العرس
٢٠
على الناحية الأخرى من خليج البنغال، في كلكتا، كان أخو أوما وأسرته ينتظرون لاستقبالها عند مهبط طائرات دمْ دمْ.
كانت منطقة الانتظار حظيرة صغيرة بدون سقف مسيجة بسلك. تراجعت الأسرة، مرعوبة تمامًا، أكثر وأكثر، خلف أعداد ضخمة ممن يهتفون لأوما. سمعوا صوت الفوكر ف–٨ وهي لا تزال مختبئة فوق السحاب. أرجون أول من لمحها حين اخترقت الجو، بجسمها الفضي الجاثم يلمع بين أجنحتها المزدوجة. حوَّم هيكلها الفضي فوق أشجار النخيل وهي تهبط إلى الأرض.
طال الانتظار في الشمس قبل أن تظهر أوما. حين هلل الناس أمامهم، عرفوا أن أوما بينهم. وحينها ظهرتْ فجأة، ترتدي ببساطة شديدة ساريًا أبيض من القطن.
كانت أوما في نظر التوأم مخلوقًا أسطوريًّا: عمة أثارت القلاقل وكرَّستْ نفسها لحياة السياسة بدلًا من قبول النصيب المعتاد للأرملة الهندوسية. وهم في حضرتها صمتوا رهبةً: لم يصدقوا أن بطلتهم امرأة هزيلة بشعر رمادي ووجه منهك.
في طريق العودة إلى لنكاسوكا، جلسوا متزاحمين معًا في الأوستين، يتبادلون الأخبار ويتجاذبون أطراف الحديث. ثم فعلتْ أوما شيئًا أثار دهشة أقاربها تمامًا: بدون مبرر، بدون سبب يفهمونه، بدأت تبكي. حدَّقوا في هلع وهي تنشج في ساريها. مأخوذين بأسطورتها، لم يستطيعوا مدَّ أيديهم لها. جلسوا في صمت، متململين، ولم يجرؤ أحد على النطق بكلمة.
وهم على وشك الوصول، تماسكتْ أوما. قالتْ، بدون أن تخاطب أحدًا بالتحديد: «لا أعرف ماذا سيطر عليَّ. كانت آخر بضعة أشهر قاسية جدًّا. أشعر كأني استيقظْتُ من حلم رهيب. في رنجون، قبل أن أغادرها مباشرة، نشب شجار فظيع. يجب أن أنسى بعض هذه الأشياء …»
•••
رأتْ ذات يوم، وهي تفتح صحيفة بنغالية، صورة بشعة لستة عشر رأسًا مقطوعة ومصفوفة على طاولة. وجاء في المقالة المرافقة للصورة: «رءوس متمردين بورميين سقطوا في مواجهة مع القوات الإمبراطورية في مقاطعة بروم في بورما. ويعتقد أنها عُرِضتْ في مركز القيادة في بروم لإثارة الرعب في قلوب الذين قد يُستمالون للتمرد».
قصَّتْ أوما المقالة بيدين مرتجفتين. أخذتْها إلى مكتبها لتضعها في ملف تحتفظ فيه بقصاصاتها. وهي تضعها، وقعت عيناها على حافظة فيها بقايا تذكرة الخطوط الهولندية: نستْها في زاوية من مكتبها منذ وصولها.
وهي تنظر إليها، فكرت في المدينة التي أقلعت منها على الفوكر الفضية؛ فكرت في رجال الأعمال — تجار الخشب وتجار النفط — الذين رافقوها في السفر؛ فكرت كيف كانوا جميعًا يهنئون أنفسهم لوجودهم في فجر حقبة جديدة، عصر يجعل الطيرانُ فيه العالمَ صغيرًا جدًّا، وتختفي تقسيمات الماضي. انضمَّتْ إليهم أيضًا: وهي تنظر من أعلى إلى الأمواج المزبدة في خليج البنغال، بدا من المستحيل ألا تصدق أن العالم المنكمش الذي صنع هذه السفينة الهوائية سيكون أفضل مما سبقه.
امتلأتْ عينا أوما بصور تتذكرها: صورة المنظر الرهيب الذي رأتْه، مجسَّدًا في الزجاج الأمامي لبكارد دُلِّي؛ صورة رَجْكومار وسلسلة خياناته؛ صورة المشاجرة في السيارة في طريق المطار؛ والآن موت ستة عشر متمرِّدًا وقطع رءوسهم ببشاعة.
كان ذلك اليوم بداية تغير في أوما لم يكن أقلَّ عمقًا من التغير العنيف الذي حدث بعد موت الجابي. مع هزيمة تمرد سايا سان في بورما، راجعتْ أفكارها السياسية برمتها. وضعتْ، مع زملائها السياسيين في حزب غدار، الآمال ذات يوم على ثورة مثلها. لكنها رأتْ أن عصيانا شعبيًّا مسلحًا، تلهمه الخرافة والأسطورة، ليستْ أمامه فرصة للتغلب على قوة كالإمبراطورية — ماهرة جدًّا وقاسية في استخدام القوة الكاسحة؛ خبيرة جدًّا في السيطرة. صار واضحًا بتأمل الماضي أن الشعوب غير المسلحة والمتخلفة تكنولوجيا مثل شعبي الهند وبورما لا يمكن أن تأمل في أن تهزم بالقوة قوة عسكرية حديثة تمامًا وجيدة التنظيم؛ ولو نجح هذا الجهد فسيكون بإراقة كميات من الدماء تفوق الخيال — تمرُّد سايا سان مكبَّرًا مئات المرات — تضع الهنود أمام بعضهم بطريقة تجعل الانتصار غير مرغوب فيه كالهزيمة.
في الماضي، رفضت الفكر السياسي للمهاتما غاندي: اعتقدتْ أن اللاعنف فلسفة إشباع الأماني. رأتْ أن أفكار المهاتما كانت أمامها لعقود. ربما الأفكار الرومانسية عن التمرد التي احتضنتها في نيويورك أحلامٌ كاذبة. تذكرت كلمات المهاتما، التي قرأتْها كثيرًا واستخفَّتْ بها دائمًا: الحركة ضد الإمبريالية ثورة لهنود عُزَّل ضد مَنْ يحملون السلاح — من الهنود والبريطانيين — وآلاتهم المختارة أسلحة اللاأسلحة، ضعفها الشديد مصدر قوتها.
٢١
اشتهر توأم أخي أوما، الابن والابنة الكبرى للأخ، بالجمال حتى وهما صغيران جدًّا. اشترك أرجون ومَنْجو في خاصية أضفت عليهما سحرًا غير عادي: غمازة تظهر حين يبتسمان، في خدٍّ واحدٍ فقط، الخد الأيسر لمنجو والأيمن لأرجون. وهما معًا يبدو الأمر وكأن الدائرة اكتملتْ، وعاد التناسق.
وكان الانتباه الذي يثيره جمال منجو قد جعلها على وعي بمظهرها في سن مبكرة. كبرتْ وهي تدرك بحدة الانطباع الذي تتركه عند الناس. وفي هذا كان أرجون عكسها: كان بسيطًا إلى درجة الإهمال ولم يحب أكثر من التسكع حول المنزل في صدرة بالية، ولُنجي مربوط حول خصره.
كان أرجون من الأولاد الذين يشكو المدرسون من أن مستواهم أقل من قدراتهم بشكل لا يمكن إصلاحه. عرف الجميع أنه يتمتع بالذكاء والقدرة على التفوق في المدرسة، لكن بدا أن اهتماماته انحصرتْ في النظر للفتيات وقراءة الروايات. أثناء تناول الطعام، يتوانى بكسل على طبقه، بعد أن ينفضَّ الجميع، يمضغ عظام السمك ويلعق الأجزاء الأخيرة من الأرز المشبع بالدال من على أصابعه. وكان أرجون، كلما كبر، يزداد اهتمام جميع أفراد الأسرة به. بدأ الناس يهزون رءوسهم، قائلين: «هل يحقق هذا الولد شيئًا لنفسه؟»
وفي يوم حار في أبريل، حطم صوت أرجون سُبات العصر في لنكاسوكا، شهق وصرخ بوحشية. جرى كل من في البيت إلى البلكونة الخلفية للنظر إلى الفناء.
قالتْ أمه: «أرجون، ماذا تفعل؟»
«دخلْتُها! دخلْتُها!» كان أرجون يرقص حول الفناء، يرتدي الصدرة القذرة المعتادة ولُنْجيًا ممزَّقًا، يلوح بخطاب في إحدى يديه.
«دخلْتَ ماذا؟»
«ولد غبي. عم تتكلم؟»
«نعم؛ صحيح.» صعد أرجون السلالم جرْيًا، ووجهه متورد، وشعره ساقط على عينيه: «قُبِلْتُ في كلية الضباط.»
«لكن كيف حدث هذا؟ كيف عرفوك؟»
«خضعت لاختبار، ماما. ذهبتُ مع» — ذكر اسم صديق من المدرسة — «ولم أخبركم لأني لم أعتقد أني سأدخلها.»
«لكن مستحيل.»
«انظري.»
مرروا الخطاب من يد ليد، متعجبين من المذكرة الرسمية الرائعة والشعار المنقوش في الزاوية اليمنى العليا. ما كانوا ليندهشوا أكثر إذا أعلن أنه نبتتْ له أجنحة أو نما له ذيل. في كلكتا في ذلك الوقت، لم يُسمَعْ أن أحدًا التحق بالجيش. لأجيال، حكمت الانضمامَ للجيش الهندي البريطاني سياسةٌ عرقية استبعدتْ معظم رجال البلد، بما في ذلك البنغال. ولم يكن ممكنًا، حتى وقت قريب جدًّا، للهنود دخول الجيش كضباط. لم يمضِ على تأسيس الأكاديمية الهندية العسكرية إلا خمس سنوات ولم يعرفْ أحد تقريبًا حقيقةَ أنَّ مقاعدها مفتوحة لاختبارات.
«كيف فعلْتَ ذلك، أرجون؟ وبدون أن تخبرنا بشيء؟»
«أقول لكم، لم أعتقدْ أبدًا أني سأدخلها. بالإضافة إلى أن الجميع قالوا إني لن أصلح لشيء أبدًا — ومن ثم قلتُ حسنًا، لنَرَ.»
«انتظرْ حتى يعود أبوك للبيت.»
«استقرَّ الولد الآن ولم يعدْ هناك ما يقلقنا على …» بدت الراحة على وجهه: «مهنة جاهزة: سوف يترقى سواء أداها بشكل جيد أم لا. وفي النهاية يكون هناك معاش رائع. طالما تقدم في الأكاديمية، فستتم رعايته بقية حياته.»
«لكنه مجرد ولد، وماذا إذا جُرِح؟ أو ما هو أسوأ؟»
«هراء. احتمالات ضئيلة جدًّا. مجرد وظيفة كأي وظيفة أخرى. بالإضافة، فكروا في الوضع، المكانة …»
جاء ردُّ فعل أوما أكثر إثارة للدهشة. منذ زارت المهاتما غاندي في معتزله في وردها، غيَّرت انتماءاتها السياسية. انضمَّتْ لحزب المؤتمر وبدأت العمل مع جناح النساء. توقع أرجون أن تحاول إثناءه عن التوقيع. لكنها قالت: «يعتقد المهاتما أن البلد لا يمكن أن يستفيد إلا حين يكون له رجال ذوو ضمائر في الجيش. تحتاج الهند جنودًا لا يطيعون رؤساءهم طاعة عمياء …»
•••
أخذ مسار منجو منحًى مختلفًا عن توأمها. في الحادية والعشرين لفتت انتباه شخصية سينمائية بارزة — مخرج، ابنة أخيه زميلتها في الكلية. انشغل المخرج، وهو رجل شهير، بالبحث عن ممثلة رائدة. وأحدثتْ حكاية تفتيشه إثارة هائلة في كلكتا.
لُمِحتْ منجو، بدون أن تدري، وهي في الكلية: لم تعرفْ شيئًا عن ذلك إلا حين تلقتْ دعوة لاختبار سينمائي. مالتْ منجو للرفض: تعرف أنها خجولة ومنطوية ومن الصعب أن تتخيل أنها يمكن أن تستمتع بالتمثيل. لكن حين عادت إلى لنكاسوكا عصر ذلك اليوم، عرفت أن التملص من الدعوة لم يكنْ سهلًا كما تخيلت. انتابتْها بعض الشكوك.
الجو هادئ هنا؛ لأنا في محطتنا الوطنية في سَهَارنبور. قد تعتقدين أننا تقضي وقتنا كله في طوابير تحت الشمس. لكن لا شيء من هذا القبيل. الشيء الوحيد الصعب هو الاستيقاظ مبكِّرًا للذهاب إلى أرض الطابور للتدريب البدني مع الرجال. الأمور، بعد ذلك، هادئة بشكل جميل؛ نتجول بين أخذ التحيات ومشاهدة ضباط الصف يدربون الرجال ويمرنونهم على الأسلحة. لكن هذا لا يستغرق إلا ساعتين، ثم نتحول للفطور، في التاسعة (أكوام من البيض ولحم خنزير مملح وفخذ خنزير). ثم ينصرف بعضنا للانتظار في مكتب الوحدة في حالة وصول رجال فقط. ومن النادر أن يحدثنا ضباط الإشارة عن أحدث رموز المجال، أو نتلقى دروسًا في قراءة الخرائط أو محاسبة التدوين المزدوج — أو أشياء من هذا القبيل. ثم يأتي الغداء — وبيرة وجن إذا أردنا (لكن ليس هناك ويسكي!) — وبعد ذلك نكون أحرارًا في الذهاب إلى غرفنا. ويكون هناك وقت للعب كرة القدم مع الرجال. وفي حوالي السابعة والنصف نتجه إلى أرض الميس لتناول بعض الويسكي قبل العشاء. ونسمي الميس الحضانة، على سبيل الفكاهة، لأن النباتات الموضوعة في آنية تموت حين تأتي — لا أحد يعرف السبب. يقول بعض الرجال إن السبب يرجع إلى غبار ماضي العقداء. نسخر من الحضانة، لكني أقول لك إني أتلفت حولي أحيانًا، حتى الآن بعد كل هذه الشهور هنا، في منتصف العشاء، أو حين نشرب نخبًا، لا أصدق حظي …
في المرة الأخيرة كان لمنجو حديث طويل مع أرجون على حافة هذه النافذة نفسها. منذ أكثر من سنة بقليل، بعد تخرجه في الأكاديمية بالضبط. ظلت تدعوه الملازم ثاني أرجون — من ناحية لتزعجه، وأيضًا لأنها أحبت صوت الكلمات. خاب أملها لأنه لم يلبس زيه أكثر، لكنه سخر منها حين أخبرته بذلك.
«لماذا لا تفرجين صديقاتك عليَّ كما أنا؟»
الحقيقة إن معظم صديقاتها في الكلية وقعن في حبه. غرَّرن بها لمعرفة أخباره، وحين يكنَّ في المنزل يدخلن في حوارات مدهشة ليحظين برضا الأسرة — بالطبع، على أمل أن يتذكرهن أحد وقت البحث عن عروس لأرجون.
ربما كانت الليلة التي تناولت فيها عشائي الرسمي في الكتيبة أسعد ليلة في حياتي. حتى وأنا أكتب هذا الخطاب، أدرك أن ذلك قد يبدو غريبًا، منجو. لكنه حقيقي: تذكَّري أن الكتيبة ستكون بيتي لخمسة عشر عامًا أو عشرين عامًا قادمة — وربما أكثر، إذا لم تجر الأمور بشكل جيد جدًّا في مساري ولم أحصل أبدًا على أركان حرب (لا سمح الله!).
إلا أن كتيبتي ما يشغلني حقًّا. ربما يدهشك ذلك، لأن المدنيين يعتقدون دائمًا أن الفوج أهم شيء في الجيش. لكن الفوج، في الجيش الهندي، ليس إلا تجمُّعًا من الرموز — الألوان والأعلام، إلخ. نحن بالطبع فخورون بفوجنا، لكنه ليس وحدات قتالية ولا تجتمع كتائب فوج إلا حين يكون هناك تغيير في الألوان — وهذا يتطلب سنوات طويلة.
وقال: «صاحب، إنها قصة حزينة جدًّا …» أقسم أن الدموع كانت في عينيه. أولئك الفوجي عاطفيون جدًّا، رغم شواربهم وعيونهم المحتقنة. صحيح أن البريطانيين يقولون: إنهم غير ملوثين حقًّا؛ ملح الأرض — يمكن الاعتماد على إخلاصهم؛ رجال تريدينهم بجوارك في بقعة ضيقة.
خطاب أرجون هو ما جعل منجو تعيد التفكير في اختبار السينما. توأمها هناك، على بعد مئات الأميال، يحتسي الويسكي، ويأكل في ميس الضباط ويجعل مراسلته يكوي له سترة العشاء. وهي هنا في كلكتا، في الغرفة التي قضتْ فيها حياتها كلها، تضفر شعرها ذيل حصان كما كانت تفعل وهي في السابعة. البشع أنه لم يتظاهر حتى بافتقاد البيت.
كانت وحدها، عليها أن تفكر فيما هي مقدمة عليه. عرفتْ منجو أن مستقبلها، بقدر اهتمام أمها، تقرر بالفعل: ستترك البيت كزوجة لشخص ما وليس قبل ذلك بيوم. تأتي أمهات العرسان المتوقعين ويطلبن «رؤية» منجو. شدَّتْ إحداهن شعرها شدة حذرة للتأكد من أنها لا تضع باروكة؛ وطلبتْ أخرى أن تكشف عن أسنانها كأنها مهرة، دفعتْ شفتيها بأصابعها مصدرة صوت فرقعة واهية. اعتذرتْ أمها فيما بعد، لكنها أوضحت أنها لا تستطيع التأكد من عدم تكرار هذه الأحداث: هذا جزء من العملية. عرفتْ منجو أن المزيد من هذه المحن قد يقع مستقبلًا.
قررتْ أن المخرج ما كان ليذهب للبحث عن فتاة في كلية إذا كان يريد ممثلة متأنقة بشكل خيالي. استقرَّتْ على أفضل ثيابها القطنية البيضاء، ثوب بمربعات خضراء صغيرة. لكن بمجرد حل هذه المسألة، بدت عدة مشاكل جديدة تتوالى. ماذا عن المكياج؟ المساحيق؟ أحمر الشفاه؟ العطر؟
لمحتْها أمها، بشكل مؤكد، تخرج من غرفة البوجا: «منجو، هل أنت هناك؟ ماذا كنت تفعلين في غرفة البوجا؟ هل تعانين من مشكلة؟» حدقت بتوجس في وجه منجو: «ولماذا أغرقْتِ نفسك في المساحيق؟ على أية حال هل ستذهبين بهذا الشكل إلى الكلية؟»
حاولتْ، وهي تقمع رعبها، اختراع قصة عن الذهاب لزيارة خالة.
قال الصيدلي، وهو يهرش في رأسه: «أوه؟ إذن تعالي وانتظري في المحل. لا تقفي في الشمس.»
ناشدتْه: «أنا بخير حقًّا. لا تقلق بشأني. أنا بخير. ارجعْ إلى المحل.»
«كما تقولين.» انصرف وهو يهرش في رأسه، لكنه عاد بعد دقائق، مع مساعد يحمل مقعدًا. قال الصيدلي العجوز: «إذا كان عليك أن تنتظري هنا، فيجب على الأقل أن تجلسي.» وضع مساعده المقعد في محطة الترام ونظَّفه جيدًا.
بدا الاستسلام أسهل من المقاومة. جلست منجو على المقعد، بجوار محطة الترام المغبرة مباشرة. لكن في خلال دقائق، تحقَّقتْ أسوأ مخاوفها: اجتمع حشد حولها يحدقون فيها.
ثم وصل الترام أخيرًا فشعرتْ بارتياح. أبعد الصيدلي ومساعده الآخرين لتكون منجو أول من يركب. صرخ الرجل العجوز: «سأرسل لأمك لتعرف أنك ركبت بأمان إلى توليجنج.»
ناشدته منجو، وهي تنحني من النافذة وتهزُّ يديها بقوة: «لا، لا حاجة لذلك حقًّا …»
رفع الصيدلي يده إلى أذنه: «ماذا؟ نعم، قلتُ سأرسل شخصًا إلى أمك ليخبرها. لا، ليست مشكلة، ليست إطلاقًا …»
غمغمتْ إحداهما للأخرى: «لماذا تبدو مثل ممرضة.»
«ربما تعتقد أنها ذاهبة إلى مستشفى.»
كانت هناك قهقهات ثم دُفِع ساري في يدي منجو، قطعة من الشيفون الأرجواني الغامق بحافة وردية زاهية.
«هيا. غيِّري.»
جازفت منجو معترضة: «لماذا هذا؟»
قالت إحدى المرأتين موجزة بحدة: «يناسب لونك، ارتديه.»
تطلعتْ منجو في الغرفة، بحثًا عن مكان تغير فيه. لم تجد مكانًا للتغيير.
وبَّختْها المرأة: «ماذا تنتظرين؟ أسرعي. يأتي اليوم للمخرج ضيف مهم. لا يمكن أن ينتظر طويلًا.»
طوال حياتها، منذ كبرت، لم تخلع ملابسها أبدًا أمام أحد، حتى أمها. حين تبين أن عليها أن تتعرى أمام الفحص المدقق لهاتين المرأتين اللتين تمضغان البان، تخدرت ساقاها. تسربت الشجاعة التي أتت بها إلى هنا.
استعجلتْها المرأة: «هيا. يأتي للمخرج رجل أعمال ليدفع فلوسًا للفيلم. لا يمكن أن ينتظر طويلًا. يجب أن يكون كل شيء على أحسن ما يكون اليوم.» انتزعت إحداهما الساري من يدي منجو وشرعت تغير لها ملابسها. في مكان ما قريب توقفت سيارة. وتلا ذلك وابل من أصوات الترحيب. صرخ شخص عبر الباب: «الضيف وصل. بسرعة، بسرعة، سيحتاجها المخرج في أية دقيقة.»
جرت المرأتان إلى الباب لاختلاس نظرة من الشخصية البارزة التي وصلت.
«ألا يبدو مهمًّا، بهذه اللحية وفي كل شيء؟»
«وانظري إلى بدلته — كل ما يرتديه على هذا النحو …»
رجعت المرأتان تقهقهان ودفعتا منجو في مقعد.
«نظرة واحدة فقط وتعرفين كم هو غني …»
«أوه، لو تزوجني فقط …»
«أنت؟ لماذا لا أكون أنا؟»
حدَّقتْ منجو في المرآة في دوخة غير مفهومة. بدا وجها المرأتين كبيرين ببشاعة، وشفاههما المتبسمة خيالية في حجمها وشكلها. خدش فروة رأسها أظفر حاد، فصرختْ معترضة: «ماذا تفعلين؟»
«نتأكد فقط من القمل.»
صرختْ منجو في غضب: «القمل؟ ليس عندي قمل.»
«كان عند الأخيرة. وليس على رأسها فقط.» وتبع ذلك ضحك مجلجل.
تحدَّتْهما منجو: «كيف عرفتما؟»
«كان الساري يغصُّ بالقمل بعد أن ارتدته.»
«الساري!» بصرخة وثبت منجو من على المقعد، وتشبثت بالساري، محاولة تمزيقه.
لم تكف المرأتان عن الضحك. «مجرد نكتة.» كانتا تغصان بالقهقهة: «كان ساريا آخر. ليس هذا الساري.»
انتحبتْ منجو. قالت: «أريد أن أذهب إلى بيتي. من فضلكما دعوني أخرج. لا تخرجاني أمامهما.»
طمأنتها المرأتان: «كل من تأتي إلى هنا تقول ذلك وتبقى إلى الأبد.»
قال المخرج بصوت منغم: «وهذا صديقي الرائع، مستر نيلادهري رها من رنجون …»
تطلعتْ إلى أعلى. لو لم تسمع الاسم لما عرفته. قابلت نيل ودينو منذ سنوات طويلة. قاما بزيارة لهم مع أمهما، وأقاموا في الدور الأرضي في شقة عمتها أوما. لكنه بدا مختلفًا تمامًا بلحيته السوداء الأنيقة وبدلته.
«نيل؟»
حدَّق فيها، فاغرًا فاه، ولسانه معقود على صيحة ذهول. لم تكن تلك التي عرفها؛ كان السبب الذي لا يستطيع البوح به أنها، بدون شك، أجمل امرأة تحدث إليها في حياته.
قالت منجو: «نيل، أليس أنت؟ ألا تتذكرني؟ أنا منجو — ابنة أخي أوما.»
أومأ ببطء غير مصدق، وكأنه نسي صوت اسمه.
جرتْ إليه وألقت بذراعيها على صدره.
قالت، وهي تمسح عينيها في سترته: «أوه، نيل، خذني إلى البيت.»
•••
اختلفت غرفة الملابس حين عادت منجو لاستعادة ملابسها. عاملتها المرأتان بتبجيل.
«هكذا تعرفينه، إذن؟»
«لكن لماذا لم تخبرينا؟»
ضحك: «لا. عرض عليَّ البائع أن أستعيرها عدة أيام. لم أستطع المقاومة.»
التقتْ عيونهما لحظة وشاح كل منهما بعينيه بسرعة.
قال: «أين تحبين أن تذهبي؟» أدار مفتاح المحرك واستجابت الديلج بخرخرة.
«لنرَ …» كانت تجلس في السيارة، لم تعد تشعر بالهدوء ومن ثم ضغطت للذهاب إلى البيت.
بدأ يقول شيئًا: «حسنًا …»
لم تستطع أن تقول إنهما كليهما يفكران في خطوط متماثلة: «ربما …» جملة بدأت واعدة في رأسها وماتتْ غير مكتملة على لسانها.
«أرى.»
«نعم.»
بشكل ما نجح هذا التبادل الموجز في نقل كل ما أرادا توصيله. قاد نيل السيارة وخرجا من الأستوديو. عرفا أنهما لن يذهبا إلى مكان معين، كانا يستمتعان فقط بالمتعة الحسية للجلوس في سيارة تتحرك.»
قال نيل وهو يضحك: «اندهشتُ جدًّا لرؤيتك في هذا الأستوديو. هل تريدين حقًّا أن تكوني ممثلة؟»
شعرت منجو بلونها يتغير. قالتْ: «لا، أردتُ فقط أن أتفرج. الأمور رتيبة في البيت …»
قالت هذا كثيرًا ولم تستطعْ أن تتوقف. أخبرته بأشياء لم تخبر بها شخصًا آخر: كم افتقدتْ أرجون؛ كيف ملأتْها خطاباته من الأكاديمية العسكرية باليأس على مستقبلها؛ عن البلاء الذي يحل بالمرأة حين تعيش بالتفويض من خلال توأم ذكر. أخبرته حتى بالزيجات التي حاولتْ أمها أن ترتبها لها؛ عن أمهات العرسان المتوقعين وكيف شددن شعرها وفحصن أسنانها.
لم يقل الكثير، لكنها فهمت أن صمته يعود أساسًا لافتقاره المعتاد للكلمات. كان وجهه جامدًا بشكل لا يسمح بقراءة ما وراء لحيته الكثة، لكن انتابها شعور بأنه يستمع لها بتعاطف، متفهمًا كل شيء.
قالتْ في النهاية: «وماذا عنك؟ هل أنت حقًّا منتج سينمائي كبير؟»
اندفعت الكلمة من فمه بقوة: «لا! لا. لم تكن فكرتي إطلاقًا. من اقتراح أبي …»
قال إن ما يريده حقًّا العمل في تجارة الخشب. طلب الانضمام إلى أسرة رجال الأعمال — فرفض أبوه. اقترح عليه رَجْكومار التفكير في مسارات أخرى للعمل: قال إن أعمال الخشب ليست للجميع، خاصة لولد تربى في المدينة مثل نيل. حين أصرَّ نيل، أعطاه مبلغًا من المال وطلب منه العودة بعد مضاعفة رأس ماله. لكن كيف؟ تساءل نيل. ردَّ رَجْكومار: اذهب وضعه في الأفلام — أي شيء. التزم نيل بكلمته. بحث عن فيلم يستثمر فيه ولم يعثرْ على فيلم في رنجون، فقرر السفر إلى الهند.
قالت منجو: «منذ متى وأنت هنا، إذن؟ ولماذا لم تأتِ لزيارتنا؟ كان عليك أن تستقر مع أوما بيشي، في الدور الأرضي.»
هرش نيل ذقنه بشكل سمج. قال: «نعم، لكنك تعرفين، المشكلة أن …»
«ماذا؟»
«أبي ليس على وفاق مع عمتك.»
قالت منجو: «هذا ليس مهمًّا. كثيرًا ما تأتي أمك. وأنا متأكدة من أن أباك لن يهتم إذا أتيتَ أيضًا.»
«ربما لا — لكني لم أردْ على أية حال.»
«لماذا لا؟»
«حسنًا.» هرش نيل لحيته مرة أخرى: «ليس من الصواب …»
«ما الذي ليس من الصواب؟»
«لا أعرف إن كنتُ أستطيع أن أوضح.» نظر إليها بارتباك ورأتْه يكافح للعثور على كلمات للتعبير عن فكرة لم ينطقها من قبل، حتى مع نفسه.»
«استمر.»
قال بلهجة تكاد تكون اعتذارًا: «ترين، أنا الوحيد الذي يقف بجانبه.»
فزعتْ منجو: «ماذا تقصد؟»
قال نيل: «هذا ما أشعر به. أنا الوحيد الذي يقف بجانبه. خذي أخي، دينو، على سبيل المثال — أعتقد أحيانًا أنه يكره أباه حقًّا.»
«لماذا؟»
«ربما — لأنهما نقيضان.»
«وأنت مثله؟»
قال: «نعم. على الأقل، هذا ما أودُّ أن أعتقده.»
أشاح بعينه عن الطريق ليبتسم لها.
قال: «لا أعرف لماذا أخبرك بهذا كله. أشعر أني أحمق.»
«لست أحمق — أعرف ما تحاول قوله …»
واصلا السير، بشكل عشوائي، من شارع إلى آخر، مرتدَّيْن من الأزقة المسدودة ومستديرَيْن إلى الخلف في الطرق الأوسع. كان الظلام قد حلَّ تقريبًا حين أنزلها. واتفقا على أن الأفضل ألا يدخل.
التقيا مرة أخرى في اليوم التالي والذي يليه. مدَّ إقامته وبعد مرور شهر أرسل برقية إلى بورما.
ذات يوم ظهرتْ دُلِّي عند باب مكتب أوما.
«دُلِّي؟ أنت هنا؟»
«نعم. ولن تصدقي السبب أبدًا …»
٢٢
كانت بيلا أصغر من في البيت؛ في الخامسة عشرة، فتاة نحيفة خرقاء، تتفتح في مراهقة متأخرة وصعبة. تقلَّبتْ بين القلق والبهجة، غير متأكدة إن كان عليها إلقاء نفسها في المهرجانات أم الاختباء في السرير.
وصلوا إلى مطار دم دم ليجدوه تغيَّرَ تمامًا منذ عودة أوما إلى الهند. امتلأ المهبط القديم تمامًا بالطائرات، بدائرة جمركية خاصة به. أزيلت الأشجار من مائة وخمسين هكتارًا من الأرض وبنيت ثلاثة مدارج جديدة. ظهر مبنى إداري مكون من ثلاثة طوابق وبرج تحكم بألواح زجاجية وغرفة للراديو. تغيَّرتْ منطقة الزوار أيضًا: دخلوا صالة كبيرة ساطعة الإضاءة بها مراوح تطنُّ بنشاط فوق الرءوس. في أحد أطراف الصالة راديو مفتوح على الأخبار، وفي الطرف الآخر طاولة لبيع الشاي والوجبات الخفيفة.
«انظروا!» جرتْ بيلا إلى النوافذ وأشارت إلى طائرة تحوم فوقهم. شاهدوا الدي سي–٣ تهبط إلى الأرض. دينو أول من ظهر، يرتدي لُنْجِيًا وقميصًا واسعًا؛ رفرفتْ ملابسه على جسده الضئيل المائل وهو يقف على المدرج ينتظر والديه.
دُلِّي ورَجْكومار من بين آخر من ظهروا. ارتدتْ دُلِّي لنجيا أخضر مقلَّمًا، وكان في شعرها، كما هو الحال دائمًا، زهرة بيضاء. وكان رَجْكومار يمشي ببطء شديد، يميل قليلًا على دُلِّي. على شعره غطاء أبيض سميك خشن وخطوط وجهه مرتخية في منحنيات مرهقة متدلية.
كان رَجْكومار في أواسط الستينيات. وقد عانى مؤخَّرًا من أزمات صغيرة وغادر سريره رغم نصائح الطبيب. أصاب الكساد أعماله ولم تعدْ مربحة كما كانت. تغيَّرتْ صناعة الساج في العقد الأخير، وصار تجار الخشب القدامى من أمثال رَجْكومار مفارقات تاريخية. كان رَجْكومار مثقلًا بديون هائلة واضطر لبيع كثير من أملاكه.
لكن رَجْكومار صمم، فيما يخصُّ عرس نيل، على تناسى مشاكله المالية. ودَّ أن يفعل كل ما فعل الآخرون على نطاق أكبر وأفخم. نيل المفضل لديه وقد عزم على أن يجعل عرس ولده مناسبة يعوض بها كل ما افتقده في حياته من احتفالات.
•••
كان دينو المفضل عند بيلا: أحبَّتْ شكله، بوجنتيه النحيلتين بارزتَي العظام وجبهته العريضة؛ أحبَّتْ جديته وأسلوبه في الاستماع إلى الناس بعبوس لطيف، كأنه قلق بشأن ما يقال؛ أحبت حتى طريقته في الكلام، في اندفاعات صغيرة متفجرة، كأن أفكاره تتدفق منه في دفقات.
سألتْ: «ماذا أحضرت فيها؟»
فتح الحقيبة وفرَّجها على كاميرا جديدة، من نوع لم تره من قبل.
قال: «معي حامل ثلاثي لها. يمكن أن تنظري خلالها … حين أعدُّها …»
سألتْ: «لماذا تأخذها إلى المحطة؟»
أحدثت الكاميرا صخبًا حين أعدَّها دينو في هورا. كانت المحطة مزدحمة واجتمع الناس حوله يحدِّقون. ضبط دينو ارتفاع الحامل الثلاثي ليناسب بيلا: «هنا، تعالي … انظري.»
كان رصيف المحطة طويلًا، يعلوه سقف شاهق من الصلب المتموج. تسربتْ شمس الأصيل من تحت حافة السقف الرقيقة، محدثة تأثيرًا شديدًا لإضاءة خلفية. في مقدمة الصورة ظهر عدد كبير من الناس: حمالون بسترات حمراء، باعة شاي يسرعون، وركاب ينتظرون مع جبال من الأمتعة.
كشف دينو التفاصيل لبيلا. قال: «أعتقد أنها أفضل من الصور التي في عقلي، بسبب كل هؤلاء الناس … والحركة …»
نظرت بيلا مرة أخرى، وفجأة، كما لو بفعل السحر، ظهر أرجون في الإطار، يتدلى من عربة وهو يمسك بقضيب الباب المفتوح. قفز حين لمحهم وأعطاه زخم القطار المتحرك بداية سريعة. خرج مسرعًا من الضباب الأبيض المعتم الذي يتدفق من ركام الدخان المتصاعد من المحرك، ضحك وهو يتفادى الباعة والحمالين المحتشدين عبر الرصيف. سترة زيه الكاكي محكمة حول خصره وكابه على رأسه يميل إلى الخلف. هبط عليهم وذراعاه مفتوحتان، يضحك، ورفع منجو عن الأرض وأخذ يلفُّ بها ويلف.
ابتعدتْ بيلا عن الكاميرا، آملة أن تختفي حتى ينتهي الوهج الأول لحيوية عودة أرجون إلى الوطن. لكنه لمحها على الفور. «بيلا!» انقضَّ عليها ليقذفها فوق رأسه، متجاهلًا صرخاتها الاحتجاجية. وهي تطير إلى أعلى، مع صخب المحطة، وتلفُّ حول رأسها، وقعت عيناها على جندي اقترب دون أن يراه أحد ووقف خلف أرجون. بدا أصغر من أرجون وأقل في البنية؛ كان يحمل أمتعة أرجون.
همستْ في أذن أرجون: «من هذا؟»
ألقى نظرة من على كتفه ليرى إلى من تنظر. قال: «كيشان سنجه، المراسلة.»
أنزلَها واتَّجهَ مباشرة إلى الآخرين، تحدث بحيوية. سارتْ بيلا في خطاه مع كيشان سنجه. اختلستْ نظرة: اعتقدت أنه جميل؛ كان لبشرته بريق يشبه القطيفة السوداء، ومع أن شعره قصير جدًّا إلا أنها رأتْه جميلًا وناعمًا؛ أعجبتها الطريقة التي زين بها حواف جبهته. ثبت عينيه أمامه، كأنه تمثال متحرك.
وهم على وشك ركوب السيارة عرفت، بدون أدنى شك، أنه يدرك وجودها. التقت عيناه بعينيها لحظة وحدث تغير مفاجئ في تعبيره، ابتسامة خفيفة. التفَّ رأس بيلا: لم تعرف أبدًا أن الابتسامة قد يكون لها تأثير جسدي — مثل ضربة من جسم طائر.
وبيلا على وشك ركوب السيارة، سمعتْ دينو يقول لأرجون: «هل سمعت؟ وقَّع هتلر معاهدة مع موسوليني … قد تنشب حرب أخرى.»
لكنها لم تسمع إجابة أخيها. طوال الطريق إلى البيت، لم تسمع كلمة.
٢٣
لكن في الطريق إلى البيت من المحطة فعل أرجون ما أذهل دينو. انطلق، وهو يتذكر تدريبًا تكتيكيًّا، يصف سمة طوبوجرافية — هضبة. عدَّد قممها وبروزاتها، وطبيعة نباتاتها والغطاء الذي تمنحه، واستشهد بزاوية ميل المنحدر وضحك من خطأ وقع فيه صديقه هاردي وهو يقيسها فجاءت نتائجه «غير عملية.»
فهم دينو الكلمات والصور وجسر الاستعارة التي ربطت الاثنين — لم تكن لغاتٍ فكَّر أن يتواصل بها مع أرجون. لكن في نهاية وصف أرجون، شعر دينو أنه يرى الهضبة في رأسه. من بين الذين استمعوا لرواية أرجون، ربما أدرك وحده الصعوبة البالغة في تحقيق هذه الدقة في التذكر وهذا الوضوح في الوصف: رُوِّع من دقة حكاية أرجون ومن نقص الوعي الذاتي الذي قُدِّمتْ به بشكل تلقائي.
قال، وهو ينظر إليه نظرته الصارمة الثابتة: «أرجون، أنا مندهش … وصفْتَ الهضبة كأنك تتذكر كل جزء منها.»
قال أرجون: «بالطبع. يقول قائدي: تحت النار تدفع حياتك إذا نسيت أي جزئية.»
استوقف دينو هذا أيضًا. تخيل أنه يعرف أهمية الملاحظة، إلا أنه لم يتصور أنها قد تساوي الحياة. في هذه الفكرة إذلال. اعْتَبر تدريبَ الجندي جسديًّا، في المقام الأول، مسألة تتعلق بالجسم. استغرق الأمر محادثة واحدة ليكتشف أنه مخطئ. كان معظم أصدقاء دينو من الكتاب والمثقفين؛ لم يقابل في حياته عسكريًّا أبدًا. فجأة، في كلكتا، وجد نفسه محاطًا بالجنود. في ساعات من وصول أرجون امتلأ المنزل بأصدقائه. وتبين أنه يعرف ضابطين في معسكر حصن وليم في كلكتا. بمجرد وصوله، تدفق أصدقاؤه في كل وقت، في السيارات الجيب وأحيانًا في شاحنات، وكان وصولهم يتميز بالأبواق المدوية وصخب الأحذية.
في الماضي، تراوح موقف دينو من الجيش بين العداء الصريح واللامبالاة المضحكة. حينذاك شعر بالحيرة أكثر مما شعر بالعداء، ازداد اهتمامه بالآليات التي تميزهم. اندهش من الطبيعية الاشتراكية لحياتهم؛ من المتعة التي يشعر بها أرجون، على سبيل المثال، من «الانغماس في القذارة» مع الآخرين. كانت طريقة في التفكير والعمل على النقيض من كل ما أيَّده دينو وآمن به. كان دائمًا أسعد ما يكون وهو وحده. كان أصدقاؤه قليلين ومع أفضلهم يوجد دائمًا بقايا قلق، احتراس تحليلي. وهذا من الأسباب التي جعلته يستمتع كثيرًا بالتصوير. كانت الغرفة المظلمة مكانًا للوحدة، بضوئها المعتم وإحكامها الكريه.
بدا أن أرجون، من ناحية أخرى، يشعر برضى هائل في تنفيذ تفاصيل الخطط التي أمر بها آخرون — ليسوا بالضرورة أناسًا، لكن كُتَيْبات عملية. ذات يوم، وهو يتكلم عن انتقال كتيبته من معسكر إلى آخر، وصف روتين «انتقالهم بالقطار» بزهو كبير كأنه أرشد شخصيًّا كل جندي إلى المحطة. لكن تبين، في النهاية، أن دوره اقتصر على الوقوف على باب عربة القطار وتسجيل قائمة بالأسماء. واندهش دينو حين لاحظ أن رضاه ينبثق من هذا بالتحديد: تراكم بطيء لمهام صغيرة، تكدس قوائم الأسماء التي تبلغ ذروتها في انتقال فصيلة ثم كتيبة.
قال أرجون كل وجبة في ميس الضباط مغامرة، انتهاك رائع للتابو. تناولوا أطعمة لم يمسسْها أحد منهم في بيته: فخذ الخنزير والسجق في الفطور؛ لحم البقر المشوي وقطع من لحم الخنزير في العشاء. شربوا الويسكي والبيرة والنبيذ، ودخنوا السيجار والسجائر والسيجار الصغير. لم تكن مسألة إشباع رغبات؛ كان لكل لقمة معنى — تمثل تقدمًا نحو نشأة هنود أكثر اكتمالا. حكوا جميعًا قصصًا عن انقلاب بطونهم بعد مضغ أول قطعة من لحم البقر أو الخنزير؛ كافحوا للسيطرة على اللقم، قاموا اشمئزازهم. إلا أنهم أصروا، لأنها معارك صغيرة لكنها ضرورية، لا تختبر رجولتهم فقط، بل تختبر لياقتهم أيضًا للدخول في مصاف الضباط. عليهم أن يبرهنوا، لأنفسهم كما لرؤسائهم، على أنهم جديرون بأن يكونوا حكَّامًا، أن يؤهلوا كأعضاء في نخبة؛ كانت لديهم رؤية كافية للارتفاع فوق روابط التربة، للتغلب على الاستجابات المغروسة فيهم بالتنشئة.
قد يقول أرجون بعد كأس أو اثنتين من الويسكي: «انظر إلينا! نحن أول هنود عصريين؛ أول هنود أحرار حقًّا. نأكل ما نحبُّ، نشرب ما نحبُّ، نحن أول هنود لا يثقلهم الماضي.»
استهجنها أرجون بردٍّ ساخر: «بالنسبة لك العالم العصري شيء تقرأ عنه. تحصل على ما تعرف من الكتب والمجلات. نحن نعيش فعليًّا مع الغربيين …»
فهم دينو أن أرجون ورفاقه الضباط رأوا أنفسهم، بارتباطهم بالغربيين، روَّادًا. عرفوا أن الغرب بالنسبة لمواطنيهم تجريد بعيد: حتى لو عرف الهنود أن الإنجليز يحكمونهم، فإن عددًا صغيرًا منهم وضعوا عيونهم على رجل إنجليزي وعدد أصغر واتتهم الفرصة للتحدث معه. عاش الإنجليز في مقاطعاتهم وتابعوا مطارداتهم؛ معظم الأمور اليومية للحكم قام بها هنود. الضباط الهنود في الجيش، من ناحية أخرى، نخبة مختارة؛ عاشوا مع غربيين مجهولين جميعًا لمواطنيهم. شاركوهم الأحياء نفسها، أكلوا الطعام نفسه، قاموا بالعمل نفسه: لا يشبهون في هذا الوضع شخصًا آخر من رعايا الإمبراطورية.
كان أرجون يحب أن يقول: «فهمنا الغرب أفضل منكم أيها المدنيون. عرفنا كيف تعمل عقول الغربيين. وحين يكون كل الهنود مثلنا يكون البلد عصريًّا حقًّا.»
كانت الوجبات مع أصدقاء أرجون أحداثًا صاخبة، يرافقها «كميات كبيرة» من البيرة وضحكات عالية وقدر كبير من التنكيت اللاذع، بواسطة الضباط غالبًا، على بعضهم البعض. وهو ما سموه «إغاظة» وكان معظمه مقبولًا. لكن ذات يوم توقفوا عن الطعام نتيجة حدث تافه غريب. حين رأى أحد الضباط طبق شاباتي سخن يتصاعد منه البخار قال بصوت «إغاظة» عالٍ وساخر: «يجب أن يكون هاردي هنا: إنه الشخص الذي يحب الشاباتي حقًّا …» كان لهذه الكلمات، التي تبدو بريئة، تأثير مفزع؛ خمد الصخب فجأة واكفهرَّتْ وجوه الضباط. تغيَّر لون الضابط الذي تكلم، كأنه يعترف بتوبيخ جماعي. ثم سلَّك أرجون حنجرته بصوت عالٍ، كأنه يذكر أصدقاءه بوجود غرباء — دينو ومنجو ونيل، بتعبير آخر — وتحولت المحادثة فورًا إلى موضوع آخر. لم يستغرق التوقف إلا لحظة ومضى دون أن يلاحظه إلا دينو.
في تلك الليلة، توقف دينو عند غرفة أرجون، وجده يجلس في سريره وعلى ركبتيه كتاب وفي يده كأس براندي. تباطأ دينو.
قال أرجون: «تريد أن تحدثني بصراحة عما حدث هذه الليلة؟»
«نعم.»
«لا شيء، حقًّا.»
«تفكر لتخبرني …»
تنهَّد أرجون: «يتعلق الأمر بصديق عزيز، هاردي. الغريب أنه لم يكن هنا.»
«عم كانوا يتحدثون؟»
«قصة طويلة. كان هاردي في طابور في السنة الأخيرة. ستبدو غباء بالنسبة لك …»
«ماذا حدث؟»
«هل أنت متأكد من أنك تريد أن تعرف؟»
«نعم.»
قال أرجون تربى هاردي في مستودع الكتيبة في سنغافورة. خدم أبوه وجده في الجات الأولى. التحقوا بها كجنديين خاصين وشقَّا الطريق وترقيا إلى رتبة مساعد — وكانت أعلى ما يصل إليه هندي في تلك الأيام، في مكان ما بين صف ضابط وضابط. وهاردي أول شخص في أسرته يلتحق بالجيش كضابط، وعزم على الالتحاق بالجات ١/١. اعتاد أن يقول ساخرًا كان حلمه أن يناديه زملاء أبيه القدامى بكلمة «صاحب».
تبين أنه ما كان يمكن أن يقترف خطأً أكبر. كان زملاء والد هاردي لا يستمتعون بالخدمة تحت قيادته، استاءوا بشدة من وجوده في الكتيبة. كانوا أول جيل من الجنود الهنود يخدمون تحت قيادة ضباط هنود. قلق عدد كبير منهم من هذا الوضع: كانت علاقتهم بالضباط البريطانيين مصدر زهوهم ووضعهم. وكانت الخدمة تحت الهنود انتقاصًا من هذه المزية.
وجاء يوم أوصى فيه قائد الكتيبة، المقدم «بكي» بكلاند، بأن يشرف هاردي على السَّرِيَّة سي. بقدر ما يهم ضباط الصف، كانت القشة الأخيرة. عرف بعضهم المقدم بكلاند جيدًا: خدم بعضهم معه سنوات طويلة وجزءٌ من وظيفتهم أن يخبروه بما يحدث في الوحدة. شكَّلوا وفدًا وذهبوا لمقابلته. قالوا له: هذا الولد، هاردي سنجه، الذي كلفته بقيادة السرية سي، والده معروف لنا، أخواته متزوجات من إخوتنا، بيته في القرية بجوار بيتنا. كيف تتوقع أن نعامل هذا الولد كضابط؟ لماذا، إنه حتى لا يحتمل طعام الضباط. ينسلُّ سرًّا إلى ميساتنا ليأكل الشاباتي.
انزعج المقدم بكلاند بشدة من هذه الشكاوى: مستحيل ألا يثبطه خبث هذه المشاعر. إذا كانت هناك كراهية ذاتية ضمنية في الثقة بأنفسكم، إذا كان الاشمئزاز من الذات عميقًا بحيث يدفع مجموعة من الرجال إلى عدم الثقة في شخص لا لسبب إلا لأنه واحد منهم؟
أنَّبَ المقدم بكلاند ضباط الصف تأنيبًا حادًّا: «تعيشون في الماضي. سيأتي وقت يكون عليكم فيه أن تتعلموا أخذ الأوامر من الهنود. هذا الرجل ابن زميل سابق لكم؛ هل تريدون حقًّا إهانته على الملأ؟»
بقي ضباط الصف ثابتين رغم هذا التقريع. وفي النهاية، استسلم المقدم. وُجِدَ دائمًا ميثاق ضمني بين الرجال وضباطهم الإنجليز: كان مفهومًا أن رغباتهم في مسائل معينة لا بدَّ أن تؤخذ بعين الاعتبار. ولم يكن أمام المقدم إلا أن يرسل إلى هاردي — يخبره أن مهمته لا يمكن أن يقوم بها. وكان هذا أصعب ما في الأمر. كيف يشرح التغيرات لهاردي؟ كيف يدفع عسكري عن نفسه تهمة أن يكون، إذا جاز التعبير، قد أكل شاباتي خِفْيَةً؟ كيف يؤثر ذلك على احترامه لذاته؟
تعامل المقدم بكلاند مع الموقف بأقصى لباقة يمكن أن يتمتع بها شخص، وخرج هاردي من المقابلة لا تبدو عليه علامات ارتباك. لم يعرف عمق جراحه إلا الأصدقاء المقربون؛ كم كانت مواجهة ضباط الصف صعبة في اليوم التالي. ولأن الجيش مؤسسة صغيرة محكمة فإن الكلمة تنتشر دائمًا، ومن وقت لآخر قد ينطق حتى الصديق بكلام لا يليق، كما حدث في تلك الليلة.
•••
سأل دينو أرجون: «هل تواجهون جميعًا هذا الموقف، إذن؟ هل من الصعب أن يتقبلكم رجالكم كضباط؟»
ردَّ أرجون: «نعم ولا. ينتابك دائمًا شعور بأنهم يتفحصونك أكثر مما لو كنت بريطانيًّا — خاصة أنا، على ما أفترض، حيث أني تقريبًا البنغالي الوحيد في المشهد. لكن ينتابك أيضًا إحساس بأنهم يتماهون معك — يحثك بعضهم، بينما ينتظر آخرون لحظة سقوطك. حين أواجههم، يمكن أن أقول إنهم يضعون أنفسهم مكاني، متخطين حاجزًا كبيرًا في عقولهم. حين يتخيلون أنهم عبروا هذا الخط، يتغير شيء. لا يمكن أن يبقى كما كان.»
«ماذا تقصد؟»
«لستُ متأكِّدًا من قدرتي على التوضيح، دينو. سأحكي لك حكاية. ذات يوم، زار عقيد إنجليزي عجوز ميسنا. كان عقله يزخر بحكايات عن الأيام القديمة الرائعة. بعد العشاء سمعته صدفةً يتحدث إلى بكي — قائدنا. كان ينفخ في شاربه. كان رأيه أن عملية إعداد ضباط من الهنود ستدمر الجيش؛ يقف كل منهم في حنجرة الآخر وينهار كل شيء. كان بَكِي عادلًا ومهذَّبًا كما يمكن أن يكون الرجل ولم يحتمل. دافع عنا باستماتة وقال إن ضباطه الهنود يؤدون كل ما يتعلق بوظائفهم بشكل جيد. لكن، تعرف، الأمر الأساسي أني عرفتُ بصدق أن بَكِي مخطئ والعجوز مصيب.»
«لماذا؟»
«الأمر بسيط. لكل مؤسسة منطقها الخاص، والجيش الهندي البريطاني عمل دائمًا على مبدأ الفصل بين الهنود والبريطانيين. نظام صريح: بقوا متباعدين، وشعر الجانبان بأن ذلك في مصلحتهما. وجد البريطانيون طريقة لتنفيذه، ونفذوه. لكن الآن، ونحن في ميس الضباط، لا أعرف إمكانية استمرار ذلك.»
«لماذا لا؟»
نهض أرجون ليصب لنفسه كأسًا أخرى من البراندي: «لأن ما قاله العجوز صحيح: يقف كل منا في حنجرة الآخر.»
«من؟»
«الهنود والبريطانيون.»
«حقًّا؟ لماذا؟ ما الأمر؟»
«معظمها أشياء بسيطة. في الميس، على سبيل المثال، إذا أدار بريطاني مؤشر الراديو على محطة تذيع بالإنجليزية، تأكدْ أن هنديًّا سيحوله على محطة تذيع أغاني أفلام هندية. ثم يعيده شخص آخر إلى ما كان عليه وهكذا، حتى يكون كل ما تتمناه أن يغلق تمامًا. أشياء من هذا القبيل.»
«تبدون مثل … تلاميذ مشاغبين.»
«نعم. لكني أعتقد أن هناك شيئًا مهمًّا خلف ذلك.»
«ماذا؟»
«ترى، نقوم جميعًا بالعمل نفسه، نأكل الطعام نفسه إلخ. لكن الرجال الذين تدربوا في إنجلترا يتقاضون أكثر منا بكثير. بالنسبة لنفسي لا أهتمُّ بذلك كثيرًا، لكن رجالًا مثل هاردي يولون هذه الأمور اهتمامًا كبيرًا جدًّا. بالنسبة لهم ليست مجرد وظيفة كما هو الحال بالنسبة لي. ترى، يؤمنون حقًّا بما يفعلون؛ يؤمنون بأن البريطاني يمثل الحرية والمساواة. يميل معظمنا، حين نسمع كلمات كبيرة من هذا القبيل، إلى ابتلاعها مع بعض الملح. لا يفعلون. جادون بشدة في هذه الأمور؛ لذا من الصعب عليهم اكتشاف أن المساواة التي قيلت لهم ليست إلا وهمًا — شيء يتدلى أمام أنوفهم ليستمروا لكنه يظل دائمًا بعيدًا عن متناول أيديهم.»
«لماذا لا يَشْكون؟»
«يفعلون أحيانًا. لكن عادة لا يوجد شيء محدد يشكون منه. خذ حالة منصب هاردي: على من يقع اللوم؟ هاردي نفسه؟ الرجال؟ من المؤكد أنه ليس القائد. لكن هكذا تجري الأمور دائمًا. حين لا يحصل أحد منا على منصب أو ترقية هناك دائمًا غيمة من النظم تجعل الأشياء مبهمة. على السطح يبدو أن كل ما في الجيش تحكمه اللوائح والنظم والإجراءات: يبدو الأمر قاطعًا وجافًّا. لكن فعليًّا، تحت السطح ظلال معتمة لا تراها تمامًا: التمييز والارتياب والشك.»
تجرع أرجون كأس البراندي وتوقف ليصب كأسًا أخرى. قال: «أخبرك بشيء، شيء حدث لي وأنا في الأكاديمية. ذات يوم ذهبتْ مجموعة منا إلى البلدة — هاردي وأنا وبعض الآخرين. بدأت تمطر فدخلنا محلا. عرض صاحب المحل أن يسلفنا مظلات. بدون تفكير في الأمر قلتُ نعم، بالطبع، ستساعدنا. نظر الآخرون إليَّ كأني جننْتُ. قال هاردي: «ماذا تظنُّ؟ لا يمكن أن تُرَى بمظلة.» ارتبكتُ. قلتُ: «لكن لماذا لا؟ لماذا لا يمكن أن أُرَى بمظلة؟» فكَّرْتُ في الأمر وأدركْتُ أني لا يمكن أن أوافق. قلتُ: «لا.»
«هل عرفْتَ لماذا لا؟»
«لا.»
«لأن المظلات في سالف الأيام كانت علامة السيادة. لم يُرِد البريطانيون للسيبو أن يكونوا طموحين أكثر من اللازم. ولهذا لم تر أبدًا مظلات في معسكر.»
بدأ أرجون يضحك. قال: «والآن يمكن أن أفعل أي شيء إلا أن أُرَى ومعي مظلة — أفضِّل أن أغرق في المطر.»
٢٤
بدا في تلك السنة كأن الرياح الموسمية تكسَّرتْ على لنكاسوكا حتى قبل ظهور السحب الأولى في السماء. كان عرس منجو في أواخر يونيو، قبل هطول الأمطار مباشرة؛ أيام شديدة الحرارة، وقد امتلأت البحيرة أمام المنزل، إلى مستوى لا يمكِّن المراكب من الحركة على الماء. في ذلك الوقت من السنة يبدو أن دوران الأرض يبطئ من سرعته، توقُّعًا للطوفان القادم.
لكن العرس في لنكاسوكا كان أشبه بمناخٍ شاذ غريب: بدا وكأن المجمع غُمِر في فيضان، دوَّم سكانه بشكل محموم تجاه النهر، يحملهم مدٌّ من أشياء متنوعة — أناس وهدايا وقلق وضحك وطعام. في الفناء خلف المنزل، اشتعلت النيران طوال اليوم، وعلى السطح، تحت ظلال الخيام التي أقيمت بمناسبة العرس، بدا أنه لا توجد لحظة لم يجلس فيها عشرات الناس لتناول وجبة.
بالنظر إلى هذا التنوع الغريب لهذه المجموعات، كانت النزاعات قليلة نسبيًّا. لكن ثبت في النهاية استحالة منع الرياح القوية التي تجرف العالم. ذات مرة وصل صديق لأوما، عضو بارز في المؤتمر، في ملابس على طريقة جواهرلال نهرو، في قبعة كاكي وشرواني طويل أسود، ووردة في عروة السترة. وجد السياسي البارز نفسه يقف بجوار أحد أصدقاء أرجون، ضابط في زي فوج البنجاب الرابع عشر. قال السياسي، ملتفتًا إلى العسكري بسخرية: «كيف يبدو الأمر لهندي حين يرتدي هذا الزي؟»
ردَّ صديق أرجون، مواجها السخرية بسخرية: «إذا كان لا بدَّ أن تعرف، سير، يبدو هذا الزي أكثر دفئًا — لكني أتخيل أن الكلام نفسه يمكن أن يقال عن ملابسك؟»
وفي يوم آخر، وجد أرجون نفسه في مواجهة حشد متنوع وغريب من الرهبان البوذيين والطلبة البورميين النشطين وأعضاء حزب المؤتمر. كان لرجال المؤتمر ذكريات مُرَّةٌ عن المواجهات مع الجنود ورجال البوليس الهنود. شرعوا في توبيخ أرجون لأنه يخدم في جيش الاحتلال.
تذكر أرجون أنه عرس أخته وحاول التحكم في نفسه. قال أرجون، بأقل ما يستطيع: «نحن لا نحتلُّ البلد. نحن هنا لحمايتكم.»
«تحموننا مِنْ مَنْ؟ من أنفسنا؟ من الهنود الآخرين؟ تحتاج البلاد الحماية من سادتكم.»
قال أرجون: «انظروا، إنها وظيفة أحاول القيام بها بأفضل ما أستطيع …»
ابتسم له أحد الطلبة البورميين ابتسامة صفراء: «هل تعرف ماذا نقول في بورما حين نرى الجنود الهنود؟ نقول: يمضي جيش من العبيد — يزحفون للقبض على مزيد من العبيد من أجل سادتهم.»
بجهد هائل نجح أرجون في السيطرة على نفسه؛ بدل الانخراط في قتال، استدار وانسحب بعيدًا. فيما بعد اشتكي لأوما فوجدها غير متعاطفة تمامًا. قالت أوما ببرود: «قالوا لك ما يعتقده معظم الناس في البلد، أرجون. إذا كنت تستطيع مواجهة رصاص الأعداء، فيجب أن تكون لديك القدرة على سماعهم.»
•••
بعد ظهيرة أحد الأيام، أُرسِلتْ بيلا إلى غرفة التخزين لتأتي ببعض الزبد. كان الباب الخشبي مشوَّهًا ولا يُغلَق بإحكام. رأت بيلا، وهي تنظر من الفتحة، كيشان سنجه في الداخل، يستلقي على حصيرة. غيَّرَ ملابسه وارتدى لُنْجيا لقضاء القيلولة، وعلَّق الملابس الكاكي على وتد. كان ينضح بالعرق في حرارة يونيو، مكشوف الجسم باستثناء الظل الخفي لفانلة الجيش التي تشيط على صدره.
عرفتْ بيلا، من اندفاع حركة ضلوعه، أنه مستغرق في النوم. انسلَّتْ إلى الغرفة ومشت على أطراف أصابعها حول حصيرته. وهي على ركبتيها، تفكُّ حبال قدر من الفخار، قدر الزبد، استيقظ كيشان سنجه فجأة.
قفز على قدميه وشدَّ سترته الكاكي، واحمرَّ وجهه من الارتباك.
قالت بسرعة وهي تشير إلى القدر الفخاري: «أرسلتْني أمي … لآخذ هذا …»
وسترته عليه، جلس مقرفصًا على الحصيرة. ابتسم لها. ردَّتْ بيلا بابتسامة خجلى. شعرت أنها لا تميل لمغادرة المكان؛ لم تكن قد تحدثت إليه حتى ذلك الوقت وشعرتْ أن هناك أشياء كثيرة تريد أن تسأله عنها.
وكان السؤال الأول الذي طرحته السؤال الأهم في عقلها. قالت: «كيشان سنجه، هل أنت متزوج؟»
قال برزانة: «نعم. وعندي ابن صغير. عمره سنة فقط.»
«كم كان عمرك حين تزوجت؟»
قال: «كان ذلك منذ أربع سنوات. لا بد أني كنتُ في السادسة عشرة.»
قالت: «وزوجتك، ماذا عنها؟»
«من قرية بجوار قريتنا.»
«وأين قريتك؟»
«وهل كنت تريد أن تكون جنديًّا؟»
ضحك: «لا. لا إطلاقًا — لكن لم يكن أمامي اختيار.»
«وحتى هذا اليوم ترسل أسرة الأفسر فلوسًا إلينا — ليس لأننا نطلب، وليس إحسانًا، لكن بدافع محبتهم لجدي وتقديرهم لما فعله من أجل ابنهم …»
تعلقت بيلا بكلماته، مستغرقة في كل حركة من عضلات وجهه: «استمر.»
ودَّ كيشان سنجه أيضًا أن يذهب إلى الكلية، لكن وهو في الرابعة عشرة مات والده، ولم يعد خيار المدرسة متاحًا: الأسرة في حاجة إلى فلوس. دفعه أقاربه لتسجيل اسمه بمكتب تجنيد محلي؛ قالوا إنه محظوظ لأنه وُلِد في طائفة يُسمح لها بالالتحاق في جيش سَرْكار الإنجليزي.»
«كان ذلك سبب التحاقك بالجيش؟»
أومأ: «نعم.»
قالت: «والنساء في قريتكم، ماذا عنهن؟»
«لسن مثلك.»
تأذت من هذا: «لماذا؟ ماذا تقصد؟»
قال: «إنهن، بشكل ما، جنود أيضًا. يتعلمن منذ الصغر معنى الترمل في سن مبكرة؛ تنشئة أطفال بدون رجال؛ قضاء الحياة مع أزواج مشوهين ومعوقين …»
سمعتْ أمَّها تناديها فخرجتْ تعدو من الغرفة.
•••
أقام رَجْكومار وأسرته، فترة العرس، في الفندق الشرقي الفخم. (لا يُعقَل على ضوء العداء القديم بين رَجْكومار وأوما، أن يقيم معها، كما تفعل دُلِّي عادة.) إلا أنه وافق على أن يقضي نيل ومنجو ليلة العرس — ليلتهما الأخيرة في كلكتا — في لنكاسوكا، في شقة أوما.
حين جاء اليوم، أعدَّتْ أوما ودُلِّي غرفة الزفاف بنفسيهما. ذهبتا مبكرًا إلى سوق الزهور في كاليجات وعادتا بعشرات السلال المحملة. قضتا الصباح في تغطية سرير العرس بأكاليل الزهور — مئات منها. وهما تعملان، تذكرتا عرسيهما وكيف كانا مختلفين تمامًا. بعد الظهيرة انضمَّتْ إليهما الأميرة الثانية، التي جاءت في رحلة خاصة من كَليمبُنْج: اكتملتْ بها الدائرة.
كان الجو حارًّا وبسرعة غرقن في العرق. قالت دُلِّي: «فعلتُ ما فيه الكفاية. كان عرسي أسهل.»
«تتذكرين مسز خَمْبتا — والكاميرا؟»
جلسن على الأرضية، يسخرن من الذكرى.
أتى أرجون بالجويت إلى الفناء وركب الآخرون.
سألت أوما: «أين نذهب بالضبط؟»
قال أرجون: «إلى السوق في كاليجات.»
قالت أوما: «حسنًا، عليك أن تسرع إذن.»
«لماذا؟»
«هناك مظاهرة كبيرة اليوم — يمكن أن نقابلها.»
اندهش أرجون: «مظاهرة. لماذا في هذا الوقت بالتحديد؟»
انزعجتْ أوما. قالت: «ألا تقرأ الصحف أبدًا، أرجون؟ مسيرة ضد الحرب. نعتقد في المؤتمر أن على إنجلترا، في حالة نشوب حرب أخرى، ألا تتوقع دعمنا إلا إذا قدمت ضمانًا باستقلال الهند.»
هزَّ أرجون كتفيه: «أوه، أرى. حسنًا، نحن آمنون إذن — يستغرق الأمر منهم وقتا لطويل لتنفيذ ذلك كله …»
ضحك دينو.
لم يستغرق الوصول إلى السوق إلا خمس عشرة دقيقة، وفي نصف ساعة انتهت عملية التسوق. وهم في طريق العودة لمحوا، حين تحولوا إلى طريق واسع، أول المتظاهرين يقتربون عن بعد.
قال أرجون بهدوء: «لا داعي للقلق. نحن منطلقون في طريق طويل. لن يحاصرونا.» لكن وهو يتكلم قرقر محرك الجويت. وفجأة توقفت السيارة تمامًا.
قالت أوما بحدة: «افعل شيئًا، أرجون. لا يمكن أن نقف هنا.»
غمغم أرجون بشكٍّ: «تعطلت البطارية. كان عليَّ أن أنظفها هذا الصباح.»
«ألا يمكنك إصلاحها؟»
«يستغرق الأمر بضع دقائق.»
قالت أوما: «بضع دقائق. سيكونون حولنا. أرجون، كيف تسمح بهذا؟»
«هذه الأشياء تحدث …»
ذهب دينو وأرجون إلى المقدمة وفتحا الكَبُّوت. كانت الجويت مركونة وقتًا طويلًا في الفناء وكان المحرك ساخنًا جدًّا. حين أُصلِح العطل، كانت المظاهرة قد اقتربت منهم. تدفق المشتركون في المسيرة من كل ناحية، شق بعضهم الصفوف للتحديق في السيارة المتوقفة والرجلين الواقفين بجوار الكبوت المفتوح. عاد أرجون ودينو إلى السيارة؛ ولم يكن هناك إلا الجلوس وانتظار مرور آخر المتظاهرين.
أسقط مشترك في المسيرة كُتيبا من نافذة السيارة. التقطه أرجون ونظر في الصفحة الأولى. كانت هناك اقتباسات عن المهاتما غاندي وفقرة تقول: «لماذا يكون على الهند، باسم الحرية، أن تدافع عن هذه الإمبراطورية الشيطانية وهي نفسها أعظم تهديد للحرية عرفه العالم؟»
كان أرجون متوترًا جدًّا فنخر في غضب. قال: «بلهاء. أتمنى لو استطعتُ حشره في حناجرهم. هل تعتقدون أن لديهم ما يفعلون أفضل من السير في الشمس الحامية …»
قالت أوما بحدة من المقعد الخلفي: «لاحظ ما تقول، أرجون. آمل أن تعرف أنه كان من المفترض أن أكون أنا أيضًا في تلك المسيرة. لا أعتقد أن عليك أن تصفهم بالبلهاء. ومع ذلك، ماذا تعرف عن هذه الأشياء؟»
«أوه، حسنًا …» كان أرجون على وشك أن يستهجن هذا حين بدأ دينو، بشكل غير متوقع، يدافع عنه.
قال: «أعتقد أن أرجون محقٌّ. هؤلاء الناس بلهاء …»
قالت أوما: «ماذا؟ عم تتحدث، دينو؟»
ردَّتْ أوما بهدوء. قالتْ: «دينو، لا تعتقد لحظة أن لديَّ، أو لدى أي شخص في المؤتمر، ذرة تعاطف مع النازيين والفاشست. لا، إطلاقًا: إنهم كما تقول — وحوش، بشعون. قال المهاتما غاندي مرات كثيرة، إنهم يمثلون نقيض كل ما نؤيده. لكنا، في رأيي، بين فكي كماشة: مصدرين للشر المطلق. السؤال بالنسبة لنا، لماذا نختار طرفًا دون الآخر؟ تقول إن النازية ستحكم بالعنف والسيطرة، وتؤسس العنصرية وترتكب فظائع لا توصف. هذا كله صحيح؛ لا أجادل فيه لحظة. لكن فكِّرْ في الشرور التي سردتها: العنصرية والحكم العدواني والسيطرة. هل الإمبراطورية ليست مذنبة في هذا؟ كم من عشرات الملايين من الناس هلكوا لتسيطر هذه الإمبراطورية على العالم — لتستولي على قارات كاملة؟ لا أعتقد في إمكانية وجود إحصاء. والأسوأ أن الإمبراطورية صارت مثالًا للنجاح الوطني — نموذجًا تستلهمه كل الأمم. فكر في البلجيكيين، يتسابقون للاستيلاء على الكونغو — قتلوا هناك عشرة ملايين أو أحد عشر مليونًا. ماذا يريدون سوى خلق نسخة من الإمبراطورية؟ أليس هذا ما تريده اليابان وألمانيا اليوم — إمبراطوريتين لهما؟»
مالت بيلا على المقعد، محاولة التدخل. صرختْ: «علينا أن نرجع. لا يمكن أن نكتفي بالجلوس هنا نتجادل ليلة عرس منجو.»
مرَّ آخر المتظاهرين. أدار أرجون السيارة وانطلق بها. ساروا بسرعة عبر الطريق إلى لنكاسوكا.
ردَّتْ أوما بحدة: «لأكن أول من تعترف بفظائع مجتمعنا — كامرأة، أؤكد لك أني أكثر وعيًا بها منك. قال المهاتما غاندي دائمًا إن صراعنا من أجل الاستقلال لا ينفصل عن صراعنا من أجل الإصلاح. لكن وقد قلتُ هذا، لأضفْ علينا ألا ننخدع بفكرة أن الإمبريالية مشروع إصلاحي. يود الاستعماريون أن نؤمن بهذا، لكنَّ هناك تفنيدًا بسيطًا وواضحًا. صحيح أن الهند تعجُّ بشرور كتلك التي تصفها — الطائفة وإساءة معاملة النساء والجهل والأمية. لكن خذ بلدك، بورما، على سبيل المثال، ليس فيها نظام الطائفة. على العكس، يؤمن البورميون بالمساواة تمامًا. النساء في منزلة عالية — ربما أكثر من الغرب. كانوا عمومًا يعرفون القراءة والكتابة. لكن بورما احتُلَّتْ أيضًا، واستُعبِدتْ. وعانى أهلها أسوأ مما عانينا على أيدي الإمبراطورية. من الخطأ ببساطة تخيل أن الاستعماريين يجلسون ويفكرون في الصواب والخطأ في المجتمعات التي يريدون احتلالها؛ لا تُبْنَى الإمبراطوريات بهذه الطريقة.»
ضحك دينو ضحكة خشنة: «أنت هنا، مفعمة بالسخط على البريطانيين. إلا أنك تستخدمين اللغة الإنجليزية أكثر بكثير من …»
ردَّتْ أوما بحدة: «لا معنى لهذا. كتب كثير من الكتاب اليهود الكبار بالألمانية. هل تعتقد أن ذلك يمنعهم من معرفة الحقيقة؟»
من مقعد القيادة، صاح أرجون: «كفى!» ألقى بالسيارة في ملف حاد، ودخل من بوابات لنكاسوكا. وهم ينزلون من السيارة، قابلتهم أصوات نباح القذائف ودويها. صعدوا السلم بسرعة ليجدوا نيل ومنجو يسيرون حول النار، ودوطيه معقود في ساريها.
نظرت منجو من تحت غطاء الساري حول الغرفة، تبحث في كل مكان عن أرجون. حين رأته أخيرًا يدخل، مرتديًا ملابسه المسودة المشحمة، برزت برأسها، ملقية بالغطاء. تجمد كل من في الغرفة، مندهشين من منظر عروس مكشوفة الوجه. وحينها، قبل أن تعيد منجو الساري إلى وضعه، انطلق فلاش دينو. فيما بعد، اتفق الجميع على أنها أفضل صور العرس.
•••
كانت ليلة حارة لا تُحتمَل. غرق سرير بيلا في العرق برغم دوران المروحة الكهربية فوق رأسها. لم تستطع النوم؛ استمرَّتْ في شم أريج الزهور — آخر عبير يهبُّ قبل هطول الأمطار. فكرت في منجو، في سريرها الذي تتناثر عليه الزهور في الدور الأرضي مع نيل. كان تأثير الحرارة على زيادة أريج الزهور غريبًا.
كان حلقها جافًّا، في جفاف الرمل. تركت السرير وذهبت إلى قاعة في الخارج. كان المنزل مظلمًا وللمرة الأولى منذ أسابيع لم يكن هناك أحدٌ. بدا الصمت غير طبيعي، خاصة بعد صخب آخر بضعة أيام. سارت على أطراف أصابعها من القاعة إلى الفراندة التي في ظهر المنزل. كان القمر بدرًا، يسقط نوره على الأرضية، يلمع مثل الرقائق الفضية. حدقت في باب الغرفة حيث ينام كيشان سنجه. كان مواربًا، كالمعتاد. تساءلت إن كان عليها أن تغلق الباب. خطَتْ عبر الفراندة، وذهبتْ إلى الباب ونظرتْ في الغرفة. رأته يستلقي على حصيرته ولُنْجِيه مطوي بين ساقيه. دفعت هبة من الرياح الباب فانفتح قليلًا. بدا الجو أبرد في الداخل. تسللت وجلستْ في زاوية وذقنها على ركبتيها.
تقلب فجأة ونهض: «ما هذا؟»
«أنا — بيلا.»
«بيلا؟»
سمعت نبرة قلق في صوته وفهمت أن الأمر يتعلق بأرجون أكثر مما يتعلق بها؛ كان خائفًا مما قد يحدث إذا وُجِدتْ في غرفته — أخت ضابط، فتاة بلغت الخامسة عشرة للتو وغير متزوجة. لا تريد أن يشعر بالخوف. دفعت نفسها عبر الأرضية ولمستْ يده: «كل شيء على ما يرام، كيشان سنجه.»
«وماذا إذا …؟»
«الجميع نيام.»
«لكن يبقى …»
رأته لا يزال خائفًا، مدَّتْ ساقيها وتمددتْ بجانبه. قالت: «قل لي، كيشان سنجه، حين تزوجت — كيف كانت ليلتك الأولى مع زوجتك؟»
ضحك برقة. قال: «كانت غريبة. عرفتُ أن أصدقائي وأقاربي على الباب يسمعون ويضحكون.»
«وزوجتك؟ هل كانت مرعوبة؟»
«نعم، لكن كنتُ مرعوبًا أنا أيضًا — أكثر منها بطريقة ما. فيما بعد حين تحدثنا في ذلك مع الآخرين، عرفنا أن الأمور على هذا النحو دائمًا …»
كان يمكن أن يمارس معها الحب وتتركه، لكنها فهمت أنه لن يفعل، ليس لأنها خائفة ولكن نتيجة نوع من الأدب الفطري، وكانت سعيدة لهذا لأنه يعني أن وجودها لم يكن خطأ. سعدت بمجرد الاستلقاء بجانبه، شعرت بجسمه، وعرفت أنه يشعر بجسمها: «وحين ولد ابنك، هل كنت هناك؟»
«لا. كانت في القرية وكنت في القاعدة.»
«ماذا فعلت حين سمعت الأخبار؟»
حاولتْ تخيُّل أرجون في زيه يتحدث إلى كيشان سنجه. لم تتجسد الصورة: «أخي — كيف يبدو؟ أقصد كعسكري؟»
«ضابط ممتاز. نحبه، الرجال.»
«هل هو صعب معك؟»
«أحيانًا. من بين كل هنود كتيبتنا، هو الأقرب شبها بالإنجليز. نسميه «الإنجليزي.»»
ضحكتْ: «يجب أن أخبره.»
فجأة وضع يده على فمها: «صه.» سمع صوت شخص يتحرك في الدور الأرضي. وقف محذِّرًا. قال: «سيطيرون إلى رنجون اليوم. سيستيقظون جميعًا مبكِّرًا. يجب أن تذهبي.»
ناشدتْه: «لحظة أخرى. ما زلنا في الليل.»
«لا.»
شدَّها لتقف وقادها إلى الباب. وهي تنسلُّ خارجة، أوقفها: «انتظري.» بيد تحت ذقنها، قبَّلها، بسرعة شديدة، قبلة كاملة على الشفتين.
•••
حين هزَّ نيل منجو ليوقظها، لم تصدق أن الوقت حان.
توسَّلتْ: «لحظة فقط. دقائق أخرى فقط.»
وضع ذقنه على خدِّها وداعبها بلحيته. قال: «منجو، الطائرة تغادر في الرابعة صباحًا. لا وقت أمامنا …»
كان الظلام لا يزال مخيِّمًا حين بدأ صخب الرحيل. وُجدتْ سلاسل مفاتيح ونُسيتْ؛ أُعِدَّتْ حقائب ورُبِطتْ بأحزمة بإبزيم؛ أُغلِقتْ أبوابٌ ونوافذُ وفُحصتْ وأُغلِقتْ مرة أخرى. قدمت دورة أخيرة من الشاي ثم حملت أمتعتهم، والجيران غارقون في النوم، في سيارة. وقف أفراد العائلة حول الفناء، يلوِّحون: أوما وبيلا وأرجون ووالداهما. نظر كيشان سنجه من الدور العلوي. صرختْ منجو قليلًا، لكن لم يكن هناك وقت طويل للتوديع. أسرع نيل بها إلى السيارة وأغلق الباب.
«سنعود في العام القادم …»
خلف المنصة تقع الكبائن الرئيسية: منطقة للمضيفين، كابينة وسط الطائرة، كابينة للتدخين وسطح للتنزه — منطقة خالية من المقاعد، ليمد الركاب أرجلهم أثناء الرحلة. أذهل منجو التصميم الرائع للمطبخ والمخزن وكان دقيقًا ككل شيء. وفي منطقة لم تكن أكبر من خزانة متوسطة، وُجِدت بشكل ما كل متطلبات مطعم من الدرجة الأولى — آنية فخارية ومفارش وآنية فضية، وحتى الزهور اليانعة.
مع اقتراب بزوغ الشمس، نصح المضيف منجو ونيل بالذهاب إلى سطح التنزه لمشاهدة شروق الشمس. سارا عبر مدخل مقوس في الوقت المناسب ليريا الامتداد المظلم للسندِرْبان يستسلم للبريق المعدني لخليج البنغال. عن بعد ظهر لون فضي في الأفق، كضوء يتسرب من مدخل. تحولت السماوات المظلمة بسرعة إلى اللون البنفسجي ثم انبعث الأخضر الشفاف المتألق مع خطوط قرمزية وصفراء.
ودينو يحاول تصوير الشروق، عبر منجو ونيل الممر للنظر في الاتجاه الآخر. صرختْ منجو بصوت عال: إلى الغرب يقع مشهد مذهل. خيمت في الأفق كتلة مظلمة، سحب بحجم سلسلة من الجبال. كأن جبال الهملايا نُقِلتْ بشكل سحري عبر البحر. كانت كميات السحب ثقيلة حتى بدا أن قيعانها المنبسطة تلامس الأمواج تقريبًا بينما حلقت قممها بعيدًا، بعيدًا فوق الطائرة — قمم إفرست هائلة من السحب ترتفع عشرات الآلاف من الأقدام في السماء.
قال نيل غير مصدق: «الرياح الموسمية. نجري مباشرة في الأمطار المقبلة.»
سألت منجو: «هل ستكون خطيرة؟»
قال نيل بثقة: «ربما في مركبات هوائية أخرى. لكن ليس في هذه.»
عادا إلى مقعديهما وبسرعة بدأت زخات المطر تلسع النوافذ بقوة جعلت منجو تجفل من الزجاج. إلا أن العنف الهائل للمناخ لم يؤثرْ تقريبًا على الطائرة — كان عداد السرعة في الكابينة يبين أن السنتوروس تطير بسرعة ثابتة تبلغ ٢٠٠ ميل في الساعة. لكن بعد لحظة أعلن الكابتن أن السنتوروس ستغير ارتفاعها لتجتاز العاصفة. ستنزل من الارتفاع الذي تطير عليه وكان ٣٠٠٠ قدم إلى بضع مئات من الأقدام فوق سطح البحر.
راحت منجو في غفوة ولم تستيقظ إلا حين سرت في الطائرة موجة من الإثارة. ظهرت الأرض على الجانب الأيمن: جزيرة تشبه صورة في كتاب تحيط بها الشواطئ. أمواج هائلة تتحطم إلى رقائق من الزبد الأبيض على الرمال. وفي منتصف الجزيرة يقف برج مخطط بالأسود والأبيض.
ثم ظهرت — قريبة بما يكفي للمسها — سجادة من المنجروف متخثرة بكثافة ومعرَّقة بشقوق رقيقة وجداول فضية. ومنجو جالسة تنظر من النافذة، همس نيل في أذنها، حاكيا لها حكاية موت جدته — أم رَجْكومار — في مكان ما تحت، على سمبان كان يرسو في أحد هذه الخلجان المتشعبة.
كانت بلدة أكاب، عاصمة أرَكان، محطتهم الأولى. قال نيل بزهو: «هنا ولد أبي.» كانت قاعدة شركة الخطوط الجوية تقع في ممر بحري طبيعي، على مسافة كبيرة من البلدة. لم يروا من أكاب والسنتوروس تهبط إلا برج ساعة على مسافة كبيرة. بعد تزود الطائرة بالوقود حلقت في الجو مرة أخرى. توقف المطر وتبين أن مياه الساحل في ضوء النهار الساطع تغطيها أميال من الشعب المرجانية وغابات عظيمة طافية من أعشاب البحر — بدت كلها من فوق كبقع على البحر المتلألئ. كانت رنجون إلى الشرق، وانتقلت السنتوروس بسرعة فوق الأرض، طائرة فوق امتداد ريفي غير مأهول. اقترب المضيف، موزِّعًا وجبات كبيرة مغلفة بالجلد.
وجدت منجو نفسها، بعد الانتهاء من تناول الفطور، تنظر على مشهد حقول الأرز المربعة. بعضها اخضرَّ وبعضها في سبيله إلى الاخضرار، وصفوف من العمال يتقدمون في الوحل، ينقلون الشتلات. وقف العمال والطائرة تطير فوقهم، وألقوا برءوسهم إلى الخلف ملوحين بقبعات مخروطية ضخمة.
شاهدتْ منجو نهرًا ينحني عبر المشهد الطبيعي. سألتْ نيل: «هل هذا إرَّاودِّي؟»
قال نيل: «لا. هذا نهر رنجون — إرَّاودِّي لا يمر بالمدينة.»
ثم شدَّ عينها بريق من ضوء الشمس على بناء هائل على مسافة بعيدة — جبل مُذهَّب ينتهي بقمة من الذهب: «ما هذا؟»
همس نيل في أذنها: «معبد شوي داجون. نحن في الوطن.»
نظرت منجو في ساعتها ورأتْ أن الرحلة استغرقت خمس ساعات ونصف بالضبط. بدا مستحيلًا أن أقل من يوم انقضى على ليلة عرسها، منذ أغلق نيل باب غرفة النوم المزينة بالزهور. فكرت في الهلع الذي انتابها، وانتابتها رغبة في الضحك. عرفت فقط، والطائرة تلف حول المدينة التي ستكون وطنها، كم كانت واقعة في الحب. كان حاضرها ومستقبلها، وجودها برمته. الزمن والوجود لا معنى لهما بدونه. وضعتْ يدها في يده وتطلعتْ مرة أخرى إلى النهر الهائل العكر والقمة الذهبية. قالت: «نعم، أنا في وطني.»