات الواقعة داخل البلاد تستغرق خمسة أسابيع وربما أكثر.
على مر الأجيال ارتبطت عائلات توين زاس بعيون وبرك معينة، يجمِّعون الزيت في جرادل وأحواض وينقلونها إلى البلدات المجاورة. تم العمل في الكثير من برك ينانجيونج فترات طويلة حتى نزل مستوى الزيت تحت السطح، مما أرغم ملاكها على الحفر. وبهذه الطريقة، صارت بعض البرك آبارًا، على عمق مائة قدم أو أكثر، حفرًا هائلة مشبعة بالزيت، محاطة برمال وتراب من باطن الأرض. تم العمل في بعض هذه الآبار بجدية حتى بدت مثل البراكين الصغيرة، بمنحدرات مخروطية حادة. عند تلك الأعماق لم يعد من الممكن تجميع الزيت بمجرد تغطيس جردل مثقل: ينزل التوين زاس بحبال، ويكتمون أنفاسهم مثل غواصين اللؤلؤ.
وكثيرا ما ذهب رَجْكومار إلى ينانجيونج، حين يرسو المركب على مسافة يمكن قطعها سيرًا، ليرى التوين زاس وهم يعملون. يرى، وهو يقف على حافة بئر، رجلًا يهبط البئر، ملتفًّا ببطء على حبل معلق. والحبل يتصل، بواسطة بكرة، بزوجته وعائلته ومواشيه. كانوا ينزلونه بالصعود إلى منحدر البئر، وحين يشعرون بشدِّه يخرجونه بالنزول مرة أخرى. كانت حواف الآبار زلقة نتيجة الزيت المراق وكثيرًا ما سقط فيها عمال غير حذرين وأطفال صغار. وكثيرًا ما مرَّتْ هذه السقطات دون أن يلاحظها أحد: لم تكن هناك بقع، كانت موجات قليلة. الشفافية إحدى خصائص هذا الزيت: لا يترك أثرًا على سطحه بسهولة.
بعد تلك الزيارات إلى ينانجيونج، طاردتْه الأشباح المشبعة بالزيت. ماذا يعني الغرق في الرشح؟ أن تشعر بذلك الوحل الأخضر، لون أجنحة الحشرات، تجثم على رأسك، وتتسرب إلى أذنيك وفتحتَي أنفك؟
وقعتْ عين رَجْكومار، وهو في الثامنة عشرة تقريبًا، على مشهد غريب في ينانجيونج. لاحظ غريبين، رجلين أبيضين، يسيران من بئر إلى بئر. منذ ذلك الوقت، حين يعود، ازدادت أعداد هؤلاء الرجال حول المنحدرات، مزودين بأدوات وأجهزة مسح ثلاثية القوائم. كانوا من فرنسا وإنجلترا وأمريكا، ويقال إنهم يقدمون للتوين زاس مبالغ كبيرة، ويشترون بركهم وآبارهم. ارتفعتْ مسلات خشبية على التلال، أهرام تشبه الأقفاص بداخلها حفارات تدقُّ بلا توقف في الأرض.
تجول رَجْكومار ببطء على الرمث الراسي وأشعل شيروتًا، واستلقى على صدره. كان وجهه على بعد بوصات من المياه، وقد ارتفعت أنواع من الأسماك الصغيرة التي تعيش بجانب ضفة النهر إلى السطح لتطبق على الرماد المتطاير. جاء اللقاء مع الميستري وهو في أوج انشغاله بالمستقبل. في معظم السنة الأخيرة كان سايا جون يحدثه عن التخطيط مباشرة: «أيَّامُك كلوجا لي على وشك الانتهاء، رَجْكومار. حان الوقت لتحتل مكانًا في العالم.»
كان رَجْكومار يريد المضي في أعمال الخشب. كان متأكدًا من هذا، لأنه يعرف أنه لن يلمَّ أبدًا بمهنة أخرى بهذا الشكل. والمشكلة أنه لا يملك مهارة من المهارات الخاصة التي تجعله يلتحق بالقوة العاملة في شركة كأوسي أو رمَّاث. ولم تكن مسألة كسب عشرين روبية أو ثلاثين في الشهر تمثل إغراء. ثم ماذا؟
كان رَجْكومار يحتفظ بجزء من راتبه، ويدخر الباقي مع سايا جون. لكن بعد كل هذه السنوات من الاقتصاد لم يكن معه ما يزيد عن مائتي روبية. وتكلفة الشروع في شادر خشب تتطلب عدة ألوف — مبلغ كبير لا يستطيع أن يطلبه من سايا جون. وقد يحتاج الذهاب إلى الهند مع ببورو، من ناحية أخرى، أكثر مما ادخر. وإذا شجع سايا جون على أن يقرضه الباقي، ربما يكون معه خلال سنوات قليلة ما يكفي لإقامة شادر.
بعد العودة إلى مَنْدالي انتظر وقتًا طويلًا ليصل إلى سايا جون. قال بهدوء، حذرًا من تقديم مزيد من الشرح: «أحتاج قرضًا ببضع مئات من الروبيات، وستعود إليك أضعافًا مضاعفة. سايا؟»
اتجهوا إلى الريف في صحبة طبالين: كأنهم في موكب عرس، في الطريق إلى حفل زفاف. في الطريق سأل ببورو العابرين عن القرى التي يتجه إليها. فقيرة أم غنية؟ يملك القرويون أرضًا أم يعملون مقابل حصص؟ ما طوائف الناس الذين يعيشون فيها؟
قال ببورو لمستمعيه: «ويمكن أن يكون هذا كله ملكًا لكم أيضًا. ليس في حياتكم التالية. ليس العام القادم. الآن. يمكن أن يكون ملكًا لكم الآن. لا تحتاجون إلا رجلًا سليمًا من عائلتكم يبصم على هذه الورقة.»
أخذ حفنة عملات فضية من حقيبة مخملية وأسقطها مرة أخرى، رنين: «هل هنا شخص عليه ديون؟ هل هنا شخص مدين بفلوس لأصحاب الأرض؟ يمكن أن تتخلص من قيودك الآن، هنا. بمجرد أن يبصم أبناؤك أو إخوتك على هذه العقود، ستكون هذه الفلوس ملكًا لك. في بضع سنوات يكسبون ما يكفي للوفاء بالدَّيْن. وبعد ذلك يكونون أحرارًا في العودة أو البقاء في بورما كما يشاءون.»
وقَّع خمسة عشر رجلًا من تلك القرية وثلاثة وعشرون في القرية التالية: اندفع البعض بشغف إلى الأمام، ودفع البعضَ أقاربُهم وأمسك آباء وأخوة بأيدي البعض بالقوة للتوقيع على الورقة. تبع المجندون عربة ثيران ببورو في طريق العودة إلى البلدة، يحملون الصناديق الصفيح وصرر الملابس. ساق اللثيال المؤخرة للتأكد من الحفاظ على السرعة. توقفوا كل بضع ساعات لتناول بعض الأرز المحمص والملح.
حين وصلوا إلى الشاطئ، استأجر ببورو سفينة لنقل الرجال إلى كلكتا. لم يركب كثير منهم سفينة من قبل. ارتعبوا من الأمواج، وفي تلك الليلة قفز رجل من السفينة. قفز ببورو خلفه وأعاده إلى السفينة. ابتلع الهارب ملء بطنه من المياه. كان منهكًا وهزيلًا، بارز العظام. سحب ببورو الرجل إلى جانب السفينة، وثناه على الحافة العليا. ثم صعد عليه، وثبت صدره تحت ركبته المثنية. بحركة قوية من قدمه، دفع الرجل على الدعامة، ضغط على بطنه فاندفع من فمه الماء الذي ابتلعه، وكتلة إسفنجية من الأرز المحمص والملح.
دندن ببورو برقَّةٍ، كأنه يغني لحبيبة: «أين تذهب؟ وماذا عن كل الفلوس التي أعطيتُها لأبيك ليسدد ديونه؟ ما أهمية جثتك، له أو لي؟»
كان هناك حوالي ألفين من المهاجرين المتوقعين. معظمهم رجال، وكان هناك حوالي مائة وخمسين امرأة أيضًا. في المؤخرة، بارزة على المياه المترجرجة خلف السفينة، منصة خشبية ضيقة بها أربع فتحات تستخدم كمراحيض. كانت الرحلة صعبة وبسرعة امتلأت أرضية المنطقة المحْكمة بالقيء والبول. تدفقت هذه الطبقة العفنة من القذارة ذهابًا وإيابًا مع ترنح السفينة، مرتفعة بوصات على الجدران. جلس المجندون مكومين على صناديقهم الصفيح وصرر ملابسهم. عند النظرة الأولى للأرض، من ساحل أراكان، قفز من السفينة عدة رجال. في اليوم الثالث من الرحلة نقص العدد في المنطقة المحكمة بضع عشرات. وحُملتْ جثث من ماتوا أثناء الرحلة إلى المؤخرة وتم إلقاؤها في المياه المترجرجة خلف السفينة.
عند الوصول إلى حوض السفن في رنجون، اكتشف ببورو أن الرحلة كلفتْه رجلين. لم يحزن. قال لرَجْكومار: «اثنان من ثمانية وثلاثين ليس سيئًا. فقدتُ ستة أحيانًا.»
سافرا معًا إلى ينانجيونج ثم قال رَجْكومار لببورو إنه يريد الذهاب إلى مَنْدالي. كانت خدعة. شرع رَجْكومار بالسير باتجاه الشمال، وبعد أن ابتعد قليلًا عن ببورو عاد أدراجه، واتجه إلى رنجون مباشرة. اشترى من محل صغير في شارع المغول سلسلة ذهبية وخاتمًا فيروزيًّا لامعًا. ثم نزل إلى حوض السفن واستقل الدُّفرين. أثناء مروره الأخير، حرص على عقد صفقته الخاصة مع مشرفي السفينة: تم الترحيب به كميستري بحكم حقه الشخصي.
عاد رَجْكومار إلى المقاطعة التي زارها مع ببورو. استأجر عربة ثيران من السوق نفسها واستخدم اللثيال أنفسهم. ونجح في الحصول على توقيع خمسة وخمسين رجلًا وثلاث نساء. وهو في طريق العودة إلى كلكتا، وفي عقله ما حدث في المرة الأخيرة، جلس طوال الليل في السفينة التي استأجرها، مراقبًا مجنديه. متأكِّدًا بما يكفي، لمح ذات ليلة رجلًا يحاول التسلل بصمت من على السفينة. كان رَجْكومار أضخم من ببورو وأكثر حذرًا ولم يكن بحاجة للقفز في الماء. شدَّ الرجل من الماء من شعره وأبقاه متدليا أمام الآخرين. ونجح في الوصول بالمجموعة كلها سالمة إلى ينانجيونج، وهناك باع عقودهم الملزمة إلى ريس محلي. وكان المبلغ كافيًا لتسديد قرض سايا جون.
•••
مرت ثلاث سنوات قبل أن يجد دوه سي شادر أخشاب مناسبًا. قام رَجْكومار أثناءها بثماني رحلات أخرى إلى الهند. وجمع حوالي ثلثي السعر المطلوب في الشادر، وأقرضه سايا جون الباقي.
تناول سايا جون، في زيارته الأولى للشادر، وجبة في كابينة دوه سي ونو دا. لم يكن سايا جون يعرف أن دوه سي شريك في أعمال رَجْكومار، لكنه لم يندهش كثيرًا حين عرف. تمتع رَجْكومار دائمًا بنوع عنيد من الاتساق — وهي صفة تختلف تمامًا عن الولاء، لكنها ليست أقل ثباتًا. تكررت الظلال نفسها كثيرًا في حياته، كأنها تحدث على شاشات الدمى.
بدأ سايا جون، والوقت ملكه، يتمشى مسافات طويلة، يفسِّح طيوره الحبيبة. وكان شادر رَجْكومار على بعد نصف ساعة تمشية من بيته، وقد صار التوقف هناك كل صباح وقفص طيور في يده وجريدة تحت ذراعه، طقسًا من طقوسه.
ذات صباح وصل ليجد رَجْكومار في انتظاره عند البوابة، متمنيًّا وصوله بنفاد صبر: «تأخرت اليوم، سايا.»
«تأخرت؟ عن ماذا؟»
«شركة السكك الحديد هذه صغيرة وجديدة، وتحتاج إمدادات رخيصة. لن أبدأ بالحصول على الخشب؛ سأبدأ بالعقد. بمجرد أن يكون معي، يتدفق الخشب تلقائيًّا. سترى. هناك العشرات من الياردات هنا مكدسة. بمجرد أن يروا أني أقدم أسعارًا منخفضة، فسيأتي الجميع إليَّ.»
«ومن أين تأتي بالفلوس لهذه الدفعات المنخفضة؟»
ابتسم رَجْكومار ببلاهة: «لماذا، سايا، منك، بالطبع. لماذا أقدم هذه الفرصة لشخص آخر؟»
«لكن ضع المخاطرة في حسبانك، رَجْكومار. قد تدمرك الشركات الإنجليزية الكبيرة، تجعلك أضحوكة في رنجون. قد تخسر مشاريعك.»
«لكن، سايا، انظر لما عندي الآن.» أشار رَجْكومار إلى كابينته والساحة شبه الخالية: «سايا، أليس هذا أفضل من محل شاي على قارعة الطريق — والعمل عند ما شو. إذا كنتُ على استعداد لتنمية هذه المشاريع، فلا بدَّ من تحمل بعض المخاطر.»
«فكِّرْ، رَجْكومار، فكِّرْ. ما زلت مبتدئًا. ليست لديك فكرة عن طرق ضرب هذه المعاملات في رنجون. كل الرجال الكبار هنا يعرفون بعضهم. يذهبون إلى الأندية نفسها، ويأكلون في المطاعم نفسها، ويراهنون على جياد بعضهم …»
قال رَجْكومار: «ليس الرجال الكبار فقط هم الذين يعرفون دائمًا كل شيء، سايا. إذا استطعتُ معرفة المبلغ الذي ستضعه الشركات الأخرى لاستشهد به، فربما استطعتُ وضع العرض الفائز.»
«وكيف تعرف؟»
«لا أعرف، سايا. لكن أعتقد أن لديَّ وسيلة. سنرى.»
«لكن، رَجْكومار، أنت حتى لا تقرأ الإنجليزية؛ كيف تقدم هذا العرض؟»
ابتسم رَجْكومار: «صحيح إنني لا أقرأ الإنجليزية، سايا، لكني تعلمتُ الحديث بها. ولماذا أحتاج أن أقرأ ومن الممكن أن تفعل ذلك لي؟ سايا؟»
وهكذا بدأ سايا جون يتعامل مع الأعمال الكتابية للعرض. ذهب إليه رَجْكومار بالخطاب الذي ردت به الشركة.
طرقع سايا جون بلسانه بارتياب وهو يرفع عينيه عن الورقة التي تطقطق في يديه: «رَجْكومار، لم أعتقد أبدًا أنك ستصل إلى هذا المدى.»
ابتسم رَجْكومار: «قلتُ لك، سايا. عرفتُ ما قدمته الشركات الأخرى وقدمتُ عرضًا أفضل.»
«وكيف عرفت؟»
ابتسم رَجْكومار: «سري، سايا.»
«سرك لن يساعدك الآن. يقرر اللقاء كل شيء. وهو ما عليك أن تفكر فيه.» جرى سايا جون بعينيه بشكل انتقادي على لُنْجي رَجْكومار الأخضر والصدرة البِنِّية المهلهلة: «على سبيل المثال: ماذا سترتدي؟ لن يسمح لك بنك شاترد حتى بعبور أبوابه إذا ذهبت بمثل هذه الملابس.»
في صباح يوم المقابلة وصل سايا جون إلى شادر الخشب في عربة مستأجرة، مرتديًا بدلته السوداء المفضلة ومعه خيزرانة ملقا رفيعة وقبعة جديدة. دخل كابينة رَجْكومار ليجده ارتدى بنطلونًا جديدًا وقميصًا ويقف متخشبًا ويو با كيو يربط له ربطة العنق.
حين اكتمل لبس رَجْكومار، تطلع إليه سايا جون وقرر أنه لا خطأ في المظهر: كانت بدلته بسيطة وسوداء بشكل مناسب وربطة العنق مربوطة ببراعة، والياقة بزاوية قائمة تمامًا. صحيح أن ملابسه لم تكن حسنة التفصيل كما هو الحال في سنغافورة أو هونج كونج، لكن بالنسبة لرنجون كانت أكثر من مناسبة. على أية حال، وبصرف النظر عما تكلفته ملابس رَجْكومار أو مدى مناسبتها، من المؤكد أن رجلًا ولد للثروة أو المنصب ما كان يعتبرها غير ذلك أبدًا. كانت خشونة وجهه ضد ذلك بالتأكيد.
قال سايا جون: «أنا آتٍ معك، رَجْكومار. لأجلب لك الحظ فقط.»
خرج الصراف وصارا بمفرديهما. كانت الغرفة مظلمة وضيقة، تفوح من مقاعدها الجلدية العميقة رائحة دخان السيجار. بعد انتظار طويل دخل ساعٍ معمم يستدعي رَجْكومار. وقف سايا جون أيضًا لينطق بكلمات تشجيع وطمأنة. لكنه توقف وهو على وشك النطق، واستقرتْ عيناه على رَجْكومار. استرعى انتباهه أن من كان ذات يوم لوجا لي له صار واثقًا جدًّا من نفسه، جريئًا جدًّا، حتى إن كل ما قد ينطق به لن يكون إلا لغوًا. تراجع سايا جون قليلًا، انسحب خطوة أو اثنتين ليراه بشكل أفضل. فجأة، من تلك الزاوية المتغيرة للرؤية، كان لديه انطباع بأنه ينظر إلى شخص لم يره من قبل أبدًا، كائن أُعيد ابتكاره، جلال مهيب ووجود آمر. في تلك اللحظة ومضتْ أمام عيني سايا جون رؤية واضحة لذلك الصباح في مَنْدالي حين جرى إلى الزقاق لينقذ رَجْكومار — رآه ولدًا، كالا مهجورًا، هنديًّا رثًّا شرد كثيرًا جدًّا عن وطنه. ثم عاش الولد حياة، ومن النظرة إليه الآن يتبين أنه استثمر بشكل جيد.
ثم فعل رَجْكومار شيئًا لم يفعله أبدًا من قبل. وهو على وشك المرور من الباب، توقف ليلمس قدمي سايا جون بالطريقة الهندية.
«امنحني بركاتك، سايا.»
أدار سايا جون رأسه ليواري دموعًا تدفقت من عينيه: «ما يحققه المرء بنفسه لا يمكن لأحد إنكاره. العقد من نصيبك. كنتُ مخطئًا حين شككتُ في ذلك.»
١١
كان البريد يصل مرتين أسبوعيًّا ويُسلَّم لمكتب الجابي في الكتشيري مباشرة. يلتقط الجابي خطابات أوما ويرسلها للمقر مع ساع. كانت معظم خطاباتها من والديها، وكان هناك أيضًا، مرة أو اثنتين شهريًّا، كتاب أو مجلة، من مكتبة في كلكتا.
كانت أوما، أيام وصول البريد، تقضي ساعاتٍ في أحلام يقظة جوار شجرة البيبول. وإذا تصادف وجود موعد رسمي تكون سريعة الغضب ونافدة الصبر، مشتاقة للعودة إلى خطاباتها. تفكر في أمها في البيت في كلكتا، تكتب في السرير، وهي تخشى انسكاب دواتها على الورق.
في صباح أحد أيام وصول البريد سلم ساعي الجابي خطابًا بختم بريدي غير معتاد. وقد خطَّ الجابي ملاحظة على الظرف: «من رنجون.» قلبت أوما الظرف ورأت اسم عمها على الظهر، د.ب. روي. اندهشت: لم تسمع شيئًا عنه منذ سنوات. لكنها اعتادت بعد زواجها استلام خطابات من أقارب لم ترهم منذ فترة طويلة: للجابي نفوذ كبير؛ الرجل الذي يسير الأمور. خمَّنتْ أن عمها يحتاج شيئًا.
أخذت الخطاب معها إلى شجرة البيبول. كتب عمها، كما توقعتْ، يطلب مساندة لصديق — رَجْكومار رها، وكان في طريقه إلى بومباي في عمل. عبَّر الرجل عن رغبة في النزول إلى رتناجيري في زيارة خاطفة. إنه حريص على تقديم احترامه للملك والملكة السابقين.
تبين أن مستر رها يعمل في تجارة الخشب. كان يخطط لعقد مناقصة كبيرة وجاء يطلب من البوروهيت الدعاء له. كان للبوروهيت، ككل من على شاكلته، حدس نمر جائع يحكم على الفريسة المحتملة. فعل أكثر بكثير من تقديم البركة. في المعبد عدد من موظفي البنوك الأوروبية الكبيرة وشركات الخشب؛ أخذ البوروهيت على عاتقة مهمة تقديم رَجْكومار إلى هؤلاء الرجال جميعًا.
في ذلك العقد حصل رَجْكومار وحده على ربح صاف مقداره ثمانمائة ألف روبية — ثروة. أعاد، بدون منٍّ، بناء المعبد، بلَّطَ أرضه بالرخام، وطلى حوائط الضريح بالذهب وأقام بناية جميلة جديدة للبوروهيت وأسرته. بعد ذلك حقق نجاحات أخرى وارتفع إلى القمة في مجتمع رجال الأعمال. كل ذلك وهو في الثلاثين، قبل أن يجد حتى وقتًا للزواج.
تفهمين ما أقصد، أوما، حين أقول ليس رَجْكومار بابو شخصًا ممن اعتدْتِ عليهم. قد تجدينه فظًّا بعض الشيء وغريبًا في سلوكه. تندهشين بلا شك حين تعلمين أنه برغم أنه يتحدث عدة لغات بطلاقة، بما في ذلك الإنجليزية والبورمية، أميٌّ بمعنى الكلمة، يوقع اسمه بالكاد.
قد لا يحظى رجل مثل رَجْكومار بابو في وطنه، الهند، بفرصة القبول في مجتمع من أناس مثلنا. لكن المعايير في بورما أكثر مرونة. بعض أغنى الناس في المدينة هنود، ومعظمهم بدأ بصرة ملابس وصندوق من الصفيح.
أفهمُ تمامًا أن رجلًا مثل رَجْكومار بابو في الهند لا يأمل في أن يستضيفه — أو حتى يستقبله — جابي مقاطعة. ضعي في اعتبارك أنه عاش في بورما فترة طويلة وهو الآن بورمي أكثر مما هو هندي وقد يُعتبَر غريبًا. أتمنى وضع هذا في الحسبان، وتذكري أني سأكون بالتأكيد ممتنًّا جدًّا لاهتمامك بهذه المسألة.
ارتبطتْ أيضًا بأيام وصول البريد متعة خاصة: ثلج جديد، يأتي على السفينة البخارية من بومباي. في أمسيات أيام وصول البريد يحب الجابي الجلوس في الحديقة على مقعد من الخوص، ومعه مشروب مثلج. انتظرتْ أوما حتى أعدَّ الجابي الويسكي قبل أن تبدأ في قراءة خطاب عمها له. في نهاية قراءتها أخذ الجابي الورقة من يدها ليقرأ بنفسه.
أعاد الخطاب بإيماءة ندم. قال: «لو كنت أستطيع، لوددتُ أن أخدم عمك. لكنها لسوء الحظ مسألة مستبعدة. تعليمات الحكومة واضحة تمامًا. لا يُسمح لجلالته باستقبال زوار.»
صرختْ أوما: «لكن لماذا لا؟ أنت الجابي. يمكن أن يأتي إذا شئْتَ. ليس من الضروري أن يعرف أحد.»
وضع الجابي كأسه فجأة على طاولة صغيرة بجوار مقعده: «مستحيل، أوما. عليَّ أن أوجه الطلب إلى بومباي ومن هناك يُرسل إلى وزير المستعمرات في لندن. قد تستغرق المسألة شهورًا.»
«فقط لمجرد زيارة لمنزل أطرام؟»
«لكن أي اختلاف يمكن أن تسببه زيارة واحدة؟»
«ربما يعود ويتكلم. قد يصل شيء للصحف. لا تسمح وزارة المستعمرات حتى بالتقاط صور للملك خوفًا من وصول الصورة إلى بورما. قبل أيام تسلمتُ خطابًا من مصوِّرة بارسية. كانت في جولة لالتقاط الصور وطلبت التوقف لالتقاط بعض الصور في منزل أطرام. أحلتُ طلبها إلى بومباي وجاء الردُّ خلال أسبوع: لا يُسمح بالتقاط صور للعائلة الملكية. سياسة حكومة.»
صرختْ أوما: «لكن هذا بشع.»
ضاقتْ عينا الجابي: «لا، إطلاقًا. يتسم بالحكمة. هل تعتقدين أنه يمكن خدمة بورما جيدًا بالمشاكل السياسية؟ هل تعتقدين أن هذا الرجل، رها، كان يمكن أن يغتني في بورما وثيبو لا يزال في الحكم؟ لماذا، إن لم يكن من أجل البريطانيين، فمن المحتمل أن يثور البورميون ضد رجال الأعمال الهنود ويطردونهم كالأغنام.»
تعرف أوما أنها لا تستطيع التفوق على الجابي في مناقشة. خفضتْ صوتَها ووضعتْ يدًا على ذراعه.
قالت: «تعرف، ليس من أجل الملك، ولا من أجل عمي، هذا ما أطلبه أنا.»
«لماذا إذن؟»
ترددتْ أوما.
«أخبريني.»
«من أجل دُلِّي.»
«دُلِّي؟»
«عاشت هنا طوال حياتها سجينة حقيقية، ولا تتخيل إلا الحياة التي تعيشها. وسيكون عليها مغادرة منزل أطرام ذات يوم، إلى أين تذهب؟ نستْ بورما وأعتقد أنها تحتاج إلى الحديث مع أناس قد يذكِّرونها بها.»
«يمكن أن تعود دُلِّي إلى بورما وقتما تشاء.»
«لكن ليستْ لها عائلة في بورما ولا تعرف أحدًا هناك. لهذا بالضبط تحتاج إلى مقابلة أناس يعيشون هناك.»
صمت الجابي وشعرتْ أوما أنه بدأ يلين. شجعتْه: «شيء بسيط. أنا متأكدة من أنَّ هناك حلًّا.»
قال في النهاية بنغمة غضب: «حسنًا، وحيث أن الأمر يعني الكثير بالنسبة لك، أعتقد أنه يوجد شيء وحيد أستطيع القيام به.»
«ماذا؟»
«يمكن أن أدعو رها هذا كضيف شخصي لي. يمكن أن أقول إنه قريب بالزواج. وإذا كان له أن يقوم بزيارة إلى منزل أطرام، يمكن أن تكون مجرد زيارة خاصة — لا زيارة رسمية …»
«سأكون سعيدة جدًّا …»
في صباح اليوم التالي أُرسِل تلغراف إلى عم أوما في رنجون يخبره أن صديقه مستر رها مرحب به لزيارة رتناجيري؛ وسيتم استقباله كضيفٍ للجابي.
١٢
انتشرتْ، في لحظات من وصول السفينة البخارية، إشاعة بطول المنطقة الساحلية عن وجود أمير غني على الرحلة، اسمه رَجْكومار، غريب ينفق أمواله بسخاء شديد. تلا ذلك ضجيج: حاصر شيالون وحمالون المعبر؛ اندفع الكسالى من الحافة الظليلة وتجمعوا على الشاطئ.
كان رَجْكومار لا يزال نائمًا في كابينته حين رست السفينة البخارية. أيقظه يو با كيو. وكان رَجْكومار يصطحب عددًا من رجاله حين يسافر إلى الخارج، طريقته في حماية نفسه من مخاطر ظروفه الجديدة. وسببت هذه الرحلة الخاصة مخاوف من نوع جديد، ولذا كانت بطانته أكبر من المعتاد. إضافة إلى كاتب اختزال ومحاسب، اصطحب أيضًا يو با كيو، الموظف الذي يثق فيه أكثر.
بعد توصيل رَجْكومار إلى بنجلو داك، اتجه كنهوجي للمقرِّ ليقدم لأوما رواية كاملة عن الجلبة في المرفأ. جاء تقريره مفصلًا بإسهاب: حكى لأوما عن الشيروت شبه الممضوغ في فم رَجْكومار، عن الإهمال الشديد في ملابسه، ولُنْجيه المجعد، وصدرته المشحمة وشعره الأشعث. شعرتْ أوما بقلق. هل من الحكمة دعوة شخص كهذا على العشاء؟ ماذا يأكل بالضبط؟
في خروج مذهل على العرف، عهد الجابي لأوما بتنظيم وجبة المساء. كان يشرف على حفلات المقرِّ عادة. برغم عدم اهتمامه بالشئون المنزلية، إلا أنه يدقق جدًّا في حفلات العشاء التي يقيمها: يحبُّ فحص الطاولة ومواضع الجلوس بنفسه، يضع الزهور، ويشير إلى حاجة الأطباق والكئوس إلى دورة أخرى من التلميع. ويعود إليه الخدم لتلقي التعليمات بشأن ما يقدمونه وطاقم العشاء الذي يستخدمونه.
حاولت أوما، والمساء يقترب، تذكُّر كل ما يفعله الجابي قبل حفل عشاء. قالت لنفسها: ستكون ممصاحب جيدة ذات يوم. ذهبتْ إلى غرفة الطعام وانشغلت بالأطباق والشوك والزهور. لكن حين عاد الجابي إلى البيت، اكتشفتْ أنها ربما قصَّرت أيضًا. بدا عدم الارتياح على الجابي. بعد الدخول إلى غرفة الطعام لإلقاء نظرة على ما تفعل، بدا على وجهه اشمئزاز رهيب.
قال: «سكاكين السمك ليست في المكان المناسب. على كئوس النبيذ غبار …» طلب إعادة ترتيب كل شيء: «سأراجع الأمر مرة أخرى.»
جلستْ أوما بجوار نافذة، ويداها معقودتان في حِجْرها كتلميذة معاقبة، تنتظر وصول الضيوف. ربما كانت حفلة العشاء ودعوة دُلِّي لمقابلة هذا الغريب، غلطة. ربما حتى وجودها هنا غلطة. وهي فكرة لم تخطر ببالها من قبل أبدًا، لكن صورتها المحبطة بدأت تكبر بسرعة في عقلها. أليس هذا ما يعرف بالهاجس؟
«مدام …»
نيدو وزوجته، بشعر رمادي، طويلان، وطيبان. «كم هو رائع …» ثم دخل رايت وزوجته، وتبعتهما دُلِّي بعد دقائق.
كان رَجْكومار آخر من وصل. كانت الانطباعات الأولى لأوما، وهي تنهض لترحب به، غير متوقعة. لاحظتْ، وهي تتفحصه ويداها معقودتان، أنه عانى في ارتداء ملابس أنيقة وبسيطة، على الطريقة «الإنجليزية»: بدلة سوداء وقورة، وربطة عنق معقودة بعناية. لَمَعَ حذاؤه جيدًا، وكان يحمل عصا ملقا يدها منقوشة باليشم ببراعة: بدا أكبر بكثير مما توقعتْ: كان وجهه متأثرًا بالكد وشفتاه ضخمتين وملونتين بعمق، حمراوين تمامًا عكس بشرته السوداء. على طول خط فكه ثنية من اللحم تبشر بظهور لُغْدٍ. لم يكن جميلا، لكن كان فيه شيء لافت، بِنْيَةٌ ضخمة متناسقة مع مرونة يصعب التعبير عنها — كأن الحياة نُفختْ في حائط من الأردواز. لمحتْ أوما، وهي تنظر بعيدًا، دُلِّي تجلس شبه مختفية خلف الذراع المتحركة للأريكة. كانت ترتدي هتامينًا موفًا وإينجيًا من الحرير الأبيض. وتألقت سوسنة كالنور على بريق شعرها الأسود.
أتتْ أوما بإيماء تقديم باتجاه رَجْكومار «دُلِّي! مستر رها؛ لا أعتقد أنك قابلتِ …»
•••
تعرف عليها فورًا، من النظرة الأولى، بدون أدنى احتمال للشك. ليس لأنها بدتْ على حالها، لأنها لم تبدل: وجهها أطول بكثير مما يتذكر، وحول زوايا عينيها وفمها آثار خطوط رقيقة لا تكاد تظهر، مثل آثار مثقب الصائغ. ما يتذكره شيء آخر — عنصر من تعبيرها، نوع من البؤس في عينيها. هذا ما أسره تلك الليلة وقد أسره مرة أخرى.
قالت أوما بنبرة اهتمام: «مستر رها، هل هناك شيء؟»
«لا.» نظر إلى أسفل ليجد أنه يمسك بعصاه معلقة في الهواء: «لا. لا إطلاقًا. لا شيء.»
حتى لا يغادر الغرفة، جلس بثقله في أقرب مقعد. حدث الأمر بسرعة شديدة: لم يتوقع رؤيتها هنا. لا يكره أكثر من المباغتة. توقع أن يستعد لهذه المواجهة بخطوات بطيئة محسوبة. كان من الصعب تمامًا أن يدخل هذا المنزل. حتى بعد سنتين من وجبات العشاء والحفلات، كان من الصعب أن يتعامل بنجاح مع مناخ العمل الإجباري.
«هل كانت رحلة لطيفة، مستر رها؟»
كانت مضيفته، زوجة الجابي: عرف من نظرة على وجهها أنها تحاول إخراجه من عزلته. أومأ وحاول أن يبتسم. شعر بنظرته تحدِّق باتجاه الأريكة وبسرعة خفض عينيه. اقترب آخرون؛ شعر بهم يحومون حوله. ماذا يقول لهم؟ لم تنتَبْه أبدًا رغبة مماثلة في أن يُترك وحده.
«العشاء. هيا …»
في الطريق إلى غرفة الطعام وجدتْ أوما نفسها وحدها لحظة مع دُلِّي، قالتْ بسرعة، بصوت خافت: «ما رأيك في ضيفنا؟»
«ليس كما توقعتُ: لا يبدو شخصية مهمة إطلاقًا.»
«لأنه هادئ جدًّا، تقصدين؟»
«يبدو قلقًا، أليس كذلك؟»
«هل لاحظْتِ الطريقة التي تطلع بها إليك؟ يبدو كأنه رآك في مكان ما من قبل.»
اتسعتْ عينا دُلِّي: «غريب منك هذا الكلام، أوما. عجيبة، لماذا قلْتِ ذلك؟»
جلستْ أوما ورَجْكومار على يمينها ومستر رايت، مدير الشرطة، على اليسار. جلستْ دُلِّي على الطرف الآخر من المائدة، بجوار الجابي. بطول الحوائط، على بعد ست خطوات من الطاولة، وقف صف من المساعدين، واحد خلف كل مقعد. وكما كان متَّبعًا، أتى كل ضيف بمساعده الخاص، كلهم إلا دُلِّي، وكانت بمثابة واحدة من أهل البيت. كان مساعدا نيدو وزوجته محليين، وكان مساعد مستر رايت من السيخ. وخلف مقعد رَجْكومار وقف يو با كيو، في جُنْج بُنْج قرنفلية ولُنْجي أرجواني: كان الآخرون كلهم قذرين بالمقارنة.
فرد الجابي منديله ونظر عبر المائدة إلى رَجْكومار. قال بطريقته الساخرة: «بورما، مستر رها، لم تكلمنا عنها. ماذا أخذك إلى هناك في البداية؟»
قال رَجْكومار باختصار: «الصدفة.»
«أية صدفة تحمل رجلًا إلى بلد أخرى؟»
«كنتُ أعمل على سفينة ووجدتُ نفسي دون قصد في مَنْدالي. بداية الغزو البريطاني، حين أُغلِق النهر أمام الملاحة.»
«وقت زاخر بالأحداث.»
«وقت غريب، سير.»
«حقًّا؟ كيف؟»
كانت دُلِّي تشاهده عبر الطاولة. كان وجهها الوحيد الذي يستطيع رؤيته: الآخرون جميعًا مدثَّرون بالظلال.
قال رَجْكومار: «استغرق الأسطول البريطاني أسبوعين ليتقدم إلى النهر. وخلال معظم ذلك الوقت كانت مَنْدالي هادئة جدًّا. كنتُ ولدًا، لكني كنتُ واحدًا من عدد قليل في المدينة بدا أنهم يدركون أن المشاكل في الطريق.»
عند هذا الفاصل حدثتْ مسألة طفيفة وغريبة. كان السمك قد قدم للتو، نظر رَجْكومار بنفاد صبر إلى السكاكين والشوك التي تحيط بطبقه. ثم، كأنه ساخط من وفرة لوازم المائدة، رفع يده اليمنى ولعق أصابعه. وقبل أن يكمل الإيماءة ظهر بجانبه يو با كيو، ليقدم له الأداة المناسبة. لم يستغرق ذلك إلا وهلة، لكن كل من في الغرفة التفتوا في ذهول. بدا رَجْكومار وحده غافلًا عن المقاطعة. واصل قصته كأن شيئًا لم يحدثْ.
«ذات صباح سمعنا طلقات مدافع في مكان بعيد. حين توقف الصخب، استمرَّ كل شيء مرة أخرى، كالمعتاد تمامًا. ولم يفهم الناس ما حدث إلا حين سار الجنود الأجانب في المدينة: هُزِم الملك، واحتُلَّت المدينة. قرب المساء رأينا قوات تخرج من الحصن ومعهم أكياس الغنائم. عمال القصر أيضًا. اجتمعت الجماهير حور أسوار الحصن. لم أكن قد اقتربت من الأسوار أبدًا. حين رأيت الناس يعبرون الخندق، ذهبتُ وانضممتُ إليهم. ذهبْنا نعدو إلى الداخل. عند جدران القصر وجدنا مدخلا متصدِّعًا. اخترقناه بالمئات. أفترض أنكم قد تعتبرون ذلك عربدة. لم يكن أحد منا يعرف ما يفعل، كان كل منا يتبع الآخر. ذهبنا نعدو في مؤخرة القصر: جناح النساء. كانت معظم الأشياء القيمة قد نُهِبتْ، لكن بالنسبة لنا بدا ما تبقى قيِّمًا يفوق التصور، نفيسًا يفوق الخيال. هجم الناس على كل ما في متناول اليد، كل ما في مجال الرؤية، حطموا الأثاث، خلعوا الأحجار من الأرضية. بعد لحظة غادرتُ الرواق الرئيسي ودخلتُ غرفة انتظار. كان بداخلها امرأة. كانت نحيلة بسيطة المظهر، ومع أني لم أرها أبدًا من قبل عرفتُ على الفور أنها الملكة سوبايالات.»
«الملكة؟»
«نعم. جلالتها بنفسها. تخيلتُ أنها هناك لتنقذ ما يمكن إنقاذه من مقتنياتها. كانت بدون حرس، بدون مرافقين. يفترض أن تكون خائفة، لكنها لم تكن خائفة. صاحتْ فينا، هدَّدتْنا. لكن الأكثر روعة أن كل من دخل الغرفة خرَّ فورًا على الأرضية، لأداء الشيكو للملكة. تخيلوا مدى الغرابة: كانوا هناك، ينهبون القصر وفي الوقت نفسه يقدمون الولاء لملكتهم! فُتِنْتُ: جلستُ في ركن أتفرج. أدركتُ بعد لحظة أن الملكة ليستْ وحدها. كان معها طفلتان وبضع مرافقات، مجموعة فتيات صغيرات. ربما كانت كبرى الطفلتين في الثالثة. سلَّمْتُ بأنها أميرة من طراز ملابسها. وكانت تقف بجوار الأميرة مرافقةٌ، طفلة أيضًا، ربما أصغر مني بعام أو اثنين، وربما أكثر، ما كنت أستطيع التأكد، لأنها كانت طفلة لم أر مثيلا لها من قبل — جمال لا يُصدَّق، يتجاوز القدرة على الاستيعاب، تشبه القصر نفسه، شيء من زجاج، بداخلها يمكن أن ترى كل ما تتخيل. لم يكن حولنا إلا الصخب، صوت سكاكين وفئوس وأقدام تعدو. بدا الرعب واضحًا على الفتاة، إلا أنها، في الوقت نفسه، كانت هادئة تمامًا. لم أستطع أن أُحوِّل عيني عنها. عرفتُ أنني أرى شيئًا لن أنساه أبدًا.»
قاطعتْه أوما: «مَنْ كانت؟ الفتاة — مَنْ كانت؟ هل عرفْتَ في أي وقت.»
«لأقول الحقيقة …» كان رَجْكومار على وشك المتابعة حين قاطعتْه دُلِّي.
قالتْ بأسلوب جاف، مخاطبة الجابي: «يبدو، يبدو أن ذلك كله كان رياضة عظيمة لمستر رها.»
ارتفع صوت رَجْكومار: «لا. لا إطلاقًا.»
أبقت دُلِّي نظرتها بعيدة عنه. قالت: «مستر رها، يبدو أنه استمتع كثيرًا.»
«لا. لم أقصد هذا.»
رأت أوما، وهي تنظر إلى رَجْكومار، نظرة فزع يستحيل وصفها تعبر وجهه. وشعرتْ فجأة بأسف تجاهه: كانت دُلِّي بدون داعٍ فظة وغير منصفة؛ أي شخص يستطيع أن يعرف أن هذا الرجل لم يقصد ازدراء.
«مستر رها …» مدَّتْ أوما يدها لتنقره على رسغه، لتعيده للحاضر وتذكره بأنه في صحبة. لكن كوعها حكَّ صدفة في الطاولة وهي تمدُّ يدها. انزلقت شوكة من طبقها وسقطتْ على الأرضية. كان الصوت خافتًا جدًّا، معدنيًّا رقيقًا، لكن في حدود تلك المساحة، بدا كأنه انفجار. وثب مساعدان في وقتٍ واحد من مكانيهما عند الحائط: التقط أحدهما الأداة التي وقعت على الأرضية، وقدم الآخر أداة بديلة ملفوفة في منديل.
«آه، مدام …»
جاء صوت الجابي عريضًا وعاليًا، مفعمًا بالسخرية المرحة. حين سمعت الصوت انكمشتْ في مقعدها خزيًا. كانت ترهب هذه النبرة الساخرة، هذا التغير في الصوت، وكانت ترافق تعليقاته على أفعالها الخرقاء التافهة غالبًا. عرفتْ أن المسألة سيتردد ذكرها كثيرًا في تلك الأمسية، وسيكون هناك عدد لا يحصى من النكات والتلميحات والتعليقات الجانبية: وسيمثِّل ذلك عقابًا لها.
استمرَّ الجابي: «آه، مدام، هل لي أن أحثك مرة أخرى على الكف عن اللعب بفضة الحكومة؟»
ارتجفتْ، وثبتتْ عينيها على طبقها. كيف تتحمل هذا؟ تطلعت إلى الشوكة الجديدة التي وضعت على طبقها، وتحركت يدها كأنها تتحرك تلقائيًّا. ارتفعت يدها قاذفةً بالشوكة لتحلق في الهواء.
قبل أن تتم الأداة دورتها، اندفعت يد رَجْكومار والتقطتها من الهواء. قال، وهو يقذفها على مفرش المائدة: «هناك، لم يقع ضرر.»
عبر الطاولة كان الجابي يشاهد باستغراب. صرخ وذهبت نبرة السخرية من صوته: «أوما، أوما! ماذا اعتراك اليوم؟»
دخل مساعد، انحنى، وقدم للجابي ظرفًا: «عاجل، سير.»
فض الجابي المظروف وأخرج ورقة مزخرفة من ورق المذكرات. قرأ الخطاب كله، ثم نظر مبتسمًا برزانة: «أخشى أن عليَّ أن أترك هذه المتع. استدعاء رسمي. تريدني جلالتها في منزل أطرام على الفور.»
دفعت دُلِّي مقعدها إلى الخلف: «يجب أن أذهب أنا أيضًا.»
ربت الجابي على يدها: «لا داعي. ابقي واستمتعي. تريدني أنا لا أنت.»
تبادلت دُلِّي وأوما النظرات: عرفتا على الفور أن الملكة استدعت الجابي لتطلعه على حمل الأميرة. لم تستطع دُلِّي أن تقرر إن كان الأفضل أن تعود إلى منزل أطرام أم تبقي بعيدة عنه.
ألحَّتْ أوما: «ابقي، دُلِّي.»
أومأت دُلِّي: «حسنًا، سأبقى.»
لم يغب اشتراك المرأتين في السرِّ عن الجابي. نظر من أوما إلى دُلِّي وأعاد النظر. قال: «ماذا يجري في منزل أطرام؟ هل لدى إحداكما فكرة؟»
ردتْ أوما بسرعة بنبرة صوت أعلى من المعتاد: «لا. مهما يكن، فمن المؤكد أن الأمر لا يتطلب وجود دُلِّي.»
«حسنًا إذن.» تحرك الجابي حول الطاولة، مردِّدًا إلى اللقاء: «سأعود في الوقت الذي تراه جلالتها مناسبًا. واصلوا تسليتكم …»
أدَّتْ مفاجأة رحيل الجابي إلى حدوث حركة بين الآخرين. نهض نيدو وزوجته ورايت وزوجته يتهامسون: «الوقت متأخر جدًّا …» «علينا أن نذهب …» حدثت موجة مغادرة ومصافحة. توقفتْ أوما، وهي تتبع ضيوفها إلى الباب، لتهمس لدُلِّي: «سأعود بعد أن أودعهم. انتظريني …»
ذهبت دُلِّي دائخة إلى غرفة الاستقبال وفتحتْ إحدى النوافذ الفرنسية. توقفت، وهي تخرج إلى الحديقة، لتسمع أصوات الضيوف المغادرين. كانوا يودعون بعضهم البعض. «شكرًا لك …» «رائع جدًّا …» كان صوت أوما أحد الأصوات، لكنه بدا بعيدًا جدًّا. لم تعد تستطيع التفكير بصفاء: بدا كل شيء مشوَّشًا. لاحظت أن عليها إغلاق النافذة الفرنسية حتى لا تدخل الحشرات إلى المنزل. لكنها تركت الأمر يمر: تشغلها أمور كثيرة جدًّا.
في تلك اللحظة، في منزل أطرام، ربما تجلس الأميرات بجوار نوافذهن ينظرن إلى الطريق، ينتظرن سماع صوت عربة الجابي. في الطابق الأرضي، ربما غرفة الاستقبال مفتوحة، واللمبات مضاءة، اثنتان فقط، لتوفير الزيت. وستكون الملكة بسرعة في طريقها للنزول، في هتامين قرمزي مشجر؛ وبعد لحظة تجلس وظهرها إلى الباب. تنتظر حتى يظهر الجابي.
هذا ما آل إليه العالم المألوف في منزل أطرام: عرفتْ، هي والأميرات، ذلك منذ فترة طويلة. هكذا جرت الأمور: ذات يوم، فجأة، قررت الملكة أن الوقت حان. يجب أن ترسل إلى الجابي فورًا، بدون تأخير ولو دقيقة. في اليوم التالي يعرف الجميع: الحاكم، نائب الملك، بورما كلها. يجب إرسال موهانبهي بعيدًا؛ وربما الأميرات أيضًا. وحدها، دُلِّي، تبقى، تتحمل المسئولية.
«مس دُلِّي.»
تعرفتْ على الصوت. كان ذلك الرجل، الزائر القادم من بورما.
«مس دُلِّي.»
التفتتْ إليه، ازدادتْ حدتها: «كيف عرفْتَ اسمي؟»
«سمعتُ …» توقف ليصحح: «الحقيقة، أنت التي أخبرتني باسمك.»
«مستحيل.»
«أخبرتني. هل تتذكرين؟ تلك الليلة، في القصر الزجاجي. أنت الفتاة التي كانت مع الأميرة. تذكَّرِي. تحدثتُ معك، وسألتُكِ عن اسمك.»
خبطتْ دُلِّي بيديها على أذنيها: «كذب. كل كلمة منه. ألَّفْتَ هذا كله. كل شيء، كل كلمة بدون استثناء. ليست هناك ذرة حقيقة في كل ما قلتَ الليلة. كان مين وميبيا إلهين بالنسبة لشعب مَنْدالي. ما كان أحد يجرؤ على فعل شيء مما وصفْتَ … بكي الناس حين أُبعِدْنا.»
«بكوا. تلك حقيقة. لكن هذه أيضًا حقيقة: الرعاع، القصر. كنتُ هناك، وأنتِ أيضًا. تذكري — تلك الليلة في القصر، انتزع أحدُنا شيئًا منك — صندوقًا. وجدْتُه وأعدْتُه. وحينها أخبرتني باسمك: دُلِّي. ما زلتُ أسمع صوتك.»
أشاحتْ بوجهها: «وأنت هنا بسبب هذا؟ بسبب ما رأيْتَ تلك الليلة في القصر؟»
«نعم.»
ارتفع صوتها إلى صرخة إنكار حزينة: «أخطأْتَ، مستر رها. لستُ أنا مَنْ رأيتها. كانتْ واحدة أخرى. يتغير الأطفال حين يكبرون. لا أتذكر ما تصف. لم أكن هناك. كانت هناك فتيات كثيرات يعملن في القصر. ربما كانت واحدة أخرى. لا أعرف. لم تكنْ أنا. لم أكن هناك.»
«أتذكر ما رأيتُ.»
«كيف يمكن أن تكون متأكدًا؟ لا أتذكر شيئًا من ذلك الوقت. لم أرغب أبدًا أن أتذكر. وأنت نفسك كنت ولدًا، طفلًا.»
«لكنني ما زلتُ أتذكر.»
«لهذا جئْتَ إلى هنا تبحث عني؟»
«مس دُلِّي، أنا بلا عائلة، بلا أبوين، بلا أخوة، بلا أخوات، بلا نسيج لذكريات صغيرة أقتطع منه ثوبًا كبيرًا. يعتقد الناس أن هذا محزن وهو كذلك. لكنه يعني أيضًا أنه ليس أمامي إلا اختيار ارتباطاتي الخاصة. هذا ليس سهلًا، كما ترين. لكنها حرية من نوع ما، وبالتالي ليست بلا قيمة.»
«وماذا توقعت أن تجد؟ هل أتيتَ إلى هنا معتقدًا أنك ستجدني ما زلتُ طفلة؟ واحدة يمكن أن تعيدك إلى صباك؟»
«أتيتُ لأني استطعتُ. لم أتوقع شيئًا.»
«أودُّ أن أقول، مع احترامي، إنك لا يمكن أن تحكمي على هذا.»
«مستر رها، الأفضل أن تغادر الآن.»
«لا يمكن أن أغادر بدون أن أخبرك بأنك أسأْتِ فهمي الليلة على طاولة العشاء. وهذا سبب رجوعي على أعقابي وأنا في طريقي إلى الخروج. قطعتُ طريقًا طويلًا. لا يمكن أن أغادر بهذه النبرة.»
بدا ظلٌّ عن بعد، على النافذة المفتوحة في غرفة النوم؛ أوما، تنادي وهي تكور يديها حول فمها: «أين أنت، دُلِّي؟ في الحديقة؟»
خفضتْ دُلِّي صوتها: «مستر رها، أنا آسفة إذا كنتُ قد قلتُ شيئًا ظالمًا أو قاسيًا. أنا على يقين من أنك لا تقصد أذى. لكن مجيئك إلى هنا غلطة والأفضل أن تنهيها بأسرع ما يمكن. مما يدعو للأسف أنك ضيعت الكثير من الوقت والجهد.»
«لم يكن ضائعًا.»
•••
استقبلت الملكة الجابي، كالمعتاد، وهي تجلس في مقعدها الأسود المزخرف وظهرها إلى الباب. كان وجهها قناعًا حادًّا، وشفتاها حمراوين. وبدتْ بشرتها العاجية شفافة تقريبًا في خفوت ضوء الشموع. ترتدي هتامينًا من الحرير الأحمر، وفي قدميها جورب وشبب أسود، مطرز بخيوط ذهبية.
أومأت للجابي بالجلوس، بدأت بدون تمهيد، متحدثة بالهندوستانية: «يريد عظمة الملك، جابي صاحب، أن يخبركم بأن ابنتنا الكبرى، الأميرة أشين هتيك سو مات فيا جاي، حامل، ولم يبقَ على موعد ولادتها إلا أسبوع أو اثنان. نكون ممتنين إذا نقلت الأخبار الطيبة لرؤسائك في حكومة الهند.»
بشكل غريزي صحح الجابي لها: «لكن، جلالتك، لا يمكن، لأن الأميرة ليس لها زوج.»
«ربما ليس لها طبقًا لمعلوماتك.»
قال الجابي: «ليستْ مسألة رأي. لم أصدر تصريحًا للأميرة بالزواج. لذا لا يمكن أن تكون متزوجة قانونيًّا.»
صمتت الملكة لحظة ثم ظهرت ابتسامة خفيفة على وجهها.
«جابي صاحب، أنت مطَّلعٌ بشكل جيد. يدهشني أن أحدًا من جواسيسك لم يفكر أن يخبرك بأن الأطفال يمكن أن يولدوا بدون تصريح.»
«تقصدين أن الطفل …»
«نعم. بقوانينكم، الطفل لقيط.»
«والأب؟»
«قابلْتَه كثيرًا.» ثبَّتتْه بنظرة لا ترف: «حوذينا، شاب رائع.»
حينذاك فقط قبض الجابي على مضمون ما قالت بشكل كامل: «لكن ماذا أبلِّغ. ماذا أقول للحكومة؟»
«تنقل ما قيل لك: تقول إن ابنتنا ستنجب طفلًا بعد وقت قصير وأن الأب حوذينا، سوانت.»
قال الجابي: «لكن، جلالتكم، راعي سمعة الأميرة، راعي مقامكم في المجتمع.»
«مقامنا؟ ما هذا بالضبط، جابي صاحب؟»
«زوجكم ملك بورما، برغم الخلع. ابنتكم أميرة.»
«أؤكد لك، جابي صاحب، أن عليك، من بين الناس جميعًا، ألا تزعج نفسك وتذكرنا بهذا.»
شعر بالعرق يتدفق على جبهته. لا يزال هناك وقت، قال لنفسه: يمكن معالجة المسألة بحكمة، بدون أن يصل الخبر للجمهور. يمكن حث الشاب على العودة بهدوء إلى قريته وأسرته. وإذا أثار مشكلة، يمكن أن يتعامل معه مستر رايت ورجال البوليس.
«جلالتكم، أتوسل إليك أن تفكِّري. هل من المناسب أن ترتبط أميرة بورما بمستخدم في المنزل، بخادم؟»
فرَّتْ ضحكة صغيرة مرتجفة من شفتي الملكة: «جابي صاحب، أنت خادم أكثر من سوانت. على الأقل ليست لديه ضلالات عن مكانه في العالم.»
حدَّق الجابي فيها. قال: «أنا مندهش بصراحة، لأن جلالتكم اختارت إلقاء الضوء على هذه الفضيحة.»
كان الجابي يعرف أن الاستجابة المناسبة إيماءة اعتراض، عرض للسخط. لكنه تحت النظرة المتفحصة القاسية للملكة عجز عن إيجاد الكلمات المناسبة.
قال أخيرا: «جلالتكم، لستُ عدوَّكم. بالعكس، اعترفتُ لك مرات كثيرة بأني أؤمن بأن شكاواكم على أسس قوية. المسألة، لسوء الحظ، ليست في يدي. من فضلك صدقيني حين أقول إني لا أهتم إلا بمصالحكم. فقط بدافع الاهتمام بك وبأسرتك أطلب منكم التفكير في قراركم بقبول هذا الرجل — هذا الحوذي — في عائلتكم. ألتمس من جلالتكم التفكير في الطريقة التي ستستقبل بها الجماهير هذا — في تدمير سمعة عائلتكم.»
أمالت الملكة رأسها: «لسنا موظفين حكوميين، جابي صاحب. بالنسبة لنا آراء الناس عمومًا مسألة لا أهمية لها.»
«أراك حسمْتِ أمرك.»
«عار عليك، جابي صاحب، أن تتجرأ وتحكم على سلوك بناتي؛ عار عليك أن يكون لديك من الوقاحة ما يجعلك تأتي إلى هذا المنزل وتحدثني عن الفضيحة.»
نهض الجابي: «جلالتكم، هل لي أن أذكر اعتبارًا أخيرًا؟ لا أتوقع أن تروه عظيم الأهمية، لكني أشعر بأن لي الحق، رغم ذلك، أن أنبِّهَ إليه. عليكم أن تدركوا أن هذه المسألة لو انتشرت على الملأ، فسأتعرض أنا، على الأرجح، باعتباري حارسكم المسئول، للوم. ومن المؤكد تقريبًا أن يعني هذا نهاية مهمتي هنا كجابي.»
ضحكت الملكة: «أطمئنك، جابي صاحب، ندرك هذا جيدًا.» ضحكت مرة أخرى، ورفعت يدها الصغيرة لتغطي فمها: «أنا متأكدة من أنك ستجد طريقة تحافظ بها على نفسك. هذا ما يفعله عادة المسئولون الحكوميون. وإذا لم تجدْ فلا تلُمْ إلا نفسك.»
والملكة، بعينيها السوداوين الحادتين؟ سمع ذات مرة أنها تحب ثيبو حبًّا حقيقيًّا. لكن ماذا يعرف هؤلاء الأرستقراطيون المتعطشون للدماء عن الحب أو أية مشاعر رقيقة، لم يقرأ هؤلاء الأميون كتابًا في حياتهم، ولم ينظروا أبدًا باستمتاع إلى لوحة؟ ماذا يعني الحب لهذه المرأة القاتلة، المسئولة عن ذبح عدد هائل من أقاربها؟ إلا أنها في الحقيقة فضلت، من أجل زوجها، الأسر عن الحرية، حكمت على بناتها بعشرين سنة من النفي. هل تفعل أوما الشيء نفسه من أجله؟ هل تفعل أية واحدة؟ ارتجف، مدَّ ذراعيه ليسند على جانبَي العربة.
في المقر، كانت أوما في انتظاره. جاءت إلى الباب تعدو لتدخله، مبعدة الخدم: «ماذا جرى؟ ماذا قالت؟ أخبرْني.»
سأل الجابي: «أين دُلِّي؟»
«مرهقة. ذهبت إلى السرير مباشرة.»
«تعالي.»
قادها الجابي إلى غرفة النوم وأغلق الباب.
«كنتِ تعرفين. أليس كذلك؟»
«بمَ؟»
«أوما، مهما أكن، لستُ أحمق. أتحدثُ عن حمل الأميرة.»
كانت أوما تجلس على حافة سرير بناموسية، حولت نظرتها.
«كنتِ تعرفين إذن، أليس كذلك؟»
«بلى.»
«دُلي أخبرتك؟»
«نعم.»
«ولم يخطر ببالك أبدًا أن تخبريني؟ ربما تكون مسألة بالغة الأهمية؟ ربما يكون لها عواقب بالنسبة لي؟»
«كيف أخبرك؟ وعدتُ بألا أخبرك.»
جاء ليقف بجوارها، نظر إلى رأسها المنخفض.
«وهل وعدك لدُلِّي أهم من الرابطة بيننا، أنتِ وأنا؟» مدَّ يديه إلى يديها وأمسكهما برقة: «انظري إليَّ، أوما. لماذا لا تثقين فيَّ؟ هل أهنتُك في يوم من الأيام، بأية طريقة؟ هل اعتقدْتِ أنني لم أكن أتصرف بحكمة؟»
«وعدْتُ.»
حدَّق فيها في ذهول: «عرفتِ ذلك من أيام، وربما شهور. كنا معًا أثناء ذلك. ألم تشعري أبدًا برغبة في التحدث معي في الموضوع؟ لا باعتباري جابي رتناجيري، ولا حتى باعتباري زوجك، لكن مجرد رفيق، شخص تقضين أيامك في صحبته؟»
خلصتْ يديها من قبضته. ماذا يريد منها؟ أطاعتْ أوامره في كل شيء: تذهب إلى النادي حين يطلب منها ذلك؛ تذهب إلى كل مواعيدها. ماذا تقدم أكثر من ذلك؟
بدأت تنشج، مغطية وجهها بيديها. المزايا الزوجية التي قدمتها له لم تُجْدِ معه نفعًا: علمته كمبريدج أن يريد أكثر؛ أن يتأكد من ألا يبقى شيء معلَّقًا، أن يساوم على روح امرأة بعملة العطف والصبر. أصابها التفكير في هذا الأمر بالهلع. كان خضوعًا يفوق ما تقتضيه الأصول، ما تتخيله. لم تستطع التفكير فيه. أي شيء أفضل من الاستسلام.
١٣
بدا لأوما أنها نامت للتو، بعد قضاء ساعات طويلة بدون نوم، حين سمعتْ صوتًا بجوارها: «ممصاحب! ممصاحب!»
«جنتلمان؟ مَنْ؟»
«مستر رها؟» انتصبت أوما على الفور: «ماذا يفعل هنا؟»
«طلب أن يراك. ودُلِّي، ممصاحب.»
«هل أخبرْتِها بذلك؟»
«دُلِّي، ممصاحب، ليستْ هنا. غادرت في وقتْ مبكر من الصباح.»
«متى؟»
«في وقت مبكر جدًّا. أعادها كنهوجي إلى منزل أطرام.»
التفت الناموسية حول أوما: لم تستطع تخليص الناموسية من وجهها.
«لماذا لم أُبلَّغ؟»
«طلب الجابي صاحب ألا نوقظك.»
خربشت الناموسية بنفاد صبر بمخالب أصابعها. كان هناك صوت تمزيق وفتحت أمامها فجوة فجأة. مرت من القطع، ونزلت بساقَيها من السرير.
لم تكن تحب أن تنصرف دُلِّي بهذه السرعة بدون كلمة.
قالت للأيا: «أرسلي بعض الشاي إلى البيتاك خانة، وأخبري الجنتلمان بأني سأخرج فورًا.»
ارتدتْ ملابسها بسرعة وأسرعت إلى الدهليز. أخذت الأيا معها إلى غرفة الاستقبال وتركتها تجثم قرب الباب طبقًا للأصول.
«مستر رها؟»
كان في الناحية البعيدة من الغرفة، ينفث الدخان في نافذة مفتوحة. استدار حين سمع صوتها، ونفض رماد الشيروت. كان يرتدي ملابس «إنجليزية» — بدلة بيضاء من الكتان.
«مدام الجابي، آسف لإزعاجك …»
«لا. لا إطلاقًا.» سعلتْ. كانت الغرفة معبأة بدخان التبغ الحارق.
بدد سحابة الدخان مع إشارة اعتذار: «آسف. جئتُ أشكرك … على الليلة الأخيرة.» توقَّفَ، سمعتْه يبلع ريقه كأنه يحاول استجماع نفسه ليقول شيئًا ما: «وأودُّ أن أشكر مس سين أيضًا، إذا استطعتُ.»
«دُلِّي؟ لكنها ليستْ هنا. عادت إلى منزل أطرام.»
«أوه.» جلس في مقعد، تتحرك شفتاه في صمت، كأنه يحدِّث نفسه. لاحظت أن شعره منكوشٌ وعينيه غائمتان من نقص النوم.
«هل لي أن أسأل إن كانت ستعود إلى هنا اليوم؟»
قالت أوما بهدوء: «مستر رها، أودُّ أن أعبر عن دهشتي من اهتمامك بهذا الشكل بواحدة تكاد لا تعرفها.»
تطلع إليها: «مدام الجابي …»
«نعم.»
«أودُّ أن أخبرك بشيء.»
«واصلْ»
«لم أكن صريحًا تمامًا معك. أو مع عمك.»
«كيف؟»
«ليس هذا أول لقاء بمس سين. أتيتُ إلى هنا بسببها. أتيتُ بحثًا عنها.»
حاولتْ أوما أن تضحك: «ماذا؟ لا بدَّ أن هناك خطأ، مستر رها. من المؤكد أنك تفكر في واحدة أخرى. لا يمكن أن تكون قد قابلْتَ دُلِّي قبل هذا. عاشت دُلِّي حياتها كلها هنا. أؤكد لك ذلك. لم تغادر رتناجيري منذ كانت في العاشرة.»
«الفتاة التي تحدثتُ عنها الليلة الماضية — فتاة القصر الزجاجي؟»
«نعم؟»
«كانت هي — دُلِّي، مس سين.»
التقى رَجْكومار بها أسفل الحديقة، وهي تفتح الباب الصغير: «ربما يبدو لك ذلك غريبًا جدًّا.»
«نعم. يبدو غريبًا.»
قادتْه إلى المصطبة تحت شجرة البيبول. كان نهر كجالي يلمع كزجاجة في الوادي. «اجلسْ من فضلك، مستر رها.»
قال رَجْكومار: «لم أعرف أني سأجدها هنا. لم أكن متأكِّدًا. كان مجرد مكان أبدأ منه — طريقة لحسم أمر مع نفسي. عليَّ أن آتي طالما هناك مكان يمكن أن أبحث فيه. لم يكن لي اختيار. كنتُ متأكِّدًا من أني سأجد المسألة مستقرة: ستكون متزوجة، أو تحمل طفل شخص آخر. أو ميتة، أو تحولت إلى شيء لا يمكن التعرف عليه. أو قد تمحو نظرتها الذكرى من عقلي، تحررني. ثم دخلتُ منزلكم الليلة الماضية، ووجدتها. عرفتُها في الحال: وجهها، تعبيرها. وخرجت المسألة من يدي، لكن ليس كما توقعتُ.»
«ولم ترها إلا تلك المرة؟»
«مرتين. في مَنْدالي. لكن لو قابلتُها ألف مرة لما اختلف الأمر. أعرف ذلك. أنا على يقين من ذلك. وأنا صغير جدًّا، كنتُ أعمل على سفينة، سمبان شيتاجُنج. منذ زمن بعيد، حتى قبل أن أذهب إلى مَنْدالي. ذات يوم حاصرتنا عاصفة. كنا في البحر المفتوح، هبَّتْ عاصفة مفاجئة والسفينة تقلع من ساحل البنغال. تدفقت المياه في السفينة، على مؤخرتها. ربطتُ بالصاري وقدم لي دلو لأنزح به. بسرعة اسودت السماء ولم أكن أرى ما حولي إلا مع البرق. مع إحدى تلك الومضات، لاحظتُ شيئًا. رأيتُ حيوانًا، سلحفاة صغيرة ظهرها أخضر. دفعتها موجة وبطريقة ما وقعت في شبكة. كانت أبعد من متناول يدي بقليل، والأمواج تضرب السفينة بشدة فلم أجرؤ على حل حبلي. كنا، السلحفاة وأنا، مقيدين في مكانينا. ومع كل ومضة برق، أتطلع فأجدها هناك. هكذا استمرَّ الأمر في تلك الليلة الطويلة، الطويلة: الحيوان وأنا، كل منا ينظر إلى الآخر، عبر الأمواج والرياح. قرب الفجر هدأت العاصفة. فككتُ حبالى وخلصتُ السلحفاة من الشبكة. أراها بوضوح حتى اليوم. إذا وضعْتِ ألف سلحفاة أمامي الآن، فلن تكون حقيقية بالنسبة لي كما كان ذلك الحيوان.»
«لماذا تحكي هذا لي، مستر رها؟»
«لمن غيرك أحكي؟»
«احْكِ لدُلِّي.»
«حاولتُ. الليلة الماضية. رأيتها تمشي في الحديقة فعدْتُ بعد أن تركتك.»
«ماذا قالتْ؟»
«صممتْ على الغضب — كما كانت على العشاء. رأت أن ما قلتُ خطأ. طلبت مني أن أرجع. لن تراني مرة أخرى. قضيتُ الليلة كلها أفكر فيما أفعله بعد ذلك؟ في أي مكان آخر، أجد أناسًا أرجع إليهم: قد يعرف أصدقائي رأيها من أصدقائها. أطلب من شخص التحدث إلى عائلتها. ثم أذهب بنفسي للقاء أبيها، نناقش الفلوس ومكان الإقامة؛ أمورًا من هذا القبيل. أجد مساعدة من أناس يتكلمون نيابة عني.»
أومأت أوما: «نعم. سيكون هناك وسطاء، يتوسطون بينكما. أناس يستطيعون شرح ما نريد أفضل منا.»
جرتْ أوما وأخوها الصغير إلى فراندة تطلُّ على ساحة البيت. كانت إحدى عماتها على الباب في الدور السفلي. صاحت أوما: «هل مات أحد؟»
انفجرتْ عمتها في الضحك: «مات؟ لا، يا سخيفة. أدخليني.»
أنصتتْ أوما وأخوها عند الباب والأم تتباحث مع الزائرة. سمعاهما تذكران اسم الجابي وتعرفا عليه: قرآ عنه حديثًا في الصحف والمجلات. كان معروفًا كنابغة. كطالب، تفوق في جامعة كلكتا وساهمت عائلات الجيران الموسرين ببعض الموارد ليُبعَث إلى كمبريدج. عاد بطلا صغيرًا، وقُبِل في أعظم وأقوى كادر إمبراطوري، الخدمة المدنية الهندية.
«وهو يطلب ابنتي أوما؟»
ترددت في أرجاء المنزل صرخة ارتياب أطلقتها أمها. لم تكن أوما، إطلاقًا، أجمل فتيات منطقتها أو أبرعهن: لم تكن تستطيع الغناء أو الخياطة؛ لم يكن شعرها ناعمًا تمامًا ويُعتقَد أنها أطول من اللازم.
«ابنتي أوما؟»
تراجع أخوها بعيدًا عنها، وفغر فاه غير مصدق: «أنت!» قالت لتضايقه: «حسنا، لا يمكن أن يتزوجك أنت.» انفجر في البكاء، وكأنه كان يتطلع إلى ذلك.
«لماذا أنا؟» طرحت أوما السؤال مرات ومرات على كل الوسطاء والمتوسطين. «لماذا أنا؟» وأكثر ما استطاع أي شخص أن يقوله لها: «يعتقد أنك ستتعلمين بسرعة.»
وهما وحديهما، في غرفة النوم الغارقة في الورود في الليلة الأولى، جلسا لحظة طويلة صامتين على السرير، نتيجة الخجل، ولم يكن أقل خجلا منها. سمعا أصوات الأصدقاء والأقارب، متجمعين قرب الباب المغلق، يضحكون ويتبادلون النكات البذيئة المألوفة. أخيرًا تكلم، فشعرتْ بارتياح: تحدث عن كمبريدج، عن الشوارع المرصوفة بالحصى، عن الجسور الحجرية، عن الحفلات الموسيقية التي حضرها. دندن بلحن موسيقي؛ لمؤلفه المفضل، كما قال. أحبَّتْ حيوية اللحن وسألت: ما اسمه؟ شعر بالسعادة لأنها سألت.
«جميل. دندن به مرة أخرى.» غرقت في النوم، واستيقظت بعد ساعات على لمساته. لم يكن الألم مروِّعا كما قيل لها — لم يكن أسوأ بكثير من الذهاب إلى طبيب — كانت الغرفة معتمة جدًّا، مما جعل الأمر أسهل. حين سألتْ أمُّها في اليوم التالي، ارتبكت لأنها لم يكن لديها قصة مرعبة تحكيها، مثل الأخريات.
«كان عطوفًا ورقيقًا.»
قالت أمُّها: «ماذا يطلب المرء أكثر من ذلك؟ أعدَّ لك أثاثًا رائعًا، أوما. لا تجعلي يومًا يمر بدون أن تعبري عن امتنانك لما حصلت عليه.»
أعادها صوت رَجْكومار إلى الحاضر: «هل تساعدينني، مدام؟ أنت الوحيدة الذي يمكن أن أصل عن طريقها إلى دُلِّي الآن. ليس هناك شخص آخر يمكن أن ألجأ إليه.»
حاولتْ أن تصور دُلِّي بعيني الرجل الذي يجلس بجوارها، هذا الغريب بالفعل. شعرت فجأة بقلبها يُفعَم بالحنان، بالحب. لمن هذا الحب؟ له؟ أم لها؟ ربما للاثنين؟ ماذا تفعل إذا تركتْها دُلِّي؟ انبعث بريق حياتها من دُلِّي، مع أن الأمر، بحق، يجب أن يكون بالعكس. دُلِّي السجينة رغم كل شيء: وكانت، مسز أوما دي، المحظوظة، تكلَّمَ الجميعُ عنها دائمًا، ماذا تطلب أكثر من ذلك؟ لكن الآن، وهي تفكر فيما قد تكون عليه في رتناجيري بدون دُلِّي، شعرتْ بالدموع تنهمر في عينيها. وصلت إلى حافة المصطبة لتهدأ ويدها تسند على يده.
حدَّق فيها، مقطِّبًا باهتمام: «مدام؟ مسز دي؟ مسز دي، هل أنت بخير؟»
انتزعتْ يدها: «نعم، نعم. مجرد دوخة بسيطة. لا أعرف ما المسألة.»
«هل نعود إلى الداخل؟»
نهضتْ: «نعم. مستر رها، لم تقل لي ماذا تتوقع مني؟»
«يمكن أن تكلميها.»
«كلمها بنفسك، مستر رها. الأمور لا تسير بشكل جيد في وجود وسطاء.»
نظر إليها عن قرب، ثم داهمها فجأة، قال: «الجابي رجل لطيف، مسز دي، رجل رائع. الرجال من أمثاله جديرون بكثير …»
قاطعتْه بسرعة: «نعم، بالطبع، نعم. تعال، لندخلْ.»
•••
أخذت الأيا دُلِّي إلى غرفة الاستقبال وأرتها النافذة المفتوحة: «ذهبت المدام إلى الحديقة — منذ بضع دقائق فقط.»
أومأت دُلِّي: بالطبع، في هذا الوقت من اليوم تكون أومًا تحت شجرة البيبول دائمًا. أسرعتْ عبر العشب، مرت بالمالين الذين حيوها، إلى الباب الصغير. وهي تتلمس المزلاج، سمعت صوتًا. قبل أن تستدير، رأت أمامها أوما ورَجْكومار، يخرجان فجأة من لحية البيبول الرمادية المتشابكة. وقفوا، الثلاثة جميعًا، وكل منهم يحدق في الآخر.
بادرتْ أوما بالكلام. قالت بسرعة: «مستر رها، آمل ألا تستاء إذا طلبتُ منك أن تتركنا وحدنا دقيقة؟ أودُّ أن أتحدث مع دُلِّي — بضع كلمات ليس إلا. يمكن أن تنتظر عند بوابة الحديقة؟»
«بالطبع.»
أخذتْ أوما ذراع دُلِّي: «تعالي، لنذهب ونجلس تحت الشجرة لحظة.»
وهما تشقان الطريق في متاهة الجذور تحت شجرة البيبول، همستْ دُلِّي: «ماذا يفعل هنا، أوما؟ ماذا يريد؟»
«كان يتحدث. عنك.»
«ماذا قال؟»
«أعتقد أنه حاول أن يخبرني بأنه يحبك.» جلست أوما تحت الشجرة وشدَّتْ دُلِّي بجوارها.
دفنتْ دُلِّي وجهها في يديها: «أوه أوما. الليلة الماضية، في حديقتك، قال لي أشياء كثيرة. كان غريبًا جدًّا، مضطربًا جدًّا. لم أنمْ، ظللتُ أفكر في الوطن — مَنْدالي، القصر، حوائط الزجاج.»
«قال إنك لا تتذكرينه.»
«لا أظن.»
«أنت، إذن؟»
«لستُ متأكدة، أوما. أتذكر شخصًا، ولدًا، أسود جدًّا؛ أتذكر أنه أعطاني لفافة صغيرة من الطعام؛ أتذكر إفلين تقول، خذيها، خذيها. لكن لا شيء واضح. ذلك منذ فترة طويلة، وحين أفكر فيه أشعر بالهلع.»
«أعتقد أنه يحبك حقًّا، دُلِّي.»
«يحبُّ من يتذكرها. لا أنا.»
«ماذا عنك، دُلِّي؟ بم تشعرين؟»
«أشعر بالهلع، أوما. ارتكبتُ هذه الأخطاء المروعة في الماضي. عاهدتُ نفسي ألا أرتكب خطأ آخر.»
«أية أخطاء؟»
«لم أقل لك ذلك أبدًا، أوما، لكن منذ سنوات طويلة، اعتقدتُ أني أحب موهانبهي — حوذينا. عرفت الأميرة. هددتْنا. أعتقد أنها كانت تحبه.»
«هل كنت تريدين الزواج منه؟»
«لا أعرف، أوما. كنتُ صغيرة جدًّا، ولا أفهم حقًّا ما يحدث. في النهار أبعده عن تفكيري. وفي الليل أحلم به، فأستيقظ وأفكر: لماذا لا نهرب؟ لماذا لا ألفُّ أشيائي في صرة على الفور وأنزل إليه وأوقظه وأقول: موهانبهي، لنذهب، لا شيء لنا هنا في منزل أطرام؟ لكن إلى أين نذهب؟ وماذا نفعل؟ عائلته فقيرة جدًّا ويعتمدون عليه. عرفتُ حقًّا أنه لن يغادر حتى لو توسلتُ إليه. وكان هذا أسوأ ما في الأمر، الإذلال. فكرتُ في نفسي، هل صرتُ خادمة حقًّا، مثله؟»
«هل أخبرْتِه في أي وقت؟»
«لا. لم نتكلم أبدًا إلا في المسائل اليومية. وبعد وقت توقفت الأحلام وفكرتُ، أنا متحررة منه الآن، استقامت الأمور أخيرًا. لكن في الليلة الماضية، وأنا نائمة في غرفتكم تلك، حلمْتُ من جديد. كنتُ في منزل أطرام، في سريري. كانت هناك شجرة مانجو قرب النافذة. نهضتُ من سريري وربطتُ أشيائي، في صرة، وعلقتها على ظهري. نزلتُ وأخذتُ أجري في المجمَّع إلى كوخ البوابة. كان الباب مفتوحًا ودخلتُ. كان الجو مظلمًا ولم أرَ إلا لنجوته الأبيض، معقودًا بإحكام بين ساقيه، يعلو ويهبط مع تنفسه. وضعتُ يدي على جسمه. وضعتُ أصابعي في التجويف أسفل زوره. استيقظ وتطلع إليَّ ولمس وجهي. ثم قال: نذهب؟ خرجنا، وفي ضوء القمر رأيتُ أن ليس موهانبهي.»
«من؟»
«هو.» أمالت رأسها باتجاه البوابة، حيث تركتا رَجْكومار.
«ثم؟»
«استيقظتُ مفزوعة. كنتُ في منزلكم، في غرفة النوم تلك. لم أحتمل البقاء لحظة. ذهبتُ وأيقظتُ كنهوجي.»
«دُلِّي. أعتقد أن عليك أن تخبريه.»
«مَنْ؟»
«مستر رها.»
بدأتْ دُلِّي تنتحب ويدها على كتف أوما: «لا. لا. أوما، لا أستطيع التفكير الآن إلا في ولادة طفلي. لا مكان في رأسي لشيء آخر.»
برِقَّةٍ، مرت أوما بيدها على رأس دُلِّي: «الطفل ليس طفلك، دُلِّي.»
«لكن كان يمكن أن يكون طفلي.»
وضعتْ أوما يدها على كتفي دُلِّي، أسندتْها لتتمكن من النظر في وجهها: «دُلِّي، اسمعيني. دُلِّي، هل تصدقينني إذا قلتُ لك إني أحبك كما لم أحب أحدًا من قبل أبدًا؟ كنتُ مجرد فتاة قبل أن أقابلك. أطلعْتِني على معنى الشجاعة، على ما يمكن أن يتحمله الإنسان. لا أستطيع التفكير في الوجود بدونك. لا أعتقد أني أستطيع البقاء هنا يومًا واحدًا إن لم تكوني هنا. لكني أعرف هذا أيضًا، دُلِّي: يجب أن تذهبي إن استطعْتِ. يجب أن تذهبي الآن. ولادة هذا الطفل ستفقدك عقلك إن بقيتِ في منزل أطرام.»
«لا تقولي هذا، أوما.»
«دُلِّي، اسمعيني. هذا الرجل يحبك. أؤمن بهذا. اسمعيه على الأقل.»
«أوما، لا أستطيع. ليس الآن. ليس مع قدوم الطفل. إذا كان ذلك في السنة الأخيرة …»
«إذن قولي له ذلك بنفسك. أنت مدينة له بذلك.»
«لا. أوما، لا.»
وقفتْ أوما: «أنا ذاهبة لأبعث به إلى هنا. في ظرف دقيقة فقط.»
قبضتْ على يدي أوما: «لا تذهبي، أوما. من فضلك. من فضلك لا تذهبي.»
«هذا ما يجب أن يُفعَل، دُلِي. لا سبيل غيره. سأبعث به إلى هنا. ثم أذهب إلى المنزل. سأنتظرك. تعالي وأخبريني بما يحدث.»
•••
لمحها رَجْكومار وهو يشق طريقه حول الشجرة: كانت دُلِّي تجلس منتصبة على المصطبة، ويداها معقودتان بدقة على حجرها. ألقى بشيروته المنتهي ووضع آخر في شفتيه. ارتجفت يده بشدة وحاول إشعال الثقاب عدة مرات.
«مس دُلِّي.»
«مستر رها.»
«اسمي رَجْكومار. سأكون سعيدًا إذا ناديتني به.»
نطقت المقاطع بتردد: «رَجْكومار …»
«شكرًا لك.»
«طلبتْ أوما أن أتحدث إليك.»
«نعم.»
«لكن ليس لديَّ ما أقوله في الحقيقة.»
«إذن دعيني …»
رفعتْ يدها لتوقفه: «من فضلك. دعني أكمل. عليك أن تفهم. مستحيل …»
«ما المستحيل؟ أودُّ أن أعرف. أنا رجل عملي. أخبريني وسأحاول أن أفعل شيئا.»
«هناك طفل.»
«طفل؟» أخرج رَجْكومار الشيروت من فمه: «طفل مَن؟ طفلك؟»
«الأميرة الأولى على وشك الوضع. الأب يعمل في منزل أطرام. أنا أيضًا كنتُ أحبه — والد طفل الأميرة — ذات يوم. يجب أن تعرف ذلك. أنا لستُ الطفلة التي عمرها عشر سنوات كما كنتُ في مَنْدالي.»
«هل تحبينه الآن؟»
«لا.»
«الباقي إذن غير مهم بالنسبة لي.»
«مستر رها، يجب أن تفهم. هناك أمور لا يمكن أن تغيرها مهما كان لديك من أموال. أشياء قد تختلف بالنسبة لنا في وقت آخر أو مكان آخر. لكن الوقت متأخر جدًّا الآن. هذا وطني. عشتُ حياتي كلها هنا. مكاني هنا في منزل أطرام.»
الآن، أخيرًا، بدأت الآمال، التي ساندته كثيرًا جدًّا، تتسرب ببطء. قال كل ما يستطيع. لم يستطع التفكير في وسيلة أخرى يناشدها بها، وقد أسكتته قبل أن يبدأ.
«من فضلك. أتوسل إليك، لا تقل أكثر من ذلك. ستسبب فقط ألمًا لا مبرر له. هناك أشياء في هذا العالم لا يمكن أن تحدث، مهما أردنا.»
«لكن هذا ممكن … يمكن، فقط إذا فكَّرْتِ فيه.»
«لا. من فضلك لا تقلْ شيئًا آخر. اتخذتُ قراري. هناك شيء واحد فقط أودُّ أن أطلبه منك الآن.»
«ماذا؟»
«أطلب منك أن تغادر رتناجيري بأسرع ما تستطيع.»
أجفل، ثم حنى رأسه.
«لا أرى سببًا للرفض.» وبدون كلمة أخرى، استدار وابتعد في ظلال شجرة البيبول الكثيفة.
١٤
«سوانت.»
«سوانت، إنه يغادر.»
«مين؟» كان الوقت مبكِّرًا جدًّا وقد أحضر سوانت للملك كوب الشاي الذي يحب أن يشربه في الفجر.
«الرجل الذي وصل قبل أيام على سفينة بومباي البخارية. يغادر. يحملون أمتعته في المرفأ.»
«مين، لا توجد سفينة بخارية اليوم.»
«استأجر مركبًا.» في ذلك الوقت من العام، بعد انتهاء الرياح الموسمية مباشرة، يحدث تغير في التيارات السائدة والمياه حول فم الخليج لوقت قصير، تغير خطير جدًّا. في تلك الأسابيع كان الهوري الرمث البحري الوحيد الذي يتحدى دوامات التيارات البحرية التي تجرف الشاطئ.
«مين.» وضع سوانت براد الشاي بجوار مقعد الملك وغادر الغرفة بسرعة.
كان كل من في المنزل نيامًا إلا الملك وسوانت. كانت غرفة الانتظار التي تنام فيها دُلِّي على بعد بابين من الدهليز. كان لدُلِّي وحدها جناح، لأن الأميرة الأولى لم تعد تصعد إلى الدور العلوي إلا نادرًا، مفضلة غالبًا البقاء في كوخ البوابة مع سوانت.
دفع سوانت باب دُلِّي، انسلَّ إلى الغرفة. كانت نائمة، تستلقي على السرير الضيق الذي استخدمتْه في السنوات العشرين الأخيرة. كان شعرها مفكوكًا أثناء الليل ومنكوشًا على مخدتها. أثناء الراحة بدت بشرتها شفافة، وكان لوجهها جمال صافٍ يشبه نقشًا في معبد. تردَّد سوانت وهو يقف بجوار سريرها، يشاهد الإيقاعات البطيئة لتنفسها.
أمس، في طريقه إلى قريته عند المصب، قابل سوانت راعي أغنام في طريق عودته من جهة المقر. تحدثا بعض الوقت عن شجرة البيبول، عن ممصاحب الجابي، عن الأمير الغني من بورما المتيم بدُلِّي.
كان من المستحيل التفكير في منزل أطرام بدون دُلِّي؛ من المستحيل تخيل رتناجيري خالية من وجودها. لكن أفضل من أن يراها تضيع أمام عينيه. لا، من حقها عليه. ركع بجوارها ورفع يده.
كانت ترتدي ساريا ليليًّا مجعدا، ثوبًا أبيض يتدلى كحجاب على أطرافها النحيلة الطويلة. فكر في الوقت الذي كانا يجلسان فيه معًا على سريره المصنوع من الحبال المرتخية، ولَنْجُته المصبوغ بالدماء يلتف على ساقيها المتشابكتين. تجمدتْ يده وهو على وشك إيقاظها. كان التفكير في أن يكون بدون دُلِّي جنونًا! بدأ يتراجع. لكنه توقف مرة أخرى. لا، من حقها عليه.
فجأة فتحتْ عينيها: «أنت!» انتصبت، وذراعاها مثنيتان على صدرها.
وضع إصبعا على شفتيه: «بهدوء. الجميع نيام. بهدوء. البسي.»
«لماذا؟»
«إنه يغادر. رجلكِ.»
اتسعتْ عيناها فزعًا: «بهذه السرعة؟»
«نعم.»
«لكن ليست هناك سفينة بخارية. وفي هذا الوقت من السنة، اعتقدتُ أنه لن يستطيع الذهاب.»
«استأجر هوري.»
«لكن أليس الوقت متأخرًا جدًّا الآن؟»
«لا. لن يستطيعوا الإقلاع قبل الشروق. بسرعة. عليك أن توقفيه. عانيتِ كثيرًا جدًّا، دُلِّي. لا تعاني مرة أخرى. تعالي. بسرعة.»
«كيف؟»
«سأعد الطراب وآخذك إلى مَنْدفي. بسرعة.»
حين انتهت من ارتداء ملابسها، كانت الطراب في الخارج، جاهزة للمشي. علَّق في الطراب أسرع جياده، فرس رمادية. مدَّ يده ليساعد دُلِّي على الصعود ثم ضرب رأس الفرس بطرف سوطه. انطلقت الطراب متمايلة، ونزلا من الهضبة، بجوار طوابير البوليس والسجن والكتشيري. في بازار جينجيناكا، جرت خلفهما مجموعة من كلاب الحراسة تنبح وهما يسرعان بجانبها. من على مسافة طويلة أبصرا الهوري، يغادر مرساه ويندفع، بالمجداف، في الخليج.
«موهانبهي!»
طرقع سوطه: «لا أستطيع أن أجري أسرع من ذلك، دُلِّي.»
حين وصلا إلى المرفأ كان المركب قد قطع مسافة طويلة، ووصل إلى فم الخليج: «اجري، دُلِّي، اجري!» قفز سوانت وشدَّ لجام الفرس: «اجري! اجري!»
جرتْ إلى المرفأ، مترنحة؛ كان المركب عن بعد يناور بمجاديفه الأمامية للانزلاق عبر المياه الضحلة والتيارات التي تواجهه. ارتجَّتْ مؤخرته بعنف وهو يقترب من المياه المتدافعة في البحر المفتوح. في بضع دقائق يكون خارج الخليج. ترنحتْ مرة أخرى، وهي على وشك الاستسلام بدأت مجاديف الهوري تلفُّ، بعيدًا عن فم الخليج. عاد الرمث الثقيل إلى الساحل، لفَّ الطريق كله حول الخليج، واندفع عند نهاية المرفأ. ارتفع الهوري عاليًا في المياه وقدَّر رَجْكومار بسهولة المسافة بين المركب والحافة الخارجية للمرفأ.
سار إليها، وهو ينفث شيروته: «نعم؟»
شعرت بحمرة الخجل، وتدفق الدماء في وجهها. قالتْ، مختارة كلماتها بعناية: «مستر رها، التيارات خطيرة في هذا الوقت من السنة، وبنجلو داك محجوز لمدة أسبوع. ما من سبب يجعلك تغادر بهذه السرعة.»
«لكنك قلْتِ …»
«نعم، لكن هناك أحيانًا فرق بين ما يقول المرء وما يعني …»
«أخرج رَجْكومار الشيروت من فمه بيد تتحرك ببطء شديد، كأنه في ذهول من عدم التصديق. ثم أطلق ضحكة ورمى بشيروته عاليًا في الهواء. وقفا ينظران إليه، جنبًا إلى جنب، يضحكان، ويشاهدانه يرتفع ملتفا فوقهما. فجأة تحلل الطرف المتوهج وتطاير وابل من الشرر. كأن السماوات تمطر ألعابًا نارية.
•••
ظهرتْ على الجابي علامات البهجة حين أخبرته أوما أن رَجْكومار ودُلِّي سيتزوجان. قال: «عظيم! عظيم!
أوضحت أوما أن دُلِّي تريد احتفالًا هادئًا جدًّا: كانت متأكدة من أن الملكة ستبذل أقصى ما تستطيع لمنع الزواج إذا علمتْ به.
بروح اللحظة قدم الجابي عدة اقتراحات. لماذا لا يقام الحفل في المقر؟ يمكن أن يصدر التصريح بنفسه ويشرف على الزواج شخصيًّا. بعد ذلك، ربما الشمبانيا؛ للأربعة فقط — وعلى أوما أن تحرص على ادخار آخر كمية ثلج من بومباي … كان الحماس في صوته قويًّا بدرجة جعلتْ أوما لا تتمكن من التخلص من الإحساس بأن زوجها مبتهج لأنه لن يرى دُلِّي مرة أخرى.
جاء اليوم، جهزت أوما إكليلين، من الزهور المخملية والياسمين. أعدتْهما بنفسها من زهور اقتُطِفتْ من الحديقة. في نهاية الحفل المدني، في «مكتب معسكر الجابي»، وضع كل من دلي ورَجْكومار إكليلًا على الآخر، مبتسمين كالأطفال.
كانت الخطة المعدَّة للزوجين أن يقضيا ليلة الزفاف في بنجلو داك، حيث يقيم رَجْكومار. هرَّبتْ دُلِّي بعض مقتنياتها وملء حقيبة من الملابس من منزل أطرام بمساعدة الأميرتين الأولى والثانية. أعطتْها الأميرة الأولى حلَقًا والثانية سوارًا من اليشم. سعدتا لها وكانتا على يقين من الفتاتين الأخريين ستسعدان لها أيضًا. لكنهما، لتظل الأخبار سرًّا، لم تخبرا الأميرتين الصغريين. فيما بعد، حين يتم التوقيع على كل شيء وختمه بسلام، يمكن أن تعود دُلِّي إلى منزل أطرام مع زوجها الجديد لتقدم احتراماتها.
في الغسق جمع رَجْكومار ودُلِّي مقتنياتهما. أقرضتهما أوما جاري كنهوجي. وفي الطريق إلى بنجلو داك غيَّرتْ دُلِّي رأيها.
قالت لرَجْكومار: «لنذهب إلى منزل أطرام الآن. نتحدث مع الملكة وننهي الأمر معها.»
كان الظلام قد حل حين وصلا إلى هناك. في غرفة الملك لمبة مضيئة وأخرى في غرفة سوانت قرب البوابة. اعتقدتْ دُلِّي أن الأميرات في الدور الأرضي، يجلسن حول لمبة واحدة لتوفير الزيت. كم كانت دهشتهما!
كانت البوابات مغلقة، طلبتْ من كنهوجي استخدام القارعة. طرق بقوة لمدة خمس دقائق، ولم يأتِ رد.
ذهبتْ دُلِّي إلى نافذة غرفة البوابة وطرقت عليها. نادتْ: «موهانبهي. افتح البوابات. أنا، دُلِّي. جئتُ أودعكم. افتح البوابات.»
انطفأت الأضواء في الغرفة، وبعد دقيقة أو اثنتين، سمعتْ صوت سوانت، يهمس: «دُلِّي؟»
«أين أنت، موهانبهي؟»
«هنا. بجوار عمود البوابة.» كان يبدو من خلال الشق بين الحائط والبوابة: «دُلِّي، ميبيا تعرف. طلبت مني ألا أسمح لك بالدخول، أو أفتح لك البوابات.»
لهثتْ دُلِّي. كيف تغادر رتناجيري بدون توديع مين وميبيا والأميرات؟ «لكن موهانبهي، أنا، دُلِّي. دعني أدخل.»
«لا أستطيع، دُلِّي. تعرفين، أفتح لو كنتُ أستطيع. لكن ميبيا في إحدى نوبات غضبها. تعرفين كيف يكون غضبها.»
حدث توقف ثم ظهرت صرة ملابس عند قمة البوابة.
قال سوانت: «حزمت ميبيا بعض أشيائك. طلبت مني التأكد من أنك ستأخذينها.»
تركتْ دُلِّي الصرة تسقط على الأرض.
توسلت: «موهانبهي، دعني أدخل. بضع دقائق فقط. فقط لأودعهم.»
«لا أستطيع، دُلِّي. لا أستطيع حقًّا. قالت ميبيا إنها ستحبسني إذا فعلتُ؛ طلبتْ ألا نذكر اسمك مرة أخرى في هذا المنزل.»
انتحبتْ دُلِّي، وهي تخبط رأسها في عمود البوابة.
نظر سوانت من الشق: «لا تبكي، دُلِّي. سنفتقدك، كلنا. انظري، البنات يلوحن لك من فوق.»
كانت الأميرات الأربع يقفن متجاورات عند إحدى نوافذ الدور العلوي يلوحن وحاولت أن تلوح لهن، لكن ساقيها انثنتا تحتها. وقعت على ركبتيها منتحبة. اندفع رَجْكومار يرفعها من الأرض. رفعها بيد واحدة، والتقط صرة ملابسها باليد الحرة.
«تعالي، دُلِّي. لنذهبْ. لا يمكن فعل شيء.» كان عليه أن يرفعها من الأرض ليضعها في الجاري.
«شلو، شلو، يالدي شلو.»
وهما يمران بثكنات الشرطة، قرب ساحة العرض، خرج بعض زوجات الكونستبلات والأطفال للتلويح لهما. بدا أنهم جميعًا يعرفون أن مس دُلِّي سترحل.
انحنتْ في مقعدها، متشبثة بملابسها القديمة. صرة ملابس، مرة أخرى؛ هذه المرة فقط لا تحملها على رأسها.
•••
لاحظتْ أوما، وهي ترفع يدها لتطرق باب مكتب الجابي أنه موارب بعض الشيء. رأته من الفتحة، يجلس منتصبًا في مقعدٍ بظهر مستقيمِ. تتدلى نظارته على عنقه، ويحدق في الفضاء.
التفت في البداية حين طرقت الباب: «ادخلي.»
قال: «أتيتِ لتخبريني بأنك تريدين الذهاب إلى الوطن. هل أنا مصيب؟»
أومأت: «نعم.»
«هل لي أن أسأل لماذا؟»
«لا فائدة من وجودي هنا. ليس هناك ما يمكن أن أفعله لك ولا يمكن أن تفعله لنفسك بشكل أفضل. ومع ذهاب دُلِّي …»
سلَّك حنجرته، وقاطعها: «وهل لي أن أسأل متى تعودين؟»
لم ترد، وهي تنظر في صمت إلى حجرها.
«حسنًا؟»
«تستحقين من هو أفضل مني.»
أشاحتْ بوجهها فجأة، بحيث لا ترى إلا جانبًا من وجهه.
قالت بسرعة: «يمكن أن تتزوج مرة أخرى. اتخذ زوجة أخرى. لن تعترض عائلتي.»
رفع إصبعه ليسكتها.
قال بصوت رسمي بارد: «هل يمكن أن تخبريني ما الخطأ الذي ارتكبته؟ هل أسأتُ معاملتك؟ هل أسأتُ التصرف؟»
تدفقت الدموع من عينيها، أعمتْها: «لا. أبدًا. لم تكن إلا عطوفًا وصبورًا. ليس لديَّ ما أشكو منه.»
قال متحدثًا إلى نفسه أكثر مما يتحدث إليها: «حلمتُ بالزواج الذي أريده. بالعيش مع امرأة ندٍّ، في الروح والعقل: بدا ذلك لي أبدع ما يمكن أن تقدمه الحياة. نستكشف معًا عالم الأدب والفن: ماذا يمكن أن يكون أكثر ثراء من ذلك، أكثر إشباعًا؟ لكن ما حلمتُ به ليس ممكنًا بعد، ليس هنا في الهند، ليس لنا.» جرى بأصابعه على الخطاب الموضوع أمامه، نازعًا بتراخٍ ختم الشمع الثقيل.
«ستعودين للعيش مع أبويك، إذن؟»
«نعم.»
ابتسم لها ابتسامته التهكمية الواهية: «قضيتِ وقتًا طيبًا. عليك أن تحزمي أشياءك بسرعة على أية حال.»
انتبهتْ فجأة: «لماذا؟ عم تتحدث؟»
التقط الخطاب من فوق مكتبه ونقره بنظارته ذات الإطار الذهبي: «من السكرتير العام في بومباي. وصل اليوم. توبيخ، إذا جاز التعبير. أيقظ حمل الأميرة معلمينا فجأة للجريمة المنكرة التي ارتكبت بحق هذه العائلة. لم يكن لكل الخطابات التي أرسلتُها وأرسلها من كانوا قبلي تأثيرٌ إطلاقًا. لكن رائحة اختلاط الأجناس نبهتهم كما لا يمكن لشيء آخر أن ينبههم: يمكنهم التسامح بشأن أشياء كثيرة، إلا هذا. يودون فصل أجناسهم بدقة. أثارت النظرة العامة للتعامل مع لقيط مختلط اهتياجًا بين مكاتبهم. ولا بدَّ أن أكون كبش الفداء لعشرين عامًا من الإهمال. انتهتْ مهمتي هنا وعليَّ أن أعود إلى بومباي.»
وضع أنامله معًا وابتسم عبر المكتب بطريقته التهكمية الباهتة.
«كما قلتُ، اخترتِ الوقت المناسب للرحيل.»
•••
اعتاد الجابي أن يذهب إلى منزل المراكب مرتين أسبوعيًّا. لم يمارس التجديف إلا قليلًا في كمبريدج وكان يمكن أن يمارسه أكثر لولا انشغاله بالدراسة لامتحانات الخدمة المدنية. كان يستمتع بالتركيز التام في الرياضة، الإحساس بالانطلاق بسرعة منظمة، بسرعة وبدون تسرع. بجانب ذلك، كان لديه اعتقاد ديني تقريبًا بأهمية ممارستها.
عند رحيله وهب زورقه لمنزل المراكب. ومنذ ذلك الوقت تحول المركب إلى تذكار من نوع ما، وعاء مستر جيب للذخائر المقدسة. رُكِن في أحد أطراف السقيفة ولم يُستخدَم أبدًا. قال الجابي للشوكيدار: «ماذا عن هذا الزورق؟»
جاءت الإجابة: «ذلك مركب مستر جيب. في هذا المركب اعتاد جيب صاحب أن يجدف إلى البحر.»
«هل يصلح للاستخدام؟»
«نعم، صاحب. بالطبع.» كان الشوكيدار مزهوًّا بوظيفته ويعمل بجدية للحفاظ على مراكبه في حالة جيدة.
«حسنًا، إذن. ربما أخرجه اليوم.»
لهث الشوكيدار: «أنت، صاحب؟ لكن مستر جيب كان خبيرًا جدًّا …»
كبح الجابي نبرته، قال ببرود: «أعتقد أني أستطيع التعامل معه.»
«لكن، صاحب …»
«من فضلك افعل ما أقول.»
حُمِل المركب إلى الماء وصعد إليه الجابي والتقط المجدافين. جدف مرة عبر الخليج واستدار. شعر بانتعاش غريب. بدأت الهوة بين ذراعي الخليج تغريه.
مضتْ عدة أسابيع وهو يفكر في تجريب مجرى البحر. شاهد صيادي السمك المحليين ينسلون خارج الخليج، وطبع في ذهنه نقطة خروجهم، الطريق الذي قادوا رموثهم خلاله إلى البحر المفتوح.
ذات يوم، قال لنفسه، ذات يوم … يبدأ برحلة تجريبية قصيرة، يختبر المياه، إذا جاز التعبير. ذات يوم. لكن الآن لم تعد هناك أيام أخرى. الأسبوع القادم يكون في بومباي في مكتب بلا نوافذ، يتعامل مع النظام الضريبي المحلي.
لاحظ بالكاد انحراف الرمث عن مساره؛ مالت مقدمته إلى الغرب، إلى فتحة الخليج. كأن روح شخص آخر تحرك الزورق، مسئول راحل، كأنه يوجه نفسه.
شعر بطمأنينة غريبة، بسلام. كان من الأفضل دائمًا ترك هذه الأشياء لرجال مثل مستر جيب: كنت دائمًا في أمان معهم، ترعى، تستعد.
لم يكن هناك مبرر للاستعجال في العودة إلى المقر. لا أحد في انتظاره. بدا البحر دافئًا وكريمًا وبدا أن الزورق يعرف طريقه.
عاليًا فوق الخليج، في منزل أطرام، كان الملك في طريقه إلى البلكونة ونظارة أبيه المذهبة في إحدى يديه. رقد معظم الليل مؤرَّقًا واستيقظ مبكرًا حتى عن المعتاد. خلق رحيل دُلِّي حالة انزعاج في المنزل. كان حسَّاسًا تجاه هذه الأشياء: تزعجه. لم يكن من السهل معالجة التغير بنجاح في هذا العمر. وجد صعوبة في النوم.
رفع النظارة إلى عينيه. لم يكن الضوء جيدًا. لم يخرج صيادو قرية كرلا من المصب بعد. ثم لمح الشكل النحيل الطويل لزورق سباق ينطلق عبر المياه المظلمة. كان الرماث يجدف بإيقاع قوي ثابت، يكاد يلمس ركبتيه بجبهته قبل أن يعتدل مرة أخرى.
دُهِش. مضتْ فترة طويلة منذ آخر مرة رأى هذا الزورق يتجه إلى البحر المفتوح — لم يتجه إليه منذ مستر جيب، منذ زمن بعيد، منذ أكثر من عشر سنوات. وحتى مستر جيب لم يجازف بالخروج إلى البحر أثناء الرياح الموسمية: لم يكن ليفكر في ذلك، كان يعرف التيارات المتقاطعة التي تجرف الشاطئ أثناء الأمطار.
تفرج في دهشة والرمث الانسيابي يندفع إلى الأمام في اتجاه الخط الأبيض المزبد الذي يفصل المياه الهادئة في الخليج عن المياه المتلاطمة في البحر أثناء الرياح الموسمية. فجأة التوى المركب واندفعت مقدمته خارج المياه. رفع المجدِّف ذراعًا، وهنا سحبته الأمواج المنحسرة وقذفت به إلى أسفل، تحت السطح. وقف الملك في صدمة. قبض على قضبان البلكونة، مال على الدرابزين. بدأ يصيح: «سوانت! سوانت!»
كان الوقت مبكرًا في الصباح وجاء صوته ضعيفًا مبتسرًا. كان سوانت نائمًا في غرفة البوابة في سريره الضيق، وإحدى ذراعيه ملقاة على الأميرة الأولى كأنه يحميها.
«سوانت! سوانت!»
سمعت الملكة صيحاته. كانت أيضًا مستيقظة طوال الليل — تفكر في دُلِّي، تذكرتْ كيف جاءتْ إليها طفلة، كيف كانت الوحيدة في القصر التي يمكن أن تهدئ الأميرة الثانية؛ كيف بقيتْ وتركها الآخرون.
«سوانت.»
نزلتْ ببطء من السرير وذهبتْ لتعرف ماذا يريد الملك.
أشار الملك إلى بضع قطع صغيرة من الحطام، تنجرف عن بعد في فم الخليج: «الجابي!»
نظرت نظرة طويلة بالمنظار المذهب.
«هل مات؟»
«أعتقد ذلك.»
لولا ذلك الرجل، لكانت دُلي لا تزال في منزل أطرام: دُلِّي، التي تبنتْها وربتها وأحبتها كواحدة من أطفالها. لكن رحلت دُلِّي، وكان عليه أن يدفع الثمن. مالت على الدرابزين وبصقت في الحديقة، احتفالًا بموت سجانها.