مُرْنِنْجْسايد
٢٥
كان دينو لا يزال يعيش في مجمع كمندين، في غرفتين فوق المنزل. لكنه لم يذكر في البيت عمله كمراقب في التحذير من الغارات الجوية — من ناحية لأنه عرف أن نيل سيقول له إنه يضيع وقته ويحتاج للقيام ببعض الأعمال، ومن ناحية أخرى لأن الخبرة جعلته يفترض أن آراءه تتناقض بعنف دائمًا مع آراء والده. وهو ما أثار دهشته حين وجد نفسه فجأة، في اجتماع مراقبي التحذير من الغارات الجوية، وجها لوجه مع شخص لم يكن إلا أباه.
«أنت؟»
«أنت!» لم يكن معروفا من منهما أكثر اندهاشًا.
بصرف النظر عن الأسباب، كانت لحظة اتفق فيها الأب والابن — موقفًا لا سابقة له في ذكريات أي منهما. للمرة الأولى في حياتيهما، عملًا سويًّا — حضرا اجتماعات، ناقشا مسائل من قبيل ضرورة استيراد أقنعة غاز وتصميم ملصقات الحرب. كانت خبرة جديدة، استمتعا بها في صمت.
ذات ليلة رافق إطفاء النور للتحذير من الغارات الجوية عاصفة رعدية. برغم الأمطار أصرَّ رَجْكومار على مرافقة المراقبين في دوراتهم. تصبب عرقًا حين عاد إلى البيت. في الصباح التالي استيقظ وهو يرتجف. جاء طبيب وقال إنه يعاني من التهاب رئوي. نُقِل رَجْكومار إلى المستشفى في سيارة إسعاف.
كان رَجْكومار، في الأيام القليلة الأولى، لا يدرك ما حوله، لا يتعرف على دُلِّي أو دينو أو نيل. اعتبرت حالته خطيرة ومنع الأطباء الزيارة عنه. استلقى عدة أيام فيما يشبه الغيبوبة.
تراجعت الحمى ببطء.
استكشف رَجْكومار، في فترات صحوته، ما يحيط به. أخذته الصدفة إلى مكان أليف: غرفة المستشفى التي أقامت فيها دُلِّي مع دينو قبل أربعة وعشرين عامًا. تعرف رَجْكومار، وهو ينظر حول سريره، على المشهد من النافذة: كان الشوي داجون واضحًا كما يتذكر بالضبط. بهتت الستائر الزرقاء والبيضاء قليلًا لكنها لا تزال نظيفة ومنشاة بشكل متموج؛ والأرضيات القرميد، كما كانت دائمًا، نظيفة بشكل مذهل؛ والأثاث الثقيل الداكن كما كان مميزًا، مع أرقام للجرد مطبوعة بالاستنسل على خشب مطلي باللون الأبيض.
فكر، للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، في الطريقة التي أدار بها أعماله. حاول يومًا بعد يوم، وشهرًا بعد شهر، تقييم كل قرار ومراجعة كل الحسابات اليومية وزيارة كل موقع، كل ورشة وشادر ومنفذ. يدير شركته كأنها كشك طعام في بازار، وأثناء ذلك نسي نفسه على أوسع نطاق.
تحمس نيل فترة طويلة للقيام بدور أكبر في إدارة أعماله؛ لكن رَجْكومار أبعده. أعطاه فلوسًا وطلب منه استثمارها في أفلام — كأنه يشتري لطفل بعض الحلوى. أثَّرت الحيلة، فقط لأن نيل يخشاه بدرجة تجعله لا يتحدى سلطته. انهار العمل، وهي حقيقة رفض مواجهتها. ألمح له المحاسبون والمدراء، وصرخ فيهم حين حاولوا تحذيره. والحقيقة القاسية عليه ألا يلوم إلا نفسه: ببساطة، فقدَ البصيرة بما يفعل وبالأسباب التي دفعته إلى فعله.
جثم الندم على رَجْكومار، وهو مستلقٍ يستمع أصوات طقطقة الراديو، مثل لحاف خانق رطب. أخبره الأطباء بأنه في حالة جيدة وفي طريقة للشفاء التام، لكن أسرته لم تر تحسنًا في سلوكه أو مظهره. كان في منتصف الستينيات، وبدا أكبر بكثير: شاب حاجباه الكثان وتهدلتْ وجنتاه في اللغد والفك المتداخلين. بدا أنه لا يدرك وجود مَنْ أتوا إلى الغرفة لزيارته؛ وكثيرًا ما أسكتهم بتعلية الراديو حين حاولوا التحدث إليه.
ذات يوم قفلت دُلِّي الراديو وأغلقت الباب: «رَجْكومار، ماذا يدور في رأسك؟ أخبرني.»
لم يتكلمْ في البداية، لكنها حثته حتى أجاب.
«أفكر، دُلِّي.»
«فيم؟ أخبرني.»
«هل تتذكرين كيف كنت أنت ودينو في هذه الغرفة في ذلك الوقت …؟»
«نعم. بالطبع.»
«في تلك الليلة في هوي زيدي، حين مرض دينو وطلبتِ أن نأخذه إلى مستشفى — اعتقدت أنك في حالة هستيرية. ذهبت من أجلك فقط.»
ابتسمتْ: «نعم. أعرف.»
«لكن كنتِ محقة.»
«لم يكن إلا حظًّا — هاجسًا.»
«هذا ما تقولين. لكن حين أنظر للخلف، أراك على صواب غالبًا. حتى وأنت تعيشين بهذا الهدوء، مبتعدة في المنزل، يبدو أنك تعرفين ما يدور في العالم أكثر مما أعرف.»
«ماذا تقصد؟»
«كنتُ أفكر فيما كنت تقولين في تلك السنوات الطويلة، دُلِّي.»
«ماذا بالضبط؟»
«علينا أن نغادر.»
تنهدت دُلِّي ارتياحًا ومدَّتْ يدها إلى يده: «فكَّرْتَ في هذا أخيرًا؟»
«نعم. لكن الأمر صعب، دُلِّي — التفكير في المغادرة صعب: أعطتني بورما كل ما أملك. كبر الولدان هنا؛ لم يعرفا وطنًا آخر. حين أتيتُ إلى مَنْدالي أول مرة، قال ناخودة مركبي: هذه أرض الذهب — لا أحد يجوع هنا أبدًا. وثبت أن هذا صحيح في حالتي، وبرغم كل ما حدث مؤخرًا، لا أعتقد أني يمكن أن أحب مكانًا آخر كما أحببت هذا المكان. ولكن إذا كان هناك ما تعلمتُه في حياتي، دُلِّي، فهو أنه لا يقين في هذه الأمور. كان أبي من شيتاجُنْج وانتهى في أرَكان؛ أنا انتهيتُ في رنجون؛ أنتِ ذهبْتِ من مَنْدالي إلى رتناجيري والآن أنت هنا أيضًا. لماذا نتوقع قضاء بقية حياتنا هنا؟ هناك أناس من حظِّهم أن ينهوا حياتهم حيث بدأت. لكنه ليس نصيبنا. على العكس، علينا أن نتوقع أن يأتي وقت يكون علينا فيه أن ننتقل مرة أخرى. بدل أن تجرفنا الأحداث، علينا أن نخطط ونتدبر مصيرنا.»
«ماذا تحاول أن تقول، رَجْكومار؟»
«لا يهمُّ إن كنت أفكر في بورما كوطن أم لا. المهم ما يعتقده الناس بشأننا. واضح تمامًا أن أمثالي يُعتبَرون الآن أعداء — من كل جانب. واقع عليَّ الاعتراف به. مهمتي الآن أن أجد طريقة أتأكد أن يؤيدها دينو ونيل.»
«من المؤكد أنهما يؤيدانها.»
توقف رَجْكومار قبل أن يجيب: «دُلِّي، أظنك تدركين أن العمل ليس على ما يرام في الفترة الأخيرة. لكن ربما لا تعرفين تمامًا مدى ما وصلت إليه الأمور.»
«ما مداها؟»
قال بهدوء: «الأمور ليست جيدة، دُلِّي. هناك ديون — كثيرة.»
«لكن، رَجْكومار، إذا بعنا المنزل، والشوادر، ونصيبنا في مُرْنِنْجْسايد — من المؤكد أن شيئًا سيتبقى بحيث يمكن للولدين أن يبدآ في مكان آخر.»
سعل رَجْكومار: «لن ينفع، دُلِّي. والأمور على حالها في هذه الدقيقة، حتى لو بعنا كل شيء فلن يكفي. بالنسبة لمُرْنِنْجْسايد، يعاني ماثيو من مشاكل خاصة به، تعرفين. ضُرِب المطاط بقسوة نتيجة الكساد. لا يمكن أن نندفع إلى هذا، دُلِّي — إننا على يقين من أن هذا الطريق يؤدي إلى كارثة. يجب أن يتم ذلك بحذر شديد جدًّا. يجب أن نفسح له وقتًا …»
«لا أعرف، رَجْكومار.» بدأتْ دُلِّي تلتقط هتامينها بقلق: «الأمور تحدث بسرعة كبيرة الآن — يقول الناس إن الحرب قد تمتد؛ ربما تدخلها اليابان؛ يمكن حتى أن يهاجموا بورما.»
ابتسم رَجْكومار: «مستحيل، دُلِّي. انظري فقط إلى خريطة. ليأتي اليابانيون إلى هنا عليهم أن يأتوا عبر سنغافورة والملايو. سنغافورة من أكثر الأماكن المحصنة دفاعيًّا في العالم. للإنجليز هناك قوات بعشرات الألوف. بطول الشاطئ مدافع عيار ست وثلاثين بوصة. لا يمكن أن نطارد الدخان، دُلِّي، لا يمكن أن نتصرف بفزع. إذا كان لنا أن ننجح، فيجب أن نكون واقعيين، يجب وضع خطط دقيقة.»
مالت دُلِّي عليه لتسوي الوسائد على سريره: «عندك خطة إذن؟»
«ليس بعد، لكني أفكر. ما سنفعله يستغرق وقتًا مهما يكن — عامًا على الأقل، وربما أكثر. جهِّزي نفسك. أريد أن نغادر بورما بما يكفي بحيث يستقر الولدان مستريحين في مكان ما — في الهند أو حيثما أرادا.»
«وبعد ذلك؟»
«نكون نحن الاثنان حرين.»
«لنفعل ماذا؟»
«حسنًا، أنت قررْتِ بالفعل — تريدين أن تعيشي في ساجاينج.»
«وماذا عنك؟»
«ربما أعود أيضًا، دُلِّي. أفكر أحيانًا في أن أعيش بهدوء في هوي زيدي — أنا متأكد من أن دوه سي لديه مكان لي — ولن يكون بعيدًا جدًّا عنك.»
ضحكتْ دُلِّي: «تبيع كل شيء، تقتلعنا جميعًا من جذورنا، تفعل هذا كله، لتعود وتعيش بهدوء في هوي زيدي؟»
«لا أفكر في ذلك من أجل نفسي، دُلِّي — من أجل الولدين.»
ابتسم رَجْكومار وترك رأسه يسقط على وسائده. ذات مرة من قبل في حياته، عرف أنه في مفترق طرق — وهو يحاول الحصول على أول عقد، لسكك حديد شوتا نجبور. فكر بجدية ليتوصل إلى خطة ونجحت، ووضع أسس نجاحه المستقبلي. في هذه المرة أيضًا عليه أن يفكر في شيء، خطة تنفع: تحديه الأخير، آخر هضبة يجتازها، ثم يستريح. لا عار في أن يكبر ويبحث عن الراحة.
•••
كان قائد الكتيبة، المقدم «بكي» بكلاند، يتوقف على فترات منتظمة كل أربعة عشر يومًا في جولات للمعاينة. كان القائد رجلًا طويلًا يبدو محترفًا وخصلة من شعره النحيل تتدلى على قاعدة رأسه الأصلع المقبب.
سأل القائدُ بشكل تلقائي في إحدى زياراته: «ماذا تفعل بوقتك أيها الضابط؟ هل تطلق النار؟ سمعت عن كثير من اللعب هنا.»
قال أرجون بهدوء: «فعليًّا، سير، أقرأ كتبًا …»
عاد القائد ينظر إليه باهتمام جديد: «أوه؟ لم أظن أنك قارئ. وهل لي أن أسأل ماذا تقرأ؟»
فيما بعد في الصيف، توقف هاردي صديق أرجون في طريقه إلى معسكره، في أعالي ممر خيبر. كان هاردي رجلًا هادئًا صافي العينين متوسط الطول والبنية. وكان، بزيه أو بدونه، أنيقًا دائمًا — طيات عمامته ملفوفة بدقة ولحيته ممشطة بعناية على ذقنه. لم يكن هاردي، رغم خلفيته العسكرية، يشبه بحال من الأحوال المحاربين السيخ في المعرفة العسكرية — كان رقيق الحديث بطيء الحركة، بتعبيره الوسنان المعتاد. أذنه حساسة للأنغام، وكان عادة أول من يعرف في الميس آخر أغاني الأفلام الهندية. اعتاد دندنة هذه الألحان همسًا وهو يعمل. كانت عادة مزعجة للبعض ومسلية لآخرين. وقد جلبت بعض هذه الصفات أكثر مما يحتمل من «الغيظ» أحيانًا — إلا أن أصدقاءه عرفوا أن هناك حدودًا معينة لاستثارته: مع أنه كان عمومًا لا يتعجل في اعتبار الأمر إهانة. كان هاردي عنيدًا حين يغضب ويتذكر الضغائن وقتًا طويلًا.
اندهش أرجون لسماع هذا، وقال: «عليك أن تخبر بَكِي. يجب أن يعرف.»
قال هاردي: «لا بدَّ أنه يعرف. وإذا لم يقلْ لنا، فلا بدَّ أن لذلك أسبابًا …» نظر كل منهما إلى الآخر في قلق وتجاهلا الموضوع؛ لم يذكرْ أي منهما تلك الحكايات لأي شخص آخر.
بعد بضعة أشهر عادت الجات ١/١ إلى قاعدة الكتيبة في سَهارَنْبور، قرب دلهي. مع النزول إلى السهول تعرَّضتْ إيقاعات حياتهم لتغير درامي. كان الجيش يتمدد بسرعة رهيبة: تنشئ الأفواج كتائب جديدة ومراكز القيادة تبحث عن أشخاص ذوي خبرة. مثل أي كتيبة أخرى في الفوج، نزفت الجات ١/١ عددًا من الضباط وضباط الصف. فجأة وجدوا أنفسهم يصارعون لملء الفجوات في صفوفهم. بُعِثتْ سرايا مجندة حديثًا من مركز تدريب الكتيبة ووصلتْ دفعة جديدة من الضباط ليحلوا مكان من غادروها. وكان معظم الضباط الجدد مدنيين بريطانيين مغتربين مع لجان الطوارئ — كانوا حتى وقت قريب مزارعين ورجال أعمال ومهندسين، خبرتهم قليلة بالجيش الهندي وتقاليده وإجراءاته المعقدة.
كان أرجون وهاردي برتبة ملازم أول وكانا من بين عدد قليل من الضباط النظامين في الجيش الذين تُرِكوا في الوحدة. ازداد اعتماد المقدم بكلاند عليهما في الأعمال اليومية في الكتيبة.
في البداية أثقل عليهما بمهمة تكوين فصيلة تنفيذية جديدة. ثم، أسرع مما توقع أي شخص، جاءتْ وسائل النقل الآلية للكتيبة لدعم قوتها. وصلتْ ثلاث دست من الشاحنات حمولة خمسة عشر قنطارًا ودستة لوريات أصغر. وتبين أن في الكتيبة مدِّربي بغال بوفرة وليس فيها سائقون. أُخِذ أرجون من الفصيلة التنفيذية وعُيِّن مسئولًا عن النقل الآلي. وقعتْ على عاتقه مهمة تعليم السائقين الجدد حيل المرور بالشاحنات الثقيلة عبر أزقة سهارنبور الضيقة والبازارات.
وهاردي وأرجون يستقران بسعادة في مهمتيهما الجديدتين، قلب القائد كل شيء رأسًا على عقب. أعفى أرجون وهاردي من مهمتيهما وكلفهما بإعداد خطة لتعبئة الوحدة.
وانقسم الرأي دائمًا.
•••
خرج رَجْكومار من المستشفى بأوامر صارمة بالبقاء في السرير شهرًا على الأقل. حين عاد إلى البيت، أصر على الانتقال لغرفة أعلى المنزل. أُحضِر سريرٌ ووضع بجوار نافذة. أتى نيل براديو، بيلارد كالذي كان في المستشفى، ووضعه على طاولة بجوار السرير. حين كان كل شيء كما أراد رَجْكومار، استلقى وخلف ظهره جدار من الوسائد، ضابطًا وضعه بحيث يستطيع النظر عبر المدينة، إلى شوي داجون.
بمرور الأيام تشكَّلتْ أمام عينيه معالمُ الخطة ببطء شديد. في الحرب الأخيرة اشتعلتْ أسعار الخشب. ودعمته الأرباح التي جناها لعَقْدٍ. لا يستبعد حدوث شيء مماثل. يدعم البريطانيون والألمان دفاعاتهم في كل بقاع الشرق — في الملايو وسنغافورة وهون كونج وجاوا وسومطرا. من المنطقي أن يحتاجوا إلى مواد. إذا استطاع تخزين كمية كبيرة من الخشب في شوادره، يمكن بيعها بسعر جيد في العام القادم. المشكلة في السيولة: عليه بيع كل أصوله أو رهنها ليحصل على نقد — عليه التصرف في الشوادر والورش، وحقوق امتياز الخشب، وحتى منزل كمندين. قد يستطيع إقناع ماثيو بشراء نصيبه في مُرْنِنْجْسايد: قد يكون هناك بعض الأموال.
كلما فكر في الخطة بدتْ أكثر استساغة. المخاطر جسيمة، بالطبع، لكنها توجد دائمًا حين يُهدَّد شيء مهم بالضياع. لكن المكاسب، أيضًا، قد تكون كبيرة جدًّا، تكفي تسديد الديون وتوفير بداية جديدة لنيل ودينو. وهناك مميزات لترتيب الأمور على هذا النحو: يكون قد تصرف في كل أصوله وهو يتحرك حركته الأخيرة. وبعدها يكون حرًّا في أن يغادر — لا شيء يوقفه، ولا شيء يقلقه.
في عصر أحد الأيام، ودُلِّي تحضر له وجبته، شرح لها الخطوط العريضة لفكرته. واستنتج: «أعتقد أنها قد تكون مفيدة، دُلِّي. أعتقد أنها الاختيار الأفضل لنا.»
كان لدُلِّي اعتراضات كثيرة.
«كيف يتم هذا كله، رَجْكومار؟ في حالتك الصحية، لا يمكن أن تذهب إلى هنا وهناك، تسافر إلى الملايو وهذا كله.»
قال: «فكَّرْتُ في ذلك. يسافر نيل ودينو — لا أنا. أقول لهما ما يجب فعله. يتنقل أحدهما داخل البلاد ويذهب الآخر للتصرف في حصتنا من مُرْنِنْجْسايد.»
هزَّتْ دُلِّي رأسها: «دينو لن يوافق. لم يحب أبدًا أن تكون له علاقة بالتجارة — تعرف ذلك.»
«ليستْ هناك في الحقيقة فرصة أمامه، دُلِّي. إذا متُّ اليوم فسيجد نفسه يسدد ديوني شاء أم أبي. لا أطلب إلا بضعة أشهر من وقته. وبعدها يكون حرًّا في مواصلة اهتماماته.»
خيم الصمت على دُلِّي، ومدَّ رَجْكومار يده ليهز ذراعها: «قولي شيئًا، دُلِّي — قولي رأيك.»
قالت دُلِّي بهدوء: «رَجْكومار، هذه خطتك — تعرف بما تُسمَّى هذه الأشياء؟»
«ماذا؟»
«تكديس — مكاسب حرب.»
عبس رَجْكومار.
«ينطبق التكديس على سلع ضرورية، دُلِّي، ولن أتعامل معها. لا شيء غير قانوني في خطتي.»
«لا أتكلم عن القانون …»
بدا نفاد الصبر في نبرة رَجْكومار: «ليس أمامنا شيء آخر. علينا انتهاز الفرصة — ألا ترين ذلك؟»
وقفت دُلِّي: «هل رأيي مهم حقًّا، رَجْكومار؟ إذا كان هذا ما استقرَّ رأيك عليه، إذن فهو ما سوف تفعله. رأيي ليس مهمًّا.»
في وقت متأخر من الليل، والبيت كله نائم، رنَّ التليفون في المدخل في الدور الأرضي. نزلتْ دُلِّي من السرير وجرت لتلتقطه قبل أن يوقظ رَجْكومار. سمعت صوت عامل، يقرقع عبر الخط، يخبرها بمكالمة خارجية. بدا أن الجهاز مات لحظة، ثم سمعتْ صوت أليسون؛ كان مبهمًا جدًّا، كأنها تصرخ في غرفة مزدحمة.
«أليسون؟» سمعتْ صوتًا يشبه النحيب. رفعتْ صوتها: «أليسون، هل أنت؟»
«نعم.»
«أليسون — هل الأمور بخير؟»
«لا … هناك أخبار سيئة.»
«ساياجاي؟»
«لا.» انتحبتْ مرة أخرى: «والداي.»
«أليسون. آسفة. ماذا حدث؟»
«كانا في إجازة. في سيارة. في مرتفعات الكاميرون. انحرفت السيارة على جسر …»
«أليسون. أليسون …» لم تستطعْ دُلِّي التفكير فيما تقوله بعد ذلك: «أليسون، سآتي بنفسي إن استطعْتُ، لكن رَجْكومار ليس في حالة جيدة. لا يمكن أن أتركه. لكني سأرسل أحدًا — أحدًا من ولديَّ، ربما دينو. قد يستغرق الأمر بضعة أسابيع، لكنه سيكون هناك. أعدك …» وانقطع الخط قبل أن تتمكن من قول شيء آخر.
٢٦
كان كومار ينتسب لفوج البنجاب الرابع عشر، وكانت كتيبته تعسكر في سنغافورة. كان في الهند في زيارة قصيرة، لحضور فرقة تدريب في الإشارة. بدا كومار مشتتًا ومشغولا، مختلفًا تمامًا عن روحه العالية المعتادة. خرجوا لتناول الغداء، وأخبرهما كومار بحدث غريب جدًّا — شيء سبَّب قلقًا هائلًا في مركز القيادة.
وتصادف أن الضابط الذي وقع عليه اللوم مسلم. وحين وصل خبر عقابه إلى كتيبته، ألقتْ سرية من الجنود المسلمين أسلحتها تعبيرًا عن تعاطفها معه. وفي اليوم التالي ألقت كتيبة من الجنود الهندوس أسلحتها.
طوال القصة لم يذكر لهما كومار اسم الكتيبة المقصودة أو اسم الضابط الذي عوقب. وحين ذكرهما أخيرًا، تبين أن كومار، كحاكٍ رائع، احتفظ بسطر التشويق للنهاية. الكتيبة المقصودة وحدة شقيقة من الجات ١/١ — جزء من فوج مشاة حيدرأباد. والضابط الذي أعيد إلى وطنه عرفوه جميعًا في الأكاديمية.
أنهى كومار القصة بملاحظة تلقائية، قال وهو يهزُّ كتفيه: «للانتقال عبر البحار تأثيرات مزعجة على القوات. وعلى الضباط أيضًا. ستريان.»
قال هاردي متمنيًّا: «ربما لا يحدث ذلك لنا. ليس من المؤكد أننا سنرسل للخارج. يحتاجون قوات هنا أيضًا، رغم ذلك …»
كان أرجون سريع التحدي. قال: «ماذا يفعل هذا لنا؟ لك ولي؟ نجلس خارج الحرب وينتهي مسارنا تحت أقدامهم. أعتقد أن عليَّ أن آخذ فرصتي خارج الوطن.»
ابتعدا في صمت، لا يعرفان ماذا يفعلان بهذه المحادثة. في قصة كومار شيء يستعصي على التصديق. عرفا الضابط الذي عوقب — كان رجلًا هادئًا ينتمي لأسرة من الطبقة المتوسطة، يحتاج إلى وظيفته لا أكثر. لماذا فعل ذلك؟ كان الفهم صعبًا.
وإذا كانت القصة صحيحة — وهما غير متأكدين من ذلك بحال من الأحوال — فقد تضمنت الحادثة معاني أخرى أيضًا. تعني، على سبيل المثال، أن الرتب الأخرى يأخذون التعليمات من الضباط الهنود وليس من القيادة العليا. لكن كان هذا مزعجًا — ليس أقل إزعاجًا لهم من القيادة العليا — لأنه لو فقد الرجال إيمانهم ببناء القيادة، فسيُعتبر الضباط الهنود أيضًا عديمي الأهمية في النهاية. لا يمكن أن يأملوا في منع هذا إلا باعتباره قضية مشتركة مع نظرائهم البريطانيين. ماذا يحدث إذا كان هناك شرخ حقًّا؟ كيف يستجيب الرجال؟ لم يكن أحد يعرف.
بقدر ما كان الموضوع مزعجًا، شعر أرجون بانتعاش غريب: مسئولية غير شائعة عليه مواجهتها بهذه الأسئلة وهو في الثالثة والعشرين.
تبع أرجون الراقصة صاعدًا سلَّمًا ضيِّقًا. كانت غرفة صغيرة، سقفها منخفض. خلعتْ ملابسه ببطء، ملتقطة رباط بنطلون بيجامته الشوريدار القطن بأظافرها. وحين مدَّ يده إليها، أبعدتْه بضحكة.
«انتظر.»
طلبتْ منه أن يضع وجهه على السرير ودلكت ظهره بحفنة من الزيت. تراقصت أنامل الراقصة على مفاصل فقراته مقلدة إيقاعات قدميها. وحين استلقت في النهاية بجانبه، كانت لا تزال في كامل ثيابها. مدَّ يده إلى ثدييها فأبعدتها: «لا، ليس ذلك.» حلَّتْ رباط سروالها وأرشدته إلى جسمها، وشاهدته بابتسامة وهو يتمدد فوقها. حين انتهى انسلت بسرعة مبتعدة، وكأن شيئًا لم يحدث إطلاقًا: حتى رباط سروالها بدا أنه عاد في مكانه فورًا.
وضعتْ إصبعها تحت ذقنه وأعادتْ رأسه إلى الخلف، ممصمصة شفتيها كأنها تتطلع لطفل جميل.
قالتْ: «صغير جدًّا. مجرد ولد.»
قال بزهو: «أنا في الثالثة والعشرين.»
ضحكتْ: «تبدو في السادسة عشرة.»
•••
حين نقلتْ أليسون في البداية خبر موت والديها إلى سايا جون، كان رد فعله ابتسامة خفيفة. وتلتْ ذلك سلسلة من الأسئلة، سألها بلهو تقريبًا، كأن موضوع الحديث في أفضل الأحوال احتمالًا بعيدًا — خيالا، فرضية قدَّمتْها أليسون لتشرح غياب والديها، الذي طال، عن مائدة العشاء.
خافت أليسون من تأثير الخبر على جدِّها وبالغتْ كثيرًا في الاستعداد، وضعت مكياجا على وجهها الشاحب وربطتْ وشاحًا على شعرها الأشعث. حاولت الاستعداد لكل احتمال يرد إلى ذهنها. لكن منظر بسمة جدها، التي تشبه بسمة طفل، تجاوزت احتمالها. نهضتْ وجرتْ من الغرفة.
كان سايا جون في أواخر الثمانينيات. وقد أفادته عادة ممارسة الرياضة في الصباح الباكر طوال حياته، وكانت صحته جيدة نسبيًّا. لم يتدهور سمعه كثيرًا، ومع أن نظره لم يكن في حالة جيدة إلا أنه لا يزال يرى طريقه حول المنزل والأراضي المحيطة به. قبل الحادثة تبدى تقدمه في العمر في ميل إلى التشوش أحيانًا. كثيرًا ما ينسى ما قيل له منذ دقائق، بينما لا يزال قادرًا على أن يتذكر، بأدق التفاصيل، أحداثًا جرتْ قبل أربعين عامًا أو خمسين. أسرعت الحادثة هذا الميل بشكل كبير: رأت أليسون أن خبر موت والديها سُجِّل في عقل جدها، على عكس ما يتظاهر به. لكن استجابته لم تختلف عن رد فعل طفل على صخب غير مستساغ: سدَّ أذنيه بأصابعه بشكل مجازي، ليمنع ما لا يريد أن يسمعه. مع كل يوم يقلُّ كلامه. ينزل لتناول الطعام مع أليسون، لكنه يجلس على الطاولة الخشبية في صمت تام. والجمل التي يوجهها لأليسون تبدأ، بشكل ثابت تقريبًا، بملاحظات من قبيل: «حين يعود ماثيو …» أو «علينا أن نتذكر لنخبر إلسا …»
استجابتْ أليسون في البداية لهذه الملاحظات بضراوة غير مقنَّعةٍ، تخبط الطاولة المصقولة بيديها بعنف وتكرر عدة مرات: «ماثيو لن يعود …» لم يكن هناك ما يبدو أكثر أهمية من أن يقرَّ حقًّا بما حدث. تصورت أن هذا، إذا لم يكن لتقليل أساها، فهو على الأقل للمشاركة في عبئه. لكنه ابتسم خلال نوبات غضبها، وفي النهاية واصل حيث قاطعتْه: «… وحين يعودان …»
بدا من قلة الذوق، بل من البذاءة — تدنيس الأبوة — أن يستجيب بهذا الشكل التافه لخسارة بهذا الحجم. لكنها رأت إصرارها وخبطها بعنف على الطاولات بلا طائل: بعيدًا عن الاصطدام به، لم يكن لديها وسيلة لتمزق بالقوة بطانية التشوش الواقية التي لفها حوله. اضطرَّتْ إلى التحكم في غضبها، لكنه جاء على حساب الإقرار بفقد آخر — فقد جدها. كانت هي وبابا، كما تناديه، متلاصقين دائمًا. بدا وكأنها مضطرة لقبول أنه لم يعد له وجود في حياتها، وأن راحة الصحبة التي يشاركان فيها انتهتْ للأبد؛ اختار في أشد ساعات احتياجها، وكان دائمًا مصدر دعم لا يخذل، أن يصبح عبئًا. من بين كل الخيانات التي قد يكون اقترفها، بدت هذه الأكثر فظاعة — أن يكون طفلًا في هذه اللحظة، لحظة الهجر المطلق. لم تتخيل ذلك أبدًا.
لم تُحتمَلْ تلك الأسابيع إلا بسبب ظرف واحد سعيد. قبل سنوات تبنى سايا جون، في نزوة، أحد أبناء العاملين في المزرعة — «ذلك الولد الذي كان يلفُّ دائمًا حول المنزل» — إلونجو. استمرَّ الولد في العيش مع أمه، لكن سايا جون دفع مصاريف تعليمه في بلدة سُنْجِي بتاني القريبة، ثم أرسله إلى معهد فني في بِنَنْج وتأهل إلونجو ككهربائي.
كان إلونجو في العشرين، شابًّا أسمر مجعد الشعر، يتحرك ببطء ويتكلم بصوت منخفض لكنه بارز الطول والبنية. حين أنهى دراسة الكهرباء، عاد إلى منطقة قريبة من مُرْنِنْجْسايد — وكانت أمه تعيش في منزل صغير بسقف من الصفيح في ضواحي العزبة.
في أعقاب الحادثة، كثيرًا ما أتى إلونجو لرؤية سايا جون في منزل مُرْنِنْجْسايد. بدأ تدريجيًّا، وبدون عرض مقحم وغير ملائم للاهتمام به، يقوم بالكثير من الوظائف اليومية التي تخصُّ الرجل العجوز. وكان وجوده غير محسوس إلا أنه يعول عليه تمامًا، وبسرعة تطلعت أليسون إليه للمساعدة في إدارة مكاتب المزرعة. نشأ إلونجو في مُرْنِنْجْسايد وكان يعرف كل عمال العزبة. ومنحوه بدورهم سلطة تختلف عما منحوه لأي شخص آخر في المزرعة. عاش فترة طويلة في العزبة، لكنه ذهب خارج الحدود أيضًا، وتعلم الملايوية والإنجليزية، ونال قسطًا من التعليم. لم يكن في حاجة إلى رفع صوته أو التهديد ليحظى باحترام: وثقوا فيه كواحد منهم.
كان إلونجو يردُّ على التليفون حين يكون في منزل مُرْنِنْجْسايد. ذات يوم جاء على دراجة من المنزل إلى أليسون في مكتب العزبة.
«هناك مكالمة …»
«ممن؟»
«مستر دينو رها.»
«مَنْ؟» كانت أليسون تجلس على مكتبها. نظرت عابسة: «دينو؟ هل أنت متأكد؟»
«نعم. اتصل من بننج. وصل للتو من رنجون. وهو قادم إلى سُنْجِي بتاني بالقطار.»
«أوه؟» عادت أليسون تفكر في الخطابات التي كتبتها دُلِّي في الأسابيع التي تلت موت أبويها: تذكرت إشارة إلى زيارة وشيكة — لكن الخطاب ذكر أن نيل هو الذي سيأتي، وليس دينو.
سألتْ إلونجو مرة أخرى: «وهل أنت متأكد أنه دينو؟»
«نعم.»
نظرتْ في ساعتها: «ربما أذهب إلى المحطة لمقابلته.»
«قال لا حاجة لذلك: سيجد تاكسي.»
«أوه؟ حسنا، سأرى. ما زال هناك وقت.» تركها إلونجو تجلس في مقعدها، ملتفتة باتجاه النافذة التي تطل على المزرعة، باتجاه الأزرق البعيد لبحر أندامان. مضى وقت طويل على آخر زائر استقبلتْه. امتلأ المنزل بعد موت والديها مباشرة. جاء أصدقاء وأقارب من بننج وملقا وسنغافورة — ووصلتْ أكوام من البرقيات. جاء تيمي من نيويورك، عبر المحيط الهادي على تشينا كليبر التابعة لبان آم. في الارتباك الغامر في ذلك الوقت، دعتْ أليسون أن تبقى مُرْنِنْجْسايد مليئة بالناس إلى الأبد: كان من غير المتصور أن تواجه، بمفردها، تلك الغرف والدهاليز — السلم حيث تذكرها كل قطعة من الخشب بأمها. لكن بعد انقضاء أسبوع أو اثنين خلا المنزل فجأة كما امتلأ. تركها تيمي ليعود إلى نيويورك. لديه أعماله الخاصة ولا يستطيع الابتعاد فترة طويلة. عند السفر كان طيبًا بدرجة جعلته يعطيها حق التصرف في مُرْنِنْجْسايد — تبيعها أو تديرها كما تشاء. بمرور الوقت جعلها الإحساس بالهجر تفهم أنها لا يمكن أن تنظر إلى الماضي لتملأ فجوات حاضرها؛ لا يمكن أن تأمل أن تكون الآثار المتبقية من حياة والديها حاجزًا بينها وبين العزلة المؤلمة في مُرْنِنْجْسايد — الرتابة الساحقة، الوحدة الناتجة عن إحاطتها دائمًا بالأوجه نفسها، بالصفوف المنتظمة نفسها من الأشجار، المشهد الذي لا مفر منه للسحب المعلقة على الجبل نفسه.
كان هناك دينو في طريقه إلى مُرْنِنْجْسايد — دينو القديم الغريب — جاد بشكل لا حل له، مرتبك وغير واثق من نفسه. نظرتْ في ساعتها ومن النافذة. من بعيد، رأتْ قطارًا يشق طريقه عبر السهل. مدَّتْ يدها إلى حقيبتها ووجدتْ مفاتيح الرودستر الدايتونا. قد يريحها أن تبتعد، ولو لساعتين.
٢٧
كانت الحرب وراء تأخر دينو كثيرًا في الحضور إلى مُرْنِنْجْسايد. اضطر تهديدُ نشاط الغواصات في خليج البنغال شركاتِ السفن البخارية للتوقف عن نشر جداول رحلاتها. كان الإعلان عن الرحلة يتم قبل موعد الإبحار بساعات فقط. وكان هذا يعني، فعليًّا، أن يقظة دائمة تستمر في مكاتب الشركات. واعتبر دينو نفسه محظوظًا لأنه وجد مكانًا عمومًا ولم يفكر إطلاقًا في إرسال برقية.
كانت المحطة في سُنْجِي بتاني جميلة مثل دمية: فيها رصيف واحد مظلل بمظلة منخفضة مطلية باللون الأحمر. لمح دينو أليسون والقطار يدخل المحطة: تقف في ظل مظلة الصفيح، تلبس نظارة شمس وفستانًا أسود طويلًا. بدتْ نحيفة ومنهكة وذابلة — فتيلة شمعة حرقها لهيب الأسى.
أصابه شكلُها بنوبة خاطفة من الفزع. كانت المشاعر من أي نوع تبعث فيه الخوف، ولم يكن من بينها ما يشبه الأسى: لعدة دقائق بعد توقف القطار، لم يستطعْ حرفيًّا النهوض من مقعده. ولم يتجه إلى الباب إلا حين لوَّح ناظر المحطة برايته الخضراء.
حاول دينو، وهو ينزل من القطار، تذكُّرَ عبارات التعزية التي حفظها استعدادًا لهذه اللحظة. ومع اقتراب أليسون عبر الرصيف بدتْ فكرة التعزية وقاحة مستحيلة. من الألطف، بالتأكيد، أن يتصرف كأن شيئًا لم يكن؟
قال بصوت أجش، خافضا عينيه: «ما كان يجب أن تأتي. كنتُ سأجد تاكسي.»
قالتْ: «أنا سعيدة بالحضور. جميل أن أستريح بعض الوقت من مُرْنِنْجْسايد.»
«قف.» رفع حقيبة الكاميرا الجلدية على كتفيه، وأعطى حقيبته لحمال.
ابتسمتْ: «هل أبوك في حالة أفضل؟»
قال دينو بصلابة: «نعم. إنه بخير الآن … ومنجو ونيل يتوقعان طفلًا.»
ابتسمتْ له وأومأت: «أخبار طيبة.»
خرجا من المحطة إلى مجمع مظلل بشجرة هائلة تشبه القبة. توقف دينو يتطلع. من أغصان الشجرة المكسوة بالطحلب تتدلى مجموعة نباتات متسلقة وزهور برية.
سأل دينو: «لماذا، أليستْ هذه شجرة بادوك؟»
قالت أليسون: «نسميها هنا أشجار الأنجسنا. زرعها أبي في السنة التي ولدْتُ فيها.» توقفتْ: «في السنة التي ولدنا فيها، كان يجب أن أقول.»
«لماذا، نعم … بالطبع … ولدنا في السنة نفسها.» ابتسم دينو بتردد، واندهشا من الحقيقة التي تذكرتها واختارت التعليق عليها.
سأل دينو: «ما هذه؟ لا أتذكر شيئًا من هذا …»
قالت أليسون: «قاعدتنا العسكرية الجديدة. لسُنْجِي بتاني وجود عسكري كبير الآن، بسبب الحرب. يوجد مهبط للطائرات يحرسه جنود هنود.»
بدأ الطريق يرتفع وبدا جُنُنْج جراي أمامهما، تحجب قمته غيمة الحرارة المعتادة أثناء النهار. غطس دينو في مقعده، وهو يتفحص الجبل بعدسة خيالية. فاجأه صوت أليسون.
«هل تعرف الجزء الصعب؟»
«لا — ماذا؟»
«لا شيء له شكل.»
«ماذا تقصدين؟»
«شيء لا تراه حتى يذهب — أشكال الأشياء والطرق التي يصوغ بها الناس من حولك تلك الأشكال. لا أقصد الأشياء الكبيرة — الأشياء الصغيرة فقط. ماذا تفعل حين تستيقظ في الصباح — تدور في رأسك مئات من الأفكار وأنت تغسل أسنانك: «يجب أن أخبر أمي عن مشتل الزهور الجديد» — أشياء من هذا النوع. في آخر بضع سنوات بدأت أفعل الكثير من الأشياء الصغيرة التي اعتاد أبي وأمي أن يفعلاها في مُرْنِنْجْسايد. ثم أتذكر، لا، لا يجب أن أفعل شيئًا من تلك الأشياء؛ لا مبرر لذلك. وبطريقة غريبة، ما تشعر به في تلك اللحظات ليس حزنًا بالضبط بل نوعًا من خيبة الأمل. وذلك بشع أيضًا، أن تقول لنفسك — هل هذا أفضل ما أستطيع أن أفعله؟ لا: هذا ليس جيدًا بما يكفي. يجب أن أصرخ — يقول الجميع من الرائع أن تصرخ. لكن الشعور الذي في الأعماق ليس له اسم سهل: في حينها لا يكون ألمًا أو أسفًا بالضبط. يبدو أشبه بإحساس ينتابك وأنت تجلس بقوة شديدة في مقعد: يندفع النفس من جسمك، وتتقيأ. من الصعب فهم ذلك — أي شيء منه. تريد أن يكون الألم بسيطًا ومباشرًا — لا تريد أن يهاجمك من مكمن بهذه الطرق الملتفة كل صباح، حين تستيقظ لتفعل شيئًا آخر — تغسل أسنانك أو تتناول فطورك …»
انحرفت السيارة فجأة إلى جانب الطريق. أمسك دينو بعجلة القيادة ليثبتها: «أليسون! ببطء — احذري.»
سارتْ بالسيارة على حافة معشبة تحيط بالطريق وتوقفتْ تحت شجرة. رفعتْ يديها ولمست وجنتيها غير مصدقة. قالت: «انظر. أَبْكِي.»
«أليسون.» أراد أن يمدَّ يده إليها، لكن لم يكن من عادته استخدام الإشارة. خفضت جبهتها إلى عجلة القيادة، منتحبة، وفجأة تبخر تردده.
«أليسون.» أخذ كتفها على كتفه وشعر بدفء دموعها تبلل القطن الخفيف لقميصه. كان شعرها حريريًّا على وجنته وتفوح منه آثار رائحة عنب: «أليسون، هل أنت بخير …»
اندهش بعمق مما فعل. بدا وكأن شخصًا ذكَّره بأن هذه الإيماءات لم تأتِ إليه بشكل طبيعي. اهتزت الذراع التي تمسك بها من كتفه وثقلت وتخشبت وغمغم بشكل بشع: «أليسون … أعرف أنه كان صعبًا …»
أوقفه ضجيج شاحنة حمولة خمسة عشرة قنطارًا تلف في الطريق. ابتعدتْ أليسون بسرعة واعتدلتْ. التفت دينو حيث قعقعت الشاحنة. كان على ظهر الشاحنة مجموعة جنود هنود يجلسون القرفصاء، ويرتدون العمائم والشورتات الكاكي.
تلاشى صوت الشاحنة ومرت اللحظة. جففتْ أليسون وجهها وسلَّكتْ حنجرتها. قالتْ، وهي تدير مفتاح المحرك: «لنذهب إلى البيت. لا بد أنك مرهَقٌ.»
•••
في منتصف فبراير وصلت في النهاية أوامر التحرك التي انتُظِرتْ طويلًا. كان هاردي من أوائل من عرفوا وجاء يعدو إلى غرفة أرجون.
«يار — هل سمعْتَ؟»
كان المساء في بدايته ولم يبال هاردي بأن يطرق. دفع الباب وفتحه ونظر في الغرفة: «أرجون، أين أنت؟»
كان أرجون في ركن اللبس المغطى بستارة، ركن يفصل حمامه عن ركن المعيشة. انتهى للتو من غسل قذارة مباراة كرة قدم، وكان حذاؤه وشورته المغطيان بالطين مكومين على الأرضية. كان الخميس — ليلة، بحكم التقاليد، يتم فيها ارتداء السترات في الميس، وهو اليوم الذي وصلت فيه أخبار موت الملكة فيكتوريا إلى الهند. كان كيشان سنجه مشغولًا في غرفة نوم أرجون، يجهز ملابسه للمساء — سترة العشاء، البنطلون الميري، ووشاح الخصر الحريري.
اجتاز هاردي الغرفة بسرعة: «أرجون؟ هل سمعْتَ؟ وصلتْنا الأوامر.»
شدَّ أرجون الستارة، وقد ربط فوطة حول خصره.
«هل أنت متأكد؟»
«نعم. سمعْتُ من مساعد القائد صاحب.»
نظر كل منهما للآخر دون أن يعرفا ما يقولان بعد ذلك. جلس هاردي على حافة السرير وطرقع أصابعه. بدأ أرجون يربط أزرار قميصه الميري المنشَّى، وهو يثني ركبتيه ليرى نفسه في المرآة. ألقى نظرة على هاردي من خلفه، محدِّقًا بكآبة في الأرضية. حاول أن يبدو مازحًا، قال: «على الأقل سنرى إذا كانت خطط التعبئة الملعونة التي تطلعنا إليها جيدة بحال من الأحوال أم لا …»
لم يرد هاردي، ونظر أرجون من فوق كتفه: «ألست سعيدًا بانتهاء الانتظار؟ هاردي؟»
كان هاردي يقبض بيديه على ركبتيه. نظر إلى أعلى فجأة: «أفكر …»
«فيم؟»
«بالطبع.»
«ألم يحيرك أبدًا — ذلك النقش؟»
«لا. لماذا يحيرني؟»
«حسنًا، ألم تفكر أبدًا: هذا الوطن الذي يأتي أمنه وشرفه ورفاهيته في المقدمة، دائمًا وفي كل وقت — ما هو؟ أين هذا الوطن؟ الحقيقة، إننا أنا وأنت ليس لنا وطن — ومن ثم أين هذا المكان الذي يأتي أمنه وشرفه ورفاهيته في المقدمة، دائمًا وفي كل وقت؟ ولماذا حين حلفنا اليمين لم يكن للوطن بل للملك الإمبراطور — أن نحمي الإمبراطورية؟»
التفتْ إليه أرجون: «هاردي، إلام تحاول أن تصل؟»
قال هاردي: «هذا فقط. يار، إذا كان وطني يأتي في المقدمة حقًّا، فلماذا أُرسَل خارجه؟ لا يوجد تهديد لوطني الآن — وإذا كان هناك، فمن واجبي أن أبقى هنا وأدافع عنه.»
قال أرجون باستخفاف: «هاردي، البقاء هنا لن يفيد مستقبلك الوظيفي كثيرًا …»
طرقع هاردي بلسانه باشمئزاز: «المستقبل الوظيفي، المستقبل الوظيفي. يار، ألا تفكر أبدًا في شيء آخر؟»
«هاردي.» نظر إليه أرجون نظرة تحذير ليذكره بوجود كيشان سنجه.
هزَّ هاردي كتفيه ونظر في ساعته. قال وهو يقف ليذهب: «حسنًا، أسكتُ، «الأفضل أن أغيِّر أنا أيضًا. نتحدث فيما بعد.»
غادر هاردي الغرفة وحمل كيشان سنجه البنطلون إلى ركن اللبس. تركه مفتوحًا من الخصر وهو يركع على الأرضية. مدَّ أرجون يده إليه بحذر شديد، مراعيًا ألا يكسر الحدة الهشة لثنيته التي تتكسر بسهولة. بدأ كيشان سنجه، وهو ينهض، يلف حول أرجون، ويضع أطراف قميصه في بنطلونه.
احتكتْ يد كيشان سنجه بظهر أرجون فتجمد: كان على وشك الشخط في المراسلة ليسرع، حين توقف. أزعجه أنه بعد عامين كضابط لم ينجح بعد في تدريب نفسه على الهدوء مع الألفة المفروضة مع الحياة العسكرية. كان يعرف أن ذلك ضمن أشياء كثيرة تبعده عن الفوجيين الحقيقيين، الذين كانوا عسكريين بالميلاد والتنشئة، مثل هاردي. شاهد هاردي ذات يوم وهو يمارس عملية اللبس ذاتها لليلة ضيافة بمساعدة المراسلة: كان يتجاهل وجود الرجل بطريقة لم يفعلها أرجون أبدًا مع كيشان سنجه.
فجأة تحدث كيشان سنجه، ففوجئ أرجون. قال: «صاحب، هل تعرف إلى أين تنتقل الكتيبة؟»
«لا. لا أحد يعرف. لن نعرف إلا ونحن على السفينة.»
بدأ كيشان سنجه لف وشاح الخصر حول خصره. قال: «صاحب، قال ضباط الصف سنذهب إلى الشرق …»
«لماذا؟»
«في البداية تدربنا على أرض صحراوية وقال الجميع سنذهب إلى شمال أفريقيا. لكن المعدات التي تسلمناها مؤخَّرًا كانت بوضوح من أجل المطر …»
قال أرجون في دهشة: «من قال لك هذا كله؟»
«الجميع، صاحب. حتى في القرى يعرفون. جاءت أمي وزوجتي في زيارة الأسبوع الماضي. سمعتا شائعة بأننا على وشك الرحيل.»
«ماذا قالتا؟»
قالت أمي: «كيشان سنجه، متى تعود؟»»
«وماذا قلت لها؟»
كان كيشان سنجه يركع أمام أرجون، يفحص لسان الأزرار ويَعْدِل بنطلونه، يمسك بالثنية لتستعيد حافتها. لم يرَ أرجون إلا قمة رأسه وشعره القصير المموج.
تطلع إليه كيشان سنجه فجأة: «صاحب، قلتُ لها إنك ستتأكد من أني سأعود …»
شعر أرجون، وقد أخذتْه المفاجأة، بالدم يندفع إلى وجهه. تحرك بشكل غير قابل للتفسير شيء في هذه الصراحة المطلقة في هذا التعبير عن الثقة. شعر أن الكلمات ضاعتْ منه.
قال المقدم بكلاند، ذات مرة في محادثة في شاربجه، تكمن مكافأة الخدمة في الهند، بالنسبة للرجال الإنجليز من جيل والده، في ارتباطاتهم مع «الرجال.» قال إن هذه العلاقة تختلف بمعنى الكلمة عن العلاقة في الجيش البريطاني النظامي، الولاء المتبادل بين الجندي الهندي والضابط البريطاني قوي تمامًا وغير قابل للتفسير حتى أنه لا يمكن أن يُفهَم إلا كنوع من الحب.
تذكر أرجون كم كانت هذه الكلمة غريبة على شفتي القائد الكتوم وكيف أغرتْه بالسخرية. بدا أن «الرجال» في هذه القصص لا يمثلون إلا أشكالًا مجردة، جماعية بلا ملامح سجينة في طفولة دائمة — رجال متقلبو المزاج، لا يمكن التنبؤ بما يقدمون عليه، شجعان بشكل خيالي، أوفياء بصورة مفرطة، عرضة لزيادة فائقة في المشاعر. إلا أنه عرف أنه صحيح حتى بالنسبة لنفسه أنه كانت هناك أوقات بدا فيها كأن خصائص هذه الجماعية التي بلا ملامح — «الرجال» — تتجسد حقيقة بجندي واحد: كيشان سنجه: كانت الرابطة التي نشأتْ بينهما نوعًا من الحب حقًّا. يستحيل أن يعرف إلى أي مدى كان ذلك من فعل كيشان سنجه نفسه وإلى أي مدى كان نتاجًا للألفة الخاصة نتيجة للظروف؛ وربما نتيجة شيء آخر تمامًا، صار كيشان سنجه، بفرديته الحقيقية، أكثر من نفسه — قرية، بلدًا، تاريخًا، مرآة يرى فيها أرجون انكساراته؟
رأى أرجون للحظة مخيفة نفسه في مكان كيشان سنجه: مراسلة يركع أمام سترة عشاء ضابط، يلمع حذاءه، يمدُّ يده إلى بنطلونه ليضع فيه قميصه، ويتفحص لسان الأزرار، متطلعًا من بين قدميه المتباعدتين، يطلب الحماية. كزَّ على أسنانه.
٢٨
استعار دينو، في صباح اليوم التالي لوصوله، دراجة وذهب يتفرج على الشانديين المنهارين لجننج جراي. رسمتْ له أليسون خريطة سار على هداها: كان المسار صاعدًا معظم الطريق من منزل مُرْنِنْجْسايد، وكان عليه أن يركب الدراجة وينزل من عليها عدة مرات، ويحركها أعلى المنحدرات الحادة. لف خطأ مرتين ووجد نفسه في النهاية في البقعة التي ركنتْ أليسون فيها سيارتها آخر مرة. كان الجدول يتمدد تحت وكان ما يحيط به كما يتذكر بالضبط: مخاضة ضحلة، وُضِعتْ فيها أحجار مستوية بمثابة قنطرة. تحت المنحدر بقليل، يتسع الجدول ويتحول إلى بركة، تحيط بها صخور هائلة. على الجانب البعيد، ممر ضيق يؤدي إلى الغابة.
آلمتْه ساقه اليمنى بشدة. علق حقائب الكاميرا على غصن ونزل إلى البركة. كانت على الضفة صخرة مُعدَّة بشكل جيد لتستخدم مقعدًا. خلع دينو حذاءه، وثنى بنطلونه حتى ركبتيه وغمر ساقيه في الماء البارد المندفع.
تردَّدَ في القدوم إلى الملايو، لكنه جاء، وكان سعيدًا لابتعاده عن رنجون، سعيدًا لأنه ترك وراءه توترات منزل كمندين والقلق الدائم بشأن التجارة. وكان من المريح أيضًا الابتعاد عن الخناقات السياسية التي بدا أنها تستهلك كل أصدقائه. عرف أن والده يريد من أليسون أن تبيع مُرْنِنْجْسايد — قال إنه عبء كبير جدًّا أن تشرف عليها بمفردها؛ العزبة تخسر. ولكن، بقدر ما رأى، تدار مُرْنِنْجْسايد بسلاسة كافية وبدت أليسون مسيطرة عليها تمامًا. لم يرَ أنها بحاجة لنصحه، لكنه سعد بوجوده على أية حال. أعطاه فرصةً للتفكير في أمور تخصه: انشغل في رنجون باستمرار، بالسياسة والمجلة. كان في السابعة والعشرين وهي السن، إن كانت هناك سن، التي عليه أن يقرر فيها إن كان التصوير سيكون مجرد هواية أم مهنة.
أشعل سيجارة وأتى عليها قبل أن يلتقط حقائب الكاميرا ليعبر الجدول. نمت في الممر أشجار أكثر مما يتذكر، وكان عليه في بعض المواضع أن يدوس على الشجيرات. حين وصل إلى المنطقة منزوعة الأشجار، رُوِّع من الجمال الساكن للمكان: كانت ألوان الشانديين المغطيين بالطحلب أكثر حيوية مما يتذكر، والدروب في الخلفية أكثر روعة. لم يضيِّعْ وقتًا في نصب القاعدة الثلاثية. استهلك فيلمين وكانت الشمس تغرب حين عاد إلى منزل مُرْنِنْجْسايد.
عاد في الصباح التالي والصباح الذي يليه. صارت قيادة الدراجة روتينًا منتظمًا: يستيقظ مبكِّرًا ويأخذ معه روتي للغداء. حين وصل إلى الجدول، انغمس لحظة في حلم من أحلام اليقظة، وهو يجلس على صخرته المفضلة، وساقاه مغموستان بعمق في المياه. ثم شق طريقه إلى المنطقة منزوعة الأشجار ونصب آلته. في وقت الغداء يأخذ فترة راحة طويلة ثم يغفو مستلقيًا في ظل شاندي.
في مساء ذلك اليوم، حين عاد إلى المنزل، قال لأليسون: «هل تعرفين أن هناك بناء آخر منهارًا — هرمًا — يبتعد قليلًا داخل الغابة؟»
أومأتْ: «هناك أبنية أخرى أيضًا. تجدها إذا توغلت بما فيه الكفاية.»
أثبت اليوم التالي أنها على صواب. اندفع دينو أكثر قليلًا أعلى المنحدر، عثر صدفة، بشكل جانبي تمامًا، على منصة مربعة طولها عشرة أقدام مبنية من قوالب اللطريط — يبدو أنها كانت قاعدة لضريح صغير. كان تصميم المعبد واضحًا على الأرضية، معروضًا مثل تخطيطِ مهندسٍ معماري بصف من فتحات مربعة تحدد موقع صف من الأعمدة. بعد يوم أو نحو ذلك وجد بناء آخر منهارًا أكثر غرابة: بناء ينم شكله عن أن العمل فيه توقف فجأة، يشبه دعامة في وهْمٍ فوتوغرافي. كان في المعبد جذر لشجرة بانيان وحين كبر شقَّ الجدران، مبعِدًا قوالب متجاورة من البناء. انقسم المدخل إلى اثنين، كأن قنبلة انفجرت عند العتبة. انهار عمود حجري، وأُنجِز آخر، ملتفًّا في خضرة متشابكة، مرتفعًا عدة أقدام عن الأرض.
سمع دينو أحيانًا، وهو يدخل الأبنية المنهارة، حفيفًا أو هسيسًا طويلًا. وتحركتْ أعالي الأشجار المحيطة أحيانًا كأن رياحًا عصفتْ بها. وكان دينو يتطلع إلى أعلى ليرى فرقة من القرود تتفحصه بحذر من فوق الأغصان. وسمع ذات مرة سعلة حادة، قد تكون سعلة نمر.
بدأ دينو، وألفته مع الأبنية المنهارة تتعمق، يجد عينه تتجه مباشرة إلى الصورة الأساسية لمعبد كان قائمًا ذات يوم: تمتدُّ يده تلقائيًّا إلى الكوى حيث كانت قرابين الزهور توضَع؛ تعرف على الحدود التي لا يستطيع اجتيازها بدون خلع الحذاء. حين يعبر الجدول، بعد السير بالدراجة عبر العزبة، لم يعد الأمر كأنه يخطو على أطراف أصابعه إلى مكان غريب غير مألوف، حيث تستسلم الحياة والنظام للظلام والظلال. ويشعر، حين يعود إلى ترتيب المزرعة أحادي اللون بأنه يمر إلى مقاطعة من الخرائب، تلويث أعمق بكثير من أن يكون انحلالا مؤقتًا.
ذات يوم في وقت الأصيل، وهو يقف عند الحامل الثلاثي، نبهته هوجة بين طيور الغابة إلى صوت سيارة. شقَّ طريقه بسرعة إلى موقع ممتاز حيث تسمح فجوة بين الخضرة بمشاهدة الجدول. لمح سيارة أليسون، الدايتونا الحمراء تقترب على الناحية البعيدة. ترك حامله الثلاثي منتصبًا حيث كان وأسرع عبر الممر.
لم يرَ دينو أليسون إلا قليلًا جدًّا منذ يوم وصوله. تترك المنزل قبل الفجر، لتذهب إلى التجمع، وحين تعود، يكون عادة في الخارج على أطراف الجبل يلتقط الصور. كانا يلتقيان عمومًا على العشاء، حيث يحدُّ الصمت المطبق لسايا جون من الحديث حتمًا. بدا أنها لا تعرف كيف تدخل زائرًا في الروتين الثابت لحياتها في المزرعة بشكل مناسب، وكان دينو، من جانبه، مثقلًا بمعرفة المهمة التي أؤتمن عليها. يعرف أن عليه أن يجد طريقة ليخبرها أن والده يريد التصرف في حصته من مُرْنِنْجْسايد وبدا ذلك مستحيلًا وهي مشغولة إلى هذا الحد، إضافة إلى الأسى لموت والديها والقلق اليومي في الحفاظ على نجاح المزرعة.
حين وصل دينو إلى نهاية الممر، كانت أليسون قد عبرت الجدول. لم يستطع، وقد وجد نفسه معها وجها لوجه، التفكير في ما يجب قوله وبدأ يبحث في جيوبه عن سيجارة.
قال أخيرًا من بين أسنانه، وهو يشعل عود الثقاب: «عائدة إلى المنزل؟»
«فكَّرْتُ في أن آتي وأرى كيف تجري الأمور معك.»
«أعددتُ الكاميرا للتو …» سار معها إلى المنطقة منزوعة الأشجار، حيث كان حامله الثلاثي موضوعًا أمام شاندي.»
سألتْ في تألق: «هل يمكن أن أراك وأنت تلتقط الصور؟»
تردَّدَ، رفع السيجارة إلى فمه، محدِّقًا في الدخان. قالتْ أليسون وقد شعرتْ بالتراخي: «هل تفكر؟ هل أزعجك؟»
قال: «لا. الأمر ليس كذلك … لا تزعجينني إطلاقًا … المسألة فقط حين ألتقط الصور أركز تمامًا … وإلا أتتْ سيئة … كأي عمل آخر، تعرفين … ليس من السهل أن تمارسيه وأحد يشاهدك.»
«أفهم.» بين الوقع الأجوف لصوتها اعتبرت الكلام صدًّا: «حسنا، أذهب، إذن.»
قال بسرعة: «لا، ابقي من فضلك … لكن إذن، مادمْتِ هنا، يمكن أن ألتقط لك بعض الصور …؟»
كانت سريعة في إظهار الصدِّ بدورها: «لا. لستُ في حالة ذهنية مناسبة لأن أصبح جزءًا من عمل — عملك.» نهضتْ واتَّجهتْ إلى الممر باتجاه الجدول.
كان دينو يعرف أنه تورط بشكل غير متعمد في شجار.
«أليسون … لم أقصدْ …» جرى وراءها، لكنها مشتْ بسرعة ووضعته ساقه في وضع غير مناسب. «أليسون … ابقي من فضلك.» لحق بها عند حافة الجدول. «أليسون … كنت أكلمك فقط عن حالتي … حين ألتقط صورة … لم أقصد أن أصدك … ألن تبقي؟»
نظرت في ساعتها: «ليس الآن، ليس اليوم.»
«ستعودين إذن؟»
بدأت بالفعل تعبر المخاضة. في وسط المخاضة، بدون أن تلتفت حولها، رفعت يدها لتلوح له.
•••
قبل رحيل الكتيبة من سهارنبور، وصلت قوائم معدات حربية جديدة. وكان هذا يعني أن على أرجون وهاردي أن يظلا طول الليل يراجعان مخطط تعبئة الوحدة المعد بعناية. وفي النهاية كان كل شيء على ما يرام: رضي القائد ويمكن للكتيبة المضي لاستقلال القطار طبقًا للخطة. غادر القطار إلى بومباي في الموعد المحدد.
كان حوض السفن محتقنًا بصورة غير متوقعة. وتبين أن كتيبة بريطانية كانت تستقل سفينة أخرى في الوقت نفسه. بسرعة تشابك بشكل يبعث على اليأس متاع الكتيبتين ومعداتهما. بدأ ضباط الصف يرفعون أصواتهم، وينشرون الفزع بين عمال حوض السفن. تاه هاردي وسط الفوضى: كان ضابط المتاع في كتيبة الجات ١/١ وعلى عاتقه تقع محاولة استعادة النظام.
عرف أرجون، بالنظر في جدول هاردي، أنه خُصِّصت له كابينة: لم يركب سفينة من قبل أبدًا واستطاع بالكاد السيطرة على إثارته. أسرع إلى المعبر ليلقي نظرة على كابينته، وكيشان سنجه وراءه مباشرة، يحمل أمتعته.
كانا أول من صعدا السفينة وكانت خالية إلا من طاقمها. بدا كل شيء جديدًا ومروِّعًا: الحواف العليا البيضاء والممرات الضيقة، الفتحات الغائرة وأطر الكوى المدورة.
وهما يسيران على السطح العلوي، نظر كيشان سنجه إلى جانبه: «صاحب — انظر!» أشار لافتًا انتباه أرجون إلى مشادة تحت، في حوض السفن. رأى أرجون هاردي في مباراة صياح مع رقيب بريطاني ضخم. كانا يقفان على أطراف أقدامهما وهاردي يهز رزمة من الورق تحت أنف الرقيب.
«ابقَ هنا.»
ذهب أرجون يعدو إلى أسفل من حيث أتى. وصل إلى المشهد في لحظة متأخرة جدًّا. ذهب ضابط آخر من كتيبتهم قبله — كابتن بيرسون، مساعد القائد، وكان رجلًا إنجليزيًّا ممتلئًا وقصيرًا صوته مدوٍّ، سريع الغضب.
رأى أرجون، وهو يشاهد من على بضع خطوات، هاردي يلتفت إلى بيرسون. وبدا أن هاردي ارتاح لرؤية مساعد القائد، واثقًا تمامًا من تأييد رئيسه — بدافع الوفاء لزميل في الكتيبة، إن لم يكن بدافع آخر. لكن الكابتن بيرسون لم يُخْفِ أبدًا اعتقاده بأن هاردي «صعب» و«مفرط الحساسية.» بدل أن يدعمه، قال في استعراض مزعج: «أيها الضابط، عُدْ إلى الصف مرة أخرى …؟»
رأى أرجون النظرة على وجه هاردي تتغير من ارتياح إلى غضب مضطرم. كان مؤلمًا أن يقف كشاهد صامت على إهانة صديقه. استدار وانصرف بعيدًا.
في وقت تال من ذلك اليوم، جاء هاردي إلى كابينته.
قال: «علينا أن نلقن بيرسون ابن الزانية درسًا. هذا الرقيب الحقير وصفني بالزنجي النتن أمام الرجال. وتركه بيرسون يفلت بفعلته. يار، هل تصدقني، لامني اللوطي! الطريقة الوحيدة لإيقاف هذا النوع من الممارسات هي بالالتحام معًا.»
«ماذا تقصد بالضبط؟»
«أعتقد أن علينا مقاطعته.»
قال أرجون: «إنه مساعد القائد، هاردي. كيف نقاطعه؟ كن عاقلا.»
قال هاردي بغضب: «هناك طرق نبعث برسالة من خلالها. لكن لا يمكن أن يحدث ذلك إلا حين تعرف في أي جانب تقف.» وقف فجأة وغادر كابينة أرجون.
انتظرتْ نوارة إليا يومين بعيدًا عن الشاطئ وتسع سفن أخرى تحتشد في الميناء. راجت شائعة عن غواصة ألمانية تكمن في مكان قريب وقد خُصِّصتْ للسفن حامية من مدمرتين، سفينة تجارية مسلحة وزورق خفيف. حين رحلت القافلة في النهاية، اتجهت غربًا، باتجاه الشمس الغاربة. كان مصيرهم لا يزال مجهولا؛ لا يعرفون إن كانوا يتجهون شرقًا أم غربًا.
في بومباي، استلم القائد ظرفًا مختومًا يجب أن يفتح بعد الرحيل بأربع وعشرين ساعة. في الوقت المحدد، اجتمع أرجون والضباط الآخرون في غرفة الطعام على السطح العلوي لنوارا إليا. فتح القائدُ الظرفَ بطريقته المتأنية المعتادة، ممزِّقًا الختم من على الورقة بسكين. انتظر الضباط في صمت متوقع. شعر أرجون برطوبة باردة تتدفق في راحتي يديه.
ثم، في النهاية، تطلع القائد بابتسامة واهية. وضع الورقة أمامه وقرأ بصوت عال: «هذه السفينة متجهة إلى سنغافورة.»
خرج أرجون إلى ظهر السفينة وكان هاردي هناك بالفعل، يميل على الحافة العليا، يهمهم بصوت مكتوم. وخلفهما شريط أبيض من المياه التي مخضتها السفينة بدأ يأخذ شكل منحني والقافلة تغير اتجاهها ببطء.
٢٩
لم تسعد منجو أبدًا كما سعدتْ في أول شهور الحمل. استمتعتْ بكل ما يذكرها بتغير حالتها: الذبذبات والحركات المتخيلة غالبًا؛ آلام الجوع التي لا يمكن أن تكون سارَّةً حقًّا؛ حتى الغثيان الذي يوقظها كل صباح والوخز الحاد في أسنانها.
تغير منزل كمندين تغيُّرًا هائلًا في السنتين التي قضتهما في رنجون. ذهب دينو بالطبع وبقيتْ شقته في الدور العلوي خالية. كان نيل ورَجْكومار بعيدين غالبًا، يرتبان للتصرف في ممتلكات الأسرة أو يشتريان كميات جديدة من الساج. في معظم الوقت تشغل منجو ودُلِّي المنزل وحديهما. صار المجمع مهملا؛ حيث كانت هناك خضرة ذات يوم نما العشب بارتفاع الركبة. أغلقتْ غرف كثيرة، إضافة إلى غرف الحراسة؛ وبيع معظم الأثاث. ذهب عشرات المستخدمين الذين شغلوا المكان ذات يوم — الخدم والمشرفين والجناينية وعائلاتهم. حتى يو با كيو، السائق، عاد إلى قريته. وكانت البكارد واحدة من بضعة ممتلكات منقولة أبقى عليها رَجْكومار، لكن نيل هو الذي يركبها أساسًا.
لم تأسف منجو أو دُلِّي لخلو المنزل. على العكس، بدا الأمر كأن ركامًا هائلًا من نسيج العنكبوت قد جُرِف، موفِّرًا لهما حريات جديدة غير معتادة. في الماضي كثيرًا ما بدتْ دُلِّي بعيدة عن منجو، يستحيل الوصول إليها، لكنهما صارتا حليفتين، زميلتين، رفيقتين، تعملان معًا لتجديد العائلة. لم توجد مشكلة بين الاثنتين في إدارة المنزل. حين تستيقظ منجو في الصباح، تجد دُلِّي على ركبتيها، ترتدي لُنْجِيا قديمًا رثًّا، تمسح الأرضيات بقطعة قماش ممزقة. كانتا تعملان معًا، تنجزان غرفتين كل يوم، وتتوقفان حين يأتي الرهبان في الزيارة اليومية.
بالنسبة لمنجو كانت أوقات الراحة في الضحى أحب أوجه الحياة اليومية في رنجون. عرفتْ دائمًا أن الرهبان البوذيين يتعيشون من جمع الصدقات، لكن بدا مدهشًا أن تلاحظ أن الاعتقاد في هذا مجرَّدٌ تقريبًا، ويُترجَم إلى آليات دنيوية في الحياة اليومية — إلى واقع عادي لمجموعة، تبدو منهكة، من شباب وأولاد يسيرون في الشوارع المغبرة في أرواب زعفرانية وسلالهم متوازنة على خصورهم. كان في حدوث هذه المقاطعة دائمًا وأعمال المنزل في ذروتها شيء سحري؛ وفي رأسها غرفة بالكاد، وتفكر فيما عليها أن تفعله بعد ذلك. في وسط ذلك كله — تفتح الباب وترى الرهبان يقفون، ينتظرون بصبر، والشمس تضرب رءوسهم الحليقة: هل هناك طريقة أفضل للإخلال بتوازن الواقع اليومي؟
بدتْ كلكتا بعيدة جدًّا. كان تدفق الخطابات من الهند يعاني من عراقيل نتيجة تهديد الغواصات في خليج البنغال. لم يعد طريق السفن البخارية بين كلكتا ورنجون منتظمًا وكانت الخطابات تصل في رُزَمٍ.
حملتْ إحدى هذه الرزم أخبار قرب رحيل أرجون وأخبار وصوله إلى الملايو. سعدتْ دُلِّي كثيرًا بسماع هذه التطورات. قالتْ: «ربما يعرف أرجون ما جرى لدينو. مضى وقت طويل لم تصلْنا منه خطابات.»
«نعم، بالطبع. سأكتب …»
أرسلتْ منجو خطابًا على العنوان الذي زودها به والدها — عن طريق مركز القيادة في سنغافورة. وانقضت أسابيع كثيرة ولم تتلق ردًّا.
قالتْ منجو لدُلِّي: «لا تقلقي. أنا متأكدة من أن دينو بخير. لو أصابه مكروه لعرفنا.»
«ربما تكونين محقة.» لكن انقضى شهر ثم انقضى آخر وبدا أن دُلِّي روَّضتْ نفسها على هذا الصمت المستمر من طرف ابنها.
بعد هذه النوبة طلب الطبيب من منجو ملازمة الفراش. صارت دُلِّي ممرضتها، تحضر لها الطعام، تساعدها في اللبس، وتأخذها أحيانًا حول المجمع. مضت الأيام في نوع من الخدَر؛ تستلقي منجو في السرير حالمةً وبجوارها كتاب، مفتوح لا يُقرَأ. مضت ساعات لا تفعل شيئًا إلا الاستماع لصوت المطر المتدفق.
شاهدت منجو حماتها وهي تقرأ: كان شعر دُلِّي الأسود الطويل مرقَّطًا قليلًا بالرمادي ووجهها محفورًا بخطوط متشابكة. إلا إنه لا يزال هناك شباب في تعبيرها الذي كذَّب هذه العلامات الدالة على تقدم العمر: كان من الصعب تصديق أنها امرأة في منتصف الستينيات من العمر.
بدا أن شفتَي دُلِّي تتحركان بصعوبة، إلا أن كل كلمة نُطقتْ بدقة: لم تعرف منجو واحدة من قبل تستطيع إظهار السكينة وهي بالفعل في أقصى حالات اليقظة المتعمدة، أقصى حالات التيقظ.
نامتْ منجو بعد أن استنفدتها الولادة. استيقظت في الفجر. كانت الطفلة في سريرها، مرة أخرى تبحث بشغف عن طعامها.
كان للكلمات وقع عظيم عليها في حينها، لكنها، وابنتها حديثة الولادة بجوارها، بدت غير مفهومة: لم يبد العالم أبدًا مشرقًا بهذه الصورة، مفعمًا بالوعد بهذه الصورة، مبذِّرًا في مكافآته بهذه الصورة، كريمًا بهذه الصورة في متعه وإنجازاته.
•••
في أول بضعة أسابيع في سنغافورة عسكرت الجات ١/١ في معسكر منتزه تيرسُل. المكان الذي تحدث عنه كومار، صديق أرجون — حيث أطلق جندي النار على ضابط وانتحر. في نيودلهي بدت القصة مختلفة ومختلقة — وضعًا متطرفًا — مثل تقرير عن أم ترفع سيارة لتنقذ أطفالها. لكنهم كانوا في سنغافورة بأنفسهم، والهند على بعد نصف قارة، ولم يعد هناك شيء غير محتمل — بدا أن كل شيء انقلب على رأسه. كأنهم ما عادوا يعرفون أنفسهم، ما عادوا يفهمون مكانهم بين الأشياء. حين غامروا بتجاوز الحقائق المألوفة للكتيبة، بدا أنهم يتوهون في متاهة المعاني الخفية.
تصادف وجود كومار في سنغافورة عند وصول الجات ١/١. بعد ظهيرة أحد الأيام أخذ أرجون وهاردي إلى نادٍ خاص للسباحة. كان الحمام مزدحمًا جدًّا، ممتلئًا بالمغتربين الأوروبيين وعائلاتهم. كان اليوم حارًّا ولزجًا وبدت المياه باردة ومغرية. بعد تقدم كومار، قفز أرجون وهاردي. بعد دقائق وجدوا أنفسهم وحدهم: فرغ الحمام بمجرد نزولهم إلى الماء.
كومار وحده لم يندهش. كانت كتيبته في الملايو لأكثر من عام وقد سافر حول المستعمرة كلها.
قال كومار بابتسامة عابثة: «كان عليَّ أن أحذركم. الأمر بهذه الصورة في كل أرجاء الملايو. في البلدات الأصغر، تضع النوادي يافطات على أبوابها تقول، «غير مسموح بدخول الآسيويين.» في سنغافورة يتركوننا نستخدم الحمام — يغادر الجميع فقط. كان عليهم تخفيف حاجز اللون قليلًا لوجود عدد كبير من وحدات الجيش الهندي. لكن ربما بالمثل تعتادان عليه لأنكما ستصادفانه في كل وقت — في المطاعم والأندية والشواطئ والقطارات.» ضحك. «يمكن أن نموت في سبيل هذه المستعمرة — لكن لا يمكن أن نستخدم الحمامات.» أشعل سيجارة وهو يهزُّ رأسه أسًى.
بسرعة أرسِلت الكتيبة إلى الشمال. كان ريف الملايو مفاجأة للضباط الهنود. لم يروا أبدًا مثل هذا الازدهار، مثل هذه الطرق الجميلة، مثل هذا النظام، البلدات الصغيرة الرائعة. حين يتوقفون، كثيرًا ما يدعوهم السكان الهنود إلى منازلهم. كانوا عادة من الطبقة الوسطى ويشغلون وظائف متواضعة — محامين محليين وأطباء، كتبة وأصحاب محلات. لكن علامات الرخاء في بيوتهم أذهلتْ أرجون ورفاقه من العسكريين. بدا عامة الناس في الملايو قادرين على شراء السيارات والثلاجات؛ وكان عند البعض مكيفات هواء وتليفونات. في الهند لا يستطيع شراء هذه الأشياء إلا الأوروبيون وأغنى أغنياء الهند.
اكتشف الضباط، وهم يسيرون بالسيارات عبر الطرق الريفية أن عمال المزارع وحدهم يعيشون في فقر مدقع — وكلهم تقريبًا من أصول هندية. أذهلهم الفرق بين الخضرة المنسقة في المزارع وقذارة أحياء عمالها. أشار هاردي ذات مرة إلى قسوة التناقض، وردَّ أرجون بتوضيح أنهم في الهند يستسلمون لهذا الفقر؛ ولم يلاحظوه صدفة إلا لتجاوره مع بلدات الملايو المزدهرة. انكمشا خزيًا من الفكرة، كأنهما يتفحصان ظروفهما للمرة الأولى، بأثر رجعي؛ كأن صدمة السفر أزاحت لامبالاة غُرِستْ فيهما من الطفولة المبكرة.
بدا بسرعة كأنه لا يوجد رجل في الكتيبة لم يتورط في مواجهة مزعجة من نوع أو آخر. ذات مساء كان كيشان سنجه يزيت مسدس أرجون، مقرفصًا على الأرض حين نظر إلى أعلى فجأة وقال لأرجون: «صاحب، هل يمكن أن أسألك عن معنى كلمة إنجليزية؟»
«نعم. ماذا؟»
«مرتزقة — ماذا تعني؟»
اندهش أرجون: «مرتزقة؟ أين سمعت هذه الكلمة؟»
كان أرجون غريزيًّا سيأمر كيشان سنجه بإغلاق فمه ومواصلة ما يفعل. لكنه يعرف أن المراسلة جيد بما يكفي لإدراك أن لا شيء يمنعه من البحث عن إجابة لسؤاله. فكر أرجون بسرعة، وتوصل إلى تفسير، وقال: المرتزقة مجرد جنود يُدفَع لهم مقابل عملهم. وبهذا المعنى كل الجنود، في الجيوش الحديثة، مرتزقة. منذ مئات السنين حارب الجنود انطلاقًا من إيمان ديني، أو إخلاصًا لقبائلهم، أو دفاعًا عن ملوكهم. لكنها أيام موغلة في القدم: العسكرية الآن وظيفة، مهنة، مستقبل وظيفي. كل عسكري يُدفَع له وكلهم مرتزقة.
بدا ذلك مقنعًا لكيشان سنجه، ولم يطرح أسئلة أخرى. لكن أرجون انشغل بالإجابة التي قدمها للمراسلة. إذا كان صحيحًا (وهو صحيح بدون شكٍّ) أن كل العسكريين المعاصرين مرتزقة، إذن لماذا كان للكلمة وخز الإهانة؟ لماذا يشعر بالحسرة عند استخدامها؟ هل لأن العسكرية ليست وظيفة إطلاقًا، كما أقنع نفسه؟ لأن القتل بدون اقتناع يدنس دافعًا إنسانيًّا عميقًا لا يتبدل.
رفض أرجون الانسياق وراء مزاح هاردي. قال: «وهكذا هل ترى أننا مرتزقة؟»
هزَّ هاردي كتفيه، وقال: «كل العسكريين مرتزقة اليوم. ولماذا نتوقف عند العسكريين فقط؟ بطريقة أو أخرى نشبه جميعًا، إلى حد ما، تلك المرأة التي ذهبت معها في دلهي — ترقص على نغمة شخص آخر، وتأخذ فلوسًا. ليس هناك فرق كبير.» تجرع كأسه وهو يضحك.
لكن أرجون عاد من المناقشة أكثر حيرة مما كان. انتابه شعور بأن المقدم لم يفهم لماذا غضب بهذا الشكل من وصفه بأنه «مرتزقة»؛ كان في صوته نبرة دهشة لأن شخصًا في مثل ذكاء أرجون يعتبر شيئًا ليس إلا إقرارًا لحقيقة إهانة. بدا الأمر كأن المقدم عرف شيئًا عنه، أي أرجون، لم يعرفه أو لم يرغب في معرفته. ارتبك أرجون وهو يفكر في أنه سمح لنفسه بالانزلاق في النهاية العميقة. كأنه طفل امتعض لأنه تكلم نثرًا طوال حياته.
كانت خبرات مميزة جدًّا، ومثيرة جدًّا للمشاعر البغيضة، حتى أن أرجون والضباط الآخرين لم يستطيعوا التحدث فيها. عرفوا دائمًا أن وطنهم فقير، إلا أنهم لم يتخيلوا أبدًا أنفسَهم جزءًا من ذلك الفقر: كانوا المميزين، النخبة. جاء اكتشاف أنهم أيضًا فقراء كإلهام. كأن ستارة وسخة من التكبر منعتهم من رؤية ما كان واضحًا أمام عيونهم — برغم أنهم لم يجوعوا أبدًا، إلا أنهم أيضًا أفقرتهم ظروف بلادهم؛ كانت الانطباعات بأنهم في حالة جيدة ضلالات، تشكلت نتيجة المدى الذي لا يتخيَّل لفقر وطنهم.
والغريب أن تأثير هذه الخبرات كان أقوى على الفوجيين الحقيقيين — الجيل الثاني والثالث من عمال الجيش — مما كان على أرجون. قال أرجون لهاردي: «لكن أباك وجدك كانا هنا. ساعدا في استعمار هذه الأماكن. لا بدَّ أنهما شاهدا بعض ما شاهدنا. ألم يتحدثا أبدًا عن هذا كله؟»
قال هاردي: «لم يريا الأشياء كما نراها. كانا أميين، يار. تذكر أننا أول جيل من العسكريين الهنود المتعلمين.»
«لكن كانت لهما عيون، كانت لهما آذان، لا بد أنهما تحدثا أحيانًا إلى السكان المحليين؟»
هز هاردي كتفيه: «الحقيقة، يار، لم يهتما؛ لم يباليا؛ كانت قريتهما المكان الحقيقي الوحيد بالنسبة لهما.»
«كيف يمكن ذلك …؟»
كثيرًا ما فكر أرجون في ذلك في الأسابيع التالية: كأنه وأنداده وقع عليهم الاختيار لدفع ثمن الاستنباط التذكاري.
•••
شعر دينو، مع كل يوم قضاه على أطراف الجبل، بتغير صوره. كأن عينيه تتكيفان على خطوط غير مألوفة للرؤية؛ كأن هذا الجسد يتهيأ لإيقاعات زمنية جديدة. كانت صوره الأولى للشانديين بزوايا ومحشوة بكثافة، والأطر مليئة بآفاق جارفة. رأى المكان مفعمًا بالدراما البصرية — الغابة والجبل والمباني المنهارة، الخطوط العمودية المندفعة لجذوع الأشجار المتجاورة، مقابل الخطوط الأفقية الجارفة للبحر البعيد — سعى لحشو كل هذه العناصر في أطره. لكن كلما زاد الوقت الذي يقضيه على الجبل تقلصت أهمية الخلفية. أدت سعة المشهد الطبيعي إلى انكماش المنطقة منزوعة الأشجار، في نطاق الغابة التي يقف فيها الشانديان، واتساعها: صارت صغيرة وحميمة، لكنها مشبعة بإحساس الزمن. بسرعة لم يعد يرى الجبال أو الغابة أو البحر. اقترب أكثر وأكثر من الشانديين، متتبعًا قالب اللطريط وشكل الطحلب الذي يغطي سطحه؛ محاولًا إيجاد طريقة لتأطير الأشكال الحسية الرائعة للفطر الذي نما بين الأحجار.
تغيرت إيقاعات عمله بطرق لم يستطع السيطرة عليها تمامًا. قد تنقضي ساعات قبل أن يحدد مشهدًا واحدًا؛ كان يروح ويجيء عشرات المرات بين الكاميرا وموضوعه؛ بدأ يوقف عدسته أبعد وأبعد، ويختبر أوضاع الفتحات التي تتطلب المشاهدة لعدة دقائق في كل مرة، قد تصل إلى نصف ساعة. كأنه يستخدم آلته ليقلد العيون الحادة للسحالي التي تتشمس على أرضيات الشانديين.
كانت تزحف في الغابة المحيطة عدة اضطرابات غير قابلة للتفسير يوميًّا. تنطلق أسراب من الطيور صائحة من الأشجار المحيطة وترتد إلى السماوات، لتعود وتستقرَّ في البقاع التي انطلقتْ منها. بالنسبة لدينو بدا الاستماع لهذه الاضطرابات نبوءة بوصول أليسون، وبالاستماع إلى أسبابها — أحيانًا ارتداد شاحنة إلى العزبة أو هبوط طائرة في المهبط القريب — انسجمت حواسه بشكل خارق مع أصوات الغابة. كلما اهتزَّت الأشجار بالحياة انفصل عن شغله وركَّزَ ليسمع صوت الدايتونا. وكثيرًا ما جرى في الممر إلى الفجوة التي يستطيع النظر منها إلى المخاضة. وكلما تراكمت خيبة الأمل نفد صبره باطراد: كانت بلاهة صريحة أن يتخيل أن أليسون ستأتي بالسيارة إلى هذا الطريق مرة أخرى، إذا وضع في الاعتبار ما حدث في المرة الأخيرة. وعلى أية حال، لماذا تقطع كل هذا الطريق إلى هنا وإذا كانت ستراه في المنزل على العشاء؟
لكن ذات يوم ظهر وميضٌ أحمر على الناحية الأخرى من الجدول ورأى الدايتونا تتوقف تحت شجرة، شبه مختفية خلف شبكة من النباتات الخضراء. نظر دينو مرة أخرى، بشكٍّ، ولمح أليسون. كانت ترتدي عباءة زرقاء غامقة من القطن وحول خصرها حزام عريض. لكن بدل أن تأخذ طريقها إلى المخاضة، اتجهت إلى المجرى، إلى الصخرة التي يجلس عليها كل صباح، ودلَّتْ ساقيها في البركة. عرف من طريقة جلوسها — رفعت قدميها وتمركزت لتغطسهما في الماء — أنه مكانٌ أليفٌ، بقعة كثيرًا ما أتت إليها وحدها.
وقدماها تنزلقان تحت الماء، التقطتْ أصابع يدها طرف الجيبة وسحبته. ارتفعت المياه إلى كاحليها، إلى ركبتيها، ومعها ارتفعت الجيبة أيضًا، متسلقة ببطء الخط الطويل لفخذها. اندهش حين اكتشف أنه لم يعد ينظر إليها مباشرة، لكن من الزجاج الأرضي لعدسة الكاميرا، بحيث تنفصل الصورة عما يحيط بها وتكتسب وضوحًا رهيبًا وحيوية. كانت الخطوط أنيقة ونقية وجميلة — كان منحني فخذها عبر عدسة الكاميرا مائلا، مثل علامة حذف رقيقة.
سمعتْ طقطقة وتطلَّعتْ إلى أعلى، مروَّعةً، وانحلت قبضة أصابعها فجأة من على الجيبة فسقط النسيج إلى الماء وانتفخ حولها، صانعًا دوامة في التيار.
نادت: «دينو؟ هل أنت هناك؟»
عرف أنه ليس أمامه إلا هذه الفرصة، وعجز عن التوقف. ابتعد عن الفجوة وسار عبر الممر، تحرك بتدبر بطيء لسائر نائم، وهو يمسك بالكاميرا ثابتة أمامه.
«دينو؟»
لم يحاول أن يردَّ واستمر يتحرك، مركِّزًا على وضع قدم أمام الأخرى، حتى اجتاز المنطقة الخضراء. نظرت في عينيه، من الناحية الأخرى للبركة، وابتلعتْ كلمات الترحيب التي كادت تنطق بها.
استمر دينو في المشي. وضع الكاميرا على العشب ومشى على الضفة الرملية إلى البركة، باتجاه البقعة التي تجلس عندها مباشرة. ارتفعت المياه إلى ركبتيه وهو يخوض فيها، ثم إلى منطقة العانة، ووركيه، وصدره تقريبًا. سحب التيار ملابسه وامتلأ حذاؤه الخفيف المصنوع من القماش بالرمل والحصى. أبطأ حتى لا تزلَّ قدماه، ثم رأى قدميها تتدليان في الماء، تهتزان في التيار. ثبَّتَ عينيه على وميض التدفق، وحين وصلتْ يداه إلى ساقيها شعر بنفس عميق يخرج من رئتيه. كان متأكدًا من أن الماء جعل ذلك ممكنًا؛ أزاح الجدول حواجز الخوف والتردد التي قيدت يديه من قبل. حرك أصابعه إلى منحني كاحلها، بطول الحافة الرقيقة لعظمة القصبة. ثم تحركتْ يداه تلقائيًّا، ودفعتاه خلفهما، بين ركبتيها المتباعدتين، حتى صار فخذاها فجأة في مستوى وجهه. بدا أن أكثر الأشياء طبيعية في العالم أن يتبع يديه بفمه، أن يحرك شفتيه بطول خط الحذف في فخذها، قاطعًا الطريق كله بطوله حتى يتفرع الخط. هناك توقف، دفن وجهه في وجهها، ارتفعتْ ذراعاه إلى مستوى الكتف، وأمسك بها من خصرها.
«أليسون.»
انزلقتْ من فوق الصخرة ووقفت بجانبه في الماء الذي وصل إلى العنق. أخذتْ يده، أعادتْه عبر البركة، كما أتى، إلى الضفة الأخرى. سارا يدًا بيد، بكامل ملابسهما التي يقطر منها الماء، في الممر الذي يؤدي إلى الشانديين المنهارين. أخذته عبر المنطقة منزوعة الأشجار، إلى أرض حجرية حيث يتمدد سرير سميك من الطحلب على اللطريط.
ثم مدَّتْ يدها إلى يده وشدَّتْه إلى أسفل.
٣٠
لم يكن أرجون ولا أي شخص آخر في الجات ١/١ يعرف المتوقع منهم عند الوصول إلى سُنْجِي بتاني. قبل رحيلهم من إبوه اطلعوا — بسرعة — على المشاكل التي قد تواجههم هناك. عرفوا أن تمرُّدًا تم تفاديه بصعوبة قبل بضعة أشهر، لكنهم كانوا غير مستعدين لسحابة القلق التي تخيم على القاعدة.
فهم أفراد الجات ١/١، من الخطبة الموجزة، أن هذه المعايير غيرت الوضع تمامًا؛ حُلَّت مشاكل الماضي. لكن خلال يوم من وصولهم إلى سُنْجِي بتاني تبين أن مشاكل البهاولبور بعيدة عن الانتهاء. طوال أول ساعتين لأول وجبة لهم في ميس البهاولبور لم يتبادل ضباطه البريطانيين والهنود كلمة. وإذا كانت التوترات في ميس البهاولبور ظاهرة بوضوح لهاردي وأرجون، فلم تكن بالتأكيد أقلَّ وضوحًا بالنسبة للمقدم بكلاند. في اليومين التاليين كسب المقدم نقطة بالكلام إلى ضباطه على انفراد، وأخبرهم بعدم الترحيب بالتآخي مع البهاولبور. سعد أرجون بطريقة ما. كان يعرف أنه تصرف صحيح في مثل هذه الظروف وامتنَّ أكثر من أي وقت لأن له قائدًا بالمقدرة والإحساس القويم اللذين يتمتع بهما المقدم بكلاند. لكن هذه المعرفة لم تذلل بعض الصعوبات التي ظهرت في محاولة تجنب الضباط البهاولبور — كان بعضهم معارف من الأكاديمية.
كان لأرجون غرفة، مثل كل ضباط الجات ١/١. تشابهتْ مساكنهم، رجالًا وضباطًا، كانت أكواخ أتاب — ثكنات خشبية بأسقف من سعف النخيل. وكانت محمولة على دعائم صُمِّمتْ لحفظها بعيدةً عن النمل الأبيض والرطوبة. إلا أن خبرة العيش في هذه الثكنات أثبتت وجود الحشرات والرطوبة بوفرة. كثيرًا ما افترستْ أسرابُ النملِ الأسرَّةَ؛ بعد هبوط الليل يكثر الناموس وكان ترك السرير دقيقةً يعني إعادة ربط الناموسية كلها؛ وكثيرا ما نقطت الأسقف، وفي الليل يغصُّ سعف النخيل بالفئران والثعابين.
ودَّ المقدم بكلاند أن تستغل الجات ١/١ وقتها في سُنْجِي بتاني في تدريبات قتالية، لكن الظروف تآمرت لتبخر كل خططه. اعترض المزارعون حين غامروا بدخول مزارع المطاط المحيطة بهم. وألغيت محاولات إطلاع الرجال على تضاريس المنطقة. ثم بدأ الفيلق الطبي يشكو من ارتفاع نسب الإصابة بالملاريا، فأُلغِيَ التدريب الليلي. وضع القائد، وقد أحبطت مخططاته الأكثر براعة، الكتيبةَ على نظام رتيب لبناء تحصينات حول القاعدة ومهبط الطائرات.
لم يعرف أرجون أول بضعة أسابيع في سُنْجِي بتاني أن دينو يعيش في مكان قريب. كان يدرك بشكل مبهم أن لأسرة رها حصص في عزبة مطاط في الملايو، لكنه لا يعرف مكان هذه المزرعة. ولم يعرف ذلك إلا حين استلم خطابا من منجو، من رنجون.
لم تكن منجو على علم بمكان توأمها بالتحديد، لم تعرف إلا أنه في مكان ما في الملايو. كتبتْ تقول إنها بخير وحملها يتقدم بدون مشاكل. لكن نيل ووالديه قلقون على دينو: ذهب إلى الملايو قبل عدة أشهر ولم تُسمَع أخبار عنه منذ مدة. وسيسعدون لو بحث أرجون عنه. ربما كان يقيم في عزبة مُرْنِنْجْسايد مع أليسون، التي فقدتْ والديها مؤخرًا. أرسلتْ عنوانًا بريديًّا.
أخذه المالك إلى الخارج في الممر المظلل وأشار عبر الطريق إلى رودستر حمراء. أخبر أرجون بأنها سيارة أليسون، وكل من في البلدة يعرفونها بالشكل. ذهبت إلى مصفف الشعر وستخرج خلال بضع دقائق.
«إنها هناك.»
انقضتْ عدة أسابيع على آخر مرة تحدث فيها أرجون مع امرأة، ووقت طويل على رؤية مثل هذا الوجه الفاتن. خلع الكاب وبدأ ينقله في يديه. وهو على وشك عبور الطريق ليقدم نفسه اندفعت السيارة الحمراء بعيدًا عن المحل واختفتْ في الطريق.
•••
صار الاضطراب الدوري على أطراف الجبل نبوءة بوصول أليسون. وكان ارتفاع الطيور من السماء علامة مؤكدة على ذهاب دينو جريًا إلى الفجوة لينظر إلى أسفل — وكانت أليسون، غالبًا، ترتدي رداء من الأردية السوداء الكئيبة التي تذهب بها إلى المكتب. وحين تعرف أنه هناك تتطلع إلى أعلى وتلوِّح، وحتى وهي تعبر الجدول تبدأ فك أزرار البلوزة وحل الحزام. وتكون ملابسها قد خلعت حين تصل إلى المنطقة منزوعة الأشجار، وكان ينتظر ومصراع الكاميرا مُعَدٌّ.
بدا أن الساعات التي قضاها وعينه منسجمة مع أطراف الجبل كانت استعدادًا لاشعوريًّا لها — لأليسون. قضى أوقات طويلة يفكر في مكانها، بجوار أي حائط أو أي جزء من قاعدة التمثال؛ تخيلها تجلس منتصبة، منحنية على حافة نافذة، وإحدى ساقيها ممددة مستقيمة أمامها والأخرى مثنية إلى الخلف عند الركبة. في الفجوة بين ساقيها لمح حزًّا على سطح منقط من اللطريط أو كومًا ناعمًا من الطحالب، صدى بصريًّا لشقوق جسمها وانحناءاته. لكن مادية وجودها كانت تبعثر هذه المخططات المتخيلة بعناية. بمجرد أن يُوضَع جسمُها حيث أراد، يتبين وجود شيء غير صحيح؛ يقطب في لوحة زجاج الأرضية المربعة ويعود ليركع بجوارها، مغطِّسًا أنامله برقة في فخذيها المشدودتين بقوة، محْدِثًا تغيرات طفيفة في زوايا ساقيها. مبعدًا ما بين ساقيها — أو مقرِّبًا بينهما — يمرِّرُ إصبعًا في الانتفاخ المثلث لعظمة العانة، يمشط الخُصل أحيانًا إلى أسفل، وأحيانًا يسويها إلى الخلف. بدا أن هذه التفاصيل، مؤطرة في صفاء غير طبيعي في عدسته، تكتسب أهمية تذكارية: ركع بين ساقيها، بل سبابته ليرسم أثرًا واهيًا للرطوبة، حدًّا لامعًا للشعر.
سخرت من الجدية المتعمدة التي ينفذ بها هذه الملاطفات الحميمة ليسرع فورًا إلى الكاميرا. وحين ينتهي الفيلم، توقفه قبل أن يحمِّل آخر: «لا. كفى. تعال هنا الآن.»
كانت تشدُّ ملابسه بنفاد صبر — القميص الموضوع بعناية في حزام البنطلون، والفانلة التي تحته: «لماذا لا تخلعها حين تأتي إلى هنا — كما أفعل؟»
كان يتحول إلى فظٍّ: «لا أستطيع، أليسون … ليست طريقتي …»
كانت تشده إلى القاعدة الحجرية وتنزع قميصه. تدفعه للخلف فيستلقي فوق الحجر. يغلق عينيه ويعقد أصابعه خلف رأسه وهي تركع بين ساقيه. حين يَفرُغُ رأسُه، يراها تبتسم مثل لبؤة تتطلع من فوق ذبيحة، بفم متألق. كانت الخطوط دقيقة كما يمكن أن يتخيل، تتوازن تمامًا المستويات الأفقية لجبهتها وحاجبيها وفمها مع المستويات الرأسية لشعرها الأسود المستقيم والشعيرات الشفافة التي تتدلى معلَّقةً من شفتيها.
كانت ترى ما يفكر فيه منعكسًا في عينيه، فتضحك بصوت عالٍ وتقول: «لا. هذه صورة لن تراها أبدًا إلا في رأسك.»
وبعد ذلك، بسرعة لكن بشكل منظَّم، يرتدي ملابسه من جديد، ويضع قميصه في بنطلونه بعناية، ويربط حزامه، ويركع ليربط حذاءه القماش.
قالت تتحداه: «لماذا يا أخ؟ ستخلعها مرة ثانية.»
ردَّ بجدية، دون أن يبتسم: «عليَّ، أليسون … عليَّ أن أرتدي ملابسي وأنا أعمل.»
انتابها الملل أحيانًا من طول الجلوس. وكثيرًا ما حدثتْ نفسها وهو يضبط الكاميرا، لافظة كلمات بالملايوية والتاميلية والصينية، متذكرة أمها وأباها، مفكرة بصوت عال في تيمي.
صاحتْ ذات يوم في غضب: «دينو، أشعر أنك تهتم بي وأنت تنظر في الكاميرا أكثر مما تهتم بي وأنت مستلقٍ هنا معي.»
«ما الخطأ في ذلك؟»
«لستُ مجرد شيء تركز عليه الكاميرا. يبدو أحيانًا أنك لا تهتم بي إلا لهذا.»
رآها غاضبة فترك حامله الثلاثي ليجلس معها. قال: «أراك بهذه الطريقة أكثر مما يمكن أن أراك بأية طريقة أخرى. إذا تحدثت إليك لساعات ما كنتُ لأعرفك بشكل أفضل. لا أقول هذا أفضل من الكلام … إنها طريقتي فقط — طريقتي في الفهم … لا تظني ذلك سهلًا بالنسبة لي … لم أصور بورتريهات أبدًا؛ ترعبني … الألفة … أن يكون المرء في صحبة شخص طول هذا الوقت — لم أرغب أبدًا في تصويرها … وحتى الصور العارية أقل. هذه بدايتي وهي ليست سهلة.»
«هل يجب أن أزهو؟»
«لا أعرف … لكني أشعر أن صوري ساعدتني على أن أعرفك … أعتقد أني أعرفك أفضل مما عرفت أي شخص في حياتي.»
ضحكتْ: «فقط لأنك التقطْتَ بعض الصور؟»
«ليس لمجرد ذلك.»
«إذن؟»
«لأنها أكثر الطرق ألفةً لأعرف أي شخص … أو أي شيء.»
«هل تقول إنك ما كنتُ لتعرفني لولا بالكاميرا؟»
نظر إلى أسفل مقطِّبًا: «يمكن أن أقول لك: إذا لم أقضِ هذا الوقت معك، هنا، ألتقط الصور … ما كنتُ لأستطيع أن أقول بمثل هذا اليقين …»
«ماذا؟»
«إني أحبك.»
نهضتْ، مروَّعة، لكن دينو واصل قبل أن تتمكن من الكلام: «… وأعرف أيضًا …»
«ماذا؟»
«أريد أن تتزوجيني.»
«أتزوجك!» أراحت ذقنها على ركبتيها: «لماذا تعتقد أني أريد الزواج من شخص لا يستطيع التحدث معي إلا من خلال كاميرا؟»
«ألا تريدين، إذن؟»
«لا أعرف، دينو.» هزَّتْ رأسها بنفاد صبر: «لماذا الزواج؟ ألا يكفي هذا؟»
«الزواج ما أريد — وليس هذا فقط.»
«لماذا تتلف كل شيء، دينو؟»
«لأني أريده …»
«أنت لا تعرفني، دينو.» ابتسمتْ له، وربتتْ بيدها على مؤخرة رأسه: «أنا لا أشبهك. أنا عنيدة، أنا مزعجة: اعتاد تيمي أن يصفني بالمشاكسة. ستكرهني في أسبوع إذا تزوجتني.»
«أعتقد أن الحكم على ذلك يرجع لي.»
«ولأجل من نتزوج؟ تيمي ليس هنا ووالداك أيضًا. وتعرف سوء حالة جدي.»
«لكن ماذا إذا …؟» مال ليضع يده على بطنها. «ماذا إذا كان هناك طفل؟»
هزَّتْ كتفيها: «سنرى إذن. لكن الآن — لنقنع بما نحن فيه.»
•••
بدون كلمة واحدة في الموضوع، فهم دينو، بسرعة، بعد أول لقاء مع إلونجو، أن بينهما ارتباطًا — رابطة يعرفها إلونجو، ولا يدركها. نشأ هذا الفهم تدريجيًّا، من المحادثات التي دارت بينهما، وعزَّزتْه أسئلة وتعليقات جانبية مبهمة — من فضول إلونجو بشأن منزل رها في رنجون، من اهتمامه بصور العائلة، من الطريقة التي تتحوَّر بها ببطء إشاراته إلى «أبيك» حتى يختفي الضمير.
فهم دينو أن إلونجو مستعد، في الوقت الذي يراه مناسبًا، لإطلاعه على ما بينهما مهما يكن. أثار هذا الوعي، بشكل غريب، فضولًا أقل لدى دينو — ولم يكن ذلك لمجرد أنه مشغول تمامًا بأليسون. كان أيضًا بسبب إلونجو نفسه — كان جديرًا بالثقة تمامًا بحيث لا يسبب التنازل عن التفوق المعرفي قلقًا لدينو.
رأى دينو في إلونجو أكثر مما في أي شخص آخر في مُرْنِنْجْسايد، باستثناء أليسون: اعتمد عليه في كثير من الأشياء الصغيرة — إرسال الخطابات بالبريد، صرف شيكات، استعارة دراجات. حين قرر تجهيز غرفته المظلمة ساعده إلونجو في العثور على أدوات مستخدمة في بننج.
بعد ذلك أخذ دينو وإلونجو سايا جون إلى كنيسة المسيح الملك في أطراف البلدة. بدت الكنيسة متألقة ومبهجة، وكان بها برج أبيض شاهق وواجهة مزينة بحواجز خشبية مصقولة. تحت ظلال شجرة مزهرة، اجتمع حشد في ملابس ملونة. قاد قس أيرلندي في روب أبيض سايا جون بعيدًا، وربَّتَ على ظهره: «مستر مارتينز! كيف حالك اليوم؟»
ضعف بصر أم إلونجو وانحنتْ قبل الأوان. حين قدم إلونجو دينو، لم يعرف إن كانت قد عرفته. طلبتْ منه الاقتراب ولمست وجهه بأصابعها المشققة الغليظة. قالت بالهندوستانية: «ابني إلونجو أكثر شبهًا بأبيك منك.»
فهم دينو ما قالت بالضبط، في منطقة ما من شعوره، لكنه استجاب لكلماتها كما يستجيب لدعابة: «نعم، ذلك حقيقي. أرى الشبه.»
باستثناء هذه اللحظة الوحيدة المشحونة، مضت الزيارة بشكل جيد. بدا سايا جون متيقظًا بشكل غير عادي، ذاته القديمة تقريبًا. أكلوا جميعًا كميات من المكرونة، وفي نهاية الوجبة، قدمت أم إلونجو شايًا ثقيلًا باللبن في أقداح زجاجية. حين غادروا، أدركوا جميعًا — بطريقة لم تكن على الأقل غير مريحة — أن الزيارة بدأت لقاء بين غرباء وتغيرت بشكل ما، في النبرة والجوهر، إلى اتحاد عائلي.
في طريق العودة إلى المنزل جلس الثلاثة متجاورين في الشاحنة، إلونجو يقودها وسايا جون في الوسط. بدا ارتياح واضح على إلونجو، كأنه اجتاز عقبة. لكن دينو وجد صعوبة في تصور أن إلونجو قد يكون أخاه غير الشقيق. كان الأخ ما كان عليه نيل — حدًّا تستند عليه. ولم يكن إلونجو على هذا النحو. إذا كان إلونجو شيئًا فهو تجسيد لأبيه — كما كان في شبابه، رجلًا أفضل بكثير من الذي عرفه دينو. كان هناك بعض السلوى في ذلك.
في تلك الليلة ذكر دينو شكوكه لأليسون للمرة الأولى. تسللت إلى غرفته بعد العشاء، كما كانت تفعل أحيانًا بعد استقرار جدها في سريره. استيقظت في منتصف الليل لترى دينو يجلس بجوار النافذة، يدخن سيجارة: «ما المشكلة، دينو؟ اعتقدتُ أنك نائم.»
«لم أستطع النوم.»
«لماذا؟»
حكي دينو عن زيارته لأم إلونجو وما قالتْ. ثم نظر في عينيها مباشرة وسأل: «أخبريني، أليسون … هل هذا كله من وحي خيالي — أم أن في الأمر شيئًا؟»
هزَّتْ كتفيها وأخذت نفَسًا من سيجارته ولم ترد. سأل مرة أخرى، بإلحاح أكثر: «هل هناك حقيقة في هذا، أليسون؟ يجب أن تخبريني إذا كنت تعرفين …»
قالت: «لا أعرف، دينو. سرتْ شائعات دائمًا، لكن لم يقل أحدٌ شيئًا مباشرًا — لي على أية حال. تعرف طبيعة هذه الأمور — لا يتحدث الناس عن هذه الأشياء.»
«وأنت؟ هل تصديقين هذه … هذه الشائعات؟»
«لم أَعْتَدْ على ذلك. لكن جدي قال ذات يوم شيئًا جعلني أغير رأيي.»
«ماذا؟»
«طلبتْ منه أمك أن يرعى إلونجو.»
«إذن فهي تعرف — أمي؟»
«أعتقد ذلك.»
أشعل سيجارة أخرى في صمت. ركعت أليسون بجواره وتطلعت في وجهه: «هل أنت قَلِقٌ؟ غضبان؟»
ابتسم، وهرش ظهرها العاري: «لا. لستُ قلقًا … ولا أكثر غضبًا مما كنتُ دائمًا. غريب حقًّا — لم أندهش لمعرفتي بنوعية أبي. جعلتني فقط لا أرغب في العودة أبدًا إلى البيت …»
بعد أيام قليلة أرسلتْ أليسون خطابًا وصل للتو. كان دينو يعمل في غرفته المظلمة، وتوقف ليلقي نظرة على الظرف: كان من رنجون، من أبيه. بدون أي تفكير، مزقه وعاد للعمل.
في ذلك المساء، بعد العشاء، سألتْ أليسون: «دينو، هل أخذت الخطاب؟»
أومأ.
«كان من أبيك، أليس كذلك؟»
«أفترض ذلك.»
«ألم تقرأه؟»
«لا. مزقتُه.»
«ألم ترغب في أن تعرف ما كتب عنه؟»
«أعرف ما كتب عنه.»
«ماذا؟»
«يريد بيع حصته في مُرْنِنْجْسايد …»
توقفت ودفعتْ طبقَها بعيدًا: «هل هذا ما تريده أنت أيضًا، دينو؟»
قال: «لا. فيما يخصني، سأبقى هنا إلى الأبد … سأجهز أستوديو في سُنْجِي بتاني وأتعيش من الكاميرا. هذا ما وددتُ أن أفعله دائمًا — وهذا مكان مناسب.»
٣١
في الليلة التي اصطحب إلونجو فيها أرجون إلى منزل مُرْنِنْجْسايد، كان دينو وأليسون وسايا جون في غرفة الطعام، يجلسون إلى المائدة الماهوجني الطويلة. وعلى الجدران تبرق حوامل مغلفة بالبامبو، صممتها إلسا. امتلأت الغرفة بضوء ساطع ودافئ.
«أرجون؟»
«أهلا.» سار أرجون حول المائدة وربت على كتف دينو: «جميل أن أراك مرة أخرى، أيها الرفيق القديم.»
وقف دينو: «لكن أرجون … ماذا تفعل هنا؟»
قال أرجون: «سأحكي لك عاجلًا ما يكفي. لكن ألا تعرِّفني بدايةً؟»
«أوه نعم. بالطبع.» التفت دينو إلى أليسون: «أرجون. نسيب نيل — توأم منجو.»
«أنا سعيدة جدًّا بمجيئك.» مالت أليسون على سايا جون وتكلمت بصوت هادئ في أذنه، قالت: «جدي، نسيب نيل. يعسكر في القاعدة العسكرية في سُنْجِي بتاني؟»
اندهش أرجون بدوره: «كيف عرفْتِ أني أعسكر في سُنْجِي بتاني.»
«رأيتُكَ في البلدة قبل أيام.»
«حقًّا؟ مذهل أنك لاحظْتِ.»
«لاحظْتُ بالطبع.» ألقت برأسها للخلف وضحكتْ: «يبرز الغريب في سُنْجِي بتاني.»
قاطعها دينو: «لم تقولي شيئًا، أليسون …»
ضحكتْ أليسون: «رأيتُ رجلًا في زي رسمي. كيف أعرف أنه نسيبك.»
قال إلونجو: «عرفتُ. عرفتُ حين رأيته.»
أومأ أرجون: «عرفني. دخلتُ مكتب العزبة لأسأل عن دينو. وقبل أن أفتح فمي قال: «ألست نسيب مستر نيل؟» ذهلتُ تمامًا. قلتُ: «كيف عرفْتَ؟» قال: «فرجني مستر دينو على صورة — من عرس أختك.»»
«هكذا عرفته.»
تذكر دينو أنه انقضى عامان على آخر لقاء مع أرجون — في كلكتا. بدا أن أرجون كبر في تلك الفترة — أم كان يملأ زيه الرسمي؟ ومع أن أرجون كان طويلًا دائمًا، لم يتذكر دينو أبدًا أنه شعر بأنه قزم في وجوده كما شعر آنذاك.
قالت أليسون متألقة: «حسنًا. يجب أن تتناول شيئًا — أنت وإلونجو.»
كانت المائدة ممتلئة بعشرات السلاطين الصيني الصغيرة الملوَّنة. لم تمس محتويات معظمها.
نظر أرجون للطعام بشغف: «لحم حقيقي أخيرًا …»
قالت أليسون: «لماذا؟ ألا يطعمونكم في القاعدة؟»
«أظن أنهم يفعلون أفضل ما في وسعهم.»
قالت أليسون: «يوجد هنا الكثير لكما. اجلس — إلونجو، أنت أيضًا. تشتكي الطباخة دائمًا من أننا نعيد الطعام بدون أن يمس.»
هز إلونجو رأسه: «لا يمكن أن أبقى …»
«أكيد؟»
«نعم. أمي تنتظرني.»
انصرف إلونجو وشُغِل مكان آخر على الطاولة، بجوار أليسون. جلس أرجون وبدأت أليسون تكدس له الطعام في طبقه.
«يا لها من مأدبة! ولم يكن إلا عشاء يوميًّا؟»
قالت أليسون: «كانت أمي تزهو بمائدتها دائمًا. وأصبحت الآن عادة.»
أكل أرجون باستمتاع: «طعام مدهش!»
«أحبته عمتك أوما أيضًا. هل تتذكر، دينو؟ ذلك الوقت؟»
أومأ دينو: «نعم أتذكر. أعتقد أن لديَّ صورًا.»
قال أرجون: «لم أتناول أبدًا شيئًا بهذا الطعم. ما اسمه؟»
فجأة تكلم سايا جون، مما فاجأهم جميعًا.
«الزهور سر الاختلاف.»
«الزهور، جدي؟»
مرَّ ظلٌّ على وجهه وغيمت عيناه مرة أخرى. التفت إلى أليسون، وقال: «يجب أن نتذكر إرسال برقية إلى ماثيو وإلسا. يجب أن يتوقفا في ملقا في طريق العودة.»
نهضت أليسون بسرعة من مقعدها. قالت لأرجون: «اعذرني، جدي مرهق. يجب أن آخذه إلى السرير.»
وقف أرجون: «بالطبع.»
ساعدت أليسون سايا جون للوقوف وقادته ببطء عبر الغرفة. استدارتْ عند الباب لتنظر إلى أرجون: «رائع أن يكون لدينا ضيفٌ يحبُّ طعامنا — تقول الطباخة دائمًا إن دينو لا يأكل إطلاقًا. ستبتهج لأنك استمتعتْ بطهيها. يجب أن تأتي مرة أخرى.»
ابتسم أرجون: «سآتي. تأكدي من ذلك.»
كان في صوت أليسون دفءٌ ومرح لم يشعر بهما دينو من قبل. نظر إليها من مكانه على الطاولة وشعر بهبة غيرة مفاجئة.
قال أرجون بصوت مدوٍّ ودود: «حسنًا، أيها الرفيق القديم. ألا تعرف أنك تقلق كل من في البيت؟»
أجفل دينو: «لا. وليس هناك حقًّا داعٍ للصياح.» كافح للتحكم في نفسه ليواصل الحديث إلى أرجون.
ضحك أرجون: «آسف. لم أقصد مضايقتك …»
«أنا متأكد من أنك لم تقصد.»
«وصلني خطاب من منجو، ترى — هكذا عرفْتُ أن أعثر عليك.»
«أرى.»
«قالت إنهم لم يسمعوا عنك منذ فترة.»
«أوه؟»
«ماذا تريد أن أقول لهم؟»
رفع دينو رأسه بتدبر هائل. قال ببرود: «لا شيء. لا تقل لهم شيئًا …»
رفع أرجون حاجبه: «هل يمكن أن أسأل لماذا؟»
هزَّ دينو كتفيه: «المسألة ليست شديدة التعقيد. ترى … أرسلني أبي إلى هنا لأنه يريد بيع حصتنا من مُرْنِنْجْسايد.»
«و؟»
«الآن أنا هنا … قررتُ أنها فكرة غير مناسبة.»
«كبرْتَ إلى هذا الحد، أفترض؟»
نظر دينو إلى عين أرجون مباشرة: «الأمر ليس بهذه الصورة. إنها أليسون.»
«ماذا تقصد؟»
«حسنًا، قابلْتَها …»
أومأ أرجون: «نعم.»
«ربما تعرف ما أقصد.»
سحب أرجون مقعده إلى الخلف بعيدًا عن المائدة: «أعتقد أنك تريد أن تخبرني بشيء، دينو. لأخمن: هل تقول إنك وقعت في حبها؟» ضحك.
«شيء من هذا القبيل.»
«أرى. وهل تعتقد أنها حريصة عليك هي الأخرى؟»
«أعتقد ذلك.»
«ألم تقلْ لك ذلك؟»
«لا … ليس بالضبط.»
«آمل أن تكون مُحِقًّا، إذن.» ضحك أرجون مرة أخرى وتلألأ الضوء على أسنانه القويمة. «عليَّ أن أقول لا أعرف إن كانت امرأة مثلها تناسب فتى مثلك.»
حاول دينو أن يبتسم: «لا يهم حقًّا، أرجون … في حالتي عليَّ أن أؤمن بذلك …»
«لماذا؟»
«ترى — أنا لسْتُ مثلك، أرجون. لم يكن التعامل مع الناس — خاصة النساء — سهلًا أبدًا بالنسبة لي. إذا كان هناك خطأ … بيني وبين أليسون، فذلك … لا أعرف كيف أتغلب عليه …»
«دينو، هل أنا محق حين أعتقد أنك تحذرني — تخبرني بأن أبقى بعيدًا؟»
«ربما أحذرك.»
أبعد أرجون طبقه: «أفهمُ. لا حاجة لذلك حقًّا، تعرف.»
شعر دينو بالابتسامة تعود إلى وجهه: «حسنًا. حسنًا، ذلك خارج الموضوع إذن.»
نظر أرجون في ساعته ووقف: «حسنًا، من المؤكد أنك أفصحت عن نفسك بوضوح. وربما عليَّ أن أنصرف. ستقدم اعتذاري لأليسون؟»
«نعم … بالطبع.»
شعر دينو فجأة بالعار من افتقاره للكرم. قال وهو يشعر بالذنب: «لم أقصد أن أبعدك، أرجون … من فضلك لا تعتقد أنك غير مرحب بك. يجب أن تعود … عاجلًا … أنا متأكد من أن أليسون تريد ذلك.»
«وأنت؟»
«نعم. أنا أيضًا.»
قدَّر أرجون هذا بتجهم: «هل أنت متأكد؟»
«نعم، بالطبع. عليك … عليك أن تعود.»
«سأعود، إذن، إذا كنت لا تبالي، دينو. شيء جميل أن أبتعد عن القاعدة من وقت إلى آخر.»
«لماذا؟ هل هناك مشكلة؟»
«ليست مشكلة بالضبط — لكن الوضع ليس سارًّا دائمًا كما كان …»
«لماذا؟»
«لا أعرف كيف أوضح، دينو. منذ أتينا إلى الملايو، لم يبق شيء على حاله.»
•••
كانت أليسون تجري إلى المطبخ لتنبه الطباخة: «إنهم هنا!»
وضح استمتاعها بهذه الزيارات؛ عرف دينو أنها تبتهج لرؤية المنزل يمتلئ بالناس مرة أخرى. ظهرت ملابس لم يكن يعرف أنها بحوزتها: لم يرها حتى ذلك الوقت إلا في الملابس البسيطة التي ترتديها للذهاب إلى المكتب وأحيانًا شيْأُنْجسام من الحرير. تدفقت ملابس كثيرة الألوان، جميلة التفصيل من خزاناتها — قبعات وعباءات رائعة طلبتْها أمها من باريس في ذروة ازدهار مُرْنِنْجْسايد.
بدا دينو مثل متفرج في سيرك: كان يعرف أن عليه أن يلعب دور المضيف. لكنه شعر، مع كل أمسية من تلك الأمسيات، أن وجوده في المنزل يتقلص، ينكمش. لا يهم سواء جاء أرجون وحده أمْ في صحبة فرقة من أصدقائه. بدا أن لديه طريقة لملء المنزل حتى بمفرده. كان لا يمكن إنكار أن فيه شيئًا جذابًا — الثقة في الذات، عادة قائد، شهية مفتوحة جدًّا. عرف دينو أنه لا يستطيع مجاراته.
من وقت آخر يعلن أرجون أنه نجح في استجداء كمية إضافية من البترول من «الرفاق الطيارين» في مهبط الطائرات. يخرجون في نزهة، الثلاثة فقط أحيانًا، وضمن حشد كبير أحيانًا. في إحداها ذهبوا إلى النُّزُل الذي يقع على قمة جننج جراي. صادرت مجموعة من الطيارين المكان لإقامة حفلة؛ كانا ضيفي أرجون.
لم يكن الطريق الذي سلكوه إلى القمة إلا مسارًا قذرًا، يتأرجح عبر المنحدر، ويرتفع بحدة. كانت أطراف الجبل كثيرة الأشجار والدرب يلتف في بقاع كثيفة من الغابة. كان الجو أبرد بعدة درجات من السهل، وقد حجبت السماءَ باستمرار طبقةٌ من سحب سريعةِ الحركة. في القمة انتهت الخضرة فجأة وظهر النزل — بدا، إلى حدٍّ ما، شبيهًا بكوخ إنجليزي، إلا أنه محاط ببلكونة تطل على مشاهد درامية للشاطئ والسهول المحيطة به.
اكتظت البلكونة بالعسكريين في ثياب رمادية وكاكية وخضراء غامقة. وبين الأزياء الرسمية تناثرتْ بضع نساء يرتدين ملابس قطنية زاهية. في مكان ما داخل النزل فرقة تعزف.
دخل أرجون وأليسون إلى النزل ليرقصا وتُرِك دينو لحاله. سار حول البلكونة، خلف الطاولات المفروشة بمفارش بيضاء. حجبت منظرَ السهل عباءةٌ من السحب تهب من البحر. لكن كثيرًا ما شقت الرياح السحب، موفرة لقطات رائعة من السهل: رأى سُنْجِي بتاني، عند سفح الجبل، ومئات من هكتارات المطاط تمتد مبتعدة في كل الاتجاهات. عن بعد، لمح القمم المتعرجة لجزيرة بننج وأرصفة ميناء بترورث، وكانت تشبه الأصابع. كان الطريق السريع بين الشمال والجنوب يجري مثل شريط كبير عبر المشهد الطبيعي، يقترب من الطرف الجنوبي للسهل ويختفي باتجاه الشمال، حيث الحدود. بطول الغرب يقع بحر أندامان، مفعمًا بالألوان الزاهية لغروب الشمس.
قرر دينو أن يأتي في يوم صاف إلى النزل ومعه الكاميرات. ندم، لأول مرة في حياته، لأنه لم يتعلم قيادة السيارات: كان هذا المشهد وحده يستحق المجهود.
عاد أرجون في اليوم التالي إلى مُرْنِنْجْسايد في ساعة غير مألوفة — في الحادية عشرة صباحًا. يقود موتوسيكلًا هارلي دافيدسون، بوسط نحيل ومقدمة حمامة، مطليا بلون أخضر عسكري باهت، يتصل بصندوق جانبي. انطلق أرجون إلى المنزل من مكتب المزرعة وأليسون تجلس في الصندوق الجانبي.
كان دينو في غرفته المظلمة حين صاح أرجون من الرواق: «دينو! انزل. عندي أخبار.»
نزل دينو جريًا إلى الدور الأرضي: «حسنًا …؟»
ضحك أرجون ونخس كتفه: «أنت عم، دينو — وأنا خال. وضعتْ منجو طفلًا — بنتا.»
«أوه … أنا سعيد …»
«سنحتفل. تعال معنا؟»
«إلى أين تذهبان؟»
قال أرجون: «إلى البحر. اقفز. خلفي.»
نظر دينو إلى أليسون، وقد بدت غائبة. شعر بقدميه تثقلان. كافح طوال الأيام الأخيرة ليتماشى مع الاثنين، لكنه لم يستطع أن يكون على غير طبيعته. لم يُرِدْ أن يكون معها فيكون وجوده عبئًا عليها — أي شيء إلا ذلك.
قال دينو بهدوء: «لا أعتقد أنكما تريدان حقًّا أن أكون معكما.»
صاحا مثل كورس اعتراضات.
«أوه، دينو. زبالة!»
«أوه، تعال، دينو. لا تكنْ أحمق.»
استدار دينو: «لديَّ عمل في الغرفة المظلمة عليَّ أن أنهيه. انطلقا. يمكن أن تحكيا لي حين تعودان.» دخل المنزل وصعد الدرج عَدْوًا. سمع صوت سعال مفتاح تشغيل الموتوسيكل ولم يستطع الامتناع عن النظر من نافذة. أسرع هارلي دافيدسون في الطريق، باتجاه العزبة. لمح وشاح أليسون، يرفرف مثل راية.
عاد لغرفته المظلمة وشعر بألم في عينيه. اعتمد في الماضي على جو الغرفة المظلمة للشعور بالطمأنينة دائمًا؛ كان وهجها الأحمر المعتم مصدرَ راحةٍ لا ينضب. لكن بدا الضوء ساطعًا جدًّا، لا يُحتَمل. أطفأه وجثم على الأرضية، معانقًا ركبتيه.
كانت غرائزه صحيحة منذ البداية. عرف أن أرجون لا يمكن أن يكون موضع ثقة — ولا أليسون، معه. لكن ماذا يفعل؟ كانا راشدين، ولم يكن له حق عند أي منهما.
لمس وجهه، في لحظة، فوجده مبلولا. غضب من نفسه: إذا كانت هناك خيمة يريد أن يبني فيها حياته، فلن تكون أبدًا بالاستسلام للشفقة على النفس — كان يعرف أنه طريق لا ينتهي، بمجرد السير فيه.
وقف على قدميه ومشى حول الغرفة في الظلام، حاول تذكر حجمها وتخطيطها بدقة وأيضًا موضع كل قطعة من الأثاث وكل شيء. عد خطواته، وكلما لمس جدارًا أو تعثر في شيء، بدأ من جديد.
اتخذ قرارًا بالرحيل. وضح أن أليسون فقدت الاهتمام به وليس هناك ما يُرجَى من البقاء في مُرْنِنْجْسايد. عليه أن يحزم أشياءه ويقضي الليل في منزل أم إلونجو. يذهب في الغد إلى بننج وينتظر سفينة بخارية تعود به إلى رنجون.
•••
اتجه الموتوسيكل غربًا، في طريق تضاءل إلى شريط بالٍ مرصوف محفوف بالتراب والرمل. انطلقا إلى بلدة صغيرة بها مسجد بقبة زرقاء ثم ظهر البحر أزرق متلألئًا. كانت الأمواج ترتفع قليلًا بطول حافة الرمال. انحرف الطريق يسارًا وبقيا فيه، انطلقا في خط مواز للشاطئ. وصلا إلى عزبة صغيرة وانتهى الطريق. فاحت من السوق رائحة ماء مالح وسمك مجفف.
سألتْ أليسون: «نترك الموتوسيكل هنا؟»
ضحك أرجون: «لا. لا يجب أن نفعل ذلك. يمكن أن نأخذه معنا. يذهب هذا الهارلي إلى أي مكان.»
احتشد القرويون للتحديق فيهما وهما يسيران بالموتوسيكل في السوق، متسللين في الفجوات بين الأكواخ. عوى الموتوسيكل وهو يصعد كثيب يفصل العزبة عن البحر. كان الرمل ناصع البياض في شمس الظهيرة. واصل أرجون السير على حافة الشاطئ، حيث تماسكت الأرض ببساط رقيق من الأعشاب. سار ببطء بين جذوع نخيل جوز الهند، تهزها الرياح.
ابتعدا كثيرًا عن القرية وصادفا كهفًا مظللًا بالصنوبر البرغي. كان الشاطئ مكوَّنًا من طبقة رقيقة بيضاء من الرمال. عند مدخل الكهف، على مسافة لا تزيد عن مائة ياردة من الشاطئ، ظهرتْ جزيرة صغيرة كثيفة الأشجار، أجمات خضراء وأشجار صنوبر قصيرة.
قالت أليسون: «لنتوقف هنا.»
وضع أرجون الموتوسيكل في بقعة من الظلال ودفعه على الحامل. خلعا حذاءيهما وتركاهما على الرمل. طوى أرجون ثنيتي بنطلونه إلى أعلى وجريا عبر الشاطئ الفضي المحرق، إلى الماء مباشرة. المدُّ منخفض والبحر شديد الهدوء، وأمواج خفيفة تعلو الشاطئ. الماء شديد الصفاء، يكبِّر الأشكال المتحولة لأرضية البحر، مضفيًا عليها مظهر الفسيفساء الملونة.
قال أرجون: «لنسبحْ.»
«لم أحضر شيئًا.»
بدأ أرجون فك أزرار قميصه الكاكي. «لا أحد هنا.»
كانت أليسون ترتدي رداء العمل القطني. رفعته، ممسكة بطرفه فوق الماء. ثم تركته يسقط. تغلغل الماء بسرعة في القطن، مرتفعًا باتجاه خصرها.
تعالي، أليسون. المكان كله ملكنا.» حلَّقتْ أطراف قميص أرجون بحرية، والأزرار مفكوكة.
ضحكتْ: «لا. نحن في ديسمبر. احترمْ شتاءنا.»
«ليس باردًا. تعالي.» مدَّ يده إلى يدها، ولسانه يضرب صفَّ أسنانه المتلألئة.
غرستْ أطراف أصابع قدميها في الرمل. في الماء الصافي، لمحت حافة مقوسة لقوقعة مدفونة بين قدميها. مدت يدها في الماء وأخرجتها. كانت قوقعة ثقيلة بشكل غير متوقع، وكبيرة بما يكفي لملء يديها الاثنتين.
قال أرجون، ناظرًا من فوق كتفه: «ما هذا؟» ابتلَّ بنطلونه الكاكي حتى الخصر تقريبًا.
كانت للقوقعة فتحة بيضاوية في أحد طرفيها، مثل البوق: اللون بداخلها لون طبقة غنية من عرق اللؤلؤ، بها بقع فضية. يلتفُّ جسمها في كتلة دائرية بشكل يكاد يكون دقيقًا، وينتهي بانبعاج ضئيل يشبه حلَمَة.
سأل أرجون: «كيف عرفْتِ اسمَها؟» شعرتْ بوجوده خلفها. كان ينظر من فوقها إلى القوقعة، وذقنه يستريح بخفة على رأسها.
قالتْ: «فرَّجني دينو على صورة لقوقعة مثلها. يعتقد أنها من أفضل الصور التي التقطها.»
التفَّتْ ذراعاه حول كتفيها، وأحاطتْ بجسمها. أغلقتْ يديها على القوقعة، وبدت أصابعها ضئيلة بالمقارنة بأصابعه وراحتاه المبلولتان على ظهر يديها. مرر إبهامه بطول حافة فم عرق اللؤلؤ، على الخط الذي يلف الجسم المنتفخ، إلى النقطة التي تعلو الكتلة وتشبه الحلمة.
«علينا …» شعرتْ بنفَسه يندفع في شعرها. قال بصوت أجش: «علينا أن نأخذها معنا لدينو.»
ترك ذراعيه تسقطان وابتعد عنها. قال مشيرًا باتجاه الجزيرة التي تقع عند مدخل الكهف: «لنذهب ونستكشف. أراهنُ، يمكننا الوصول إليها. الماء منخفض جدًّا.»
ضحكتْ: «لا أريد أن أبلَّ ردائي.»
وعد: «لن تبليه. إذا ارتفع الماء، أحملك على ظهري.»
أمسك بيدها وشدَّها في مياه أعمق. غارت الأرض ووصلت المياه إلى مستوى الخصر. ثم ارتفعت الأرضية الرملية تدريجيًّا باتجاه الجزيرة. أسرع أرجون وهو يشدها معه. كانا يجريان حين وصلا الشاطئ. أسرعا عبر حافة رملية محترقة بفعل حرارة الشمس إلى داخل الجزيرة حيث الظل. استلقت أليسون على ظهرها فوق الأرض الرملية الناعمة وتطلعت للسماء. أحاطت بهما أشجار صنوبر برغي كثيفة، وحجبتهما عن الشاطئ.
ألقى أرجون بنفسه إلى جوارها، على بطنه. كانت لا تزال تمسك بالقوقعة فحررها من قبضتها. وضعها على صدرها ومرر إصبعه على الحافة الحلزونية للقوقعة، ممسكًا بجسمها في راحته.
قال: «إنها جميلة جدًّا.»
رأتْ كم كان يريدها؛ كان في إلحاح رغبته شيء لا يقاوم. حين انزلقت يده من القوقعة، إلى جسمها، لم تبذل جهدًا لإيقافه. من تلك اللحظة، وكل شيء متأخر جدًّا، تغير كل شيء.
كأنه لم يكن هناك حقًّا ولم تكن هناك؛ كأن جسديهما اندفعا بحاسة الحتمية أكثر مما اندفعا بإرادة واعية؛ بسُكْرِ الصور والإيحاء — ذكريات الصور والأغاني والرقصات؛ كانا غائبين، غريبين، وجسداهما يؤديان وظيفة. فكرت في الوضع مع دينو: حدة تركيزه على اللحظة؛ الإحساس بتوقف الزمن. لم تفهم، إلا أمام هذا التضاد لمعايشة الغياب، معنى الحضور التام — العين والذهن واللمس في اتحاد مطلق، يمتلك كل منهما الآخر ويمتلكه الآخر.
حين تركها أرجون، بكت ساحبة رداءها على جسمها وشابكة ركبتيها. انتصب في ذعر: «أليسون — ما المسألة؟ لماذا تبكين؟»
هزَّتْ رأسها، ووجهها مدفون بين ركبتيها.
ألحَّ: «أليسون، لم أقصدْ … ظننْتُ أنك تريدين …»
«ليست غلطتك. لا ألومك. لا ألوم إلا نفسي.»
«على ماذا، أليسون؟»
نظرتْ إليه غير مصدِّقة: «على ماذا؟ كيف تنظر إليَّ بعد ذلك وتسألني هذا السؤال؟ ماذا عن دينو؟»
ضحك، وهو يمدُّ يده إلى ذراعها: «أليسون. لا يجب أن يعرف دينو. لماذا نخبره؟»
دفعتْ يده بعيدًا. قالتْ: «من فضلك. من فضلك. لا تلمسني.»
سمعا صوتًا ينادي من بعيد، قويًّا بما يكفي للوصول عبر تلاطم المياه.
«صاحب.»
شدَّ أرجون زيه المبلول ووقف. رأى كيشان سنجه يقف على الشاطئ وخلفه سائق موتوسيكل بخوذة على هارلي دافيدسون يشبه الموتوسيكل الذي قاده أرجون من القاعدة.
لوَّح كيشان سنجه بقطعة من الورق، حركها بإلحاح في الهواء.
«صاحب.»
قال أرجون: «أليسون. حدث شيء. بعثوا برسالة من القاعدة.»
قالتْ أليسون: «انطلق.» لم تفكر في تلك اللحظة إلا في أن تلقي بنفسها في الماء لغسل الإحساس بلمسته. «سأتبعك في دقيقة.»
مشى أرجون إلى الماء وخاضه إلى الشاطئ. كان كيشان سنجه ينتظر على حافة الماء؛ التقت عيناه بعيني أرجون لحظة. كان فيهما شيء فتراجع أرجون ونظر مرة أخرى. لكن كيشان سنجه تحرك للفت الانتباه، ويده مرفوعة بالتحية، وعيناه ثابتتان في نظرة غافلة.
«ماذا، كيشان سنجه؟»
سلمه كيشان سنجه ظرفًا: «بعث هاردي صاحب بهذا.»
مزق أرجون الظرف وفتح ورقة هاردي. كان لا يزال ينظر فيها مقطِّبًا حين خرجت أليسون من الماء وسارت إليه.
قالتْ: «ماذا؟»
قال أرجون: «عليَّ أن أعود. فورًا. يبدو أن شيئًا كبيرًا على وشك الحدوث. ستغادر كتيبتي سُنْجِي بتاني، هذا ما في الأمر.»
حدَّقتْ فيه أليسون كأنها لا تصدق ما سمعتْ: «ستذهب بعيدًا؟»
نظر إليها: «نعم. وأنت سعيدة — أليس كذلك؟»
مشت ولم ترد، تبعها. وهما فوق قمة الكثيب، بعيدًا عن نظر كيشان سنجه، أدارها بعنف مفاجئ.
قال بحدة: «أليسون، لم تردِّي عليَّ.»
ضيقت عينيها: «لا تتحدث معي بهذه النغمة، أرجون. لستُ مراسلة عندك.»
«سألتُك سؤالا.»
«ماذا كان؟»
«هل أنت سعيدة لأني أغادر؟»
قالتْ بشكل قاطع: «إذا كنت تريد أن تعرف حقًّا، الإجابة نعم.»
جاء صوته متلعثمًا ومرتبكًا: «لماذا؟ أتيتُ إلى هنا لأنك أردْتِ. لا أفهم: لماذا أنت غاضبة مني؟»
هزَّتْ رأسها: «لستُ. لستُ غاضبةً إطلاقًا — أنت مخطئ في ذلك. لا معنى لأن أغضب منك، أرجون.»
«بحق الجحيم عم تتحدثين؟»
«أرجون — لستَ مسئولًا عما تفعل؛ أنت دمية، شيء مصنوع، سلاح في يد شخص آخر. عقلك لا يسكن جسمك.»
«زفت …» توقف فجأة، ثم قال: «لا تفلتين بذلك إلا لأنك امرأة …»
رأتْ أنه على بعد شعرة من ضربها وكان لهذا تأثير غريب، شعرتْ فجأة بأسف من أجله. ثم أدركتْ أنها شعرتْ دائمًا بالأسف من أجله، قليلًا، وكان هذا سبب مجيئها معه في ذلك الصباح إلى الشاطئ. رأته، رغم عِظَمِ سلطة وجوده، رجلًا بلا حيلة، رجلًا إدراكه لنفسه واهٍ جدًّا، هشٌّ جدًّا؛ رأت دينو أقوى بكثير وأوسع حيلة، وفهمتْ أن هذا ما أغراها بالقسوة معه؛ وهو ما جعلها تخاطر بفقده. أقلقتها الفكرة فجأة.
سارت بسرعة إلى الهارلي دافيدسون. قالت لأرجون: «تعال. عد بي إلى مُرْنِنْجْسايد.»