شجرة الفلوس
١٥
كان من المقرر أن يقيم رَجْكومار ودلِّي في البداية مع سايا جون، في شقته الرحبة في الدور الثاني في ممر بلاكبرن — مجاملة لأن مجمع رَجْكومار في كمندين بدائي جدًّا لا يصلح لسكن الاثنين معًا. أرسل سايا جون برقية إلى رَجْكومار يخبره إنه يرحب به هو ودُلِّي ليقيما في ممر بلاكبرن حتى يشيد بيتًا يصلح للإقامة.
ابتعد رَجْكومار بنفاد صبر واتجه إلى كابينته. يحاول منذ الصباح تشجيع دُلِّي على الخروج: يتوق لأن يفرجها على مشهد رنجون من النهر؛ يتوق أيضًا لمعرفة إن كانت تتذكر شيئًا عن رحلة خروجها، منذ حوالي خمسة وعشرين عامًا. لكن في آخر ثلاثة أيام، والسفينة تقترب من بورما، زادتْ عزلة دُلِّي. في ذلك الصباح رفضت الخروج إلى ظهر السفينة؛ قالت إنها مصابة بدوار البحر؛ يمكن أن تخرج بعد ذلك، حين تشعر بتحسن؛ كانت لا تريد إلا أن تستريح وتستجمع قواها.
لكن لم يعد هناك وقت إطلاقًا. يصلون المرفأ في دقائق. اندفع رَجْكومار إلى الكابينة، جاء صوته متدفقًا ومرتفعًا: «دُلِّي — نحن في الوطن. تعالي — اخرجي …» حين لم ترد، توقف. كانت تجلس على السرير، وجبهتها على ركبتيها، ترتدي هتامين من الحرير الأحمر أعدَّ لهذه المناسبة.
لمس كتفها فوجدها ترتجف: «ما المسألة، دُلِّي؟ ماذا حدث؟»
أبعدتْ يده: «لا شيء. أنا بخير. آتي فيما بعد؛ اتركني فقط أجلس هنا حتى ينزل الجميع من السفينة.»
كان يفضِّل ألا يلقي الضوء على مخاوفها. قال: «حسنًا، أعود إليك بعد عشرين دقيقة.»
«نعم. سأكون جاهزة حينها.»»
بقيتْ دُلِّي على حالها، ورأسها يستريح على ركبتيها، تحاول أن تهدئ من روعها. شعرتْ بصدمة حين رست السفينة البخارية، ثم سمعتْ أصوات الشيالين والحمالين تدوي في جوانب السفينة. كانت الأنماط المترقرقة للضوء المتلألئ تتراقص على السقف، مضيئة في الداخل من كوة، بعيدة عن سطح النهر المظلم المستطيل. في لحظة، فُتِح باب الكابينة وأصدر صريرًا. سمعت صوت رَجْكومار: «دُلِّي …»
تطلعت لترى رَجْكومار يدخل شخصًا إلى الكابينة: رجلًا ضئيل الجسم، مهيبًا، يشبه البومة، يرتدي بدلة رمادية وقبعة من اللباد. خلع الرجل قبعته وابتسم ابتسامة عريضة حتى اختفت عيناه تقريبًا في تجاعيد وجهه المخطط بعمق. عرفتْ أنه سايا جون، صارت أكثر توجُّسًا مما كانت في أي وقت. أكثر لقاء أفزعها: تحدث رَجْكومار عن معلمه بإسهاب شديد حتى صار سايا جون بمثابة حما في ذهنها، يُهاب ويُستعطَف، أو يُقاوَم ويُحارَب — لم تكن لديها فكرة عن الطريقة التي قد تجري بها الأمور بينهما. وهي تواجهه شخصيًّا، وجدتْ نفسها تثني ذراعيها معًا على الطريقة الهندية، بلا وعي، بحكم قوة العادة الطويلة.
ضحك ودخل الكابينة بسرعة. خاطبها بالبورمية، قال: «انظري، معي شيء لك.» لاحظت أن لهجته غريبة تمامًا.
وضع يده في جيبه وأخرج سوارًا ذهبيًّا مزخرفًا بالتثقيب وملفوفًا في منديل. أمسك رسغها، ووضع السوار على مفاصل أصابعها. قال: «كان لزوجتي. ادخرْتُه لك.»
لفت السوار حول رسغها. وَمَضَت الأسطح الذهبية المصقولة في الضوء المنقط الذي يمر من الكوي. وضع ذراعه حولها، وتحت ضغط يده شعرت بهواجسها تتبخر. نظرتْ إليه بخجل وابتسمتْ: «جميل، سايا. سأحتفظ به.»
رأى رَجْكومار، وهو ينظر من المدخل، الضباب الذي تكاثف حولها آخر بضعة أيام ينقشع. قال بسرعة: «تعالي. لنذهب. الجاري تنتظر.»
في الطريق إلى ممر بلاكبرن، في العربة، وضع سايا جون يده في جيبه مرة أخرى: «معي شيء لكَ أيضًا، رَجْكومار.» أخرج شيئًا كرويًّا صغيرًا، ملفوفًا في منديل أيضًا. أعطاه لرَجْكومار بحرص.
حين فكَّ رجومار المنديل، وجد في يده كرة إسفنجية من خيوط رمادية فاتحة تلتف حول بعضها، مثل الصوف. رفع الكرة إلى وجهه، مجعِّدًا أنفه من رائحة غريبة: «ما هذا؟»
«مطاط.» استخدم سايا جون الكلمة الإنجليزية.
«مطاط؟» عرف رَجْكومار الكلمة لكنه لم يدرك ما تشير إليه إلا بشكل غامض. أعطى الكرة لدُلِّي فاستنشقتْها، وتراجعتْ: رائحتها إنسانية أكثر مما هي نباتية، رائحة إفراز الجسد، العرق.
«من أين حصلت عليها، سايا؟» قال رَجْكومار في حيرة.
«في بلدتي الأصلية — مَلَقَا.»
نظر سايا جون بصعوبة إلى الأشجار ولم يعرف اسمها: «ما هذه؟»
«مطاط.»
استعلم سايا جون، سأل بعض المطلعين عما تحتاجه زراعة المطاط. جاءت الإجابة مختصرة دائمًا: الأرض والعمال أكثر ما يحتاج إليه المزارع؛ الحصول على البذور والشتلات سهل. ومن الحاجتين الأساسيتين، كان الحصول على العمال أسهل: وكان هناك نقص في العمال. تطلعت حكومة المستعمرات البريطانية إلى الهند لمدها بشيالين وعمال للمزارع.
بدأت تداعب سايا جون فكرة شراء أرض لماثيو، ابنه. اكتشف بسرعة أن أسعار الأرض حول ملقا ارتفعت بحدة؛ نُصِح بالسفر إلى الشمال، باتجاه حدود سيام. بدأ غير مقتنع تمامًا. كان يعرف أنه أكبر من أن يبدأ مشروعًا جديدًا كبيرًا؛ لكن يمكن الاعتماد على رَجْكومار — يعرف كيف يؤسس قوة عاملة — وبالطبع هناك ماثيو دائمًا، مع أنه بعيد في أمريكا منذ سنوات طويلة. لا أحد يعرف ما يفعل ماثيو هناك؛ آخر ما سمعه أن الولد سافر شرقًا، إلى نيويورك. وصل خطاب منذ فترة؛ قال شيئًا ما عن البحث عن وظيفة — لا شيء إطلاقًا عن العودة إلى الوطن. ربما هذا ما يحتاج إليه ليعيد الولد إلى الوطن: مشروع جديد ضخم يكرس له نفسه: شيء ملكه؛ شيء يمكن أن يكبر. رأى نفسه عجوزًا يعيش مع ماثيو — يجب أن تكون للولد أسرة، أطفال؛ يعيشون معًا في مكان هادئ، تحيط بهم الأشجار والخضرة.
قال سايا جون لرَجْكومار: «لديَّ أرض هناك الآن، في انتظار عودة ماثيو.»
لم يكن رَجْكومار، المتزوج حديثًا والمتلهف على ملذات الحياة المنزلية، على استعداد للتعامل مع معلمه بجدية: «لكن، سايا، ماذا يعرف ماثيو عن المطاط أو المزارع؟»
«لا يهم. سوف يعرف. وبالطبع، ستكون معه لتساعده. سنكون شركاء، ثلاثتنا: أنت وأنا وماثيو.»
هزَّ رَجْكومار كتفيه: «سايا، حتى أنا معرفتي بهذا الشيء أقل من معرفة ماثيو. مهنتي الخشب.»
«الخشب شيء من الماضي، رَجْكومار: تطلعْ إلى المستقبل — وإذا جاز القول إن الفلوس تنمو على شجرة، فهي، إذن، المطاط.»
شعر رَجْكومار بيد دُلِّي تضغط على يده في بحث قلق. وكزها وكزة طمأنة كأنه يقول: مجرد نزوة من نزوات رجل عجوز؛ لا داعي للقلق.
•••
عادتْ أوما، بعد ترملها مباشرة، إلى لَنْكاسوكا، منزل والديها في كلكتا. كانتْ أسرة صغيرة: لها أخ واحد، أصغر منها بكثير. لم يكن منزلا فخمًا إلا أنه كان رحبًا ومريحًا: يتكون من دورين، في كل منهما بلكونة نصف دائرية. كانت الغرف جيدة التهوية ومنيرة، بسقوف عالية وأرضيات حجرية تبقى باردة حتى في أشد مواسم الصيف حرارة.
لكن لم تكن عودة أوما إلى الوطن سعيدة. كان أبوها أثريًّا وعالِمًا: لم يكن من الذين يتمسكون بكل الطقوس التقليدية للترمل الهندوسي، لكنه لم يكن مستنيرًا بحيث لا يتأثر تمامًا بانتقادات جيرانه. شعر في أعماقه أنه فعل كل ما يستطيع ليخفف قسوة موقف ابنته. لكن كانت حياة أوما، كأرملة تعيش في البيت، لا تزال تخضع للقيود الصارمة والحرمان: حُلِق شعرها؛ لا يمكن أن تأكل لحمًا أو سمكًا؛ ولا يُسمَح لها إلا بارتداء الملابس البيضاء. كانت في الثامنة والعشرين وحياتها لا تزال أمامها. والشهور تزحف، تبين أنه لا بد من التفكير في حل آخر.
كانت أوما امرأة لها مواردها المستقلة، دخل من معاش كبير جدًّا. شغل الجابي في حياته إحدى أكثر الوظائف دخلًا في الإمبراطورية، وعند موته تبين أنه قام بالكثير من الاستثمارات الذكية، منها عدد باسم أوما. مع دخل مضمون وبدون أطفال تراعهم، لا شيء يقيدها في الوطن وتدفعها كل الأسباب للرحيل. حُسِم الأمر حين تسلمت خطابًا من دُلِّي، تدعوها فيه لزيارة رنجون. وكان واضحًا أن مغادرة الوطن أفضل حل.
أثناء الرحلة، غطَّتْ أوما رأسها بشال لتخبئ رأسها الحليق. قابلتها دُلِّي مع رَجْكومار عند مرفأ شارع بار، وحين نزلت مزَّقتْ دُلِّي شالها.
قالت: «لماذا تخبئين وجهك؟ أعتقد أنك تبدين جميلة على هذا النحو.»
اصطحب رَجْكومار ودُلِّي أوما مباشرة إلى البيت الجديد في كمندين: انتقلا إليه حديثًا وكان لا يزال تحت التشييد. ولأن المنزل أنشئ بسرعة كبيرة فقد جاء بناء عشوائيًّا من طراز قديم — دورين من الغرف المتصلة تجتمع حول فناء مربع. الأرضيات من الحجارة الحمراء المصقولة، ويمتلئ الفناء ببلكونات تشبه الدهاليز. والدرابزين من الحديد الرفيع المشغول. وبطول جدران المجمع عدد من الغرف الخارجية الصغيرة. يقيم فيها الحراس والجناينية والمستخدَمون الآخرون الذين يعملون في المنزل.
مرَّ وقت أوما بسعادة بالغة. وكثيرًا ما تُدعى مع دُلِّي وكان هناك ما تفعله دائمًا. وبمرور الأسابيع تنامى لديها إدراك أكثر إيلامًا بالمسافة بين سعادة دُلِّي الغامرة وظروفها الخاصة. في الماضي، تساءلتْ أوما كثيرًا حول زواج دُلِّي: هل تزوجتْ رَجْكومار لتهرب من سجن منزل أطرام؟ أم وقعتْ في الحب — ليس إلا؟ رأتْ أوما، وهي تشاهدهما معًا، أن السببين لا ينفي أحدهما الآخر: لعب كلٌّ من الحافزين دورًا في خلق كلٍّ مكتمل، مثل تطابق القطع المشوهة في لغز. ورأت أيضًا أنه اكتمال لم تعرفه أبدًا؛ افتخرتْ دائمًا بمعرفة آرائها في كل شيء، ربما لا تعرف أبدًا، لأنها لا تنوي أبدًا أن تذعن لحظة في طريق دُلِّي.
بدا أن دُلِّي ورَجْكومار لا يعرف كل منهما شيئًا عما يحبه الآخر ويكرهه، عما يفضله وعن عاداته، إلا أن المعجزة أن عدم الفهم المتبادل — رأت أوما ذلك بوضوح — أدى إلى تقوية الارتباط بدل إضعافه. بينها وبين الجابي، من ناحية أخرى، حكمتْ كلَّ شيء قواعدُ ومعانٍ محددةٌ بوضوح. وحين يطرح سؤال عما يحبه أو يريده أي منهما، كان لا يستطيعان إلا إحالته للعرف والإتيكيت. وهي تفكر في الماضي، رأت أنها تشبه الجابي بأكثر مما اعترفت في أي وقت؛ هي أيضًا مخلوقة القواعد والمنهج والإصرار العنيد، وهي في هذا لا تشبه دُلِّي إطلاقًا.
بمرور الأيام، أدركت الأسى المتراكم، وهو أقوى شعور عرفته. في ضوء الإدراك المتأخر، أدركت أن الكلمات التي استخدمها الناس دائمًا لوصف الجابي — رجل طيب — صحيحة؛ كان رجلًا طيبًا حقًّا، رجلًا أمينًا — رجلًا عظيم الذكاء والقدرة تصادف أنه ولد في بيئة لا تستطيع تقديم المسار المناسب لإشباع مواهبه. استحوذ على قوة هائلة كجابي مقاطعة، إلا أن المنصب، للمفارقة، لم يقدم له إلا القلق والشك؛ تذكرت الطريقة العصبية التهكمية التي لعب بها دور الجابي؛ تذكرت كيف كان يشرف على المائدة، الدقة التي لا تُحتمَل في إشرافه، الجهد الذي استثمره في قولبتها بالصورة التي يطمح أن يكون عليها هو نفسه. بدا أنه لم تمر لحظة أبدًا لم يكن فيها فريسة الخوف من ألا يفكر فيه زملاؤه البريطانيون. إلا أنه بدا أن هناك اتفاقًا عامًّا على أنه من أنجح الهنود في جيله، نموذج لرجال بلده. هل يعني هذا أن الهند كلها ستصبح ذات يوم ظلا لما كان عليه؟ يحاول ملايين الناس أن يعيشوا حياتهم بشكل ينسجم مع قواعد غير مفهومة؟ الأفضل أن تكون مثل دُلِّي: امرأة ليستْ لديها أوهام عن طبيعة حالتها؛ سجينة عرفتْ حقيقة أبعاد قفصها وسعتْ للقناعة في هذه الحدود. لكنها لم تكن دُلِّي ولا يمكن أن تكون أبدًا؛ جزء منها بشكل لا مفر منه من خَلْق الجابي، وإذا كان الحداد على هذا التشوه لا يقدم شيئًا، فمن واجبها أن توجه قدراتها للبحث عن علاج.
ذات يوم، قال لها رَجْكومار: «ندين لك بكلِّ ما نحن فيه. إذا احتجْتِ شيئًا نودُّ أن نكون أول من تطلبينه منه.»
ابتسمتْ: «أي شيء؟»
«نعم، بالطبع.»
أخذتْ نفسًا عميقًا: «حسنًا إذن، أطلب حجز رحلة إلى أوروبا …»
•••
من عدن كارت بريدي مع صورة لممر ضيق يتدفق بين أخدودين هائلين. كتبتْ أوما إنها ابتهجت باكتشاف هذا الممر المائي — الذي يربط المحيط الهندي والبحر الأحمر — ويعرف بالعربية باسم باب المندب، «مدخل النواح.» هل يمكن أن يتم اختيار اسم أفضل؟
من الإسكندرية صورة لحصن، مع ملاحظات ظريفة عن زيادة ودِّ الأوروبيين على السفينة بمجرد عبور قناة السويس. اندهشتْ أوما، لكن مسز دوت قالت إن الأمر بهذه الصورة دائمًا: في هواء البحر المتوسط شيء يحول حتى أبشع الاستعماريين إلى ديمقراطيين دمثين.
قضتا، هي ومسز دوت، وقتًا مدهشًا؛ تجولتا في البلدة وتفرجتا على معالم المدينة وغامرتا بالذهاب إلى الريف. أمر غريب ومتهوِّر ومنعش — تسافر امرأتان وحديهما، بدون تحرش، لا تتعرضان إلا لنظرة فضولية عارضة. تساءلت لماذا يستحيل أن تفعل الشيء نفسه في وطنها — لماذا لا تفكر النساء في الهند في السفر على هذا النحو، مبتهجات بهذا المعنى للحرية. إلا أن هذا التفكير، في أن القدرة على الاستمتاع بهذا المعنى للحرية مزية، كان مزعجًا. وقد صار، بشكل عارض، ممكنًا فقط نتيجة ظروف زواجها ولأن معها فلوسًا للسفر. تحدثتْ عن هذا بإسهاب مع كدمباري — مسز دوت: لماذا لا تتوفر هذه الحريات عمومًا للنساء في كل مكان؟ قالت مسز دوت إن هذه بالطبع كبرى فوائد الحكم البريطاني في الهند؛ منح النساء حقوق حماية لم يحظين بها أبدًا من قبل. هنا، شعرت أوما، للمرة الأولى أنها لا تتعاطف إطلاقًا مع صديقتها الجديدة. عرفت غريزيًّا أنها مناقشة زائفة، بلا أساس وغير منطقية. كيف يمكن تخيل أن يحظى المرء بالحرية باستعباد بارز؟ أن يفتح المرء قفصًا بالاندفاع داخل قفص أكبر؟ كيف يأمل قطاع من الشعب في تحقيق الحرية وكل الجماهير خاضعة؟ تناقشت طويلًا مع مسز دوت، وفي النهاية نجحتْ في إقناع صديقتها بصواب رأيها. شعرتْ أنها حققت انتصارًا عظيمًا — لأن مسز دوت بالطبع أكبر منها بكثير (وعلى قدر أفضل بكثير من التعليم)، وحتى ذلك الوقت كانت تعلِّمُ أوما كيف تفكر في الأمور.
كانت دُلِّي في السرير وهي تقرأ هذا الخطاب. تشرب مزيجًا لاذعًا وصفته داية، وتحاول أن تستريح. قبل أسابيع شكَّتْ في أنها حامل وتأكد حدسها مؤخَّرًا. ونتيجة لذلك وُضِعتْ على رجيم تطلَّب أنواعًا كثيرة من المشروبات الطبية وكثيرًا من الراحة. لكن الحصول على الراحة لم يكن سهلًا في منزل مشغول يعجُّ بالفوضى مثل منزلها. حتى وهي تقرأ خطاب أوما، حدثتْ مقاطعات كثيرة — مع الطباخ ويو با كيو ودخول ريس عمال البناء يسأل عن تعليمات. بين محاولة التفكير فيما يجب إعداده للعشاء والفلوس التي يحتاجها يو با كيو مقدَّمًا في زيارته التالية للوطن، حاولت التفكير في أوما، مبتهجة بحرية القدرة على الخروج وحدها، في أوروبا. فهمتْ بالحدس لماذا استمتعتْ أوما، مع أنها لم تهتم بذلك إطلاقًا. بدا أن عقلها لا يتسع إلا للزحام الأجوف في حياتها اليومية. فوجئتْ بأنها لم تفكر إلا نادرًا في مسائل من قبيل الحرية أو التحرر أو ما شابه ذلك.
مضى شهران بدون اتصال آخر من أوما. وبمرور الأيام، قلَّتْ قدرةُ دُلِّي على النوم. كانت آلام البطن المبرحة تجعلها تنثني على السرير في الليل. انتقلت إلى غرفة خاصة حتى لا تزعج رَجْكومار. قالت لها الداية إن كل شيء يسير بشكل طبيعي، لكن دُلِّي لم تقتنع: ازداد يقينها بوجود مشكلة. وذات ليلة، في وقت متأخر، تحولت الآلام المألوفة إلى تشنجات تهز النصف السفلي من جسمها كله. أدركت أنها أجهضتْ وصاحتْ على رَجْكومار. أيقظ كل من في البيت وأرسل أناسًا في كل اتجاه — ليأتوا بأطباء وممرضات ودايات. لكن كان الوقت متأخرًا جدًّا، وكان رَجْكومار وحده مع دُلِّي حين قُذِف الجنين الميت من بطنها.
•••
فيما بعد شجَّعتْ مدام كاما أوما على زيارة الولايات المتحدة. كان لها أصدقاء أيرلنديون في نيويورك، قالت إن كثيرًا منهم متعاطفون مع قضية الهند. اعتقدتْ أن مقابلة هؤلاء الناس مهمة لأوما وشعرتْ بأنها قد تحب الحياة في تلك المدينة. فكرت أوما في المسألة بجدية تامة، متأكدة على كل مستوى من أنها لن تبقى فترة طويلة في إنجلترا. في لندن سيطرت عليها فكرة أن المدينة كلها تتآمر لتذكرها بزوجها الراحل.
تركت دُلِّي الخطاب، وقد أنهكتها قراءته، على الطاولة المجاورة للسرير. فيما بعد، حين عاد رَجْكومار إلى البيت، رآه والتقطه.
«من أوما؟»
«نعم.»
«ماذا تقول؟»
«اقرأه.»
فتح رَجْكومار الصفحة وقرأ الخطاب كله ببطء، متتبعًا خط أوما، الذي تصعب قراءته، بسبابته، طالبًا مساعدة دُلِّي في الكلمات التي لم يستطع تتبعها. في النهاية، طوى الصفحات وأعادها على الطاولة المجاورة لسريرها.
«تتحدث عن الذهاب إلى نيويورك.»
«نعم.»
«هناك ماثيو.»
«نعم. نسيتُ.»
«أرسلي لها عنوانه. إذا ذهبتْ إلى هناك، يمكن أن يساعدها ماثيو على الإقامة فيها.»
«صحيح.»
«وإذا كتبْتِ إليها يمكن أيضًا أن تخبريها بأن سايا جون قلق على ماثيو. كتب إلى ماثيو ليعود إلى الوطن — لكنه لم يرد. ساياجاي لا يفهم لماذا لم يرجع. ربما تحلًّ أوما اللغز.»
أومأتْ دُلِّي. قالت: «حسنًا. يقدم لي ذلك شيئًا أكتب عنه.» قضتْ أسبوعًا في تأليف الخطاب، تكتب مقطعًا في كل مرة. لم تذكر شيئًا عن حالتها. ولم تقل شيئًا عن حملها، بدت الإشارة إلى إجهاض غير مناسبة. كتبتْ أساسا عن سايا جون ورَجْكومار وأرسلت الخطاب إلى عنوان أوما في لندن.
حين وصل الرد إلى دُلِّي، كانت أوما قد عبرت الأطلنطي؛ كانت في نيويورك منذ عدة أسابيع. مرة أخرى كانت شديدة الأسف لأنها لم تكتب قبل ذلك — هناك الكثير مما يمكن أن تكتب عنه حتى أنها لم تعرف من أين تبدأ. أثبتتْ نيويورك أنها كل ما تمنتْ، ملاذ لواحدة مثلها، إلا أن الحماية التي تقدمها ليست سلامًا وهدوءًا بل العكس. مكان قد يفقد فيه المرء نفسه تحت ضغط الناس. قررت أن تبقى هناك في ذلك الوقت: حتى وهي في الطريق إليها، عرفتْ أنها مكان يناسب مزاجها لأن كثيرًا من المسافرين أناسٌ أرهقتهم قسوة مظاهر الكذب في أوروبا، مثلها بالضبط.
وصل الخطاب إلى دُلِّي وقد تعافتْ تمامًا. ابتهجتْ كثيرًا بتقرير أوما فقررت الذهاب فورًا إلى رَجْكومار في شادر الخشب لتطلعه على الأخبار. أخذتها جاري مستأجرة مسرعة في الطرق المغبرة في كمندين، مثل طرق القرى، إلى الحصباء السوداء في الاستراند، حيث تقف سفن الشحن راسية بطول أرصفة الميناء، بجوار معبد بوتاتُنْج، ببركه المليئة بالأسماك الذهبية، عبر تقاطع خطوط السكك الحديد إلى الممرات الضيقة في بزُنْدُنج إلى مجمع محاط بالأسوار، يحدد بداية شادر رَجْكومار. كان مكدِّسًا بالزنود، وفريق الأفيال يعمل بجدٍّ. لمحتْ دُلِّي رَجْكومار يقف في ظل كابينة خشبية مرتفعة، مكتبه. يرتدي لُنْجيًا وصدرة، ويدخن شيروتًا، وقد امتلأ رأسه ووجهه بنشارة الخشب.
«دُلِّي!» فُزِع حين رآها في الشادر.
لوَّحتْ له بالخطاب: «عندي أخبار.»
صعدا السلم إلى مكتب رَجْكومار. وقفتْ على رأسه وهو يقرأ خطاب أوما، وحين وصل إلى النهاية، قالت: «ما رأيك، رَجْكومار؟ هل تعتقد أن يرفض ساياجاي — لأن خطيبة ماثيو ليست كاثوليكية، وكل ذلك؟»
انفجر رَجْكومار في الضحك. قال: «ساياجاي ليس مبشِّرًا. يحتفظ بدينه لنفسه. طوال السنوات التي عملتُها معه لم يطلب مني أبدًا الانضمام للكنيسة.»
قالت دُلِّي: «لكن يبقى عليك أن تكون حذرًا حين تخبره …»
«بالطبع. سأذهب وأراه اليوم. أعتقد أنه سيشعر بالراحة حين يعرف أن هذا كل ما في الأمر.»
ذات يوم جاء سايا جون ليراها. جلس بجوار سريرها وأخذ يدها، وضغطها بين يده. قال: «جئتُ أشكرك.»
«على ماذا، ساياجاي؟»
«على عودة ابني.»
«ماذا تقصد ساياجاي؟»
«استلمتُ خطابًا من ماثيو. إنه عائد للوطن. يرتب للأمر. أعرف أنك الجديرة بالشكر. لم أخبر رَجْكومار بعد. أردتُ أن تكوني أول من يعلم.»
«لا، ساياجاي — أوما الجديرة بالشكر. كل ذلك يعود إليها.»
«لكما كلتيكما.»
«وماثيو؟ هل سيعود وحده؟»
ابتسم سايا جون وسطعتْ عيناه: «لا. سيعود إلى الوطن بعروس. سيتزوجان بتصريح خاص قبل أن يغادرا مباشرة، ليتمكنا من السفر معًا.»
«إذن ماذا يعني هذا، ساياجاي؟»
«يعني أن الوقت حان لانتقالي أيضًا. سأبيع أملاكي هنا. ثم أذهب إلى الملايو لأعدَّ الأمور لهما. لكن ما زال هنا الكثير من الوقت. سأبقى هنا حتى ولادة الطفل.»
•••
في السنوات التي تلت رحيل سايا جون عن رنجون، قضى رَجْكومار قدرًا كبيرًا من وقته متنقلًا بين بورما والملايو والهند. كشريك في المزرعة كان مسئولًا عن إمدادها باستمرار بالعمال، ومعظمهم من منطقة مدراس في جنوب الهند. كان رَجْكومار يطلع دُلِّي على تطور المزرعة، لكن رغم توسلاته، لم ترافقه في أية رحلة من رحلاته إلى الملايو. قالت إنها ليست مسافرة جيدة. كان من الصعب أن تترك رتناجيري لتأتي إلى بورما؛ ليست متعجلة للذهاب إلى مكان آخر. لذلك لم تقابل دُلِّي ماثيو وإلسا أبدًا.
أطلع رَجْكومار دُلِّي على خطاب سايا جون مع تعليق: «إذا كان لك أن تذهبي إلى هناك في وقت من الأوقات فقد حان الوقت.»
وافقتْ دُلِّي بعد أن قرأت الخطاب: «حسنًا، لنذهبْ.»
من رنجون، كانت الرحلة تستغرق ثلاثة أيام حتى جزيرة بِنَنْج في شمال الملايو. في اليوم الأخير في البحر، فرَّج رَجْكومار دُلِّي على شيء ضبابي أزرق بعيد في الأفق. كبر بسرعة وتحول إلى قمة خشنة، ارتفع خارج البحر مثل هرم. كان يقف وحده، ولا يبدو على مدى البصر مشهد غيره على اليابسة.
جاءت إلسا إلى نافذة دُلِّي حين توقف القطار. وكان أول ما قالتْ: «عرفتك على أية حال؛ وصفتك أوما بدقة.»
ضحكتْ دُلِّي: «وأنتما أيضًا — كلاكما.»
كان خارج المحطة الصغيرة البدائية مجمَّعٌ كبير. في وسطه شجيرة نحيلة، ليست أطول من دُلِّي نفسها.
قالت إلسا: «يسمونها هنا الأنجسانا. زرعها ماثيو بعد ولادة أليسون مباشرة. يقول إنها ستكبر في بضع سنوات وتصير مظلة ضخمة، تسقط ظلها على المحطة كلها.»
أُخِذتْ عينا دُلِّي بمشهد جديد رهيب: سيارة — مركبة براقة بسطح مستوٍ بغطاء مصقول وإطارات متألقة باثنتي عشرة دعامة. كانت السيارة الوحيدة في المجمع، وقد تجمع حولها حشد صغير للتعجب من لمباتها النحاسية ودهانها الأسود اللامع.
ساروا بالسيارة في سُنْجِي بتاني، عبر شوارع طويلة مليئة بمحلات من القرميد — واجهات المحلات متصلة لتشكل أروقة طويلة ورائعة. ثم ابتعدت البلدة وبدأت السيارة تتسلق.
قالت دُلِّي لإلسا: «متى سمعْتِ آخر مرة عن أوما؟»
قالت إلسا: «رأيتها في السنة الأخيرة. ذهبْتُ إلى الولايات المتحدة في إجازة والتقينا في نيويورك.» قالت إلسا إن أوما انتقلت إلى شقة خاصة بها. تعمل مصححة بروفات عند ناشر. وتفعل أشياء أخرى أيضًا؛ بدت مشغولة جدًّا.
«ماذا تفعل بالضبط؟»
قالت إلسا: «أشياء سياسية أساسًا، على ما أعتقد. تحدثتْ عن اجتماعات وأحاديث ومجلات تكتب لها.»
«أوه؟» كانت دُلِّي لا تزال تفكر في الأمر حين أشارت إلسا أمامها: «انظري — العزبة. من هنا تبدأ.»
قال ماثيو: «سمَّتْها إلسا.»
قالت إلسا موضحة: «عشتُ في طفولتي قرب حديقة اسمها مُرْنِنْجْسَايد. أحببتُ الاسم دائمًا.»
كان عند البوابة صدع مفاجئ في الستارة المتشابكة من الخضرة التي تغطي جانب الجبل: امتدَّتْ أمامهم، بقدر ما ترى العين، صفوف منتظمة من شتلات، متشابهة كلها تمامًا، المسافات بينها متساوية بدقة، بانتظام هندسي. سارت السيارة على مكان مرتفع قليلًا، وظهر أمامهم وادٍ، حوضٌ ضحل على شكل كوب في راحة قمة مقوَّسة. أشجار الحوض مقتلعة وفي الوسط مساحة مفتوحة، حولها مبنيان متداعيان سقفاهما من الصفيح، أقل من أن يكونا كوخين.
قالت إلسا بلهجة اعتذار: «قصد أن يكونا مكتبين للعزبة. لكنا نعيش فيهما حاليًا. بشكل أساسي جدًّا، متأسفة — نحتاج لبناء مكان يصلح للسكن.»
دخلوا، وفي وقت تالٍ من اليوم، أخذت إلسا دُلِّي للتمشية بين أشجار المطاط. كان في كل شجرة قطع مائل حول جذعها، وتحتها قشرة جوز هند مقسومة على شكل كوب. لفَّتْ إلسا سبابتها في أحد هذه الأكواب وأخرجت هلالًا جامدًا من النسغ. قالت إلسا وهي تعطي النسغ لدُلِّي: «يسمونها كتل الأكواب.» رفعت دُلِّي الكتلة الإسفنجية الرمادية إلى أنفها: كانت الرائحة لاذعة ونتنة. أعادتها إلى كوب قشرة جوز الهند.
قالت إلسا: «يأتي النقارون لجمع الكتل في الصباح. لا يمكن فقد نقطة واحدة من هذه المادة.»
سارتا بين أشجار المطاط، صعدتا الهضبة، وواجهتا قمة جنُنْج جراي، المغطاة بالسحب. بدت الأرض تحت الأقدام طرية ووثيرة بسبب سجادة الأوراق الميتة التي تسقطها الأشجار. شاهدا في المنحدر ظلال آلاف الجذوع، متوازية كلها تمامًا، مثل خدوش آلية. كأن المرء في براري وهو ليس كذلك. زارت دُلِّي هوي زيدي عدة مرات وأحبت السكون المثير في الأجمة. لكن هذا المكان لم يكن مدينة أو حقلًا أو غابة: في اتساقه شيء غريب؛ في أن هذا التشابه قد يؤثر على المشهد الطبيعي، على هذا الاحتشاد الطبيعي. تذكرتْ هلعها حين عبرت السيارة من الوفرة المندفعة للأجمة إلى الهندسة المنتظمة للمزرعة. قالت لإلسا: «كأننا نسير في متاهة.»
قالت إلسا: «نعم. وتندهشين من السهولة التي تتوهين بها.»
دخلتا منطقة واسعة مقتلعة الأشجار وتوقفت إلسا، قالت: «هنا سيقام منزل مُرْنِنْجْسايد.»
رأت دُلِّي، وهي تتلفت حولها، أن البقعة تطل على مناظر مثيرة من كل اتجاه. إلى الغرب ينحدر الجبل انحدارًا خفيفًا إلى البحر حيث تغرب الشمس الحمراء؛ إلى الشمال ترتفع قمة جننج جراي، تطل عليهما مباشرة.
قالت دُلِّي: «بقعة مدهشة.» لكن حتى وهي تنطق الكلمات فوجئتْ بأنها ما كانت لتحب العيش هناك تحت النظرة العبوس للجبل، في منزل ألقى في متاهة مليئة بالأشجار.
قالت إلسا: «جميلة، أليس كذلك؟ لكن كان عليك أن ترى منظرها قبل اقتلاع الأشجار منها.»
قالت إنها كانت رهيبة حين جاءت أول مرة إلى جننج جراي. كان المكان جميلًا بشكل يفوق الخيال، لكنه كان أجمة — أجمة كثيفة شاهقة متشابكة يستحيل اجتيازها. شق ماثيو طريقًا ضيقًا، وبدا السير عليه مثل السير على صحن كنيسة مفروش بالسجاد، وقمم الأشجار تلتقي بعيدًا فوقك، تشكِّل سقفًا بلا نهاية مزودًا بمراوح. كان تخيل أن هذه المنحدرات يمكن أن تتعرى، وتصبح قابلة للسكن، صعبًا، مستحيلًا تقريبًا.
مع بداية اقتلاع الأشجار من الغابة، انتقل ماثيو إلى الأرض وبنى كابينة صغيرة، حيث يوجد مكتب العزبة. عاشتْ بعيدًا عنه في منزل مستأجر في بننج. كانت تفضل أن تكون مع ماثيو، لكنه لم يسمح لها بالبقاء. قال إن المكان خطير جدًّا، مثل ساحة معركة، والأجمة عقبة في كل بوصة من الطريق. مكث سايا جون أيضًا مع ماثيو بعض الوقت، لكنه مرض وعاد إلى بننج. ومع أن المزرعة فكرته، إلا أنه لم يكن لديه تصور لما تحتاج إليه.
مرَّتْ عدة شهور قبل السماح لإلسا بزيارة الموقع مرة أخرى، وحينها فهمتْ لماذا حاول ماثيو إبعادها. بدا جانب التل وكأنه تعرض لسلسة من الكوارث: مساحة هائلة من الأرض مغطاة بالرماد والجذول المسودة. كان ماثيو نحيلا، يسعل باستمرار. ألقتْ نظرة على أكواخ العمال — زرائب ضيقة بأسقف من الغصون والأوراق. كانوا كلهم هنودًا، من الجنوب: تعلم ماثيو التحدث بلغتهم — التاميل — لكنها لم تفهم كلمة مما يقولون. تفحصت الكوخ الطيني الذي يذهبون إليه للعلاج حين يمرضون: قذارة تفوق الخيال، أرضيات تغطيها القاذورات. أرادت أن تبقى وتعمل ممرضة، لكن ماثيو رفض بقاءها، فعادت إلى بننج.
لكنها حين عادت في المرة التالية، كان التحول هائلًا مرة أخرى، بدا معجزة. في الجولة السابقة شعرت أنها تدخل مكانًا موبوءًا؛ لكنها في تلك المرة شعرت بأنها تسير في حديقة أقيمت حديثًا. جرفت الأمطارُ الرمادَ، وأُزيلت جذول الأشجار المسودة وبدأت الشتلات الأولى من المطاط تكبر.
للمرة الأولى، سمح ماثيو لها بالبقاء، في كابينته. في الفجر تنظر من النافذة وترى الصباح يغمر جانب الجبل، يتمدد على أرضهم مثل ملاءة من الذهب.
قالت إلسا: «وحينها قلتُ لماثيو لا يمكن أن يكون لهذا المكان إلا اسم واحد: مُرْنِنْجْسَايد.»
قال: «انظرا إلى هذا.»
قال رَجْكومار: «سراييفو؟ أين تقع؟»
ضحك ماثيو: «بعيدًا جدًّا.»
لم يظن أي منهم، أكثر من أي شخص آخر في العالم، أن القتل في سراييفو سيشعل حربا عالمية. ولم يعرف أي منهم أن المطاط سيكون مادة استراتيجية حيوية في الصراع؛ يصبح رمي المواد المصنوعة من المطاط في ألمانيا جريمة يعاقب عليها القانون؛ تصبح السلعة أثمن مما كانت في أي وقت، رافعة ثرواتهم بما يتجاوز أكثر أحلامهم تطرفًا.
١٦
ظهر جليًّا أن نيل ودينو، حتى وهما صغيران جدًّا، يشبه كل منهما أحد والديه. بدا نيل شبيهًا برَجْكومار تمامًا: ضخمًا وقويًّا، هنديًّا أكثر منه بورميًّا في الجسم واللون. وكان لدينو، من ناحية أخرى، ملامح أمه الرقيقة، وبشرتها العاجية وجسمها النحيل الضعيف.
ذات عام، وهم في هوي زيدي، مرض دينو فجأة. لم تنشغل دُلِّي أو رَجْكومار انشغالا خاصًّا بالأمر. كان دينو عرضة لنوبات من المرض، نادرًا ما يمرُّ أسبوع بدون أن يتعرض لنزلة برد أو سعال أو حمى. لكنه وُهِب أيضًا قدرة فطرية على التكيف جعلته يقاوم علَّتَه بنشاط، ونادرًا ما تستغرق الحمى معه أكثر من يوم أو اثنين. كان رَجْكومار ودُلِّي، وكانا يعرفان كيف يقاوم الحمى بشكل جيد، متأكدين من أنه سيشفى سريعًا. قرَّرا البقاء في هوي زيدي.
كان البيت الذي يقيمون فيه يشبه إلى حد كبير طاي معسكر ساج، يرتفع حوالي ستة أقدام عن الأرض على أعمدة خشبية ضخمة. ولأنه يبعد قليلًا عن بقية القرية، مسافة قصيرة على منحدر كثيف الأشجار، فقد كان بمثابة ستارة خلفية للقرية. ترتفع الأجمة مثل جرف خلف الطاي، وتحيط به من ثلاث جهات. وكان يظهر من البلكونة جدول هوي زيدي، المفروش بالحصى، وبرج كنيستها الشاهق المشيد بالبامبو.
صرختْ.
خرج رَجْكومار متعثرًا ومعه شمعة فوجدها تجلس على كرسي في الفراندة، تتأرجح، متشبثة بذراعين مرتجفتين.
«ماذا حدث؟»
قالت: «علينا أن نرحل، أن نأخذ دينو إلى مستشفى في رنجون.»
«لماذا؟»
«لا تسألني الآن. أخبرك فيما بعد.»
بعد فحص طويل، أخذ الأطباء دُلِّي ورَجْكومار جانبًا. قالوا إن الولد أصيب بشلل الأطفال؛ لكن لولا تعجل دُلِّي في أخذ الولد إلى المستشفى ربما فقدوه.
قالت دُلِّي: «عرفتُ أن عليَّ أن آخذه.»
«كيف عرفْتِ؟»
«قيل لي.»
«من قال لك؟»
«لا يهمُّ. المهم أننا أتينا.»
قضت دُلِّي الليل في المستشفى، وفي الصباح التالي أحضرت لها ممرضة الفطور على صينية. قالت الممرضة: «هل سمعْتِ، مدام؟ مات الملك العجوز. مات في الهند.»
انزلقتْ صينية الفطور من حجر دُلِّي. سألت الممرضة: «متى حدث ذلك؟»
«لنرَ …» عدَّت الممرضة الأيام على أصابعها: «أظن أن ذلك حدث في الليلة السابقة على حضورك.»
•••
كانت مهمة دُلِّي القديمة، الأميرة الثانية، الملومة بموت الملك. في يوم ساطع في ديسمبر ١٩١٦م، فرَّتْ مع واحد من عامة بورما واختبأتْ في المقر. وكانت بداية النهاية.
ثم اختفت الأميرة الثانية ذات صباح. كشفت التحريات أنها هربت مع شاب ولاذا بالمقر. أعطى الملك رسالة لسوانت يسلمها لابنته، يطلب منها الرجوع إلى القصر. وهو يقف في النافذة، ركز منظاره على الدي ديون وهي تقوم برحلتها عبر التل. حين لفَّت السيارة لتعود لم يرَ ابنته فيها. سقط المنظار من يده. وقع على الأرضية، متعلقًا بذراعه اليمنى. وصل الدكتور في خلال ساعة وأعلن أنه أصيب بنوبة قلبية. بعد عشرة أيام مات الملك.
أعلنت الملكة حرمان الأميرة الثانية من المثول في حضرتها.
كتبت الأميرة الأولى في الخطاب الأول من عدة خطابات سرية: والجنازة، دُلِّي. كانت محزنة ومخزية حتى أن جلالتها رفضتْ حضورها صراحة. مثَّل الحكومة مندوب جابي! تبكين لو رأيتِها. لم يصدق أحدٌ أن أنها جنازة آخر ملوك بورما! أردنا حفظ الكفن بطريقة تمكننا من نقل الرفات ذات يوم إلى بورما، وحين علمت السلطات انتزعوا الكفن منا بالقوة. يخشون أن يصبح جسد الملك نقطة لمِّ الشمل في بورما! شيدوا نصبًا تذكاريًّا على قبره، في الليل تقريبًا، لتستحيل استعادته في أي وقت! كان يجب أن تكوني معنا، دُلِّي. نفتقدك، حتى جلالتها، بالطبع برغم أنها لا تفصح عن ذلك، لأنها هي التي حرمت علينا حتى أن ننطق باسمك.
خلال فترة نقاهة دينو، لم تتركْ دُلِّي أبواب المستشفى أبدًا. كانت لها غرفة هي ودينو — واسعة ومشمسة ومليئة بالزهور. من النافذة ترى الهتي البراق المهيب لشوي داجون. فعل رَجْكومار كل ما يستطيع ليتأكد من راحتهما. يذهب يو با كيو إليهما بالسيارة في أوقات الوجبات، ومعه طعام مطبوخ للتو في حامل طعام نحاسي ضخم. تم إقناع المستشفى بتخفيف قواعدها. يأتي الأصدقاء في كل وقت، ويمكث رَجْكومار ونيل إلى وقت متأخر من المساء، ولا يرحلان إلا في موعد نوم دينو.
تحمل دينو البقاء في المستشفى شهرًا طويلًا برواقية نموذجية، وأوسمة مستحقة من العاملين. ومع أن ساقه اليمنى فقدت وظيفتها جزئيًّا، إلا أن الأطباء وعدوا بأنه سيشفى ولن يبقى من آثار مرضه إلا عرج بسيط.
عند العودة إلى البيت بعد خروج دينو، حاولت دُلِّي جهدها استعادة الروتين المنزلي المعتاد. وضعتْ دينو في غرفته تحت رعاية أيا. في أول بضعة أيام لم يشكُ. وذات ليلة استيقظتْ دُلِّي فجأة، في وقت متأخر من الليل، بلمسة من نفَس ابنها على وجهها، يقف بجوارها، مستندًا على حافة السرير. ترك أياه تشخر في غرفته وتسلل إلى الدهليز، جارًّا ساقه اليمنى خلفه. أخذته دُلِّي في سريرها، تشبثت بجسده النحيل على صدرها، تنفستْ في شعره الناعم الذي تفوح منه رائحة المطر. نامت تلك الليلة أفضل مما نامت في آخر عدة أسابيع.
في النهار، وقد بدأ دينو يحاول المشي مرة أخرى، حامتْ دُلِّي حوله، وشجعته على إبعاد الكراسي والطاولات عن طريقه. ودُلِّي تشاهد ابنها يكافح لاستعادة حركته، أعجبتْ بإصراره ومرونته — بقوة الإرادة التي تجعله ينهض، مرة بعد أخرى، ليعرج خطوة أو اثنتين أكثر. رأت أيضًا أن هذا الكفاح اليومي يغيِّره. صار أكثر عزلة مما تتذكر وبدا أكبر بسنوات في النضج وضبط النفس. لا يستجيب لأبيه وأخيه وكان باردًا معهما، كأنه بوعي ذاتي لا يشجع محاولات إدخاله في ألعابهما الكثيرة.
استغرقتْ دُلِّي في نقاهة دينو بشكل كامل واستحوذت على عقلها تمامًا. تقلص تفكيرها وتقلص بشأن دائرة أصدقائها والأنشطة الدورية التي شغلتْها من قبل — الاجتماعات وحفلات الشاي والرحلات الخلوية. حين تأتي أحيانًا صديقة أو إحدى المعارف، يخيم صمتٌ بشع: تتظاهر بالاهتمام بحكاياتها ولا تساهم بكلمة. وحين تُسأل عما تفعل بوقتها، تجد صعوبة في تفسير الأمر. ولأن النجاحات التي حققها دينو محدودة — خطوة أو اثنتين زيادة في المرة، بوصتين زيادة — فقد كان من المستحيل أن يشارك في المتع أو في الفراغ الكئيب الذي يلازم مرور كل يوم. كانت صديقاتها يومئن بأدب وهن يستمعن لتفسيراتها، وحين ينصرفن تعرف أن وقتا طويلًا سينقضي قبل أن تراهن مرة أخرى. والغريب أنها كانت لا تشعر بالأسف، كانت سعيدة.
في نهاية أحد الأسابيع، قال رَجْكومار: «لم تخرجي منذ شهور.» كان له حصان يشارك في سباق كأس الحاكم في نادي السباق في رنجون: أصرَّ على أن تذهب معه إلى السباق.
نهضت بسرعة: «آسفة، لم أكن منتبهة.»
في النهاية بدأت السباقات فشعرت بارتياح. كان هناك انتظار طويل قبل بدء السباق التالي وانتظار آخر بعد انتهائه. سرح عقل دُلِّي حين صار كل من حولها أكثر استثارة. منذ أسابيع لم تبتعد عن دينو كل هذا الوقت — لكن بالطبع ربما لم يلاحظ حتى إنها خرجتْ.
قالت دُلِّي: «ماذا حدث؟»
قالتْ دُلِّي: «أوه؟»
نظرتْ إليها دو ثي طويلًا وانفجرتْ في الضحك. قالت: «دُلِّي، يا له من أمر سخيف، هل نسيتِ؟ لوشينفار حصان زوجك!»
في السيارة أثناء العودة، كان رَجْكومار هادئًا على غير العادة. حين اقتربا من البيت، انحنى ليغلق النافذة، التي تفصل مقعد السائق عن المؤخرة، بعنف. ثم التفت لينظر إليها بقلق. احتسى شمبانيا بعد زيارته لحلبة الفائزين وكان سكرانًا بعض الشيء.
قال: «دُلِّي؟»
«نعم؟»
«حدث لك شيء.»
هزَّتْ رأسها: «لا. لا. لم يحدث شيء.»
«تتغيرين … تتركيننا خلفك.»
«من؟»
«أنا … نيل …»
أجفلتْ. تعرف أنها أهملت ابنها الأكبر مؤخرًا. لكن نيل مفعم بالحيوية، مرِحٌ وودود، ورَجْكومار شغوف به. دينو، من ناحية أخرى، عصبي ومتردد؛ أزعجه الضعف والهشاشة، أربكاه: من غير المُتوقَّع أن يواجههما وحده.
قالتْ دُلِّي: «نيل لا يحتاجني كما يحتاجني دينو.»
أمسك بيدها: «دُلِّي، نحتاجك كلنا. لا يمكن أن تنطوي على نفسك. لا يمكن أن تتركينا خلفك.»
ضحكت بارتباك: «بالطبع لا يمكن. أين أذهب إذا تركتكما خلفي؟»
ترك يدها والتفتَ بعيدًا: «لا أقاوم أحيانًا الإحساس بأنك ذهبتِ بعيدًا — أغلقتْ على نفسك خلف جدار زجاجي.»
صرخت: «أي جدار؟ عم تتحدث؟» تطلعت لترى يو با كيو ينظر إليها في مرآة البكبك التي تعكس المؤخرة. عضَّتْ شفتها ولم تنطق بكلمة.
كان معبد سول في مركز هذا الملف. تم تبيضه حديثًا، وكان يرتفع فوق الشوارع المزدحمة مثل صخرة تنبثق من البحر. مرَّتْ دُلِّي بالمعبد مرات لا تُحصى لكنها لم تدخلْه أبدًا. طلبتْ من يو با كيو أن ينتظر ونزلتْ من السيارة.
أغلقتْ دُلِّي عينيها، حاولتْ أن تسمع الرهبان، لكنها سمعتْ صوت رَجْكومار يتردد صداه في أذنيها: «تتغيرين … تتركيننا خلفك.» لتلك الكلمات في سكينة ذلك المكان وقع مختلف: عرفتْ أنه على صواب، غيَّرتْها أحداث الماضي القريب ليس بأقل مما غيَّرتْ دينو.
في المستشفى، في الليل، وهي تستلقي في سرير دينو، سمعتْ أصوات لا تُسمَع في النهار: لغط الأقارب القلقين؛ صرخات الألم البعيدة؛ نساء يندبن موتاهن. كأن الجدران تُثقَب في سكون الليل، وتغمر غرفتها موجة خفية من الهزيمة والمعاناة. وكلما استمعتْ لهذه الأصوات، ازداد شعورها بأنها موجهة إليها مباشرة، أحيانًا بنبرات بدا أنها تسترجع الماضي، أحيانًا بنبرات تحذير.
ذات ليلة، في وقت متأخر، سمعت امرأة عجوزًا تصرخ طلبًا للماء. كان الصوت واهيًا — همسة خشنة مزعجة — لكنها ملأت الغرفة. ومع أن دينو كان نائمًا بعمق، وضعتْ دُلِّي يدها على رأسه. رقدتْ بعض الوقت متخشبة على جنبها، وتشبثتْ بطفلها مستخدمة جسمه النائم لتمنع الصوت. ثم تسللت من السرير وسارت بسرعة في الدهليز.
أوقفتْها ممرضة كارينية بكاب أبيض: «ماذا تفعلين هنا؟»
قالت دُلِّي: «هناك صوت، شخص يصرخ طلبا للماء …» أَسْمَعَت الممرضة.
قالت الممرضة بشكل ارتجالي: «أوه نعم، من عنبر الملاريا تحت. شخص يهذي. ارجعي إلى غرفتك.» توقف الأنين بعد ذلك مباشرة، لكن بقيت دُلِّي مستيقظة طوال الليل، يسيطر عليها رنين الصوت.
في مرة أخرى خرجتْ من الغرفة لتجد نقالة في الدهليز، يسجى عليها جسد طفل، مغطى بملاءة بيضاء من ملاءات المستشفى. ومع أن دينو لم يكن يبعد عن دُلِّي إلا بضعة أقدام، ينام بهدوء، إلا أنها لم تستطع دفع الهلع الذي انتابها حين رأت النقالة المغطاة. سقطتْ على ركبتيها في الدهليز، ومزَّقت الملاءة التي تغطي الجثة. كان الطفل ولدًا، في عمر دينو ولا يشبهه في البنية. صرختْ دُلِّي بهستيريا، غمرها شعور بالإثم كما غمرها شعور بالارتياح. وكان على ممرضة وعاملة أن رفعها وإعادتها إلى السرير.
مرة أخرى في تلك الليلة، لم تنمْ. فكرت في جسد الولد؛ فكرت فيما يمكن أن تكون عليه حياتها بدون دينو؛ فكرت في أم الولد المتوفى. صرختْ — كأن صوتها اختلط بصوت تلك المرأة المجهولة؛ كأن ارتباطًا خفيًّا نشأ بينهم — هي ودينو والطفل المتوفى وأمه.
•••
بعد جنازة الملك ثيبو بوقت قصير، كتبت الملكة لسجانيها تطلب الإذن بالانتقال إلى بورما. رُفِض الطلب بحجة الأمن، بسبب الحرب في أوروبا: بدا كأن وجودها قد يثير العصيان في لحظة حرجة للإمبراطورية. لم يسمح للملكة وبناتها بالعودة إلى وطنهن إلا بعد انتهاء الحرب.
حينها تعرضت الأميرة الأولى لأزمة جديدة. تترك رتناجيري لتذهب إلى بورما مع أمها؟ أم تبقى مع سوانت؟
وعدت الأميرة زوجها: قالت إنها ستذهب مع أمها إلى بورما وتعود بمجرد أن تستقر جلالتها في بيتها الجديد. اكتفى سوانت بوعدها ولم يعترض. لكنها كانت خطى ثقيلة تلك التي خطاها إلى المرفأ في مندفي يوم رحيل المجموعة الملكية. لأن كل ما كان يعرفه، إنها ستكون المرة الأخيرة التي يرى هو أو أطفاله فيها الأميرة إلى الأبد.
شقَّتْ مجموعة الملكة طريقها ببطء عبر شبه القارة مسافرة إلى الشرق من بومباي بالقطار. في كلكتا أقامت الحاشية في جراند أوتيل. وكانت الأميرة الثانية تعيش في كلكتا مع زوجها: لم تستطع تجاهل وجود أمها وأخواتها. ذات مساء جمعت الأميرة التي تبرأت منها أمها عزيمتها وذهبتْ إلى جراند أوتيل لتكلمها.
رفضت الملكة بإصرار مقابلة ابنتها أو زوجها. تراجعت الأميرة، وكانت تعرف أمها جيدًا، بكياسة تامة — ولم يكن هذا حال زوجها، الذي استجمع الغضب ليغامر بالدخول دون دعوة إلى حضرة جلالتها. صُدَّ هذا التَّهجُّم بسرعة: بصرخة واحدة غاضبة أرسلت الملكة زوج ابنتها المنحرف هاربًا على السلم الرخامي لجراند. وكان لسوء حظه ينتعل حذاء من الجلد بنعل ناعم. انزلقتْ قدماه فطار إلى اللوبي، حيث تعزف فرقة غرفة لحشد من الضيوف. سقط وسطهم مثل سمكة تثب. تهشم تشيلو ورنَّ كمانٌ. كانت الأميرة الثالثة تجلس في مكان قريب، وقد توترت أعصابها بحزن نتيجة أسفارها الحديثة. انفجرتْ في نوبة هستيرية ولم تهدأ. وكان لا بد من إحضار طبيب.
حينها أظهرت الأميرة أنها ابنة حقيقية لأسرتها، كل خلية منها تنتمي لأسرة كُنْبُنج — ثبت أن حبها للحوذي السابق لأسرتها راسخ كإخلاص أمها للملك الراحل. تحدَّتْ أسرتها، عادت إلى سوانت ولم تترك رتناجيري مرة أخرى. عاشت بقية حياتها مع زوجها وأطفالها في منزل صغير في ضواحي البلدة، حيث ماتتْ بعد ذلك بثمانية وعشرين عامًا.
هذا ما حدث للأميرات الأربع، الاثنتان اللتان ولدتا في بورما اختارتا العيش في الهند. واختارت أختاهما الصغريان، اللتان ولدتا في الهند، الاستقرار في بورما: تزوجتا وأنجبتا. أما الملكة فقد قضت سنواتها الأخيرة في بيتها في طريق تشرشل في رنجون. أنفقت الأموال التي تنتزعها من السلطات الاستعمارية على الأعمال الدينية وإطعام الرهبان. لم ترتدِ أبدًا إلا الملابس البيضاء، لون الحداد في بورما.
بعد وصول الملكة إلى رنجون، كتبت لها دُلِّي عدة خطابات، توسلتْ أن يُسمَح لها بالدخول إلى حضرتها. لم يُرَدَّ على أي منها. ماتت الملكة في ١٩٢٥م، بعد ست سنوات من عودتها إلى رتناجيري. ومع أنها عُزِلتْ سنوات طويلة، كان هناك اندفاع مفاجئ في المشاعر في المدينة وتدفق الناس يندبون. ودُفِنتْ قرب معبد شوي داجون في رنجون.
١٧
في ١٩٢٩م، بعد انقطاع دام عدة سنوات، استلمتْ دُلِّي خطابًا من نيويورك. كان من أوما، كتبتْ تقول إنها تغادر أمريكا. كانت أوما في الخمسين، بعيدة عن الهند لأكثر من عشرين عامًا. في غيابها مات والداها، وتركا لها الدور الأرضي من المنزل، لنكاسوكا (كان الدور العلوي من نصيب أخيها، وقد تزوج وصار أبًا لثلاثة أطفال). قررت العودة إلى كلكتا لتستقر.
كتبتْ أوما تقول إن عليها، نظرًا لالتزامات متنوعة في طوكيو وشنغهاي وسنغافورة، أن تبحر عبر المحيط الهادي بدلًا من الأطلنطي. وإحدى مزايا هذا الطريق أنه يمكِّنها أيضًا من زيارة الأصدقاء — ماثيو وإلسا في الملايو، وبالطبع دُلِّي ورَجْكومار في رنجون. اقترحت أن تلتقي هي ودُلِّي في مُرْنِنْجْسَايد لقضاء أسبوعين هناك: ستكون إجازة لطيفة، وبعد ذلك تعودان معًا إلى بورما — بعد تلك السنوات الطويلة، هناك أشياء كثيرة مغرية يجب أن تُعمَل. ومن الأفضل أن تأتي دُلِّي مع نيل ودينو: يتيح لها ذلك فرصة للتعرف على الولدين.
اهتزَّتْ دُلِّي بغرابة من هذا الخطاب. انتابها قلق واضح برغم سعادتها لتلقي أخبار صديقتها. لم تكن استعادة صداقة خامدة لفترة طويلة مسألة سهلة. لم تملك إلا الإعجاب بأوما لصراحتها؛ عرفتْ أنها هي نفسها انسحبتْ من العالم، صارتْ أكثر عزلة، عزفتْ عن السفر أو حتى الخروج. قنعتْ بحياتها، لكن يقلقها أن الولدين لم يريا إلا القليل جدًّا من العالم — من الهند أو الملايو أو أي بلد أخرى. لم يكن صحيحًا ألا يعرفا مكانًا إلا بورما: لا أحد يتوقع ما تخبئه الأيام. حتى من النوافذ المغلقة في غرفتها يمكن أن تشعر باضطراب الأرض.
لم تعدْ دُلِّي إلى مُرْنِنْجْسايد منذ خمسة عشر عامًا، منذ الزيارة الأولى؛ ولا الولدان. كانت تعرف أن من غير المرجح أن يوافق رَجْكومار على الذهاب. كان مشغولًا في أعماله أكثر من أي وقت، مرَّتْ أسابيع كاملة لا تراه خلالها. حين عرضت الفكرة عليه، هزَّ رأسه بشدة، كما توقعت: لا، مشغول جدًّا، لا يستطيع الذهاب.
جرى الترتيب بسرعة، بخطابات طارت بين بورما والملايو والولايات المتحدة (دخلتْ خدمة البريد الجوي رنجون حديثًا، مما جعل الاتصالات أسرع بكثير). في أبريل من العام التالي أبحرت دُلِّي على سفينة بخارية إلى الملايو مع ولديها. جاء رَجْكومار ليودع الأسرة، وبعد أن أبحرت دُلِّي، نظرتْ جانبًا فوجدتْه يلوِّح لها من المرفأ، يشير بعنف، يحاول لفت انتباهها إلى شيء. نظرت لمقدمة السفينة واكتشفت أنها على نوارا إليا، السفينة التي أتت بها إلى رنجون بعد الزواج مباشرة. صدفة غريبة.
كان ماثيو وأسرته في الانتظار في حوض سفن جورج تاون حين دخلته نوارا إليا. وكان دينو أول من لمحهم، من خلال عدسة الكاميرا البروني: «هناك … إنهم هناك … انظروا.»
مالتْ دُلِّي على حافة السفينة، مظللة عينيها. بدا ماثيو بوضوح شديد بلفافة رمادية سميكة حول رأسه. صارت إلسا أرزن مما كانت في اللقاء الأخير، لكن بشكل فخم ومهيب تمامًا. كان تيمي يقف بجوارها، طويلًا بالنسبة لعمره ونحيفًا مثل عود فول. هناك أليسون أيضًا، ترتدي عباءة التلميذات، وشعرها مضفر في ذيل حصان طويل. اعتقدتْ دُلِّي أنها فتاة غير عادية، وجهها مزيج مدهش من عناصر مأخوذة من أبويها: كان لها عظام وجنتَي ماثيو وعينا إلسا؛ شعره الناعم وقامتها المنتصبة. يبدو أنها ستكون جميلة حقًّا في يوم من الأيام.
صعد ماثيو على السفينة ورافقهم وهم يغادرونها. كان عليهم جميعًا أن يقضوا الليلة في جورج تاون وقد حجز الغرف في فندق. يُنتظَر وصول أوما في اليوم التالي حيث يتوجهون معًا إلى مُرْنِنْجْسايد. أحضر ماثيو سيارتين وسائقًا: ينتظرون في بترورث، على أرض القارة.
«سألتهم ماذا يفعلون هنا فقالوا: جئنا نرحب بأوما دي.»
قالت دُلِّي لإلسا غير مصدقة: «هل تعتقدين أنهم يقصدون أوما صديقتنا؟»
«نعم بالطبع. لا يمكن وجود اثنتين أوما دي على السفينة نفسها.»
عرفتْ دُلِّي، وهي تشاهد من الطرف البعيد للمعبر، أن أوما فوجئت: لم تستعد، بوضوح، لاستقبال خصص لها ولم تعرف كيف ترد. تفحصت الجماهير كأنها تتطلع إلى شخص معين. رفعتْ دُلِّي يدها ولوَّحتْ. لفتت الإيماءة عين أوما فردَّت التلويح بقلق، راسمة إيماءة يأس. أشارتْ دُلِّي تطمئنها — لا تقلقي، سننتظرك.
توجهت أوما إلى المعبر ووُضِعتْ عليها أكاليلُ الزهور مرة أخرى. ألقى عدة أشخاص كلمات ووقف الجميع يتصببون عرقًا تحت الشمس الحامية. حاولت دُلِّي بجهد أن تركز فيما يقال، لكن عينيها شردتا مرة أخرى في صديقتها. رأتْ أن أوما هزلت وغارتْ عيناها في تجويفين عميقين، كأنه احتجاج على الحياة القلقة والمتقلبة. لكن في الوقت ذاته، كانت هناك ثقة جديدة بالطريق الذي أصرت على السير فيه. من الواضح أنها تعودت على أن تُسمَع، وحين حان دورها في الكلام، لاحظت دُلِّي، برهبة بازغة، أن أوما بدا أنها تعرف ما يقال وكيف تتعامل مع الجماهير.
ثم انتهت الكلمات فجأة وشقَّتْ أوما طريقها بين الجماهير. وقفتْ فجأة أمام دُلِّي، وذراعاها مفتوحتان: كل هذا الوقت الطويل! كل هذا الوقت الطويل! ضحكتا وتعانقتا وتشبثت كل منهما بالأخرى والأبناء ينظرون في دهشة، وهم يقفون بعيدًا بعض الشيء.
«كم تبدين في حالة طيبة، إلسا! وابنتك — جميلة!»
«تبدين في حالة طيبة أيضًا، أوما.»
ضحكتْ أوما: «لا تكذبي عليَّ. أبدو في ضِعْف عمري …»
قاطعتْها دُلِّي، دافعة ذراع صديقتها: «من هؤلاء الناس، أوما؟ اندهشْنا كثيرًا …»
قالت أوما بسرعة «ينتمون إلى مجموعة أعمل معها. مجموعة تسمى جمعية الاستقلال الهندية. أخبرتُهم بمجيئي، لكني افترضت أن الكلمة مرت مرور الكرام …»
«لكن ماذا يريدون، أوما؟ لماذا جاءوا؟»
«أخبرك فيما بعد.» أمسكتْ أوما بيد دُلِّي ودفعتْ ذراعها في ذراع إلسا: «هناك الكثير جدًّا لنتكلم عنه ولا أريد أن أضيع الوقت …»
انطلقت الإسوتا فراشيني شمالًا والشمس تغطس في بحر أندامان، وحين وصلت إلى سُنْجِي بتاني، كان الظلام قد حلَّ تقريبًا. تسلقوا منحدرات جننج جراي والأضواء الأمامية للإسوتا فراشيني تسطع في سحابة من الرماد. انطلقوا بسرعة، وهم يمرون تحت المدخل المقوس للعزبة، في مسار أحمر قذر. لفَّت السيارة منحنى، وظهر قصر أمامهما، انبثق بشكل مثير من المنحدر بمصابيح تسطع من نوافذه ومداخله. شكَّل البرج الدائري نقطة ارتكاز المنزل. شُيِّدت حوله فراندات واسعة نظيفة ورائعة وسقف مقوس قليلًا إلى أعلى على النمط الصيني.
أعلنت إلسا: «منزل مُرْنِنْجْسايد.»
داختْ دُلِّي. في الظلام الدامس، بدا كأن بريقًا وهميًّا يتدفق من المنزل؛ كأن الضوء ينبع من مصدر داخلي للإضاءة، ينبعث من الجبل الذي يقف عليه.
قالت دُلِّي: «إنه فخم، إلسا. لا يمكن أن يوصف بكلمة أخرى. ربما أجمل منزل رأيته في حياتي …»
في الداخل، كان المنزل متألقًا بدفء ثراء الخشب المصقول. في الطريق للعشاء، شردتْ دُلِّي وأوما، تاهتا في الدهاليز الطويلة، وشتَّتَتْهما التفاصيل الكثيرة الرائعة للداخل: الأرضية من الخشب المزخرف بصورة معقدة، والجدران مغطاة بأخشاب ناعمة غالية. جاءت إلسا لتبحث عنهما ووجدتهما تنقران درج السلم الكبير الذي يلتف حول مركز المنزل.
«كم هو جميل.»
قادتْهما إلسا إلى الدور الأرضي وأدخلتهما غرفة طعام كبيرة جدًّا. الحوائط مبطنة ببامبو متشابك والأضواء المعلقة في السقف موضوعة في صناديق براقة من الخيزران الهندي. وهن يدخلن نهض سايا جون من على الطاولة ومشى إلى دُلِّي وأوما ببطء، بمساعدة عكاز: بدا أصغر حجمًا وأكثر شبهًا بقزم، كأن جسمه انكمش بالنسبة لرأسه.
«أهلًا، أهلًا.»
على العشاء، جلستْ أوما ودُلِّي بين ماثيو وسايا جون. حاول الرجلان بكل جهد الإبقاء على طبقيهما ممتلئين بالطعام.
«وهذا؟»
«جمبري مشوي في أوراق الصنوبر البرغي.»
«فطير بالفستق.»
«كعك أرز من تسع طبقات.»
«سمك مخلل بأوراق الكركم وأوراق الليمون والنعناع الأرجواني.»
مع كل لقمة امتلأتْ أفواههم بمذاق جديد، نكهات شهية غير مألوفة. صرختْ أوما: «ما هذا الطعام؟ اعتقدتُ أني أكلتُ كل شيء في نيويورك، لكني لم أتذوق شيئا مثله أبدًا.»
«لم آكل أبدًا شيئًا مدهشًا بهذه الصورة. من أين؟»
قالت إلسا: «من ملقا وبِنَنْج. أحد آخر الأسرار العظيمة في العالم.»
أبعدتْ أوما طبقها، وقد أتخمت أخيرًا، وأسندتْ ظهرها. استدارت إلى دُلِّي، التي تجلس بجوارها.
«سنوات طويلة جدًّا.»
قالت دُلِّي: «ثلاث وعشرون، باليوم تقريبًا، منذ رأيتك آخر مرة في رنجون.»
•••
بعد العشاء، اصطحبتْ دُلِّي أوما إلى غرفة نومها. جلست القرفصاء على السرير وأوما تسرح شعرها عند التسريحة.
سألتْ دُلِّي بخجل: «أوما، تعرفين، ما زلتُ مندهشة …»
«مم؟»
«من استقبالك في الميناء اليوم — كل أولئك الناس …»
«أوه، تقصدين الجمعية؟» تركتْ أوما المشط وابتسمت لدُلِّي في المرآة.»
«نعم. حدثيني عنها.»
«قصة طويلة جدًّا، دُلِّي، لا أعرف من أين أبدأ.»
«لا تُبالي. ابدئي فقط.»
بسرعة صارتْ شقة أوما من نقاط التقاء هذه الشبكة الصغيرة المكثفة من الارتباطات الهندية. كانتْ هي وأبناء بلدها مثل المستكشفين أو المنبوذين: يشاهدون ويلاحظون، يلتقطون تفاصيل ما يرونه حولهم، ويحاولون استنتاج الدروس لأنفسهم ولبلدهم. استطاعوا، وهم يشهدون مولد القرن الجديد في أمريكا، أن يروا للوهلة الأولى أمواج الحقبة الجديدة وتياراتها. زاروا المعامل والمصانع وأحدث المزارع الآلية. رأوا أنماطًا جديدة في العمل تُبتكَر، تدعو لأنماط جديدة من الحركة، وطرق جديدة من التفكير. رأوا أن تعلم القراءة والكتابة في العالم حاسم للبقاء على قيد الحياة؛ رأوا أن التعليم مسألة ملحة تدفع كل أمة حديثة لجعله إلزاميًّا. ومن أندادهم الذين سافروا إلى الشرق عرفوا أن اليابان تحركتْ بسرعة في هذا الاتجاه؛ وفي سيام أيضًا صار التعليم حملة مقدسة تقودها للعائلة الملكية.
ماذا يكون شعب الهند في المستقبل حين يصبح وضع العالم بالصورة التي لمحوها في أمريكا؟ رأوا أنهم لا يدفعون هم وأبناؤهم فقط ثمن هذه الإمبراطورية: أكدت أحوال وطنهم أن أحفادهم سيدخلون الحقبة الجديدة معوقين، تنقصهم أهم الوسائل اللازمة للبقاء على قيد الحياة؛ سيصبحون حقًّا في المستقبل كما لم يكونوا أبدًا في الماضي، عبئًا على العالم. يمكنهم أن يروا أيضًا أن الوقت يجري، وقد يكون من المستحيل في القريب العاجل أن يغيروا زاوية دخول بلدهم إلى المستقبل؛ يأتي هذا الوقت حين لا يكون حتى لسقوط الإمبراطورية ورحيل حكامها أي تأثير؛ وُضع مسار وطنهم على طريق لا يتزحزح يدفعه لا محالة إلى كارثة مستقبلية.
أضناهم ما رأوا وما فكروا فيه، حرقهم: شُوِّهوا جميعًا بدرجة ما بمعرفة أن الشر عدوهم. ارتبك البعض، وجُنَّ البعض، واستسلم البعض ببساطة. تحول البعض إلى الشيوعية، ولجأ البعض إلى الدين، منقبين في الكتب المقدسة عن لعنات يصبونها على أنفسهم، كالبلسم.
كان بين المعاصرين الهنود لأوما في نيويورك عدد كبير تأثروا بصحيفة إخبارية ينشرها طلبة هنود في جامعة كاليفورنيا في بريكلي. كان اسمها غَدَار، وهي كلمة هندوستانية أطلقت على ثورة ١٨٥٧م. وعُرِف المشاركون في المجلة بحزب غدار. وقد جاءهم معظم الدعم من الهنود الذين استقروا على شاطئ المحيط الهادئ في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وكان معظم أولئك المهاجرين من السيخ — من الجنود السابقين في الجيش الهندي البريطاني. حولت خبرة العيش في أمريكا وكندا كثيرًا من هؤلاء الموالين السابقين إلى ثوار. حين أدركوا الرابطة بين معاملتهم خارج الوطن وموضوع الهند، صاروا أعداء ألداء للإمبراطورية التي خدموها ذات يوم. وركَّزَ البعض جهودهم على محاولة تغيير ولاء أصدقاء وأقارب لا يزالون يخدمون في الجيش الهندي البريطاني. وتطلع البعض إلى حلفاء خارج الوطن، وطوروا روابط مع المقاومة الأيرلندية في أمريكا.
بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى اختفى حزب غدار، تحت ضغط دوائر المخابرات البريطانية، تحت الأرض وتحول ببطء إلى مجموعات مختلفة. من أهمها جمعية الاستقلال الهندية، بآلاف من الأنصار بين الهنود عبر البحار: ومكاتبهم هي ما تزوره أوما في شرق آسيا.
هنا، قاطعتْها دُلِّي، التي ازدادتْ حيرتها كثيرًا. قالت: «لكن، أوما، إذا كان ما تخبرينني به حقيقة، فلماذا لم أسمع أبدًا بهذه الجمعية؟ تمتلئ الصحف دائمًا بالكلام عن المهاتما غاندي، ولم يتحدَّثْ أحد أبدًا عن مجموعتكم.»
قالت أوما: «السبب في ذلك، دُلِّي، أن مستر غاندي يرأس المعارضة الموالية. اختار، مثل كثير من الهنود الآخرين، التعامل بقفاز الإمبراطورية المخملي بدل الاصطدام بقبضتها الحديدية. لا يرى أن الإمبراطورية تبقى آمنة دائمًا طالما بقي الجنود الهنود موالين. سيقمع الجيش الهندي المعارضة دائمًا أينما حدثتْ — ليس في الهند فقط، بل في بورما والملايو وشرق أفريقيا أيضًا، بصرف النظر عن مكانها. وبالطبع، تفعل الإمبراطورية كل ما يمكن لتبقي على هؤلاء الجنود في قبضتها: لا تجند إلا طوائف معينة من الرجال؛ بعيدين تمامًا عن السياسة والمجتمع الأوسع؛ منحت لهم الأراضي واطمأن أبناؤهم على وظائف.»
سألتْ دُلِّي: «ماذا تأملون أن تفعلوا إذن؟»
«نعم.»
«أحكي لك قصة عنه. قابلته أول مرة في كاليفورنيا منذ سنوات طويلة. إنه عسكري قديم: ترقى إلى رقيب في الجيش الهندي البريطاني قبل تسريحه. حين سمعته أول مرة يتكلم، تكلم عن ضرورة فتح عين الجنود الهنود. بعد لحظة قلتُ له: «لكن جيانيجي، أنت نفسك خدمت في هذا الجيش؛ لماذا استغرقت وقتًا طويلًا لتفهم أنك تحتل آخرين مثلك؟»
سألتْ دُلِّي: «وماذا قال؟»
قال: «لا تفهمين. لم نعتقد أبدًا أننا نستخدم لاحتلال شعوبًا. لم نعتقد إطلاقًا: اعتقدنا العكس. قيل لنا إننا نحرر تلك الشعوب من الملوك الفاسدين أو العادات الشريرة أو أشياء من هذا القبيل. صدقنا ذلك لأنهم صدقوه أيضًا. استغرق الأمر وقتًا طويلًا لنفهم أن الحرية في عيونهم توجد حيث يحكمون.»
أقرتْ دُلِّي هذا بابتسامة وإيماءة: «لكن ماذا أيضًا، أوما؟ هل قابلتِ شخصًا؟ رجلًا؟ هل تكلمت في شيء غير السياسة مع ثوارك؟»
١٨
استيقظتْ أوما في الصباح التالي لتجد الفطور مقدَّمًا في الفراندة التي تطلُّ على منحدر الجبل، باتجاه الزرقة الرائعة لبحر أندامان. كان نيل وتيمي يميلان على حاجز البلكونة، يتحدثان عن السيارات. وأليسون ودينو يستمعان دون أن يشاركا. خطر لأوما، وهي تنظر إليهم، أنها لم تكن لتعرفهم لو مرَّتْ بهم في الشارع قبل ذلك بيوم. إلا أنها الآن ترى تاريخ صداقاتها وحياة أصدقائها محفورة في وجوههم — القصص والمسارات التي ربطت حياة إلسا بحياة ماثيو، حياة دُلِّي بحياة رَجْكومار، ملقا بنيويورك، بورما بالهند.
«الأبناء» — يقفون هنا أمامها: مرَّ يوم ولم تنطق بكلمة لأي منهم. في سان فرانسيسكو، قبل الإبحار، ذهبتْ إلى محل لتشتري هدايا وأخذتْ تتجول باتجاه ملابس الأطفال واللعب والأكواب الفضية. بصدمة تذكَّرتْ أن «الأطفال» نضجوا غالبًا — نيل في العشرين تقريبًا، دينو وأليسون في السادسة عشرة وتيمي أصغر بسنتين فقط. خطر لها أنها لو كان لها أبناء لكانوا في العمر نفسه، لكانوا كلهم أصدقاء — يمكن أن تكتسب لوحة ارتباطات الحياة روعة جيل آخر. لكن ذلك لم يكن، والآن، وأوما تستمع إلى أبناء أصدقائها يمزحون في مستهل شبابهم، شعرتْ بخجل غريب: وهي تحاول التفكير فيما تقول لهم، أدركت أنها لا تعرف ما يفعلون بأوقاتهم، وما يفكرون فيه، والكتب التي يقرءونها.
انزلقتْ في صمت تعرف أنه يستعصي على العلاج إذا استمر. وهكذا، لأنها كانت ما كانت، فعلتْ ما تفعله في لقاء سياسي: وقفتْ، نادتْهم بشكل آمر: «لدي ما أقوله، استمعوا من فضلكم. أشعر بأن عليَّ التحدث إلى كل منكم على حده، وإلا فإني لن أعرف أبدًا ما يجب أن أقول لأي منكم …»
اتَّسعتْ عيونهم وهم يستديرون للنظر إليها. فكَّرتْ بينها وبين نفسها: ماذا فعلتُ؟ أصبتُهم بالهلع؛ فقدتُهم للأبد. لكن بعد ذلك، وقد ظهر معنى ما قالتْ عليهم، ابتسموا؛ جاءها انطباع بأنه لم يتكلم معهم شخص راشد بهذه الطريقة من قبل؛ لم يحاولْ شخص كبير أبدًا البحث عنهم لمرافقتهم.
«حسنًا، إذن، أليسون، لنتمشَّ.»
بعد ذلك سهل الأمر: بدا أنهم يريدون أن يفرجوها على العزبة، أن يتمشوا. دعوها «عمة» وكان ذلك مبهجًا أيضًا بشكل غريب. بسرعة لم يعودوا مجرد «أطفال»؛ كان كل منهم شخصًا يمكن التعرف عليه: تيمي شخص واثق، يعرف ما ينوي أن فعله: يريد الذهاب إلى أمريكا للدراسة، كما فعل ماثيو، وبعد ذلك يمارس أعماله بمفرده. نيل نسخة أوضح وأرق من رَجْكومار: ترى أباه فيه بوضوح تام، لكن مغطى بجيل من الثراء والراحة. وكانت أليسون لغزًا صغيرًا، أحيانًا هادئة وكئيبة وأحيانًا حماسية جدًّا، مفعمة بالضحك والحدة، متحدثة ذكية.
دينو الشخص الوحيد الذي حيَّر أوما تمامًا. كلما حاولتْ أن تكلمه بدا حزينًا وعنيدًا، وكانت الملاحظات التي يقدمها أحيانًا لاذعةً عادة إلى حدٍّ بعيد. وحين يتكلم، يتكلم في اندفاعات متقطعة غريبة، بالعًا نصف كلماته ومُطلِقًا البقية: أسلوب في الكلام جعلها تخشى النطق بشيء خوفًا من أن تبدو وكأنها تقاطعه. لم يبدُ دينو مسترخيًا وبسيطًا إلا والكاميرا في يديه؛ لكن كان التحدث إلى شخص لا يهتم بشيء إلا عدسته مستحيلًا.
ذات صباح، قالت أليسون لأوما: «هناك شيء أريد أن أريه لك. هل يمكن أن آخذك للتجول بالسيارة؟»
«بكل ترحيب.»
كان دينو في مجال السمع والدعوة ممتدة بطريقة ما وتشمله بوضوح. لكن بدا أن عرض أليسون سبَّبَ للولد خجلًا مؤلمًا. تراجع، صانعًا مشهدًا عظيمًا وهو يجرُّ قدمه اليمنى وراءه.
قالت أليسون: «دينو، ألن تأتي معنا؟»
«لا أعرف …» شحب وبدأ يغمغم في ارتباك.
شاهدتْه أوما عن قرب وعرفتْ فجأة أن الولد مغرم بأليسون سرًّا. ودَّتْ أن تبتسم. يمكن أن تقول لا شيء يتأتي من ذلك: كانا مختلفين إلى أقصى درجة، هو كائن الظلال، وهي حيوان يتوق للضوء. يمكن أن يقضي حياته يربي حنينًا لا يبوح به. ودَّتْ لو تمسك به من كتفيه وتهزه لتوقظه.
أمرتْ بصوت حاد وقاطع: «تعال، دينو، لا تكنْ طفلًا.»
قالت أليسون ببهجة: «نعم، تعال. أعتقد أنك ستستمتع.»
«هل يمكن أن أحضر الكاميرا؟»
«بالطبع.»
ارتفع صوت أوما في دهشة: «أليسون! ألا يسمح لك أبوك بقيادة سيارتيه؟»
ابتسمتْ أليسون، وقالتْ: «هذه فقط. لا يريد أن يسمع أننا نقود الدويسي أو الإسوتا.» أدارت المحرك وانطلقت السيارة إلى الأمام، فاندفع وابل من الحصى إلى الشرفة.
صرختْ أوما، متشبثة ببابها: «أليسون! «تسيرين بسرعة كبيرة جدًّا.»
«ليستْ نصف السرعة التي أودُّ أن أسير عليها.» ضحكتْ أليسون وألقتْ برأسها. أمسكت الرياح بشعرها ودفعتْه خلفها مثل شراع. اندفعوا من الباب في نهاية الحديقة، وغطسوا فجأة في سكون كآبة المزرعة، بأشجارها الرفيعة طويلة الأوراق، مقوسة فوقهم من الجانبين. تمتدُّ الأشجار مرتبة في صفوف على مدى البصر، متضائلة في أنفاق طويلة مستقيمة: كان التأثير يسبب الدوار وهم ينطلقون كالوميض بجوارها، آلافًا بعد آلاف. يشبه التحديق في لقطات على شاشة سريعة الحركة: شعرتْ أوما بدوخة وكان عليها أن تخفض عينيها.
انتهت الأشجار فجأة وظهرتْ بلدة صغيرة من الأكواخ، صفوف من الأكواخ تغطي الطريق — أقفاص من الطوب والملاط مستترة تحت صفائح عالية من الصفيح. تتشابه الأكواخ في التصميم تمامًا إلا أن كلًّا منها يتميز في الشكل تمامًا: بعضها رائع، بستائر بسيطة ترفرف على النوافذ الأمامية، والأخرى زرائب، تتكوم على أبوابها أهرام من القاذورات.
«حي العمال»، قالت أليسون، مبطئة لحظة. في لحظة تم تجاوزه وأخذت السيارة سرعتها من جديد. دخلوا، مرة أخرى، نفقًا من جذوع الأشجار المقوسة، واختفوا في أنبوب من الصفوف المتتابعة.
انتهى الطريق عند جدول. شريط من المياه يتدفق على لوح مائل من الصخر، على سطحه موجات ضئيلة جدًّا. على الجانب البعيد، يصعد الجبل شاهقًا، تدثِّره غابة كثيفة متشابكة. ركنت أليسون السيارة في منطقة مظللة منزوعة الأشجار وفتحت الباب.
قالتْ: «هنا تنتهي العزبة. الآن علينا أن نتمشى.»
ساعدتْ أليسون أوما آخذة بيدها لتشق طريقها ببطء على الجدول. على الجانب الآخر درب يقود مباشرة إلى الغابة، يتجه أعلى منحدر جُننج جراي. كان المنحدر حادًّا وبسرعة نهجتْ أوما.
قالت مباشرة لأليسون: «هل أمامنا طريق طويل؟»
«لا. وصلْنا تقريبًا.»
«أين؟»
فجأة أتى دينو ليقف بجوارها: «انظري.»
نظرتْ أوما متتبعة الاتجاه الذي يشير إليه إصبعه. خلال كتلة متشابكة من الكروم والبامبو، لمحت صفًّا من أبنية حمراء. قالت: «لماذا، تبدو خربة بشكل ما.»
تقدم دينو، يسرع بحماس خلف أليسون. تابعتهما أوما من بقعةٍ يستوي عندها المنحدر، رفٍّ صخري. أمامها مباشرة بنايتان تشبهان نصبًا تذكاريًّا، على ركائز مربعة: جدران غرف بسيطة التصميم، لكل منها مدخل يؤدي إلى حظيرة صغيرة. جدرانها الحجرية عفنة بفعل الزمن وسقوفها منهارة.
«آمل أن تقولي لنا ما هذا يا عمة أوما.»
«لماذا أنا؟»
«كان والدك أثريًّا، أليس كذلك؟»
هزَّتْ أوما رأسها ببطء: «بلى، لكن … لم أتعلم الكثير منه …»
كان مشهدًا مثيرًا، لم تر مثله في حياتها: حجر أحمر مفتت مرصوص بجانب خضرة الغابة المتشابكة، والجبل يرتفع في جلال فوقها، وهالة من السحب حول قمته. استغرق دينو في تصوير الخرائب متنقلًا حول البنايتين بقدر ما تسمح له قدمه. شعرتْ أوما بغُصَّةِ حسدٍ مفاجئة: لو كنتُ في عمره لسيطر هذا على أيضًا، وغيَّر حياتي؛ كنتُ سأعود إلى هنا مرة بعد أخرى؛ ما كنتُ لأستريح حتى أشبع منه؛ لوددتُ أن أخلعهما وآخذهما معي …
قال لها دينو عبر المنطقة مقتلعة الأشجار: «عمة أوما» ما — هذه الخرائب؟»
قال دينو: «أي نوع من الأضرحة؟ من شيدهما؟»
ألقتْ بيديها يأسًا من جهلها: «يمكن القول إنهما ليسا ضريحين هندوسيين أو بوذيين. أتمنى لو قلتُ لك أكثر من ذلك.»
قال دينو: «هل تعتقدين أنهما قديمان؟»
قالت أوما: «نعم. أنا متأكدة من ذلك. انظرْ فقط إلى تأثير المناخ على الحجر. يمكن أن أقول إن هذين الشاندين قديمان جدًّا.»
قالت أليسون بلهجة انتصار: «عرفتُ أنهما قديمان. عرفتُ ذلك. لم يصدقني أبي. قال لا شيء هنا يمكن أن يكون قديمًا لأنه لم يكن هنا إلا الغابة حين جاء أول مرة.»
التفَتَ دينو إلى أليسون بطريقته غير المتوقعة: «وكيف عثرت على هذا المكان؟»
قالت أليسون: «يأخذنا أبي أحيانًا لننطلق في الغابة. ذات يوم عثرنا على هذا المكان صدفة.» أخذت يد دينو وقالت: «تعال لأريك شيئًا. تعال.»
قالت أليسون: «وجدنا الصورة ملقاة على الأرض، فأعدناها — يبدو أن هذا مكانها.»
لمحتْ أوما دينو وأليسون، يقفان في إطار المدخل الخرب، متجاورين. ظهرا صغيرين جدًّا، أقرب إلى الأطفال من المراهقين. قالت لدينو: «أعطني الكاميرا. ألتقط لكما صورة معًا.»
أخذت البروني منه ورجعتْ للخلف، وعينها على العدسة. رأتْهما معًا في إطار. فهمتْ فجأة لماذا يرتب الناس زيجات لأبنائهم: طريقة لتشكيل المستقبل طبقًا للماضي، لتوطيد روابط المرء بذكرياته وأصدقائه. دينو وأليسون — لو كانا فقط متلائمين بشكل أفضل، كم يكون مدهشًا أن يجلبا معًا حكايات كثيرة جدًّا. تذكَّرتْ ما يفترض أن تفعل، وقد أزعجت نفسها بالتفكير في أشياء لم تكن من شأنها. داستْ على مصراع الكاميرا وأعادتْها إلى دينو.
•••
بدأ اليوم مبكِّرًا جدًّا في المزرعة. كل صباح، قبل الفجر بكثير، تستيقظ أوما على وقع خطوات ماثيو، ينزل السلم الرئيسي ويخرج إلى سيارته. كانت ترى من نافذتها المصابيحَ الأمامية تخترق المنحدر في ظلمة ما قبل الفجر، في اتجاه مكتب العزبة.
ذات يوم قالت لماثيو: «أين تذهب مبكِّرًا جدًّا في الصباح؟»
«إلى التجمع.»
«ماذا؟»
«لدينا أرض جمعية قرب مكتب العزبة. يأتي النقارون هناك في الصباح ويحدد لهم المقاولون مهام اليوم.»
أثارت الرطانةُ فضولها: التجمع، المقاولون، النقارون: «هل يمكن أن آتي؟»
«بالتأكيد.»
في الصباح التالي ذهبتْ أوما مع ماثيو إلى المكتب، على طرق مختصر يصل بشكل لولبي إلى المنحدر. توافد كثير من النقارين أمام مكاتب المزرعة بسقوفها الصفيح على ضوء مصابيح الكيروسين المتوهجة: كلهم هنود، من التاميل أساسًا؛ النساء بالساري والرجال بالسارُنْج.
كان مستر ترمبل يُشاهِد باهتمام والمشرفون يسجلون الحضور. تنوع سلوكه بين سلوك الناظر الصارم والرقيب الفظ. انقضَّ أحيانًا بين الصفوف بعصاه الخيزران المدسوسة تحت ذراعه. ابتسم لبعض النقارين وقال لهم كلمة تشجيع سريعة؛ مع آخرين قدَّم عرضًا ضخمًا من الغضب، مع إيماءات وبذاءات متدفقة بالتاميلية والإنجليزية، مشيرًا إلى من يصب عليه حنقه بطرف عصاه: «شيال كلب، ارفع وجهك الأسود وانظر إلى حين أكلمك …»
انزعجتْ أوما من المشهد: شعرت بأنها ترى شيئًا أثريًّا، أسلوبًا في الحياة اعتقدت أنه انقرض لحسن الحظ. في السيارة سألها ماثيو عن رأيها في «التجمع» فوجدتْ صعوبة في التحكم في صوتها.
«أوه، تعالي، ألا تبالغين بعض الشيء؟ يتغذى نقارونا جيدًا ويُراعون جيدًا. أفصل بكثير مما يمكن أن يكونوا عليه لو عادوا من حيث أتوا.»
«أليس هذا ما قاله السادة دائمًا عن العبيد؟»
رفع ماثيو صوته: «ليسوا عبيدًا، أوما.»
لمستْ أوما ذراعه اعتذارًا: «لا، بالطبع، لا. لا. لكن ألا ترى الرعب في وجوههم حين صرخ ذلك الرجل — المدير — فيهم؟»
«يمارس وظيفته، أوما. وظيفة بالغة الصعوبة يقوم بها بصورة جيدة جدًّا. ليس من السهل إدارة مزرعة، تعرفين. إذا نظرْتِ إليها وجدْتِها كلها خضراء وجميلة جدًّا — تشبه غابة. لكنها فعليًّا آلة هائلة من الخشب واللحم. في كل دورة، يقاومك كل جزء من هذه الآلة، يصارعك، ينتظر أن تستسلمي.»
أوقف السيارة فجأة: «أُريكِ شيئًا»، فتح بابه، وشقَّ طريقه في منصة من المطاط: «تعالي. تعالي هنا.»
كان الضوء الأول يبزغ على قمة جننج جراي. الوقت الوحيد في اليوم الذي تُرَى فيه كل مرتفعات الجبل دائمًا، لا يحجبها الضباب الذي يرتفع فيما بعد من السهل الساخن. على المنحدرات فوقهما، تنبعث الحياة ببطء في الأجمة: تنهض أسراب الطيور من ظلال الغابة وتتنقل فرق لا تُرَى من القرود بين قمم الأشجار، مخلِّفةً وراءها أكوامًا من الأوراق المتساقطة.
كان الندى يتساقط تحت أشجار المطاط ببطء. مال ماثيو على جذع شجرة وأشار قائلًا: «انظري إلى هذه الشجرة، وانظري إلى الأشجار الأخرى من حولها. ألا ترين أنها متماثلة كلها بالضبط؟»
أومأتْ أوما: «نعم، لفَتَ نظري ذلك قبل أيام: حتى أطرافها تتفرع على الارتفاع نفسه وبالطريقة نفسها.»
أشار إلى كوب قشرة جوز هند مربوط في جذع الشجرة، تحت حزٍّ طويل ولولبي في اللحاء: «انظري كمية النسغ الذي أنتجته هذه الشجرة في الليل؟ امتلأت الكوب إلى النصف، وهي الكمية المطلوبة تقريبًا. إذا سرت إلى هذا الصف من الأشجار، تجدين أن معظمها أنتج تقريبًا كمية النسغ نفسها. لكن انظري هناك.»
اتَّجهَ إلى شجرة أخرى: «انظري إلى هذه الكوب.»
نظرتْ أوما ورأت الكوب التي أشار إليها فارغة تقريبًا. سألتْ: «هل هناك مشكلة في هذه الشجرة، إذن؟»
قال ماثيو: «لا يمكن أن أقول ذلك. تبدو على ما يرام — لا تختلف عن بقية الأشجار. فكري في الجهد البشري الذي بُذِل لتكون مثل البقية. ومع ذلك …» — أشار إلى الكوب الفارغة تقريبًا — «… هذا ما ترين.»
«إذن ما المسألة في رأيك؟»
«يقول علماء النبات شيئًا ويقول الجيولوجيون شيئًا آخر ويقول علماء التربة شيئًا ثالثًا. لكن إذا سألْتِني فالحقيقة بسيطة تمامًا.»
«ماذا؟»
«تقاوم.»
ضحكتْ أوما ضحكة استغراب: «لا يمكن أن تصدق ذلك حقًّا.»
«زرعتُ هذه الشجرة، أوما. سمعتُ كل ما يقول الخبراء. لكن النقارين يعرفون أفضل. عندهم قول، تعرفين — «دُفِعتْ مقابلها كل شجرة مطاط في الملايو حياة هنديٍّ» يعرفون أن هناك أشجارًا لن تفعل ما تفعله الأشجار الأخرى، وهذا ما يقولون — هذه الشجرة تقاوم.»
خلال جذوع الأشجار المحيطة، ظهرت مكاتب المزرعة عن بعد أسفل المنحدر. أشار إليها ماثيو بإيماءة جارفة من يده.
«إمبراطوريتي الصغيرة، أوما. صنعتُها. أخذتُها من الغابة وطوعتُها كما أردتُ. الآن هي ملكي، أرعاها رعاية جيدة. هناك قانون، هناك نظام، كل شيء يجري بصورة طيبة. انظري إليها تعتقدي أن كل ما هنا أليفٌ، مدجَّنٌ، وكل الأجزاء تعمل معًا بشكل مناسب. لكن حين تحاولين جعل الآلة كلها تعمل تكتشفين أن كل جزء يقاوم. لا علاقة لهذا بي أو بالصواب والخطأ: قد أجعلها أفضل مملكة صغيرة تدار في العالم وتظل تقاوم.»
«لماذا؟»
«طبيعة: الطبيعة التي صنعتْ هذه الأشجار والطبيعة التي صنعتْنا.»
ضحكتْ أوما: «تقول إذن … إن بعض أشجارك متمردة بالغريزة؟»
«ليس حرفيًّا.»
ضحكتْ أوما مرة أخرى: «لكن، ماثيو، ماذا تفعل إذا قرر نقاروك أن يأخذوا درسًا من أشجارك؟»
وحينها جاء دور ماثيو في الضحك: «نتمنى ألا يحدث ذلك أبدًا.»
•••
بدأتْ أوما، وقد عجزت عن النوم بعد الفجر، تتمشى مسافات طويلة في أيكات المطاط. مضتْ سنوات منذ استيقظتْ آخر مرة في هذا الوقت المبكر: كان الفجر اكتشافًا. في أيام تظهر فرق نقاري المطاط فجأة من ندى الصباح المبكر الذهبي، مع محاليق ضبابية مشبوكة في الساري والسارنج. كانوا يمرون على بعد بوصات منها، غافلين عن وجودها، مستغرقين بمعنى الكلمة في الحفاظ على المسافات بينهم، وسكاكينهم التي تشبه المناجل تلمع في الضوء الخافت وهم يقشرون الأجزاء الفضية من اللحاء من جذوع الأشجار.
ذات يوم وأوما تتمشى في الصباح الباكر، أدركتْ أن هناك من يتتبعها. نظرت من فوق كتفها فرأت شخصًا يختفي فجأة: ولدًا أو رجلًا، لم تعرف. من السهل عدم التمييز بين الأشياء في أيكات المطاط، خاصة في الضوء الخافت في الفجر. كان ترتيب الأشجار يجعل الأشياء تبتعد عن البصر من صف لآخر، ولا تعرف موضعها منك.
في اليوم التالي اختبأتْ، حين سمعت حفيف الأوراق خلفها، واستطاعت أن تلمحه عن بعد: كان ولدًا نحيفًا طويلًا أسود، يرتدي قميصًا وسارُنجًا مربَّعًا. افترضتْ أنه أحد أبناء العمال.
نادتْ، وتردد صدى صوتها في أنفاق الأوراق: «أنت هناك … من أنت؟ تعال هنا.» لمحتْ بياض عينيه، اندلع فجأة في الظلام. ثم اختفى.
حين عادتْ إلى المنزل، وصفتْ أوما الولد لأليسون: «هل تعرفينه؟»
«نعم.»
«يفعل ذلك أحيانًا. لا تقلقي؛ لا يؤذي إطلاقًا. نسميه أبله قرية مُرْنِنْجْسايد.»
قالتْ له ذات يوم بالإنجليزية: «إلونجو، لماذا تتبعني؟» وحين لم يرد، تحوَّلتْ إلى الهندوستانية، وكرَّرت السؤال مرة أخرى.
أدى ذلك إلى تأثير مباشر: بصق بذرة المانجو، بدأ يتكلم.
«بعد أن تذهب أمي للتجمع، لا أحب أن أجلس في المنزل وحدي.»
«أنت وحيد في البيت، إذن؟»
«نعم.»
«ماذا عن أبيك؟»
«أبي ليس هنا؟»
«لماذا؟ أين هو؟»
«لا أعرف.»
«هل قابلْتَه؟»
«لا.»
«هل تعرف أين يعيش؟»
«لا. لكن عند أمي صورة له: تقول أمي إنه رجل مهم.»
«هل يمكن أن أرى الصورة؟»
«عليَّ أن أسأل أمي.» ثم أرعبه شيء وتلاشى بين الأشجار.
بعد يومين، وهما يمشيان بجوار صف من نقَّاري المطاط، أشار إلونجو إلى امرأة وجهها مربع قوي، في أنفها حلق فضي.
قال: «أمي.» همتْ أوما كأنها تقترب منها ففزع الولد: «لا. تعمل الآن. سيعاقبها المشرف.»
«لكني أودُّ أن أكلمها.»
«فيما بعد. في منزلنا. تعالي هنا في الخامسة، وسوف آخذك.»
في ذلك المساء، سارتْ أوما مع إلونجو إلى حي من الأكواخ حيث يعيشان. كان المسكن صغيرًا لكنه أنيق ومكشوف. غيَّرتْ أم إلونجو ملابسها وارتدتْ ساريًا أخضر زاهيًا تحسبًا لزيارة أوما. أخرجت الولد ليلعب ووضعتْ برادًا به ماء على النار لإعداد الشاي.
«قال إلونجو إن لديك صورةً لأبيه.»
«نعم.» أعطتْها نسخة من جريدة باهتة.
تعرفتْ أوما على الوجه من أول نظرة. أدركت أنها عرفته طويلًا، ولم تشأ أن تعترف بذلك لنفسها. أغلقتْ عينيها وأدارت الصورة حتى لا تنظر إليها. كان رَجْكومار.
قالتْ أخيرًا: «هل تعرفين هذا الرجل؟»
«نعم.»
«هل تعرفين أنه متزوج؟»
«نعم.»
«كيف حدث ذلك؟ بينك وبينه؟»
«أرسلوني إليه. على السفينة، وأنا آتية. نادوني من بطن السفينة وأخذوني إلى كابينته. ولم يكن هناك ما أفعله.»
«كانت المرة الوحيدة؟»
«لا. لسنوات بعد ذلك، حين يكون هنا يبعث لي. ليس سيئًا جدًّا، أفضل من بعض الآخرين. ذات مرة، رأيتُ صورة لزوجته وقلتُ له إنها جميلة جدًّا، مثل أميرة — ماذا تريد من امرأة مثلي؟»
«ماذا قال؟»
«قال لي إن زوجته تحوَّلتْ عن عالمه؛ فقدت اهتمامها ببيتها وأسرتها، وبه …»
«ومتى رأيتِه آخر مرة؟»
«منذ سنوات طويلة. لم يأتِ بعد أن أخبرته بأني حامل.»
«ألا يريد أن يفعل أي شيء للولد — لإلونجو؟»
«لا. لكنه يرسل فلوسًا.»
«لماذا لم تكلمي زوجته؟ أو مستر مارتين أو مسز مارتين؟ قد يفعلون شيئًا. ارتكب خطأ فادحًا؛ لا يمكن أن يُسمح له بتركك في هذه الحالة.»
نظرتْ أم إلونجو إلى زائرتها ورأتْ وجهها ممتعضًا من أجلها. دخلتْ نغمة قلق في نبرة صوتها: «مدام، لن تتكلمي في هذا مع أحد؟»
ردَّتْ أوما بشكل حاسم: «يمكن أن تثقي من أني سأفعل. هذا عمل مشين. سأذهب إلى البوليس إذا تطلب الأمر …»
أصيبت المرأة بهلع. جاءتْ بسرعة عبر الغرفة وغاصتْ على ركبتيها عند قدمي أوما وقالتْ وهي تهزُّ رأسها بعنف: «لا. لا. لا. افهميني من فضلك. أعرف أنك تريدين مساعدتي، لكنك غريبة. لا تعرفين كيف تجري الأمور هنا.»
وقفتْ أوما غاضبة: «ماذا تريدين، إذن؟ هل تريدين أن أترك الأمر يمر ببساطة؟ أن يفلت بفعلته؟»
«هذا شأني. ليس لك الحق في التحدث في هذا الأمر مع أحد …»
كانتْ أوما تتنفس بصعوبة، يرتفع صدرها غضبًا. قالت: «لا أفهم. يجب أن يُعاقب هذا الشخص على ما فعل بك — بك وبزوجته وأسرته. لماذا تريدين الإبقاء على هذا الموضوع في الخفاء؟»
«لأن عقابه لن يساعدني؛ سيجعل الأمور أسوأ بالنسبة للجميع. ستتوقف الفلوس؛ سيحدث اضطراب. لستُ طفلة؛ ليس لك أن تتخذي هذا القرار نيابة عني …»
تدفقت دموع الإحباط من عيني أوما. كثيرًا ما لامت النساء اللائي يسمحن لأنفسهن بالوقوع في شِبَاك متاهات الخوف — لكنها، أمام هذه الظروف، وقفتْ عاجزة، كانت جزءًا من الارتباك.
«… مدام، أريد أن تعطيني كلمة بأنك لن تتكلمي عن هذا؛ لن أتركك ترحلين حتى تفعلي.»
لم يكن هناك ما تفعله أوما إلا أن تومئ إيماءة موافقة قوية.
١٩
منذ تلك اللحظة، اكتسبتْ رحلة أوما طبيعة تلقائية تشبه الحلم، مع انطباعات وأحداث تتوالى متدافعة على بعضها، كحبات ثلج تتساقط على شاشة شبكية.
في مُرْنِنْجْسايد، في اليوم الأخير من إقامتها، كان لأوما حوار مع دينو أثار دهشتها تمامًا. لاحظتْ أن دُلِّي تقضي وقتًا طويلًا بمفردها، تبقى في غرفتها طوال الصباح ونادرًا ما تظهر في الدور الأرضي قبل الظهر.
مستسلمة للفضول سألتْ أوما دينو: «لماذا لا تتناول دُلِّي الفطور معنا؟ لماذا تنزل متأخرة على هذا النحو؟»
«ماذا؟»
«لا أعرف كيف أشرح … يمكن أن تقولي إنها تتأمل.»
لم تستوعبْ أوما: «أوه. ومتى بدأ هذا؟»
«لا أعرف. تفعل ذلك بقدر ما أتذكر … هل كانت لا تفعل ذلك في وقت من الأوقات؟»
«لا أتذكر …»
غيَّرتْ أوما الموضوع فجأة ولم تمسسْه مرة أخرى.
كانت رنجون المحطة التالية في خط رحلة أوما. خطِّطتْ جولتها بحيث تقوم برحلة إليها من الملايو بصحبة دُلِّي ونيل ودينو. ستبقى مع دُلِّي ورَجْكومار شهرًا قبل الإبحار إلى كلكتا. تطلعتْ لهذه الخطوة، وهي تخطط للجولة، أكثر من غيرها: تخيلتْ نفسها مع دُلِّي تقضيان الساعات أثناء الرحلة، تتحدثان كما كانتا تفعلان ذات يوم. ملأها المشهد بالفزع.
لكن بمجرد أن استقلوا السفينة، اختفتْ قيود آخر بضعة أيام بشكل يكاد يكون سحريًّا. تدريجيًّا، عادت الألفة القديمة، لدرجة جعلت أوما تتشجع وتعلق على فترات عزلة دُلِّي يوميًّا.
ذات صباح، وهما على ظهر السفينة، قالتْ أوما: «تعرفين، دُلِّي، بعد أن تحدثنا في الليلة الأولى في مُرْنِنْجْسايد، اعتقدتُ أن الأمور ستجري كما كانت في الأيام الخوالي. هل تتذكرين، دُلِّي، في رتناجيري، كيف كنا نتحدث طوال الليل، ونبدأ مرة أخرى حين نستيقظ، كأن النوم فترة توقف؟ في مُرْنِنْجْسايد، كل صباح، أقول لنفسي، اليوم أتمشى مع دُلِّي ونجلس تحت شجرة وننظر إلى البحر. لكنك لم تظهري أبدًا؛ لم تنزلي أبدًا للفطور. حتى سألتُ دينو ذات صباح وأخبرني بسبب بقائك في غرفتك إلى وقت متأخر …»
«نعم.»
«حاولتُ جهدي أن أحدثك عن حياتي ولم تنطقي بكلمة عن حياتك؛ لا شيء عما يدور في عقلك أو كيف تشغلين وقتك.»
«ماذا أقول، أوما؟ ربما أتكلم لو أن الكلمات تجعلني أفضل. لكن لا أعرف ما أقول. وخاصة لك …»
«لماذا أنا بشكل خاص؟»
«معك أشعر أن عليَّ أن أعلِّق لنفسي — أقدم تفسيرًا.»
رأتْ أوما أن ذلك غير صحيح: «ربما تكونين على حق، دُلِّي. ربما صعب عليَّ أن أفهم. صحيح أني لستُ متدينة — لكن كنتُ سأحاول أن أفهم، من أجلك ببساطة. ويمكن أن أحاول، دُلِّي، إذا سمحتِ لي.»
حدَّقتْ فيها أوما بذهول: «حياتك! لكن ماذا عن ابنيك؟»
«من أجلهما — هما ورَجْكومار — لم أرحلْ بعد. أريد أن أراهما أولًا وقد استقرا — في الهند بالطبع، في مكان بعيدٍ عن بورما، بأي درجة. بمجرد أن يصبحا آمنين، سأشعر بأني حرة في الذهاب إلى ساجاينج …»
«آمنين؟ لكن أليسوا آمنين حيث هما؟»
الأمور تغيرت في بورما، أوما. أشعر بالفزع الآن. هناك كثير من الغضب، كثير من الامتعاض، ومعظمه موجه ضد الهنود.»
«لكن لماذا؟»
«ماذا يعني ذلك؟»
«أغنية سياسية؛ فحواها من الخطأ أن تتزوج بورمية من أجنبي — النساء مثلي، اللائي تزوجن هنودًا، خائنات لشعبهن.»
«هل قلت لهم شيئًا؟»
«نعم قلتُ. غضبتُ بشدة. قلتُ: «هل تعلمون أني قضيتُ عشرين عامًا من حياتي في المنفى مع آخر ملوك بورما؟ هنا نسيتم كل ما يتعلق بنا. أية بهجة تافهة أخذناها من الهنود.»»
«وماذا قالوا ردًّا على ذلك؟»
«بدَوا بلهاء وانصرفوا. لكن مرة أخرى — من يعرف ماذا يفعلون؟»
«هل أخبرت رَجْكومار — برغبتك في أن تترك الأسرة بورما؟»
«نعم. لكنه بالطبع لا يسمع. يقول لي: «لا تفهمين. لا يمكن للاقتصاد أن يعمل بدون رجال الأعمال الهنود؛ سينهار البلد. هذه الاعتراضات ضد الهنود من عمل محرضين ومشاغبين يحاولون تحريض العامة.» حاولتُ أن أقول إنه هو الذي لا يفهم؛ بورما اليوم ليست بورما التي جاء إليها في الحادية عشرة. لكنه بالطبع لم يهتم …» توقفتْ: «ستعرفين كيف تبدو حين نذهب إلى هناك …»
في اليوم التالي، وصلوا إلى رنجون. والسفينة البخارية تأخذ مكانها بجانب الجناح العائم لمرفأ المسافرين في شارع بار لمحتْ أوما رَجْكومار يقف في ظل أفاريز الزينة. ابتسمت ابتسامة عريضة ولوَّحتْ له. ابيضَّ شعرُه عند الصدغين وبدا أعرض وأضخم مما كان في أي وقت، مع صدر هائل يشبه المنفاخ.
تغير منزل كمندين أيضًا: كان مظهره المرتجل العشوائي كما هو، لكنه صار أوسع بكثير، بإضافة أدوار فوقه وأجنحة منبسطة على جانبه. أينما نظرتْ أوما كان هناك مشرفون وجناينية وشوكيدار.
قالتْ أوما لدُلِّي: «كم كبر منزلكم! يمكن أن يكون عندكم جيش هنا إذا أردتم.»
قالتْ دُلِّي: «يريد رَجْكومار أن يكون كبيرًا بما يكفي لأن يعيش فيه الولدان. لكل منهما دور بمفرده. يرى نفسه يحكم إحدى تلك الأسر الكبيرة المترابطة، التي تكبر مع كل جيل …»
قالت أوما: «لا يبدو أن إقناعه بالمغادرة سيكون سهلًا في وقت من الأوقات.»
«لا. الأمر بالغ الصعوبة …»
كان يومًا ساكنًا ومكتومًا بشكل غير عادي وكان الجو حارًّا جدًّا داخل المنزل. قالت أوما: «تعالَ نتكلمْ في الخارج — قد يكون الجو أبرد.»
نزلوا إلى الدور الأرضي وخرجوا يتمشون حول المجمع. وهم يقتربون من عمود كهرباء طويل ينتصب أمام البوابة، لاحظت أوما أنه يميل. توقفتْ فجأة ووضعتْ يدها على عينيها. اهتزتْ قدماها فجأة. شعرت كأن ساقيها تدفعانها إلى الأمام.
صرختْ: «دينو، ماذا يحدث؟»
«زلزال!» وضع دينو يده على كتفها وجثما معًا وذراع كل منهما حول الآخر. بدا أن وقت طويلًا جدًّا انقضى قبل توقف الأرض عن الاهتزاز. بحذر ترك كل منهما الآخر والتفتا حولهما، يقيِّمان الأمر. فجأة صرخ مُنْج ثيها ثو، وعيناه مثبتتان على الأفق.
«لا!»
دارت أوما في الوقت المناسب لترى الهتي الذهبي العظيم للشوي داجون يتداعى.
•••
تمزَّقتْ أوما نتيجة لهذا النزاع: تعاطفتْ مع مخاوف الأقلية الهندية وأزعجها اعتقادهم أن أمنهم يكمن فيما تراه السبب الأساسي للمشكلة — نظام الحكم الإمبريالى وسياسته في تأكيد ضرورته عبر انقسام الخاضعين له. بادرتْ أوما فور عودتها إلى رنجون بتقديم اعتذار لدُلِّي: «دُلِّي، آمل أن تسامحيني على تعاملي مع مخاوفك بخفة. أرى الآن قلقًا متزايدًا. بصراحة، أنا مرتبكة تمامًا …»
خرجتْ أوما، قبل بضعة أيام من سفرها إلى كلكتا، مع دُلِّي في الصباح الباكر في البكارد الرمادية. ذهبتا أولًا إلى طريق تشرشل في رنجون لإلقاء نظرة على المنزل الذي ماتتْ فيه الملكة سوبايالات قبل بضع سنين.
سألتْ أوما: «هل رأيتِها مرة أخرى، دُلِّي؟»
هزَّتْ دُلِّي رأسها ببطء: «لا. كنتُ في نظرها في قارب واحد مع الأميرة الثانية: مطرودة إلى الأبد من حضرتها …»
في طريق العودة، سارتا بالسيارة بجوار معبد سول ووجدتا الشوارع هادئة على غير العادة في هذا الوقت من اليوم: «أنا مندهشة لماذا لا توجد عربات ركشو ولا باعة متجولون …» توقفت دُلِّي لتنظر حولها: «يا له من أمر غريب: لا أرى هنديًّا واحدًا في الشارع.»
عن بعد، في ركن من الشارع، صف طويل من الرجال. رأتا، والبكارد تمر بهم، أن الرجال اصطفوا لوضع تصميمات تشبه الوشم على صدورهم. جاء رد فعل دُلِّي فوريًّا. مالت لتهز كتف يو با كيو.
«دُلِّي — ما المسألة؟ ماذا يحدث؟»
«علينا أن نلف. علينا أن نعود — نعود إلى المنزل.»
«بسبب هؤلاء الرجال؟ لماذا؟ هل هناك ما يفعلونه بتلك الأوشام؟»
«ليست أوشاما، أوما. تلك تصميمات للجنود الذاهبين إلى الحرب …» بدأت دُلِّي تدقُّ بقبضتها على ركبتيها في ذهول: «ستكون هناك اضطرابات على ما أظنُّ. علينا أن نعرف أين الولدان — أين رَجْكومار. إذا أسرعنا فربما نستطيع أن نوقفهم عن مغادرة المنزل.»
على بعد حوالي عشرين ياردة أمام البكارد، قفز رجل من الرصيف وجرى في الشارع. لاحظتْه أوما ودُلِّي حين ظهر في ركن الزجاج الأمامي العريض المقوس للبكارد. كان هنديًّا، دافع ركشو، يرتدي صدرة رثة ولُنْجِيا. يجري بمشقة وقطرات العرق تتطاير من ذراعيه. إحدى يديه تخدش الهواء، والأخرى تمسك لنجيَّه، لتمنعه من الاشتباك في ساقيه. وجهه أسود وعيناه بيضاوان تمامًا ومنتفختان. حملته خطوتان من حافة الزجاج الأمامي إلى وسطه؛ التفت لينظر أعلى كتفه ووثبت عيناه في رأسه. رأتا رجلًا يطارده عن قرب، خلفه بخطوات. كان الرجل عاريًا، على صدره تصميم أسود. كان يحمل شيئًا لكنهما لم تعرفا ما هو لأنه كان مختفيًا تحت حافة الزجاج الأمامي. ثم، فجأة، هزَّ المهاجم كتفيه وسحب ذراعيه إلى الخلف بالطريقة التي يستعد بها لاعب التنس لضرب الكرة. عرفتا أن الأداة التي في يديه دا، شفرة طويلة لامعة بيد قصيرة، جزء من سيف، وجزء من فأس. شُلَّتَا في مقعديهما والدا تحش كالمنجل في الهواء في حركة دائرية. وصل دافع الركشو تقريبًا إلى الطرف البعيد للزجاج الأمامي حين سقطتْ رأسه مثل غصن يشذب، معلقة على عموده الفقري، ممسوكة بقطعة رقيقة من الجلد. لكن الجسد لم يسقط على الأرض في الحال: لجزء من الثانية بقي الجذع مقطوع الرأس منتصبًا. رأتاه يتقدم خطوة أخرى قبل أن يصطدم بالرصيف.
كان أول رد فعل أن تمد أوما يدها إلى مقبض الباب.
صرختْ دُلِّي: «ماذا تفعلين؟ توقفي.»
«علينا أن نساعد، دُلِّي. لا يمكن أن نتركه في الشارع …»
همستْ دُلِّي: «هل جننتِ؟ إذا خرجت من السيارة الآن، فستقتلين أيضًا.» شدَّتْ أوما، دفعتها إلى أرضية السيارة: «اختبئي، أوما. لا يمكن أن نتحمل خطورة أن يراك أحد.» جعلتْ أوما تستلقي ونزعت أغطية المقعد الخلفي للبكارد: «سأغطيك بهذه. اسكني ولا تنطقي بكلمة.»
وضعتْ أوما رأسها على فرش الأرضية وأغلقتْ عينيها. ظهر أمامها وجه دافع الركشو: رأت رأسه مرة أخرى، يسقط إلى الخلف. في اللحظة التي بقي فيها الجسم مقطوع الرأس منتصبًا، يتحرك إلى الأمام، لمحتْ تلكما العينين البيضاوين، متدليتين من عموده الفقري: بدا أن نظرتهما تتجه إلى السيارة، إليها مباشرة. شعرتْ أوما بمعدتها ترتفع وتدفق القيء من فمها وأنفها، ملوِّثًا فرش الأرضية.
«دُلِّي.» فقط وهي تبدأ رفع رأسها، وكزتْها دُلِّي بحدة. توقفت السيارة فجأة فتجمدتْ ووجهها على بعد بوصات من الفرش المغطى بالقيء. في مكان ما فوقها تتحدث دُلِّي إلى شخص ما — مجموعة من الرجال — تشرح شيئًا ما بالبورمية. لم تستغرق المحادثة دقيقة أو اثنتين، لكن بدا أن الأبدية انقضتْ قبل أن تتحرك السيارة مرة أخرى.
•••
استمرَّ الشغب عدة أيام وكان الضحايا بالمئات. كان الرقم مرشحًا للارتفاع لو لم يقمْ كثير من البورميين بحماية الهنود من الغوغاء وجعل بيوتهم ملاذًا لهم. تبين فيما بعد أن الاضطرابات بدأت بخلاف بين العمال الهنود والبورميين في أحواض السفن. هوجمت الكثير من الأعمال المملوكة للهنود والصينيين، ومنها أحد شوادر خشب رَجْكومار. وقُتِل ثلاثة من عماله وجُرِح العشرات.
كان رَجْكومار في البيت حين اندلعت الاضطرابات. لم يعان هو أو أحد من أفراد أسرته من جراح شخصية. تصادف أن نيل كان آمنًا خارج البلدة حين بدأ الشغب، وقد أخذ دينو إلى البيت من المدرسة صديقُه مُنْج ثيها سو.
رغم خسائر رَجْكومار إلا أنه كان أكثر صلابة بشأن البقاء في بورما من أي وقت: «عشتُ حياتي كلها هنا؛ كل ما أملك هنا. لستُ جبانًا لأتخلى عن كل ما عملتُ من أجله مع أول علامة للاضطراب. وعلى أية حال، لماذا تعتقدين أن الترحيب بنا في الهند سيكون أكثر من هنا؟ هناك شغب في الهند طوال الوقت — كيف تعرفين أن الشيء نفسه لن يحدث لنا هناك؟»
رأتْ أوما أن دُلِّي على وشك الانهيار فقررت البقاء في رنجون لمساعدتها على تجاوز المحنة. صار الأسبوع شهرًا وشهرًا. كلما تحدثتْ عن الرحيل، طلبتْ منها دُلِّي البقاء قليلًا: «لم ينتهِ الأمر بعد — أشعر بشيء في الهواء.»
والأسابيع تمرُّ، تعمَّقَ الإحساس بالقلق الذي خيم على المدينة. ازدادت الأحداث الغريبة. كان هناك كلام عن اضطراب في مصحة الأمراض العقلية في رنجون، حيث أوى آلاف من المشردين الهنود بعد الشغب. حدث تمرد في سجن المدينة بين المساجين وتكلف قمعه أرواحًا كثيرة. كانت هناك همسات عن انفجار أكبر في الأفق.
ذات يوم أوقف شخص غريب دُلِّي في الشارع: «هل صحيح أنك عملْتِ في قصر مَنْدالي، في زمن الملك ثيبو؟» حين أجابت دُلِّي بالإيجاب، ابتسم لها الغريب: «استعدِّي: سيكون هناك تتويج آخر قريبًا. وُجِد أميرٌ سيحرِّر بورما …»
بالنسبة لأوما، كانت الثورة ووسائل قمعها ذروة كابوس استمرَّ شهرًا: كأنها تشاهد تجسيدًا لأسوأ أحلامها؛ مرة أخرى، يُستخدَم الجنود الهنود لدعم الإمبراطورية. بدا أن لا أحد في الهند يعرف بهذه الأحداث؛ بدا أن لا أحد يبالي. بدا من الضروري أن يأخذ شخص على عاتقه مهمة إخبار الشعب في بلدها.
في البكارد، في الطريق إلى مهبط منجلادون، بكت أوما: «لا أصدِّق ما رأيت هنا — القصة القديمة نفسها، يُستخدَم الهنود في القتل من أجل الإمبراطورية، يقاتلون أناسًا يُفترَض أن يكونوا أصدقاءهم …»
قاطعها رَجْكومار: «أوما، تتحدثين بكلام لا معنى له.»
«ماذا تقصد؟»
«أوما، هل توقفْتِ لحظة لتسألي نفسك ماذا يحدث إذا لم يُستخدَم هؤلاء الجنود؟ كنتِ هنا أثناء الشغب: رأيتِ ما حدث. ماذا تعتقدين أن يفعل بنا هؤلاء المتمردون — لي، لدُلِّي، للولدين؟ ألا ترين أن هؤلاء الجنود لا يحمون الإمبراطورية وحدها، يحمون دُلِّي أيضًا ويحمونني؟»
انفجر الغضب الذي كتمتْه منذ مُرْنِنْجْسايد: «رَجْكومار، لسْتَ في وضع يسمح بتقديم آراء. أمثالك مسئولون عن هذه المأساة. هل فكرت أبدًا في النتائج وأنت تنقل الناس إلى هنا؟ ما فعلته أنت وأمثالك أسوأ بكثير من أسوأ ما ارتكبه الأوروبيون.»
كقاعدة لم يكن رَجْكومار يجادل أوما في السياسة. لكنه كان على الحافة هو الآخر، وقد ظهر شيء: «لك آراء كثيرة، أوما — عن أشياء لا تعرفين عنها شيئًا. أسابيع وأنا أسمعك تنتقدين كل ما ترين: وضع بورما ومعاملة النساء وحالة الهند وفظائع الإمبراطورية. لكن ماذا فعلْتِ لتكوني مؤهلة لاعتناق هذه الآراء؟ هل بنيْتِ شيئًا في أي وقت؟ وفَّرْتِ وظيفة لشخص واحد؟ حسِّنْتِ حالة إنسان بشكل ما؟ لا. كل ما تفعلين دائمًا هو الرجوع إلى الخلف، كأنك فوقنا جميعًا، تنتقدين وتنتقدين. كان زوجك رجلًا مهذَّبًا أكثر من أي رجل قابلته في حياتي، طاردته إلى حتفه بدوافعك الذاتية …»
صرختْ أوما: «كيف تجرؤ؟ كيف تجرؤ أن تتكلم معي بهذه الطريقة؟ أنت — حيوان، بنهمكَ، تصميمك على أن تأخذ كل ما تستطيع — بأي ثمن. هل تعتقد أن لا أحد يعرف ما فعلتَ بالناس الذين تحت نفوذك — لنساء وأطفال لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم؟ لست أفضل من نخاس أو مغتصب، رَجْكومار. كنت تعتقد أنك ستتلقى دائمًا ردًّا على ما فعلت، سوى أخطائك؟
بدون كلمة أخرى لأوما، مال رجومار على يو با كيو وطلب منه إيقاف السيارة. نزل إلى الطريق وقال لدُلِّي: «سأجد وسيلة أعود بها إلى المدينة. ودِّعيها. ليس هناك ما أفعله معها.»
كانتا عند البوابات؛ عانقتْ أوما دُلِّي بقوة.
«دُلِّي، هل سيغير هذا كل شيء — بالنسبة لنا، أنت وأنا؟»
«لا. بالطبع لا. سآتي وأزورك في كلكتا كلما استطعت. سيكون كل شيء على ما يرام — سترين.»