الجزء السادس

الجبهة

٣٢

في أول المساء غادرت الجات ١/١ سُنْجِي بتاني. خرجوا من القاعدة في قافلة من الشاحنات، باتجاه الشمال على الطريق السريع بين الشمال والجنوب. حين وصلوا إلى بلدة ألور ستار،١ توقفوا في محطة السكك الحديد في انتظار تعليمات أخرى. استقرَّ الرجال على طرف من الرصيف، وصادر الضباط الآخر.
كانت أصغر محطة رآها أرجون في حياته وأجمل محطة: بدتْ لعبة مقارنة بمحطات السكك الحديد التي عرفها في الهند. كان تحتوي على رصيف واحد ضيق تحت مظلة منخفضة مطلية بالأحمر. تدلى نخيل موضوع في أصص في مجموعة عوارض والتفت الأعمدة الخشبية التي تغطي الرصيف بأجمات البوجينفيلا٢ الملونة الزاهية.

بقي المقدم بكلاند في مركز قيادة فرعي، ووصل متأخرًا. في منتصف الليل جمع ضباطه وأخبرهم بإيجاز عن آخر التقارير العسكرية. تكلم عن تغير كبير في التكتيك. وعن مؤشرات على قرب دخول اليابانيين الحرب: يُعتَقَد أن قواتهم تستعد للهجوم على الملايو من الشمال. ولإحباط هذه القوة الهجومية لا بدَّ من التوغل بعمق في سيام لحماية الساحل الشرقي: لشن هجوم استباقي يحرم قوة الغزو اليابانية من أراضي الإنزال المحتمل على الشاطئ. وعلى الجات ١/١ القيام بدور رئيسي في هذه العملية. صدرت أوامر للكتيبة بالاستعداد لاستقلال القطار خلال نصف ساعة من التنبيه عليهم. في الفجر تحركوا شمالًا لاحتلال نقطة ساحلية قرب بلدة في سنغافورة. «دوِّنوا هذا.» قرأ المقدم بكلاند مفتاح خريطة وسجل الضباط الملاحظات.

بعد الكلمة السريعة نشر أرجون خريطة على أرضية المحطة تحت لمبة عارية، وطرد الحشرات والفراشات التي جاءت لتستقر على السطح. شعر بسبابته يهتز في توتر وهو يتتبع الخط الرفيع الأحمر للطريق الذي يؤدي إلى النقطة الساحلية. هذا إذن دليل كل هذه السنوات من التدريب؛ انتهى الانتظار أخيرًا. نظر أرجون للرصيف المزين بالزهور: فوجئ بأنه مكان غير محتمل تمامًا لانطلاق عملية كبرى.

كان النوم صعبًا. في الثالثة صباحًا أحضر له كيشان سنجه كوبًا من الشاي في مَجٍّ مزخرف. أخذه أرجون بامتنان، ولم يسأل عن المكان الذي أتى به منه. بجواره يغفو هاردي في سلام في مقعد بذراع طويلة وعمامته مائلة للخلف. وقف أرجون وتمشى على الرصيف؛ شقَّ طريقه خلف الرجال المكومين. لاحظ ضوءًا في مكتب ناظر المحطة فدخل.

كان ناظر المحطة مسيحيًّا من جوا. كان نائمًا بعمق، يستلقي ممددًا على مكتبه. وكان هناك راديو على رف. لفَّ أرجون حول المكتب وأدار الراديو. عبث بتراخٍ في الأزرار. جاء عبر خرفشة الموجات الهوائية صوت مذيع يقرأ الأخبار: «… قتال عنيف قرب كوتا بهارو …»٣

كوتا بهارو في شرق الملايو: يعرفها أرجون لأن له صديق يعسكر فيها، وهي بلدة ساحلية خارج الطريق. رفع أرجون الصوت وسمع مرة أخرى: تحدث مذيع الأخبار عن إنزال ياباني ضخم بطول الساحل — سمعه يذكر سنغافورة، البلدة التي من المستهدف أن يحتلوها في اليوم التالي. استدار أرجون وأسرع على الرصيف إلى غرفة الانتظار حيث ترك القائد.

«سير.»

كان القائد والكابتن بيرسون يغفوان في مقعدين.

«ارتفع البالون، سير: قام اليابانيون بإنزال.»

انتصب القائد: «مستحيل، أيها الضابط.»

«في الراديو، سير.»

«أين؟»

قادهما أرجون إلى غرفة ناظر المحطة. تحرك الرجال على طول الرصيف، أدركوا أن شيئًا ما يحدث. دفع أرجون باب ناظر المحطة وفتحه. استيقظ الرجل، وحكَّ قبضتيه في عينيه مترنحًا. لفَّ أرجون حوله ورفع الصوت. ملأ صوت مذيع الأخبار الغرفة.

هكذا عرفوا أن هجومهم الاستباقي استُبِق بعملية من مستوى غير مسبوق تضمنت هجمات متزامنة على أهداف تبعد آلاف الأميال — هجوم جوي على بيرل هربور٤ وإنزال طموح بطول شبه جزيرة الملايو. وكانت سنغافورة، البلدة سيتوجهون إليها، من أول ما احتُلَّ.

ابتسم المقدم بكلاند ابتسامة مهذبة لضباطه: «أيها السادة. إذا كانت معرفتي بالجيش دليلًا، أقترح أن تستريحوا هنا. ربما بعد برهة نسمع شيئًا من مركز القيادة …»

كان في نبرة السخرية في صوته شيء مريح جدًّا: وجد أرجون، وهو يسمعه، صعوبة في تخيل حدوث خطأ خطير.

كان في ألور ستار مطار كبير، ومع أول ضوء حلَّق سرب بلنهايمز في الجو. ساد المرح الجات ١/١ والطائرات تئزُّ فوق المحطة. بعد ساعتين، عادت البلنهايمز تحلق بخزانات وقود فارغة. بعد دقائق من عودتها جاء سرب طائرات يابانية يطنُّ في الأفق. هاجمت المطار في تشكيل قريب، والبلنهايمز تتزود بالوقود، في أضعف حالاتها. في دقائق اشتعلت الطائرات. كان توقيت الغارة دقيقًا بصورة خارقة. لم يكن هناك شكٌّ في أن جاسوسًا، أو مخبرًا محليًّا، زود العدو بمعلومات.

في وقت تال من اليوم ذهب المقدم بكلاند بالسيارة إلى المطار مع بعض ضباطه. ضُرِب مركز طبي وفاحتْ رائحة كيماويات قوية. في ساحة المطار ذاب الزفت حول البلنهايمز. وعن بعد كان هناك صف من أكواخ أتاب، ثكنات لقوات احتياط الملايو الذين يحرسون المطار. لم يُر الرجال في أي مكان، أُرسِل أرجون للبحث عنهم. وجدت ثكناتهم على أكمل وجه: الأسرة مرتبة وكل منها بجواره حقيبة أدوات معلقة، والبنادق تقف مائلة على الحائط في صفوف دقيقة، كما تتطلب اللوائح. ولم يكن هناك رجال. كان واضحًا أن القوات هجرت المكان بعد القيام بكل الأعمال اليومية لتنظيم الأماكن.

•••

قضى دينو الليل على سرير سفري في فراندة منزل أم إلونجو. استيقظ مبكِّرًا، وإلونجو وأمه لا يزالان نائمين. نظر إلى ساعته. لم يكن القطار الذاهب إلى بننج يتحرك قبل منتصف النهار؛ أمامه ساعات طويلة.

خرج ونظر إلى الجبل. بدأ اللون يتغير؛ بدا أن الحياة تنبعث في الغابة. فوجئ بأنه لم يصور الشانديين أبدًا في هذا الوقت من الصباح. لمح دراجة إلونجو تقف في المدخل. قرَّر الذهاب بالدراجة إلى الجبل ومعه الكاميرات.

وضع أدواته معًا بسرعة وسار بالدراجة أسرع من المعتاد. حين وصل إلى الجدول، تخلى عن طقوسه المعتادة: ذهب إلى المنطقة منزوعة الأشجار مباشرة ونصب حامله الثلاثي. غير الفيلم وأولى الطائرات المغيرة على جننج جراي تحلِّق. لم يهتم في البداية، مفترضًا أن الطائرات ستهبط في القاعدة الجوية في سُنْجِي بتاني. لكن بعد دقائق، حين اهتزت الغابة مع صوت الانفجارات، عرف أن هناك مشكلة. حين جاء السرب التالي من قاذفات القنابل، نظر بدقة أكبر. كانت الطائرات على ارتفاع منخفض جدًّا ولم يكن هناك شك في علاماتها. كانت يابانية.

كانت أليسون أول ما فكر فيه دينو. لم يرها منذ تركتْه لتذهب إلى الشاطئ مع أرجون، وتذكَّر أنها خططت للذهاب إلى سُنْجِي بتاني في ذلك اليوم — أخبرتْه بذلك في اليوم السابق. لقضاء بعض المهام.

فاجأ دينو أنها ربما لا تزال في البلدة. ترك حامله الثلاثي يقف حيث كان وأسرع إلى الدراجة. ذهب أولًا إلى منزل مُرْنِنْجْسايد، حيث أكدت الطباخة أن أليسون غادرت المنزل باكرًا جدًّا في الصباح في الدايتونا. في طريقه للخروج توقف دينو لإلقاء نظرة على سايا جون. وجده يغفو هادئًا في مقعد في الفراندة.

لاحظ دينو، وهو يركب الدراجة في طريقه للمكتب، اجتماع عدد كبير من الناس في ساحة العرض. حين اقترب، رأى إلونجو يقف على كرسي يخطب في الحشد، يتحدث بالتاميلية. نظر دينو في عينه وأشار له بالتوقف في كلمة سريعة.

«ماذا يحدث إلونجو؟»

«ألم تسمع الراديو؟»

«لا …»

«دخلت اليابان الحرب. ضُرِب مهبط طائرات سُنْجِي بتاني بالقنابل.»

استغرق دينو لحظة لاستيعاب الأمر، ثم قال: «ذهبتْ أليسون إلى سُنْجِي بتاني هذا الصباح … علينا أن نذهب إلى هناك لنرى إن كانت بخير …»

«لا أستطيع الذهاب الآن.» ألمحَ إلونجو إلى المجتمعين في ساحة العرض. «ينتظرون …»

«لماذا — ماذا يريدون؟»

«هجر مدراء بعض العزب المجاورة مكاتبهم وانطلقوا بالسيارات إلى سنغافورة. الناس هنا قلقون. يريدون التأكد من الحصول على أجورهم …» توقف إلونجو ليمدَّ يده في جيبه وأخرج مجموعة مفاتيح. «خذها — اذهب أنت. خذ شاحنة.»

أبعد دينو المفاتيح: «لا أعرف القيادة.»

«انتظرْ إذن — سأفرغ بعد وقت قصير.»

كان دينو ينظر من بلكونة مكتب العزبة وإلونجو يخطب في المجتمعين. بدا أن اللقاء سيستمر إلى الأبد: تفرق الحشد في الظهيرة. بعد قليل أدار إلونجو شاحنة وانطلق في اتجاه سُنْجِي بتاني.

مرَّا سريعًا بحشد آخر. انتهت الغارات الجوية قبل بضع ساعات، لكن الناس يتدفقون إلى الطريق، مبتعدين عن البلدة. يسير عدد كبير منهم على الأقدام؛ أخذت عدة عائلات ممتلكاتها معلقة على الأكتاف، مربوطة بالملاءات؛ ولد يدفع دراجة عليها راديو هائل مربوط في حامل؛ رجلان يدفعان امرأة عجوزًا بينهما في تروللي مؤقت. الطرق قرب البلدة مثقلة بسيارات تطلق الأبواق. بدأ إلونجو، وهو يجلس متوقفًا في الشاحنة، يطرح أسئلة وهو يميل من نافذة الشاحنة: عرف أن الغارة الجوية فاجأت البلدة؛ لم يكن هناك إنذار أو تحذير. اختار الجميع التوجه إلى الريف لانتظار انتهاء المشكلة.

ركنا الشاحنة خلف محل ومشيا إلى داخل البلدة. راجعا كل مكان تصورا أن أليسون قد تذهب إليه — كانت البنوك خاوية ومعظم المحلات مغلقة. وقد ذهب مصفف شعر أليسون.

«أين يمكن أن تكون؟»

«ستكون بخير — لا تنزعج.»

في طريق العودة إلى العزبة، أخذا طريقًا قادهما قرب محيط مهبط الطائرات. امتلأت ساحة المطار بأكوام معدنية ينبعث منها الدخان، لكن المدارج لم تمس. مرَّا بهنديٍّ — ناظرٍ أخبرهما بأن هناك شائعة بأن القنابل اليابانية انطلقت بمساعدة جاسوس، خائن من القوات البريطانية.

سأل دينو بقلق: «هندي؟»

«لا — إنجليزي. رأيناه يُقتاد مقبوضًا عليه.

صُدِم دينو وشعر بارتياح في الوقت نفسه.

لم يذكر دينو أنه كان يخطط للمغادرة إلى بننج إلا حين عادا إلى منزل إلونجو. قرر تأجيل الرحيل؛ لم يكن يستطيع الرحيل بدون التأكد من سلامة أليسون. ذهب إلى مُرْنِنْجْسايد وجلس ينتظر.

جاءت سيارة أليسون إلى الطريق وقت الغروب تقريبًا، ودينو ينتظر بالباب. كان لارتياحه لرؤيتها سليمة تأثير خلصه من كل قلق اليوم. صاح وهي تخرج من الرودستر: «أليسون … في أي جحيم كنت؟ غبتِ طوال هذا اليوم اللعين …»

باغتتْه: «وماذا عنك؟ أين كنت الليلة الماضية؟»

قال بتحدٍّ: «في منزل إلونجو. كنتُ سأغادر … إلى رنجون.»

ضحكتْ ضحكة واهية قاسية: «حظ سعيد، إذن. لنرَ إلى أين تذهب.»

«ماذا تقصدين؟»

«كنتُ في بترورث هذا الصباح. هناك فوضى على الطرق. لا أظنُّ أنك ستذهب بعيدًا جدًّا.»

«بترورث؟ ماذا كنت تفعلين في بترورث؟»

رفعتْ حاجبًا وقالت بصوت بارد: «شيء لا يخصك.» تركتْه وصعدت السلم إلى غرفة نومها.

وقف دينو يستشيط غضبًا في الرواق بضع دقائق ثم تبعها على السلم. طرق الباب، وصوته مفعم بالندم: «أليسون … آسف … كنتُ قلقًا عليك فقط.»

فتحت الباب، مرتدية سِلِبًا أبيض من الساتان، وقبل أن يضيف كلمة أخرى، ألقتْ بذراعيها حوله: «أوه، دينو.»

«أليسون … كنتُ مروَّعًا … غبْتِ طوال اليوم، مع القصف …»

«ما كان يجب أن تنزعج، كنتُ بخير — بعيدًا عن القنابل. كانوا يقصفون الميناء وكنتُ في الناحية الأخرى من البلدة.»

«لكن لماذا ذهبت إلى هناك على أية حال …؟ بطول الطريق إلى بترورث؟ من أجل ماذا؟»

أخذتْ وجهه بين يديها وقبَّلتْه، ثم قالت: «أخبرك فيما بعد. دعنا لا نتكلم عن ذلك الآن. لنسعدْ بوجودنا معًا وبأننا بخير.»

٣٣

مضت عدة ساعات ولم تتلق الجات ١/١ كلمة من مركز القيادة الفرعي. بعد هبوط الليل مباشرة، وصلتْ قافلة من الشاحنات لنقلهم إلى موقع آخر. كان يمكنهم القول إنهم يسافرون شمالا، لكن الجو كان شديد الظلمة ولا يرون شيئًا من الريف.

في الفجر اكتشف أرجون أنهم عسكروا في مزرعة مطاط. على بعد بضع مئات من الياردات بدا أن الأشجار الخضراء تتجمد في جدار دائري منزوع اللحاء. وأنه لا يوجد ضوء مباشر أو ظلال بين مظلة الأوراق الخضراء فوق وبساط الأوراق تحت الأقدام. وأن الصوت ينتقل متسكعًا بدون الكشف عن نقطة انبعاثه. بدا وكأنه استيقظ ليجد نفسه في متاهة هائلة بُطِّنت أرضيتها وسقفها بحشو من القطن.

في كلمة الصباح عرفوا أن الكتيبة تعسكر قرب منطقة جيترا،٥ قريبًا جدًّا من أقصى الطرف الشمالي لولايات الملايو الفيدرالية. حيث تضيق شبه الجزيرة إلى عنق رفيع، مشكلة جسرًا بين الملايو وسيام: أي جيش يتقدم من الشمال ينحشر في هذا الممر الضيق بحيث يمكن التضييق على أي تقدم باتجاه الجنوب على أفضل وجه. تمركزت الجات ١/١، مع عدة كتائب أخرى بطول الطريق السريع بين الشمال والجنوب. كان من المتوقع أن يتقدم اليابانيون بطول هذا الطريق. وهكذا دفعت الصدفة الجات ١/١ إلى الخط الدفاعي الأول.
كان أرجون قائد السرية ج في الكتيبة؛ تعسكر على بعد بضع مئات من الياردات إلى اليسار من الطريق السريع بين الشمال والجنوب. وكان هاردي مع السرية د، على الجانب البعيد من الطريق. وكان يحيط بهم فوج ليسترشاير٦ من ناحية والبنجاب الرابع عشر من الناحية الأخرى.

كانت المهمة الأولى حفر خنادق، وأثبتت التضاريس، مرة أخرى، أنها مراوغة. كان الحفر في التربة الطينية الناعمة سهلًا لكن كان رفع دعامات عليها صعبًا. تسربت المياه الجوفية في أعماق غير متوقعة. بدأت الأجهزة اللاسلكية تعمل بشكل سيئ ونسبت المشكلة للبيئة: تبين أن الأشجار تعوق استقبال موجات الراديو. ولم يكن من الممكن الاعتماد على الرُّسُل: كانوا يضلون طريقهم نتيجة الارتباك في المتاهة الهندسية للمزرعة.

ثم ظهرت الأمطار. نقَّطتْ باستمرار مما عزز الانطباع بأنهم محاصرون في قفص مبطَّن. رأى الجنود، وهم يتطلعون إلى أعلى، المطر يتدفق من السماء. وحين تصلهم المياه، تتباطأ الزخات إلى رذاذ مستمر. استمرَّ التنقيط فترة طويلة بعد توقف المطر. نظروا إلى أعلى فرأوا السماوات صافية؛ إلا أن المطر تحت، حيث يوجدون، لا يزال يتساقط، استمرَّ بشكل مزعج. كأن مظلة الأوراق فراش مبلول، يفرغ ما فيه من ماء ببطء.

مع تحول التربة إلى وحل، بدأت السيارات الجيب واللوري تنزلق بشكل لا يمكن السيطرة عليه. تبين أن المركبات مزودة بإطارات للسير على الرمال، لتستخدم في صحاري شمال أفريقيا. صدرتْ أوامر بمنعها من دخول المزرعة: كان يجب حمل الإمدادات سيرًا على الأقدام.

بعد ظهيرة اليوم الثاني، جاء هاردي يجري ووقع في خندق. عرف أرجون من وجهه إنه محمَّل بأخبار.

«ماذا حدث؟»

«سمعت شائعة للتو.»

«ماذا؟»

«حدثت مشكلة في حيدر أباد الأولى في كوتا بهارو.»

«أية مشكلة؟»

«بعد الهجوم الأول لليابان حدث هلع في مهبط الطائرات. كان الطيارون استراليين وقد تركوا المكان بسرعة. وأراد ضباط الصف الخروج أيضًا فلم يسمح لهم القائد. تمرَّدوا، وأطلقوا النيران على ضابطين. جُرِّدوا من أسلحتهم وتم توقيفهم. سيُرسَلون إلى بننج كقوة عمل.»

تفحص أرجون خندقه وهو يتطلع بقلق في وجوه رجاله: «الأفضل أن تحتفظ بذلك لنفسك، هاردي.»

«فكرت فقط في أن أطلعك على الأمر.»

كانت قيادة الكتيبة في أعماق المزرعة، خلف سرية أرجون بكثير. في وقت متأخر من اليوم الثاني، ركَّبَ مهندسو الإشارة خط تليفون. وكانت المكالمة الأولى من الكابتن بيرسون.

«اتصال؟»

قال أرجون: «لا شيء بعد.» انتهى اليوم بصورة لا يتخيلها عقل تقريبًا، تعمق الحزن ببطء في الظلام المنقط الرطب. في اللحظة ذاتها، اخترق الجدارَ الذي أمامهم وميض أحمر.

قال الهفيلدار:٧ «قناص! تحت، صاحب، تحت.» تطلع إلى الأمام في المياه الواصلة إلى الكاحل في قاع الخندق. كانت هناك طلقة أخرى ثم أخرى. تلمس أرجون طريقه إلى التليفون فوجد الخطَّ ميتًا.

انتشر وميض نيران البنادق في الظلام المحيط. انطلقت الطلقات على فترات غير منتظمة، بينها ضرب باهت لمدافع الهاون ورذاذ ضوء البنادق الآلية. إلى اليمين، من الاتجاه الذي يتمركز فيه هاردي، جاء صوت مدفع برِنْ. وقد جلب لحظة ارتياح فقط، لأن أرجون لاحظ فجأة، بإحساس غامض غريب في بطنه، أن البرن يطلق النار من مسافة بعيدة جدًّا: كأن الرجال أصابهم هلع شديد منعهم من تذكر الاندفاعات المنظمة التي حاول هاردي غرسها فيهم أثناء التدريب على السلاح.

ظهر أن قنَّاصي الأعداء يتحركون متمركزين بحرية حول موقعهم. بمرور الوقت بدا الخندق مصيدةً لا ملاذًا: تنعدم تمامًا القدرة الدفاعية حين يحاصرك خصم متحرك وأنت في موضع ثابت. حين ردَّوا على النيران، بدا أنهم يطلقون عشوائيًّا، كأن حيوانًا مقيَّدًا يلف في نهاية مقوده، ناهشًا في طاغية غير مرئي.

استمرَّ تنقيط الأشجار بلا توقف في الليل. رأوا بعد الفجر مباشرة طائرة استطلاع يابانية تحلق فوق الرءوس. بعد نصف ساعة طارت طائرة أخرى على ارتفاع منخفض فوق خطوطهم. تركت وراءها كمية أوراق تطايرت ببطء من السماء، مثل سرب كبير من الفراشات. استقرَّ معظم هذه الأوراق على قمم الأشجار، لكن بعضها تساقط على الأرض. أمسك كيشان سنجه ببعضها، قدَّم واحدة لأرجون واحتفظ باثنتين له.

رأى أرجون أنه منشور، مكتوب بالهندوستانية ومطبوع بالحروف الدفانجارية٨ والحروف العربية. كان التماسًا موجهًا للجنود الهنود بتوقيع أمريك سنجه٩ من جمعية الاستقلال الهندية. بدأ النص: إخواني، اسألوا أنفسكم من أجل ماذا تقاتلون ولماذا أنتم هنا: هل تريدون حقًّا التضحية بحياتكم من أجل إمبراطورية استعبدت بلادكم مائتي سنة؟

سمع أرجون كيشان سنجه يقرأ المنشور بصوت عال للآخرين فاندفع الدم في رأسه. صاح: «أعطِني ما معك.» كوم المنشورات ودفنها تحت كعبه في الطين. قال بحدة: «كل من يوجد معه منشور سيحال إلى مجلس عسكري.»

بعد دقائق وبانفجار عنيف يشبه حائط صوت يتحرك، فتحت المدفعية اليابانية الثقيلة نيرانها. تساقطت القذائف الأولى على قمم الأشجار، وأسقطتْ وابلًا من الأوراق والغصون الصغيرة. وبعد ذلك تحركت الانفجارات، ببطء، في اتجاههم. ارتجت الأرض بقوة فاندفعت المياه إلى قاع الخندق وتناثرتْ على وجوههم. رأى أرجون شجرة مطاط ارتفاعها خمسون قدمًا ترتفع برشاقة من الأرض وتقفز عدة أقدام في الهواء قبل أن تتشقلب باتجاههم. انبطحوا في قاع الخندق في الوقت المناسب لابتعاد عن طريقها.

استمر القصف ساعات بدون توقف.

•••

كانت منجو مستغرقة في نوم عميق حين هزَّها نيل ليوقظها. تقلبت في ذهول. بدا كأن أسابيع انقضت على آخر مرة رأت فيها النوم. كانت جايا تعاني من مغص وكثيرًا ما تصرخ لساعات. ولم يكن شيء يوقفها حين تبدأ. حتى أن ماء وودورد للمغص١٠ كان تأثيره ضئيلا: كانت ملعقة كبيرة تجعلها تروح في غفوة خفيفة، وبعد ساعة أو اثنتين تستيقظ مرة أخرى، وتصرخ أشدَّ مما كانت.

نظرت منجو إلى سرير جايا ورأتها لا تزال نائمة. دعكتْ عينيها وابتعدتْ عن نيل. لم تستطع إخفاء انزعاجها من إقلاقه لها. قالت: «ما هذا؟ لماذا أيقظتني؟»

«اعتقدْتُ أنه يجب أن تعرفي …»

«ماذا؟»

«دخل اليابانيون الحرب.»

«أوه؟» لم تفهم ماذا يمكن أن تفعل باستيقاظها.

«غزوا الملايو.»

تبيَّنَ كل شيء فجأة. نهضتْ: «الملايو؟ أرجون؟ دينو؟ هل هناك أخبار؟»

هزَّ نيل رأسه: «لا. لا شيء بشكل مباشر. لكن الراديو قال شيئًا عن اشتراك الفرقة الحادية عشرة. أليست فرقة أرجون؟»

تلقتْ خطابًا من أرجون منذ أسبوع فقط. لم يتكلم كثيرًا عن نفسه — فقط إنه بخير ويفكر فيها. في معظم الخطاب، سأل عن جايا وعن صحتها. ذكر أيضًا أنه التقى بدينو وأنه بخير — وسعدتْ دُلِّي بسماع ذلك.

سأل نيل: «ألا زال خطاب أرجون معك؟»

«نعم.» قفزتْ منجو من السرير وذهبت لإحضار الخطاب.

قال نيل: «هل يقول الخطاب شيئًا عن فرقته؟»

قفز الرقم ١١ إليها فورًا من ثنايا الصفحة؟ قالت: «نعم. إنها فرقته.» نظرت إلى زوجها وعيناها مليئتان بالدموع.

وضع نيل ذراعه حول كتفيها وضمَّها بقوة. قال: «لا سبب يدعو للقلق. بقدر ما يمكن أن أستنتج، مركز قيادة الفرقة الحادية عشرة قريب جدًّا من مُرْنِنْجْسايد. سوف يخبرنا دينو بما يحدث.»

ثم استيقظت الطفلة. حينذاك، للمرة الأولى، امتنت منجو بمشاكسة جايا. لم يترك لها صراخها الذي لا يتوقف وقتًا للتفكير في شيء آخر.

في مساء ذلك اليوم زارهم عضو بارز في الجالية الهندية في رنجون — محام اسمه صاحب زادا بدر الدين خان. وتصادف أن الأسرة كلها كانت في البيت عند وصول الزائر.

كان مستر خان قلقًا وجاء يطلعهم على بعض الأخبار. حضر لقاء لعدد من أبرز هنود المدينة. قرروا تشكيل لجنة لإخلاء اللاجئين. ساد شعور بأنه في حالة تقدم اليابانيين إلى بورما سيكون السكان الهنود عرضة للهجوم من الجبهتين — سيكونون عزلًا أمام القطاعات المعادية من الشعب البورمي بالإضافة، وهو الأفظع، كرعايا للإمبراطورية البريطانية، سيعاملهم اليابانيون كغرباء أعداء. وقد عبر عدد كبير من أعضاء الجالية عن مخاوفهم من كارثة وشيكة: كان هدف اللجنة إخراج أكبر عدد ممكن من الهنود من بورما.

ذهل رَجْكومار حين عرف بهذه الإجراءات. كان في حالة مزاجية متفائلة رغم الأخبار الجديدة. اكتشف للتو أن أحد أصدقائه أبرم عقدًا لمد طريق طويل يربط بورما بالصين. كان يثق تمامًا من قدرته على بيع مخزونه من الخشب بالسعر الذي يأمل فيه.

تدخل رَجْكومار بضحكة غير مصدِّق: «ماذا؟ تقصد أنكم ستهربون من بورما — لأن اليابانيين غزوا الملايو؟»

«حسنًا، نعم. يشعر الناس …»

خبط رَجْكومار صديقه على ظهره: «هراء، خان. لا تساير مروجي الشائعات. الملايو بعيدة جدًّا عن هنا.»

قال مستر خان: «ومع ذلك، لا عيب في أن نستعد — خاصة حين يكون هناك نساء وأطفال …»

هزَّ رَجْكومار كتفيه. «حسنًا، خان، افعل ما تراه الأفضل. لكني أعتقد أنها فرصة كبيرة …»

رفع مستر خان حاجبه: «فرصة! كيف ذلك؟»

«لا لغز في ذلك، خان. وأمريكا في الحرب، سيكون هناك مزيد من الأموال للاستعدادات الدفاعية. بورما أساسية لبقاء الحكومة الصينية في شُنْجكنج: سيكون الطريق بين الشمال والجنوب خط الإمداد الرئيسي لهم. أراهن أن الطريق سيبني بأسرع مما توقع أي شخص.»

«وإذا حدث هجوم؟»

هزَّ رَجْكومار كتفيه. «مسألة مستحيلة، خان. أفهم سبب رغبتك في الرحيل. لكن بالنسبة لنا الوقت مبكر جدًّا. قضيتُ وقتا طويلًا وأنا أعدُّ لهذا ولن أرحل الآن.»

طمأنتْ كلمات رَجْكومار منجو إلى حد بعيد. شعرتْ بارتياح شديد حين عرفتْ أنها لن ترحل إلى أي مكان. كان التغلب على صراخ جايا صعبًا بما فيه الكفاية في البيت؛ لم تتخيل ما قد يكون عليه الوضع في ظروف أسوأ.

•••

في الصباح، أحضر عدَّاء رسالة إلى خندق أرجون، من مركز قيادة الكتيبة: كان عليهم التراجع إلى خط أسون١١ — شريط من حصون دفاعية بطول نهر، بضعة أميال على الطريق. حين أصدر أرجون الأمر بالتحرك، حدث ترحيب صامت. شعر في نفسه أنه يشاركهم — أي شيء أفضل من البقاء محصورين في ذلك الخندق.

أخذوا طريقهم خلال المزرعة في نظام جيد، وحين وصلوا إلى الطريق تبين أن الانسحاب تحول بسرعة إلى تراجع متهور. ظهرت على الرجال علامات قلق والشاحنة خلف الشاحنة تمر بهم، مكتظة بقوات من وحدات أخرى. ظل أرجون معهم مسافة طويلة ليراهم في شاحنة ثم قفز في سيارة جيب مع هاردي.

قال هاردي بصوت منخفض: «يار، هل سمعْتَ؟»

«ماذا؟»

«أغرق اليابانيون أمير ويلز وريبلس.»١٢

نظر إليه أرجون غير مصدق. كانتا اثنتين من أقوى السفن الحربية التي صُنِعتْ، فخر الأسطول البريطاني: «مستحيل. لا يمكن أن يكون ذلك صحيحًا.»

«صحيح — جريت إلى كومار؛ أخبرني.» أضاءت ابتسامة بهجة وجهه فجأة. «لا يمكن أن أنتظر لأخبر بيرسون: أريد أن أرى النظرة على وجه اللقيط …»

صاح أرجون: «هاردي، هل جننْتَ؟»

«لماذا؟»

«هل نسيْتَ أن السفينتين كانتا هنا للدفاع عنا؟ نحن جميعًا في خندق واحد، هاردي. الطلقة اليابانية لا تفرق بينك وبين بيرسون …»

نظر إليه هاردي في هلع، وللحظة نظر كل منهما للآخر بذهول متبادل. قال هاردي: «أنت مصيب، بالطبع. لكن تعرف …»

قال أرجون بسرعة: «لنكف عن الحديث في هذا الموضوع.»

حين وصلوا إلى نهر أسون، سكتت المدفعية اليابانية بشكل غير قابل للتعليل. ممتنين للمهلة، أخذت الجات ١/١ مواقعها بجوار الطريق، وظهورهم للنهر. هناك كان الطريق السريع بين الشمال والجنوب يجري بطول جسر، حيث تمتد أعمدة سميكة من المطاط على الجانبين على امتداد البصر. تركزت الكتيبة كلها في مكان واحد، للدفاع عن الأماكن القريبة من النهر. واصطفت مركباتهم بعيدًا عن الطريق، بطول منحدرات الجسر.

رأى أرجون هاردي يخرج إلى الطريق فذهب لينضم إليه. وكان المقدم بكلاند على بعض خطوات قليلة، عند مركز مؤقت لقيادة الكتيبة. كان مع الكابتن بيرسون، يتفحص خريطة.

توقف أرجون في منتصف الطريق للتشاور مع هاردي. قال: «لماذا توقفوا، في رأيك، عن القصف؟»

قال هاردي: «يبدو أنهم يتراجعون أحيانًا. تَصعُب معرفة السبب.»

«ألا تعتقد أن السبب يرجع إلى أن دروعهم تتحرك، أليس كذلك؟»

سخر هاردي من هذا الكلام: «أية دروع؟ لا أحد منا لديه دبابات — سواء هم أو نحن. ليست هذه بلاد دبابات.»

«هذا ما قيل لنا. لكن …» في مكان ما بعيد دوي صوت. التفَّا على الكعوب لينظرا إلى الطريق. كان وقت الغروب تقريبًا. انقشعت السحب لحظة وصارت السماء قرمزية صافية. كان الطريق السريع يجري مستقيمًا مسافة مائتي ياردة قبل أن يختفي حول منعطف: ارتفعتْ أشجار المطاط على جانبيه، ملتقية تقريبًا عند القمة لتشكل قوسًا. الطريق خالٍ: لم يكن أمامهما شيء.

تنهد هاردي ارتياحًا. رفع كمه إلى جبهته: «أفزعني ذلك … قلتُ لك — هذه ليست بلاد دبابات: علينا أن نكون متأكدين من ذلك، حمدًا للرب.»

بعد لحظة استدارت دبابة في ركن، بصوت هائل لخطواتها المعدنية. على قمة برج الدبابة، المرتفعة في السماء، ظهر رأس مدفعي بخوذة. كان برج الدبابة يدور على محور في اتجاههما حتى صارت فوهته عينًا واحدة مستديرة. ثم ارتجت الدبابة وتحولت عينها الغائرة إلى اللون الأحمر المتوهج. في قاع الجسر، انفجر خزان بترول وقفزت شاحنة حمولة نصف طن قليلًا وانفجرت مشتعلة.

تسمر أرجون مكانه لحظة. لا شيء في تدريبه أعده لهذا. دفعه تذكر مبهم لمهام غير منجزة إلى أن يستدير ويجري في الطريق عائدًا إلى سريته، ليحثهم على نصب حائط النيران الذي تحدث عنه القائد في التعليمات الأخيرة. لكن القائد قال صراحة لن تكون هناك دبابات — وعلى أية حال، رحل القائد، نزل إلى جانب الجسر مع الكابتن بيرسون. على جانبَي الطريق السريع، تناثر الرجال في المزرعة، يجرون بحثًا عن غطاء.

جاء صوت هاردي، وقد دفعه إلى اليقظة: «اجرِ أرجون! «اجرِ، اجرِ.»

اندفع وسط الطريق مثل أيل مروَّع، وأول دبابة فوقه تقريبًا، كانت قريبة حتى أنه استطاع رؤية عيني الرجل الذي في البرج، محجوبتين بعدستين شمسيتين سميكتين. قفز، ملقيًا بنفسه على جانب الجسر، واندفع إلى جانب الطريق ليرى بوضوح جيب القائد تحترق. ثم حشد طاقته وجرى إلى الأشجار: فجأة كان داخل نفق من النباتات الخضراء، وقدماه مدثرتان ببساط من الأوراق المتساقطة.

تلاشى وضوح الرؤية الذي تملكه مؤقتًا وهو يقف في منتصف الطريق. حلَّ مكانه إلحاح أعمى لا يميز. من المحتمل تمامًا أنه يتجه مباشرة إلى شبكة من البنادق اليابانية. لكن حتى لو عرف أن الأمر بهذا الشكل، ما كان ليتوقف. كأن نفَسه ودمه انصهرا معًا ليقرعا دماغه بانسجام، يلحان عليه، ويدفعانه للجري في هذا الاتجاه.

جرى عدة ياردات بدون توقف. ثم، مستندًا على جذع شجرة، التفتَ لاهثًا ينظر خلفه: كانت الأشجار ساقطة في خط رؤية في نهايته امتداد صغير لطريق واضح، مطوق بإطار مستدير، كأنه ينظر في تليسكوب. رأى دبابة وراء دبابة تندفع في الطريق السريع. بجوار جانبَي الجسر كانت مركبات الجات ١/١، انقلب بعضها واشتعلت النيران في بعضها.

كان فهم المشهد مستحيلًا. لم يعثر على وسيلة لتفسير ما حدث، ولو لنفسه. هل هذا المقصود بتعبير «دحره» — هذه الفوضى من الخوف والإلحاح والعار؛ هذا الإحساس المضطرب بالانهيار في رأس المرء، كأن روافع الاستجابات التي غرستْها سنوات التدريب التوتْ وسقطتْ؟

انتابتْ أرجون رؤية مؤلمة لمركز قيادة كتيبتهم في سهارنبور: تذكر البناية التي يسمونها «الحضانة» — البنجلو الطويل المنخفض الذي يضم ميس الضباط. فكر في اللوحات الثقيلة ذات الأطر المذهَّبة المعلقة على الجدران، مع الرءوس الممتطية لجاموس وبقر وحشي؛ الرماح والسيوف والحراب المريشة التي عاد بها أسلافه كغنائم من أفريقيا، وبلاد ما بين النهرين وبورما. تعلم أن يعتبره بيتًا ويعتبر الكتيبة عائلة ممتدة — عشيرة تربط ألف رجل معًا في هرم من الفصائل والسرايا. كيف ينهار هذا المبنى الذي بني منذ قرون مثل قشرة بيضة مع أول ضربة حادة — وفي ساحات معارك غير مألوفة، غابة زرعها رجال الأعمال؟ هل الغلطة غلطته؟ هل صحيح، إذن، ما قاله الرجال الإنجليز الأقدم: إن الهنود سيدمرون الجيش إذا صاروا ضباطًا؟ كوحدة مقاتلة لم تعد الجات ١/١ موجودة: كان ذلك على الأقل لا يعتريه شك. على كل رجل من الكتيبة أن يحافظ على نفسه.

ترك حقيبته في الجيب، على النهر: لم يخطر بباله أنه سيجري إنقاذًا لحياته بعد دقائق من النزول منها. كل ما كان معه ويبلي١٣ عيار ٠٫٤٥ وزجاجة الماء وحزام به حقيبة صغيرة فيها بعض النثريات.

تلفت حوله. أين هاردي؟ أين القائد والكابتن بيرسون؟ لمحهم قبل ذلك، وهو يجري إلى المزرعة. لكن في الظلمة المتراكمة لم يعرف ما يقع أمامه.

من المؤكد أن المشاة اليابانيين ينظفون خلف دباباتهم، يمشطون المزارع. من المحتمل أن يكون مراقَبًا حتى وهو يقف هناك، من خلال واحد من مئات خطوط الرؤية التي تتلاقى بدقة في البقعة التي يقف فيها.

ماذا يفعل؟

٣٤

كان الذهاب إلى جننج جراي فكرة أليسون. تركت هي ودينو المنزل قبل الغروب بكثير في الدايتونا، وأخذا الطريق الذي يلتف حول الجبل. بدت الكَمْبُنْج مهجورة، أدى الهلع في النهار إلى هدوء مذهل. لم يكن في الأسواق أناس على مدى البصر. انطلقتْ أليسون بسرعة كبيرة.

قضيا وقتًا طيبًا واستدارا على طريق القمة ولا يزال هناك كثير من الضوء. حين بدآ الصعود، ارتفع صوت السيارة إلى عواء حاد مستمر. ظهر الشفق على المنحدرات نتيجة الغطاء الكثيف من الأشجار. وكان على أليسون إضاءة المصابيح الأمامية.

كانت الملفات على الطريق حادة جدًّا. وصلا إلى منعطف يلتف للخلف حول نفسه، مرتفعًا إلى أعلى بزاوية حادة. وقفت أليسون وناورت بالسيارة لتجتاز الملف. وهما يخرجان من الركن، تطلعا إلى أعلى في الوقت ذاته. بدا أن السماء فوق الأفق الشمالي أظلمت ببقعة — سحابة من ضربات فرشاة صغيرة أفقية. توقفت أليسون تمامًا، وحدَّقا — مضت عدة دقائق قبل أن يدركا أنهما يريان سرب طائرات تتجه إليهما مباشرة، من الشمال. كانا يواجهان مركبة هوائية مباشرة وبدت الطائرات ثابتة في الصورة، ولا يدل على تقدمها إلا سُمْك أشكالها الذي يتزايد تدريجيا.

أدارتْ أليسون السيارة مرة أخرى، وسارا بسرعة في الطريق. لاح النزل أمامهما في الظلام المتراكم. كان خاويًا، مهجورًا. ركنا السيارة تحت الرواق وصعدا إلى الفراندة التي تلتف حول البناية. كانت الطاولات موضوعة بطولها، مغطاة بمفارش بيضاء، ومثقلة بطفايات سجائر. وكانت الأطباق موضوعة في الخارج كأن هناك توقعًا لحشد قادم للعشاء.

شعرا بأزيز قاذفات القنابل المقتربة تحت أقدامهما، في الألواح المهتزة في الأرضية الخشبية. كانت الطائرات قريبة جدًّا، تطير على ارتفاع منخفض. وهما يشاهدان، انقسم السرب فجأة إلى اثنين، افترقا حول الجبل مثل جدول يتدفق بجوار صخرة. انحرف سرب، هابطًا بحدة، باتجاه منحدر الجبل المواجه للبحر في ممر طيران أعد لبترورث وبننج. واتجه السرب الآخر إلى سُنْجِي بتاني، على الجانب المواجه للأرض.

مدَّتْ أليسون يدها إلى يد دينو وبدآ يتمشيان في البلكونة، شاقين طريقهما بين طاولات الطعام. كانت مفارش الطاولات ترفرف في النسيم والأطباق مغطاة بطبقة رقيقة من الغبار.

في ذلك اليوم لم تكن هناك سحب. بعيدًا تحت، في الشفق المعتم، بدت جزيرة بننج مثل سرب من الأسماك يطفو على البحر؛ إلى الجنوب الشرقي تقع سُنْجِي بتاني، رمث صغير للسكن، ملقى في محيط من أشجار المطاط. كانا يريان الطرق وخطوط السكك الحديد، تبرق في الشعاع الأخير من ضوء النهار. بدا المشهد الطبيعي خريطة منشورة للعيان تحت الأقدام.

هبطت الطائرات استعدادًا لإلقاء القنابل. كانت سُنْجِي بتاني أقرب الأهداف وأول ما ضرب. اشتعلت الانفجارات في المشهد الطبيعي المظلم، متقاربة جدًّا في خطوط مستقيمة مثل صفوف من غرز تلمع في قماش عليه حبر.

سارا حول الفراندة، تطلعا إلى مفارش الطاولات ومرَّرَا الأصابع على الأطباق المغطاة بطبقة من الغبار. شاهدا سحابة أخرى من الطائرات تقترب؛ على الجانب المواجه للبحر، كانت قاذفات القنابل تغوص فوق ميناء حصن بترورث. فجأة انطلق برج هائل من اللهب من الشاطئ، ارتفع مئات الأقدام في السماء؛ كان الانفجار الذي تلاه قويًّا وقد هزَّ كل أطراف الجبل.

ارتمتْ أليسون على دينو: «أوه ربي! ضربوا خزانات الزيت في بترورث.»

دفنت وجهها في صدر دينو، تشبثتْ بقميصه، مكومة القماش في قبضتيها: «سرْتُ بجوارها، منذ أيام فقط.»

ضمَّها دينو بقوة. «أليسون، لم تخبريني بعد عن سبب غيابك …»

مسحتْ وجهها في قميصه وابتعدتْ عنه: «أعطني سيجارة.»

أشعل دينو سيجارة ووضعها بين شفتيها. «حسنًا؟»

«ذهبْتُ إلى طبيب، دينو — طبيب لا يعرفني.»

«لماذا؟»

«اعتقدتُ أني قد أكون حاملا.»

«و؟»

«لستُ حاملا.»

قال دينو بهدوء: «وماذا إذا كنت حاملا، أليسون. هل كنت تريدين أن يكون الطفل ابن أرجون؟»

«لا.» ألقتْ بذراعيها حوله، وشعر بها تنتحب في قميصه.

«دينو، آسفة. آسفة جدًّا، جدًّا.»

«على ماذا؟»

«على كل شيء، دينو. على الذهاب بعيدًا في ذلك اليوم — مع أرجون. كان خطأ — خطأ فظيعًا، فظيعًا. لو عرفْتَ فقط، دينو …»

أسكتْها بوضع إصبعه على شفتيها: «لا أريد أن أعرف … مهما يكن ما حدث … لا أريد أن أعرف. تلك أفضل طريقة … لنا. لسنا في حاجة للحديث عن أرجون مرة أخرى.»

أوقفه وميض ضوء انفجار أضاء كل بلدة سُنْجِي بتاني. سلسلة انفجارات أقل يتبع كل منها الآخر، مثل سلسلة ألعاب نارية.

قالت أليسون: «مستودع الأسلحة». نزلتْ برأسها إلى ركبتيها وحشرته في فجوة بين أعمدة الفراندة، وأمسكت الأعمدة الخشبية بقبضتيها: «لا بدَّ أنهم ضربوا مستودع الأسلحة.»

ركع دينو بجوارها. قال بإلحاح وهو يمسك بكتفيها: «أليسون، مؤكد … عليك أن تبعدي. مع دخول اليابان وأمريكا الحرب، أنت في خطر هنا. أمك أمريكية … وأخوك ما زال يعيش هناك … لا يمكن التنبؤ بما يحدث لو قرر اليابانيون مواصلة التقدم. عليك أن تبعدي.»

«لكن إلى أين؟»

«إلى سنغافورة؛ ستكونين في مأمن هناك. محصنة جيدًا. ونحن هنا قريبون جدًّا من الحدود … وعليك أن تأخذي جدك معك. عليك أن ترحلي.»

هزتْ رأسها بعنف: «لا أريد. لا أريد أن أذهب.»

«أليسون، لا يمكن أن تفكري في نفسك فقط.»

«أنت لا تفهم، دينو — أنا حيوان إقليمي. أفضِّل الحصول على القليل ولا أتخلى عما هو لي.»

قبض دينو على يديها وهزَّهما: «أليسون، استمعي إليَّ. عليك أن تفعلي ذلك … من أجل جدك، إن لم يكن من أجلك.»

«وماذا عن العزبة؟»

«يديرها إلونجو وأنت بعيدة … ترين … يمكن أن تثقي فيه، تعرفين ذلك.»

«وأنت — ستأتي معنا، بالطبع. أليس كذلك؟»

«أليسون، يجب أن أعود إلى بورما … أسرتي … قد يحتاجون إليَّ الآن.»

«لكن يمكن أن تأتي معنا إلى سنغافورة أولًا؛ ربما تجد سفينة هناك. قد يكون ذلك أسهل.»

توقف دينو ليفكر: «ربما تكونين على حق. نعم … سآتي.»

مدَّتْ يدها إلى يديه: «لا أعتقد أني أحتمل الذهاب بدونك. وخصوصا الآن.»

«لماذا الآن؟»

غرست جبهتها في صدره: «لأني أعتقد أني أحبك، دينو — أو شيئًا من هذا القبيل على أية حال. لم أعرف ذلك من قبل، لكني أعرفه الآن.»

شدَّها إليه أكثر. لم يهتم بما حدث بينها وبين أرجون؛ لا يهم إلا هذا — تحبه ويحبها. لا اعتبار لشيء آخر، سواء الطائرات أو القنابل، لا شيء إلا هذا. هذه هي السعادة — لم يعرفها أبدًا من قبل؛ هذا الذوبان، هذا الشعور، انسكاب أمعائك في رأسك، مالئة عينيك — تحول ذهنك إلى جسمك، غريزة جسمك مع بهجة ذهنك؛ وصل هذا الإحساس بالواقع إلى نهايته.

•••

أظلم الجو بالفعل تحت أشجار المطاط مع أن الغروب يتبقى عليه بضع دقائق. استمع أرجون إلى شكاوى كثيرة من التضاريس في آخر بضعة أيام، لكنه لم يدرك تمامًا إلا حينها الخداع المميز للمنطقة المحيطة به. انتابه إحساس غريب بأنه يسير في صورة ابتُكِرتْ لخداع العين. بدت أنفاق الأوراق من حوله ساكنة وخالية أحيانًا، وبعد لحظات بدت مفعمة بالحركة. مع كل خطوة، بدا أن صورًا وأشكالًا تظهر وتختفي وصفوف الأشجار تسقط في النظام أو تخرج عنه. تُقدِّم كل شجرة مقوسة برشاقة وعدًا بالتغطية، ولا توجد نقطة لا تتقاطع تمامًا مع خط نارٍ.

عرف أرجون أن كثيرًا من الآخرين لاذوا بالمزرعة؛ شعر بوجودهم من حوله أحيانًا. سمع من حين لآخر همساتٍ أو وقعَ أقدامٍ، يتردد صداها في دهاليز طويلة مستقيمة تمتد مبتعدة عنه في كل اتجاه. سمع أحيانًا صوتًا، في مكان ما قريب منه، فاستدار ليجد أنه داس على غصن مختبئ تحت بساط الأوراق الميتة على الأرض. كان من المستحيل التمييز بين شكل وظلال، أو بين حركة وسكون — بدا الواقع والوهم متشابكين تمامًا.

بالضبط والشفق يتحول إلى ظلام، سمع نقرة أمان: «كُونْ هِيْ؟ من أنت؟»

بدا الصوت مألوفًا، لكن أرجون انتظر حتى سمع الهمس مرة أخرى: «كُونْ؟»

في هذه المرة كان متأكِّدًا: «كيشان سنجه؟»

«صاحب.»

خطا أرجون خطوتين إلى اليمين ليجد نفسه وجها لوجه مع المراسلة: «كيف عثرت عليَّ؟» ردَّ على تحية كيشان سنجه برزانة، محاولًا ألا يكشف تمامًا عن مدى إحساسه بالارتياح.

قال كيشان سنجه: «أرسلني بكلاند صاحب.»

«أين هو؟»

«هناك؟»

تبين أن كيشان سنجه هرب إلى المزرعة مع مجموعة أخرى من الكتيبة. نجحوا في البقاء معًا أثناء الاضطراب الذي تلا هجوم الدبابات اليابانية. وفي النهاية التقوا بهاردي كما التقوا بالمقدم بكلاند. وكان الكابتن بيرسون لا يزال مفقودًا. وكانوا ينظرون ليروا إن كان في استطاعتهم الالتقاء بأي شخص آخر.

كان المقدم بكلاند يجلس وظهره يستند على جذع شجرة، وذراعه اليمنى معلقة من عنقه بشكل مرتجل. ردَّ على تحية أرجون بإيماءة وإشارة بسيطة من يده اليسرى.

«سعداء بعودتك إلينا، أيها الضابط.»

سعد أرجون بسماع صوته الساخر مرة أخرى. ابتسم: «وأنا أيضًا سعيد برؤيتك، سير. ماذا أصاب ذراعك؟»

«مجرد كشط — وقد تمت معالجته. لحسن الحظ معنا ممرض.» ابتسم المقدم بكلاند لأرجون ابتسامة جامدة: «اجلس، روي. لا حاجة للالتزام بالمراسيم الآن.»

«شكرًا، سير.» نظَّف أرجون مكانًا لنفسه على بساط الأوراق الميتة.

قال المقدم بكلاند: «ستسعد حين تعرف أن هاردي فعلها أيضًا. أرسلتُه للبحث عن ماء. إنه ناقص تمامًا.»

«حدث الأمر بسرعة كبيرة، سير.»

«نعم، بدون شكٍّ، أليس كذلك؟» تلاشى صوت المقدم بكلاند. وحين تكلم من جديد جاء صوته أجشًّا، خشنًا، تمييزه مستحيل تقريبًا.

قال: «أخبرْني، أيها الضابط، هل تعتقد أني تخاذلت؟»

في نبرته شيء حرك أرجون. قال بحماس: «لا، سير. لم يكن هناك ما يمكن أن تفعله، سير.»

«هناك دائمًا شيء يمكن للمرء أن يفعله.»

«لكن ماذا كان يمكن أن تفعل، سير؟ لم يكن معنا أي دعم جوي. لم نكن نعلم بوجود الدبابات. ليست غلطتنا، سير.»

«إذا كنْتَ في قيادة، فهي غلطتك دائمًا.»

سكتا مرة أخرى لحظة، ثم قال المقدم: «هل تعرف ما كنتُ أفكر فيه، روي؟»

«سير؟»

«الحضانة — في سهارنبور. أتذكر حين شُيِّدتْ. كان أبي القائد في ذلك الوقت، تعرف — والجات١/١ لا يزال اسمها الكتيبة الملكية. سافرنا إلى سيملا١٤ في الصيف وحين عدنا كانت هناك — البناية التي عرفت فيما بعد باسم الحضانة. كانت هناك مراسيم وبُرَّا خان١٥ للرجال. قطعتْ أمي شريطًا. أتذكر كم كنتُ فخورًا برؤية شاراتنا معلقة هناك — ثقوب الفراشة وكل ذلك. وهذا ما جعلني أبدأ في التاريخ العسكري. في العاشرة عرفتُ أبطال معاركنا عن ظهر قلب. يمكن أن أحكي لك كيف حصل جمادر عبد القادر١٦ على صليب فيكتوريا. وأنا في السنة الأخيرة في المدرسة ذهبت الكتيبة الملكية إلى سوم. صادفْتُ عبارة قالها الفيلد مارشال سير جون فرنش١٧ في حديث فقطعتها.»

«ماذا قال، سير؟»

«شيئًا بمعنى «لن تُنسى الجات أبدًا على الجبهة الغربية.»»

«أرى، سير.»

انخفض صوت المقدم إلى همس: «وماذا تعتقد أن يقولوا عما حدث لنا اليوم، روي؟»

ردَّ أرجون بهدوء: «أعتقد أنهم سيقولون إننا فعلنا ما استطعنا في ظل هذه الظروف.»

«سيقولون؟ لا أستطيع التوقف عن التساؤل. كانت واحدة من أفضل الوحدات في واحد من أفضل الجيوش في العالم. لكنا اليوم تبعثرنا بدون أن نرد على النيران. سأعيش وأنا أعرف ذلك بقية حياتي.»

«لا يمكن أن تلوم نفسك، سير.»

«حقًّا؟» هدأ المقدم بكلاند مرة أخرى. في الصمت الذي تلا ذلك أدرك أرجون أنها تمطر وبدأت المظلة تسقط النقط البطيئة الثابتة المعتادة.

«سير.» ظهر هاردي فجأة من بين الظلام، مما أثار دهشتهما. قدم للقائد زجاجة خضراء. «ماء، سير.»

كان صوت المقدم بكلاند عمليًّا مرة أخرى: «حسنًا، إذن. من الأفضل أن تحصلا على بعض الراحة. غدًا نتجه إلى الجنوب الشرقي. يمكن أن نوفق ونعود إلى خطوطنا.»

استمر المطر بدون توقف، كانت الرطوبة تنزل بإصرار ثابت حتى أصيبوا جميعًا بالهلع. صادر هاردي فراشًا ملفوفًا من أحد الرجال، وجلس مع أرجون مستندين على جذع شجرة، جلسا متعامدين، يتطلعان في الظلام. طَنَّ الناموس بدون توقف ولمرة امتنَّ أرجون لِلفافتي ساقيه. لكن لم يكن هناك ما يفعله للرقبة والوجهين غير المحميين. هشَّ الناموس وفكر باشتياق في كريم الناموس الذي تركه خلفه عند نهر أسون، محشورًا في أعماق حقيبته.

أفزع صوت كيشان سنجه أرجون: «صاحب.»

«كيشان سنجه؟»

«صاحب.»

وضع كيشان سنجه شيئًا في يده وانصرف قبل أن ينطق أرجون بكلمة أخرى.

قال هاردي: «ما هذا؟»

رفع أرجون يده إلى أنفه. قال: «أعتقد أنه كريم ناموس. لا بد أنه أعطاني كريمه …»

قال هاردي بأسي: «شوتيا١٨ حقير محظوظ، يسعد مراسلتي وهو يراني أُؤكَل حيًّا قبل أن يتخلى لي عن كريمه. أعطِني بعضًا منه — يا له من فتى طيب.»

كان النوم مستحيلًا: لم يكن هناك إلا الانتظار طوال الليل. كان هاردي يهمهم بصوت منخفض أحيانًا، ويحاول أرجون تخمين ما يقول من النبرة. تحدثا بشكل متقطع بأصوات خرساء، تتناول أحداث الساعات الأخيرة.

بهمس منخفض سأل هاردي: «ماذا كان بَكِي يقول لك هناك؟»

«كنا نتحدث عما حدث …»

«ماذا قال؟»

«كان يلوم نفسه.»

«لكن لم يكن هناك ما يمكن أن يفعله.»

«لا يرى الأمر على هذا النحو. كان غريبًا أن تستمع إليه — أن تسمعه يتكلم عن الأمر بطريقة شخصية، كأنه المسئول. لم أرَ الأمر بتلك الطريقة.»

«حسنًا، كيف يمكن أن تفكر في الأمر؟»

«لماذا لا يمكنني؟»

«بالنسبة لنا لا فرق حقًّا، أليس كذلك؟»

«بالطبع يوجد. إذا لم يحدث ذلك، ما كنا نجلس هنا في المطر.»

«نعم، لكن فكر، يار أرجون — على سبيل المثال، ماذا يمكن أن يحدث لو بقينا في موقعنا على أسون؟ هل تعتقد أن الفضل كان سينسب إلينا — نحن الهنود؟»

«لماذا لا؟»

«فكر في تلك الصحف في سنغافورة — الصحف التي كتبت عن الجنود الشباب الشجعان الذين أتوا للدفاع عن مستعمرتهم. هل تتذكر؟»

«بالطبع.»

«هل تتذكر كيف كان الجنود الشباب الشجعان استراليين أو كنديين أو بريطانيين دائمًا؟»

أومأ أرجون: «نعم.»

«كأننا لم نوجد أبدًا. لهذا لا يهمُّ ما حدث عند أسون — لا يهمنا، بحال من الأحوال. يبقى الأمر على حاله بقينا في موقعنا أو لم نبقَ. يار، أفكر أحيانًا في كل الحروب التي قاتل فيها أبي وجدي — في فرنسا وأفريقيا وبورما. هل قال أحدٌ أبدًا — كسب الهنود هذه الحرب أو تلك؟ الأمر هنا لا يختلف. إذا تحقق نصر فلن ينسب الفضل إلينا. بالمنطق نفسه لا يمكن أن يقع علينا اللوم بسبب الهزيمة.»

قال أرجون: «ربما لا يهم الآخرين، هاردي، لكنه يهمنا.»

«هل يهمنا حقًّا، أرجون؟ سأخبرك بما شعرتُ به وأنا أجري للمزرعة. صراحةً، شعرتُ بارتياح — سعدْتُ لأن الأمر انتهى. والرجال، أراهن أن معظمهم شعر بما شعرتُ به. كأن فزورة وصلت إلى نهايتها.»

«أية فزورة، هاردي؟ لا شيء كان ينم عن وجود هذه الدبابات.»

هشَّ هاردي الناموس الذي يطن حولهما: «تعرف، أرجون، في آخر بضعة أيام، في الخنادق في جيترا — انتابني إحساس مخيف. غريب أن تجلس على جانب واحد من خط النار، وتعرف أن عليك أن تقاتل وتعرف في الوقت ذاته أنه ليس قتالك حقًّا — تعرف أن اللوم لن يقع عليك ولن ينسب الفضل إليك، كسبْتَ أم خسرْتَ. تعرف أنك تخاطر بكل شيء لتدافع عن طريقة حياةٍ تهمِّشُكَ. كأنك تقاتل ضدَّ نفسك تقريبًا. غريب أن تجلس في خندق، تمسك ببندقية وتسأل نفسك: من المستهدف حقًّا بهذا السلاح؟ هل خدعْتُ حتى أوجهه إلى نفسي؟»

«لا يمكن أن أقول إنني شعرت بنفس الإحساس، هاردي.»

«لكن اسأل نفسك، أرجون: ماذا يعني لك ولي أن نكون في هذا الجيش؟ تتحدث دائمًا عن العسكرية باعتبارها مجرد وظيفة. لكن تعرف، يار، ليست مجرد وظيفة — حين تجلس في خندق تدرك أن هناك شيئًا بدائيًّا جدًّا فيما نفعل. في العالم اليومي متى وقفت وقلت — «أنا ذاهب لأخاطر بحياتي من أجل هذا»؟ كإنسان لا يمكن أن تفعل شيئًا إلا إذا كنت تعرف لماذا تفعله. لكن وأنا أجلس في ذلك الخندق، بدا الأمر كأنه لا يوجد اتصال بين قلبي ويدي — بدا كل منهما ينتمي لشخص مختلف. بدا كأني لستُ إنسانًا حقًّا — مجرد أداة، آلة. هذا هو السؤال الذي أطرحه على نفسي، أرجون: كيف أصبح إنسانًا مرة أخرى؟ كيف أربط بين ما أفعل وما أريد، في قلبي؟»

«هاردي — لا خير يرجى من التفكير على هذا النحو …»

سمعا صوت المقدم بكلاند في مكان ما قريب: «كفاية كلام، من فضلكما …»

توقف أرجون.

٣٥

حين جاء العرض، أخيرًا، كان طيبًا، يفوق بكثير أكثر آمال رَجْكومار طموحًا، حتى جعل الرسول يكرره مرتين ليتأكد أنه سمع بشكل صحيح. عند سماع التأكيد، نظر إلى يديه فوجدهما ترتعشان. لم يثق في قدرته على الوقوف على قدميه. ابتسم للرسول وقال شيئًا ما كان يسمح له اعتزازه بنفسه أن يقوله في وقت آخر.

«هل يمكن أن تساعدني على النهوض؟»

مال على ذراع الرسول، وذهب للنافذة المفتوحة في مكتبه ونظر إلى شادر الخشب ليرى إن كان يستطيع أن يلمح نيل. كان الشادر مكدسًا بالخشب الذي جمعه طوال السنة الأخيرة. ووجه ابنه الملتحي شبه مختفٍ خلف كمية ارتفاعها ثمانية أقدام من الألواح المنشورة مؤخَّرًا.

«نيل.» خرج صوت رَجْكومار من صدره مرحًا. صاح مرة أخرى: «نيل.»

لم يكن هناك داعٍ لإخفاء سعادته: إن كان قد مر طوال حياته بلحظة انتصار فهي تلك اللحظة.

«نيل!»

رفع نيل وجهه إلى أبيه في دهشة: «أبي؟»

«اصعد، نيل — هناك أخبار طيبة.»

صارت قدماه أكثر ثباتًا. وهو يقف منتصبًا، ضرب الرسول على ظهره وأعطاه قطعة عملة: «فلوس الشاي …»

«نعم، سير.»

ابتسم الرسول عند ظهور بهجة رَجْكومار. كان كاتبًا شابًّا أرسله إلى رنجون مقاول من أصدقاء رَجْكومار — المقاول الذي يعمل في طريق بورما الصين، في أقصى الشمال. كما تنبأ رَجْكومار، اكتسب بناء الطريق ضرورة استراتيجية جديدة مع دخول أمريكا الحرب. يفترض أن يكون خط الإمداد الرئيسي لحكومة القائد العام شيانج كي شك.١٩ خُصِّصتْ له اعتمادات جديدة وكان العمل يتقدم بسرعة. وجد المقاول نفسه في حاجة لكميات أساسية جدًّا من الخشب — ومن ثم جاء العرض المقدم إلى رَجْكومار.

لم تكن الصفقة بلا عيوب. لم يكن هناك مقدم بقدر ما يريد رَجْكومار، وكان تاريخ الدفع غير مضمون. لكنه وقت حرب، رغم كل شيء، وقد تعلم كل رجال الأعمال في رنجون التأقلم. لم يترددْ رَجْكومار في قبول العرض.

«نيل!»

«أبي؟»

رأى رَجْكومار وجه ابنه عن قرب وهو ينقل إليه الأخبار. وابتهج وهو يرى عيني نيل تسطعان؛ كان يعرف أن نيل لم يسعد فقط نتيجة صفقة تمناها طويلًا ولكن أيضًا لأن ذلك قد يكون إثباتًا لإيمان يشبه إيمان طفل بأبيه. شعر رَجْكومار، وهو يتطلع إلى عيني ابنه الساطعتين، بصوته يخشن. شد نيل إلى صدره وتشبث به، أمسك به بإحكام، وضمه بقوة، حتى لهث ابنه وصرخ بصوت عال. كان بين الاثنين ارتباطٌ خاصٌّ دائمًا، قرب معين. لم تكن هناك عينان أخريان في العالم يمكن أن تنظرا في عيني رَجْكومار بدون تحفظ، بدون حكم، بدون انتقاد — سواء عينا دُلِّي، أو عينا سايا جون، وعينا دينو أقلها جميعًا. لا شيء في هذا الانتصار كان أحلى من استعادة ثقة ابنه.

خبط رَجْكومار كتف ابنه خبطة رقيقة: «والآن، نيل، هناك أشياء كثيرة يجب عملها. عليك أن تعمل أكثر مما عملت طوال حياتك.»

أومأ نيل: «أبي.»

عاد عقل رَجْكومار بسرعة طوع أمره وهو يفكر في كل الإجراءات التي عليه القيام بها. قال وهو ينزل السلم: «تعال، لنحاولْ أن نفكر فيما علينا أن نفعل والوقت المتاح لنا.»

باع رَجْكومار كل ممتلكاته إلا شادر الخشب على خليج بزُنْدُنْج. كان فم الخليج عند تقاطع نهر رنجون مع نهر بِجو يوفر مدخلًا سريعًا إلى ميناء النهر. وقد تركز عدد كبير من ورش الخشب والمستودعات ومستودعات البترول ومضارب الأرز بطول ضفتَي هذا الطريق المائي. ولم يكن الشادر نفسه إلا مكانًا مفتوحًا، مكدسًا بالخشب تغطيه دائمًا غيمة من النشارة. يحيط به سور مرتفع وترتفع في مركزه كابينة صغيرة على دعامات — بناية تشبه بشكل مبهم طايات الغابات في داخل البلاد، إلا أنها أصغر بكثير. كانت الكابينة مكتب رَجْكومار.

لم يملك رَجْكومار، وهو يلفُّ في أرجاء الشادر، إلا تهنئة نفسه على بصيرته بتخزين كل هذه الكميات في مكان واحد — كان يعرف دائمًا أن الأمر، حين يأتي، سيكون تنفيذه بسرعة ضروريًّا: وأثبتت الأحداث أنه مصيب. إلا أن المهمة لم تكن سهلة. رأى رَجْكومار أنه يحتاج إلى فرق كبيرة من الأوسيين والأفيال والشيالين والشاحنات. وقد بيعت أفياله منذ وقت طويل، وباستثناء اثنين من المشرفين تم الاستغناء عن كل مستخدميه المنتظمين. واعتاد على إنجاز أموره بعمال مؤقتين.

كان هناك الكثير مما يجب عمله وكان يأمل في مزيد من المساعدة. كان رَجْكومار يعرف أن نيل يبذل أقصى ما في وسعه، لكنه ابن مدينة، لا خبرة له في أعمال الخشب. وعرف رَجْكومار أن نيل لا يُلام على ذلك: غلطته هو لأنه لم يشجعه أبدًا على العمل في مجال الخشب.

أسرَّ رَجْكومار لنيل: «لا أريد العمل مع غرباء، أفضل أن يكون معي دوه سي. يعرف كيف يتصرف في هذه الأمور.»

«لكن كيف نصل إليه في هوي زيدي؟»

«يمكن أن نصل إليه عن طريق ريموند»، صديق قديم لنيل، وابن دوه سي. كان طالبًا في كلية جُدْسون في رنجون. اعتقد رَجْكومار أن الموضوع انتهى وأومأ لنفسه: «نعم، يمكن لريموند أن يخبره. لنذهب ونبحث عنه هذا المساء.»

حين عاد رَجْكومار ونيل إلى كمندين، كان ألق الانتصار لا يزال ساطعًا على وجهيهما. خمنتْ دُلِّي على الفور أن نجاحًا تحقق: «ماذا؟ قولا لي.»

بدأ رَجْكومار ونيل يتحدثان في وقت واحد، بأصوات مرتفعة حتى أتت منجو تعدو على السلالم، والطفلة على ذراعيها.

«قولا لي أيضًا. ابدآ من جديد …»

لأول مرة منذ أسابيع كثيرة، عمَّت البهجة مناخ المنزل. لم يُسمع شيء عن أرجون أو دينو — لكن كان من المنطقي نسيان توترات الحرب في هذه المناسبة. حتى دُلِّي، وكانت شكاكة منذ فترة طويلة، بدأت أخيرًا تؤمن بأن خطط رَجْكومار على وشك أن تؤتي أكلها؛ وكانت بهجة منجو مفرطة. تكومت العائلة كلها في البكارد، ومنجو تمسك بالطفلة ونيل في مقعد القيادة. انطلقوا، يضحكون كالأطفال، إلى كلية جدسون للبحث عن ريموند، ابن دوه سي.

كان الكريسماس على الأبواب، ووسط رنجون يستعد للاحتفالات، في منطقة تضم المحلات الكبرى والمطاعم الفخمة والملاهي والبارات والفنادق. وكان هناك أيضًا — في بضعة بلُكَّات من بنايات جملونية مشيدة بالطوب الأحمر — معظم كنائس المدينة ومدارسها ومؤسساتها التبشيرية الأخرى. في ديسمبر يصبح هذا الحي من عوامل الجذب القوية الموسمية في المدينة. كان الناس يتوافدون إليه من الأحياء الأخرى — كمندين وكوكين وبوتاتنج وكالا بَسْتي —٢٠ للتنزه في الشوارع والفرجة على زخارف الكريسماس.
في تلك السنة منع مراقبو الغارات الجوية الأضواء الساطعة المعتادة. ولم يكن للحرب، باستثناء ذلك، تأثير كبير على روح الحي؛ على العكس، كان للأخبار القادمة من خارج البلاد تأثير زاد من المتعة المعتادة في فترة الكريسماس. أحدثت الحرب، بين كثير من السكان البريطانيين، تصميمًا متجدِّدًا على مواصلة حياتهم كالمعتاد. ولذا زُيِّنت المحلات والمطاعم الكبرى بتألق كالمعتاد. وضع روي وكو — المحل الكبير جدًّا — شجرة الكريسماس التي اعتاد وضعها، شجرة صنوبر حقيقية، مرسلة، كما كان الحال دائمًا، من هضاب الميماو. كانت قاعدة الشجرة محاطة بحشو قطني، وأغصانها مبيضة بزركشة من مسحوق بودرة كوتيكورا.٢١ في الطريق الأبيض، كانت شجرة ليدلو٢٢ — محل آخر كبير جدًّا — أكبر، مع زركشات مستوردة من إنجلترا. توقفوا عند سكوت ماركت٢٣ وذهبوا إلى كافيه الشمس لأخذ عينات من حلوى عيد الميلاد المغطاة بالشيكولاتة الشهيرة. في الطريق مروا بجزار مسلم يربي سربًا من الديوك الرومية الحية والإوز. كانت طيور كثيرة تحمل بطاقات أسعار في أسلاك صغيرة — حجزتها مقدَّمًا قبل أشهر عائلات أوروبية، وسمَّنَها الجزار من أجل الكريسماس.
كانت كلية جُدسون تقليديًّا أحد مراكز احتفالات الكريسماس في رنجون. كان يديرها معمدانيون٢٤ أمريكيون، وكانت من أشهر المعاهد التعليمية في بورما.
كان ريموند يتدرب مع الجوقة، في كنيسة الكلية المشيدة بالطوب الأحمر، على مسيح هاندل.٢٥ جلسوا ينتظرون، خلف الكنيسة، واستمعوا إلى أصوات جماعية تتدفق عبر العوارض المقوسة. كانت الموسيقى رائعة حتى أن الطفلة سكنتْ في صمت.

في نهاية التدريب اعترض نيل ريموند واصطحبه. كان ريموند شابًّا حسن الطلعة، قوي البنية، عيناه ناعستان وابتسامته حزينة. درس في رنجون ثلاث سنين، وكان يفكر في الاشتغال بالقانون.

ابتهج ريموند برؤيتهم وتعهد بإرسال كلمة إلى والده فورًا. كان واثقًا من قدرته على إرسال كلمة إلى هوي زيدي خلال بضعة أيام، عن طريق شبكة معقدة من البرقيات ووكلاء الشحن.

لم يشك رَجْكومار لحظة في أن دوه سي سيأتي فورًا إلى رنجون لمساعدته.

•••

في الصباح التالي، أرسل المقدم بكلاند أرجون إلى الأمام مع كيشان سنجه ورجلين آخرين. كان الرجال مسلحين ببنادقهم المعتادة لي إنفيلد ٣٠٣،٢٦ وكانت معه بندقيته الرشاشة الوحيدة.

قبل الظهر بقليل، جاء أرجون إلى منزل مدير المزرعة. كان بنجلو فسيحًا من طابقين بسقف من القرميد، ينتصب وسط منطقة منزوعة الأشجار، مربعة تقريبًا. وقد أحيطت المنطقة، من كل ناحية، بأعمدة مستقيمة ومنظمة من أشجار المطاط. كان هناك درب مفروش بالحصى يلتوي عبر أرض معشبة مستوية، يؤدي إلى الباب الأمامي. وحديقة منقطة بألوان كثيرة: معظم الزهور من أنواع إنجليزية — الخطمي وأنف العجل والكوبية. وفي الخلف شجرة جَكَرَنْدا طويلة وأرجوحة خشبية معلقة من غصن، بجوارها خزان ماء مرفوع. وأحواض مزروعة بالخضراوات — طماطم وجزر وقرنبيط. وممر ممهد بين رقعة الخضراوات إلى الباب الخلفي، وقطة تمسك الباب بمخالبها، تصرخ لتدخل.

لفَّ أرجون حول المنطقة، اختبأ بحذر في ظل أشجار المطاط. تتبع الدرب مسافة صغيرة إلى المنحدر: بدا ملتفًّا خلال المزرعة ليصل إلى طريق مسفلت مسافة نصف ميل أو نحو ذلك. لم يرَ أحدًا على مدى البصر.

وضع أرجون أحد رجاله في الحراسة وبعث آخر بتقرير للمقدم بكلاند. ثم لفَّ حول المنزل حتى واجه الباب الخلفي وكيشان سنجه يتبعه عن قرب. عبر الحديقة الخلفية من ممر، وهو يخفض رأسه بحذر. كان الباب مغلقًا بمزلاج لكنه فتح بسهولة حين دفعه هو وكيشان سنجه بالأكتاف. تسحبت القطة إلى المنزل من بين قدمي أرجون.

تخطى أرجون العتبة فوجد نفسه يقف في مطبخ كبير على الطراز الأوروبي؛ فرن يشتعل بالخشب، مصنوع من الحديد، ونوافذ مغطاة بستائر بيضاء مزركشة. رصت الأطباق الخزف والسلاطين في صفوف في خزائن خشبية تغطي الجدران؛ وكانت المغسلة السيراميك نظيفة وقد تكدست بجوارها أقداح زجاجية وصف من زجاجات الأطفال التي نظفت مؤخرًا. على الأرضية، سلطانية بها طعام كلب. ومكان الثلاجة بقعة مستطيلة محددة على الجدار الأبيض النظيف. وعلى طاولة المطبخ أكوام من البيض والخبز، وعلبتان مستخدمتان من الزبد الاسترالى وجبن مصنعة. من الواضح أن الثلاجة أفرغت بسرعة كبيرة قبل أن تؤخذ.

ورغم تأكد أرجون من عدم وجود أحد في المنزل، إلا أنه حرص على بقاء كيشان سنجه خلفه وهو يتفقد الغرف الأخرى. كان البنجلو ممتلئًا بعلامات رحيل متعجل. في غرفة النوم، الأدراج مقلوبة وسونتيانات وملابس حريمي داخلية ملقاة على الأرضية. في غرفة المعيشة مقعد بيانو مهجور بجوار الحائط. وجد أرجون مجموعة صور في إطارات شبه مختفية خلف الباب. نظر إلى الصور — عرس في كنيسة؛ أطفال وسيارة وكلب — الصور مكومة في صندوق، كأنها جاهزة للنقل. تخيل أرجون فجأة امرأة من أهل البيت تجري في هلع في البنجلو، تبحث عن الصندوق، وزوجها والأسرة يجلسون في الخارج في لوري يكتظ بأمتعة مربوطة؛ تخيلها تفتش في الدولاب وقد أدار زوجها المحرك والكلب ينبح والأطفال يصرخون. أسعده ابتعادهم في الوقت المناسب؛ وقد انزعجوا من كل من كان يثنيهم عن الرحيل مبكِّرًا.

عاد إلى المطبخ وأدار مروحة السقف. واندهش حين دارت. على الطاولة زجاجتان من الماء، ما زالتا مغمورتين في ندى العرق الذي تكون حولهما حين أخرجتا من الثلاجة. قدَّمَ واحدة لكيشان سنجه وتجرع الأخرى، إلى آخر جرعة تقريبًا. كان للماء طعم معدني سخيف وهو يجتاز حلقه: وحينها فقط تذكر أنه مضى وقت طويل على آخر مرة تناول فيها الطعام.

بعد دقائق وصل الآخرون.

قال أرجون: «هنا طعام كثير، سير.»

أومأ المقدم بكلاند: «حسن. السماء تعلم، إننا بحاجة إليه. وأتخيل أننا يمكن أن نغتسل أيضًا.»

كان في الدور العلوي حمامان، وفوط نظيفة على الرفوف. استخدم المقدم بكلاند حمامًا، واستخدم أرجون وهاردي الآخر بالتبادل. كانت المياه تأتي من خزان مظلل خارج المنزل، باردة ولذيذة. سند أرجون بندقيته الرشاشة إلى الباب قبل أن يخلع ملابسه. ثم ملأ دلوًا وسكب الماء البارد على رأسه. كانت في المغسل أنبوبة متغضنة من معجون الأسنان: لم يقاوم عصر بعضًا منه على سبابته. ومعجون الأسنان في فمه نظر من نافذة الحمام. كان كيشان سنجه ورجلان آخران يقفون تحت خزان المياه عراة، يصبون المياه على رءوسهم. ورجل آخر في الحراسة، يدخن سيجارة، ويده تستريح بتراخ على بندقيته.

عادوا إلى غرفة الطعام فوجدوها منسقة بعناية بالأطباق والآنية الفضية. أعد عريف لديه بعض الخبرة في ميس الضباط وجبة: سلطة طماطم وجزر؛ بيض مقلي في الزبد وتوست ساخن. عثر على الكثير من السلع المعلبة في دواليب المطبخ: باتيه كبد البط، وطبق من الرنجة المخللة، وشرائح سميكة من فخذ الخنزير الهولندي — وضعت كلها بشكل جميل في أطباق من الخزف.

وفي البوفيه المجاور لمائدة الطعام اكتشف أرجون بعض زجاجات البيرة: «هل تعتقد أنهم اهتموا بذلك، سير؟»

ابتسم المقدم بكلاند: «لا، ترى لماذا يهتمون. أنا متأكد من أننا لو كنا التقينا بهم في النادي لطلبوا منا أن ندفع حسابنا.»

اعترض هاردي. قال بهدوء، مقدِّمًا تصحيحًا بكلمات مهذبة: «إذا كنت قد التقيت بهم في النادي، سير. ما كان سيُسمَح لنا كلينا بالدخول.»

توقف المقدم بكلاند وزجاجة بيرة مائلة في قبضته. ثم رفع كأسه وابتسم لهاردي ابتسامة ساخرة، وقال: بالنسبة للنوادي التي لن تضمنا، الرجال المهذبين، ربما تظل كثيرة إلى الأبد.»

هتف أرجون بفتور: «اسمع، اسمع.» ترك كأسه ومد يده إلى طبق من فخذ الخنزير.

وهم يخدمون أنفسهم، هبت روائح طبخ جديد من المطبخ: نكهة براثها٢٧ ملفوف حديثًا وشاباتي، نكهة بصل مقلي وطماطم مقطعة. نظر هاردي إلى طبقه وإلى الأكوام التي يحتويها من فخذ الخنزير والرنجة. وقف فجأة.

«سير، هل لي أن أستأذن دقيقة؟»

«براحتك، أيها الضابط.»

دخل المطبخ وعاد بصينية من الشاباتي وأندي كا بهوجيا —٢٨ بيض مقلي بالطماطم والبصل. نظر أرجون إلى طبقه، شعر بالجوع مرة أخر: وكان من الصعب أن يبعد عينيه.

نظر هاردي إليه مبتسمًا: «حسنًا، يار، يمكن أن تحصل على بعض منها أيضًا. لن يجعلك الشاباتي همجيًّا، تعرف.»

غطس أرجون في مقعده وهاردي يضع شاباتي وبهوجيا في طبقه؛ خفض نظرته بطريقة حزينة كطفل محاصر بين أبوين حذرين. أتى تعب الليل أمامه مرة أخرى ولم يعد يستطيع لمس الطعام.

حين انتهوا من الطعام. طلب المقدم بكلاند من هاردي الخروج لمراقبة الرجال الذين يحرسون الطريق القريب من البنجلو.

حيى هاردي: «نعم، سير.»

قام أرجون من على المائدة أيضًا، لكن المقدم بكلاند أوقفه: «لا تتعجل، روي.» مد يده إلى زجاجة بيرة: «كمية أخرى؟»

«لا أرى ما يمنع، سير.»

صبَّ المقدم بكلاند بيرة في كأس أرجون ثم ملأ كأسه.

قال فورًا، وهو يشعل سيجارة. «أخبرْني، أيها الضابط، كيف تقيم معنوياتنا في هذه اللحظة؟»

قال أرجون بتألق: «بعد غداء كهذا، سير، يمكن أن أقول إنها لا يمكن أن تكون أفضل من ذلك.»

ابتسم المقدم بكلاند خلال سحابة من دخان السيجارة: «كانت حكاية مختلفة في الليلة الماضية، إيه، أيها الضابط؟»

«لا أعرف إن كان يمكن أن أقول ذلك، سير.»

«حسنًا، تعرف أن لي أُذُنًا، أيها الضابط. ومع أن معرفتي بالهندوستانية قد لا تكون كمعرفتكم، يمكن أن أؤكد لك أنها كافية تمامًا.»

نظر إليه أرجون في فزع: «لستُ متأكِّدًا مما ترمي إليه، سير.»

«حسنًا، لم يستطع أي منا أن ينام كثيرًا الليلة الماضية، هل كان يمكن أن ننام، أيها الضابط؟ والهمسات يمكن أن تسمع على مسافة طويلة.»

شعر أرجون بصهد في وجهه: «لا أفهم تمامًا ما تقصد، سير. هل تشير إلى شيء قلتُه؟»

«لا يهم حقًّا، أيها الضابط. لنقلْ فقط إن نبرة كل الأصوات من حولي كانت متشابهة إلى حد ما.»

«أرى، سير.»

«أيها الضابط — أعتقد أنك ربما تعرف أنني — أننا — لسنا غافلين عن بعض التوترات في كتائبنا الهندية. من الواضح تمامًا أن كثيرًا من ضباطنا الهنود يشعرون بقوة بالقضايا العامة — خاصة مسألة الاستقلال.»

«نعم، سير.»

«لا أعرف مشاعرك الخاصة، روي، لكن عليك أن تعرف أن استقلال الهند، بقدر الثقة في الرأي العام البريطاني، مسألة وقت. يعرف الجميع أن أيام الإمبراطورية انتهت — لسنا حمقى، تعرف. الرحيل إلى ماء راكد آخر ما يريد شاب إنجليزي متحمس اليوم. لسنوات قال الأمريكيون لنا إننا سائرون في الطريق الخطأ. ليس علينا الإبقاء على إمبراطورية بكل أدوات الإدارة والجيش. هناك طرق أسهل وأكثر فاعلية في القبض على الأشياء — يمكن أن تتم بتكلفة أقل وبقدر أقل بكثير من القلق. وقد قبلنا كلنا ذلك الآن — حتى الرفاق من أمثالي الذين قضوا حياتهم في الشرق. لم يبق إلا سبب واحد تتمسك به إنجلترا — سبب ناتج عن إحساس بالالتزام. أعرف أنه قد يكون من الصعب أن تصدق هذا، لكنه حقيقي. هناك إحساس بأننا لا يمكن أن نمضي بالإكراه ولا نخلِّف فوضى وراءنا. وأنت تعرف تمامًا، كما أعرف، أننا إذا حزمنا حقائبنا الآن، فسيحارب رجالكم كل منهم الآخر فورًا — حتى أنت وصديقك هاردي، باعتباره من السيخ وباعتبارك هندوسيًّا، باعتباره بنجابيًّا وباعتبارك بنغاليًّا …»

«أرى، سير.»

«لا أقول لك ذلك، أيها الضابط، إلا لأنبهك إلى بعض أخطار الوضع الذي نحن فيه الآن. أعتقد أننا كلينا نعرف أن معنوياتنا ليست على ما يرام. لكن ولاء المرء، بشكل لم يسبق له مثيل، آخر ما يجب لأي شخص أن يتردد فيه. العثرات التي عانينا منها مؤقتة — إنها بطريقة ما نعمة مقنَّعة. دخول أمريكا الحرب يؤكد بصورة مطلقة أننا سوف ننتصر، عاجلًا أو آجلًا. وفي أثناء ذلك ربما علينا أن نتذكر أن ذاكرة الجيش لا تنسى ما يتعلق بمسألتي الإخلاص والولاء.»

توقف المقدم بكلاند ليطفئ سيجارته. وجلس أرجون يحدق بصمت في كأسه.

قال المقدم بكلاند بهدوء: «تعرف، روي، عاش جدي تمرد ١٨٥٧م. أتذكر أنه لم يسخط على المدنيين الذين شاركوا في الاضطرابات. لكن بالنسبة للجنود — السيبو الذين قادوا التمرد — كانت مسألة مختلفة تمامًا. هؤلاء الرجال حنثوا بيمين: كانوا خونة، لا متمردين، وليس هناك خائن أكثر وضاعة من جندي يعكس إخلاصه. وإذا حدث شيء كهذا في وقت صعب، أعتقد أنك تتفق معي، أليس كذلك، روي، أن من الصعب تصور شيء بهذه الشناعة الرهيبة؟»

كان أرجون على وشك الرد حين قاطعه صوت خطوات مسرعة. استدار إلى نافذة فرأى هاردي يجري عبر العشب الأمامي.

جاء هاردي يلهث إلى حافة النافذة: «سير. تحركْ، سير … يتدفق اليابانيون على الطريق.»

«كم عددهم؟ هل يمكن أن نباغتهم؟»

«لا، سير … هناك فصيلتان على الأقل — ربما سرية.»

دفع المقدم بكلاند مقعده بهدوء للخلف، ماسحًا شفتيه بمنديل. قال بهدوء: «الشيء الأساسي، أيها السيدان ألا تفزعا. لحظة لتستمعا إليَّ: هذا ما أريد منكما …»

تركوا المنزل من المدخل الخلفي، في المقدمة أرجون، وفي المؤخرة هاردي والمقدم بكلاند. عند الوصول إلى ملاذ في الصف الأول من الأشجار أخذ أرجون وضعًا دفاعيًّا. كان معه جماعة مكونة من كيشان سنجه ورجلين آخرين. وكان دورهم تغطية الآخرين حتى يخرجوا جميعًا من المكان.

اندفعت أول دبابة يابانية إلى المجمع وهاردي والمقدم بكلاند يجريان عبر الحديقة الخلفية. للحظة اعتقد أرجون أنهما تمكنا من الهرب خفية. ثم تدفق وابل من النيران خلف الشاحنة وسمع أرجون عاصفة من الصفارات تُطلق بجانبه، فوق رأسه مباشرة.

كان المقدم بكلاند وهاردي بجواره تقريبًا. انتظر أرجون حتى بَعُدا قبل أن يعطي الأمر بالرد على النيران. «شالاو جولي.»٢٩ أطلقوا النيران بدون تمييز في اتجاه البنجلو. وكانت النتيجة الوحيدة تكسير نوافذ المطبخ على الفور. وأثناء ذلك، لفت الشاحنة اليابانية لتحتمي بالجانب البعيد من المنزل.
«بيش. شلو.»٣٠

أصدر أرجون أمرًا بالتراجع وبقي في موضعه، يطلق النيران عشوائيًّا، على أمل أن يعطي كيشان سنجه والآخرين وقتًا للتجمع من جديد. رأى الجنود اليابانيين الذين وصلوا مؤخرًا ينسلون بين الأشجار واحدًا واحدا. وقف وبدأ يجري، ممسكًا برشاشه تحت ذراعه. نظر فوق كتفه، واجه منظر عشرات من مجموعات طويلة من الأشجار تحدق باتجاهه، وقد صار أليفًا — إلا أن كل نفق يقدم لمحة لشخص صغير يرتدي زيًّا رماديًّا، في مكان ما بعيد، يطارده.

بدأ أرجون يجري أسرع، متنفسًا بقوة، حذرًا من أغصان تختفي تحت الأوراق المتساقطة. أمامه على بعد مائة قدم أو نحو ذلك بدا أن الأرض تنحدر بحدة. إذا وصل هناك، ربما استطاع الاختفاء عن عيون الجنود الذين يطاردونه. أسرع، مقصِّرًا خطواته حين اقترب من حافة المنحدر. عند قمة المنحدر شعر بساقه اليمنى تخذله. سقط، وارتطم وجه في البداية بالمنحدر. ضاعف الارتباك من صدمة الوقوع: لم يفهم سبب سقوطه. لم يتعثر ولم تزل قدمه — كان متأكِّدًا من ذلك. استطاع أن يقف ممسكًا بشجيرة. حاول السير مرة أخرى على قدميه ولم يستطع. نظر إلى أسفل فوجد رجل بنطلونه مغطاة بالدماء. شعر ببلل القماش على جلده، ولم يشعر بألم. اقتربت خطوات مطارديه، تلفت حوله بسرعة، ناظرًا إلى بساط الأوراق الميتة، الممتد في كل الاتجاهات.

حينها فقط سمع صوتًا، همسًا مألوفًا: «صاحب.»

التفتْ فرأى كيشان سنجه: كان المراسلة مستلقيًا على وجهه، مختبئًا في فتحة مظلمة — مجرور أو أنبوبة صرف من نوع ما. فتحة مغطاة بأوراق وشجيرات. مخبأة جيدًا، غير مرئية تقريبًا. لم يرها أرجون إلا لأنه كان منبطحًا على الأرض.

مد كيشان سنجه يده وسحبه إلى المجرور. ثم نثر بعض الأوراق على آثار دماء أرجون. بعد دقائق استمعا إلى وقع أقدام تجري فوق رأسيهما.

كان المجرور يكفي بالضبط لهما متجاورين. فجأة، بدأ جرح أرجون يؤلمه، ألم يتدفق من ساقه في موجات. حاول أن يكتم آهة، لكنه لم ينجح تمامًا. ألقى كيشان سنجه بيده على فمه وأسكته. أدرك أرجون أنه على وشك أن يفقد وعيه وكان سعيدًا: في تلك اللحظة لم يكن يريد إلا النسيان.

٣٦

مع أن دينو تتبع الأخبار في الراديو بدقة، إلا أنه عانى من مشكلة في فهم ما يحدث بالضبط في شمال الملايو. ذكرت البيانات تدخلًا كبيرًا في منطقة جيترا لكن التقارير غيرُ قاطعةٍ ومحيرةٌ. أثناء ذلك، ظهرت مؤشرات أخرى للطريق الذي تسير إليه الحرب، تنذر كلها بالشؤم. أحدها إعلان في صحيفة رسمية يذكر إغلاق مكاتب بريد معينة في الشمال. والآخر زيادة حركة السير إلى الجنوب: يتدفق تيار المهجَّرين على الطريق السريع بين الشمال والجنوب باتجاه سنغافورة.

ذات يوم لاحظ دينو، في زيارة إلى سُنْجِي بتاني، هذا الخروج الجماعي. بدا أن المهجرين أساسًا من أسر المزارعين ومهندسي التعدين. امتلأت السيارات والشاحنات بأشياء منزلية — أثاث وصناديق وحقائب. صادف شاحنة محملة بثلاجة وكلب وبيانو في وضع عمودي. تحدث إلى قائد الشاحنة: كان هولنديًّا، مدير مزرعة قرب جيترا. كانت أسرته تجلس متزاحمة في مقدمة الشاحنة: زوجته وطفل حديث الولادة وبنتان. قال الهولندي إنه أفلْتَ للتو من اليابانيين. ونصح دينو بالرحيل بأسرع ما يستطيع — ألا يرتكب خطأ الانتظار حتى اللحظة الأخيرة.

في تلك الليلة، في مُرْنِنْجْسايد، أخبر دينو أليسون بكلام الهولندي. نظر كل منهما للآخر في صمت: تكلما في الموضوع عدة مرات من قبل. يعرفان أن الخيارات المتاحة قليلة جدًّا. إذا كان لهم أن يرحلوا، فلا بدَّ من بقاء واحد منهم — شاحنة المزرعة لا تستطيع بحال من الأحوال قطع الرحلة الطويلة إلى سنغافورة والدايتونا لا تستطيع حمل أكثر من اثنين هذه المسافة الطويلة. والبديل الوحيد أن يذهبوا بالقطار — وكانت خدمات السكك الحديد معلقة مؤقتًا.

قال دينو: «ماذا نفعل أليسون؟»

قالتْ أليسون في أمل: «ننتظر ونرى. من يعرف؟ ربما لا نغادر رغم ذلك.»

في وقت متأخر من الليل استيقظوا على صوت عجلات دراجة تزحف على الطريق المحصَّب لمنزل مُرْنِنْجْسايد. نهض: «أليسون؟ من هذا؟»

قالت: «إلونجو. معه آه فات — من المطعم في البلدة.»

«في هذا الوقت من الليل؟»

«أعتقد أنهما يريدان إخباري بشيء.» أسدلتْ أليسون الستارة. «سأنزل إلى الدور الأرضي.» ارتدتْ عباءة وخرجت تعدو من الغرفة. بعد بضع دقائق، تبعها دينو. وجدها تجلس جاثمة مع الزائرين. آه فات يتكلم على عجل، بالملايوية، ويشير بإصبع في الهواء. وأليسون تعض شفتيها، وتومئ: رأى دينو قلَقًا عميقًا في الخطوط المتجعدة في وجهها.

بعض لحظة هزَّ دينو كوعها: «عم تتحدثون؟ أخبريني.»

وقفت أليسون وأخذته على جانب.

«يقول آه فات علينا أن نرحل أنا وجدي — إلى سنغافورة. يقول الوضع سيئ على الجبهة. ربما يستطيع اليابانيون الدخول خلال يوم أو اثنين. يعتقد أن الكمبيتاي٣١ — بوليسهم السري — لديه معلومات عنا …»

أومأ: «إنه على حق. لا يجب الانتظار أكثر من ذلك. عليكما أن تذهبا.»

تساقطت الدموع من عيني أليسون: «لا أريد أن أذهب دينو. بدونك. لا أريد حقًّا.»

«عليكما أن تذهبا، أليسون. فكري في جدك …»

«مس مارتين.» قاطعهما آه فات ليخبرهما بأنه سمع أن قطار تهجير خاص سيغادر برتورث في ذلك الصباح. لم يكن متأكدًا من إمكانية السفر عليه — لكن من الأفضل أن يحاولوا.

تبادل دينو وأليسون الابتسامات. قالت أليسون: «لن تسنح لنا أبدًا مثل هذه الفرصة.»

قال دينو: «لنوقظْ جدك. يجب ألا نضيع لحظة.»

رحلوا في وقت مبكر من اليوم التالي في إحدى شاحنات العزبة. قادها إلونجو، وجلس دينو على ظهرها مع الأمتعة. جلست أليسون في المقدمة مع سايا جون. كانت حركة المرور قليلة في ذلك الوقت من اليوم، فوصلوا إلى سُنْجِي بتاني في نصف الوقت المعتاد. المدينة صامتة: محلات ومنازل كثيرة مغلقة أو مهجورة. وبعضها يعلق ملاحظات خارجها.

قرب البلدة أخذوا الطريق السريع الرئيسي. اكتظ جسر الطريق بمركبات مركونة. في السيارات عائلات نائمة، يختطفون قسطًا من الرائحة قبل بزوغ النهار. على فترات تأتي شاحنات عسكرية حمولة طن ونصف منطلقة إلى الطريق السريع، متجهة إلى الجنوب. تنطلق فجأة، دافعة السيارات الأخرى بعيدًا عن الطريق، وأضواؤها الأمامية ساطعة، وأبواقها تدوي. لمح دينو بشكل عارض جنودًا، يقرفصون في قيعان الشاحنات المغطاة بالمشمع.

حين اقتربوا من بترورث، كان الطريق يغصُّ بالسيارات والشاحنات. كانت محطة السكك الحديد تقع مباشرة بعد نقطة انطلاق عبَّارة تربط البلد بجزيرة بننج. تلقت تلك المنطقة عدة ضربات في الغارات الأخيرة بالقنابل وعمَّت الفوضى شوارع تناثرت فيها الأنقاض. رأوا أناسًا يتجهون إلى المحطة على الأقدام، حاملين حقائب السفر.

ركن إلونجو في شارع جانبي وترك أليسون ودينو وسايا جون في الشاحنة وذهب فورًا لاستطلاع الأحوال. عاد بعد نصف ساعة ليعلن أن أمامهم وقتًا طويلًا. هناك شائعات أن القطار لن يستطيع التحرك قبل منتصف الليل. كانت بننج تُخلى أيضًا، وأساطيل من العبارات تتحرك تحت غطاء الظلام. ولم يكن القطار ليرحل قبل عودة العبارات إلى بترورث بالمهجرين من بننج.

حجزت أليسون غرفة في فندق ليستريح سايا جون. قضوا اليوم في جولات لاستطلاع الأحوال. هبط الليل وحتى العاشرة لم تكن هناك أخبار. ثم، بعد منتصف الليل بقليل، جاء إلونجو يجري إلى الفندق ليخبرهم بأن العبارات شوهدت عائدة من بننج، وبعد قليل سينتقل القطار إلى رصيف المحطة.

أيقظت أليسون سايا جون، ودفع دينو أجرة غرفة الفندق. خرجوا إلى شارع مظلم وانضموا لحشد يسرع باتجاه المحطة. كان المدخل مطوَّقًا ولم يكن من الممكن الوصول إليه إلا عبر ممر ضيق يكتظ بالناس والأمتعة.

على بعد بضع ياردات من المدخل قرر إلونجو العودة. وضع ذراعًا حول سايا جون وعانقه بقوة: «مع السلامة، سايا.»

ابتسم له سايا جون ابتسامة ودٍّ حقيقي: «كن حذرًا وأنت تسوق، إلونجو.»

ضحك إلونجو: «نعم، سايا.» التفت إلى أليسون ودينو، وقبل أن يودعهما اندفعا إلى الأمام تحت ضغط الأجسام. صاح خلفهم: «سأقضي الليل في الشاحنة. يمكن أن تجدوني هناك — إذا لم تركبوا. حظ سعيد.»

ردَّ دينو بالتلويح: «ولك أيضًا … حظ سعيد.»

كان على مدخل الرصيف حارسان هنديان. يرتديان زيا أخضر وعلى كتفيهما بندقيتان معلقتان. لم تكن هناك تذاكر لفحصها: ينظر الحارسان للمهجرين ويشيران لهم بالدخول.

وصلوا إلى البوابة وسايا جون يميل على أليسون بثقله، ودينو خلفهما مباشرة، يحمل حقائب السفر. وهم على وشك عبور المدخل، مدَّ حارس ذراعه وأوقف أليسون. تلا ذلك مباحثات متعجلة بين الحارسين. ثم أشار الحارسان لدينو وأليسون وسايا جون بالابتعاد: «من فضلكم … ابعدوا عن البوابة.»

قالت أليسون لدينو: «ما المشكلة؟ ماذا يحدث؟»

تحرك دينو ليواجه الحارسين. خاطبهما بالهندوستانية: «كيا هوا٣٢ لماذا أوقفتمانا؟»

«لا يمكن أن تعبروا.»

«لماذا؟»

قال حارس بغلظة: «أليس لك عينان؟ ألا ترى أن القطار للأوروبيين فقط؟»

«ماذا؟»

«سمعْتَ — للأوروبيين فقط.»

بلع دينو ريقه، محاولًا الحفاظ على هدوئه. قال بحذر: «اسمع، لا يمكن أن يكون هذا صحيحًا … هذا زمن حرب. قيل لنا إنه قطار تهجير. كيف يكون للأوروبيين فقط؟ لا بد أن هناك خطأ.»

نظر إليه الحارس بعين وأشار للقطار بإبهامه. قال: «لك عينان. دكه لو —٣٣ انظر.»

من فوق كتف الحارس، تطلع إلى الرصيف، إلى نوافذ القطار: لم يجد وجهًا واحدًا يبدو أنه لملايوي أو صيني أو هندي.

«مستحيل … جنون.»

أمسكت أليسون بذراعه: «ماذا؟ ما المستحيل؟ دينو، أخبرني بما يحدث؟»

«يقول الحارسان إن القطار للبيض فقط …»

أومأت أليسون: «نعم، انتابني إحساس بذلك — هكذا تجري الأمور …»

«كيف تقولين ذلك، أليسون؟» كان دينو في حالة هلع والعرق يتدفق على وجهه: «لا يمكن أن تواجه هؤلاء الناس … ليس الآن. ليس في وقت الحرب …»

رأى دينو رجلًا إنجليزيًّا في زي رسمي يسير على الرصيف، يراجع قائمة. بدأ دينو يتوسل للحارسين: «اسمعا — دعاني أدخل — دقيقة فقط … فقط لأكلم الضابط الذي هناك … أشرح له؛ أنا متأكد من أنه سيفهم.»

«مستحيل.»

فقد دينو أعصابه. صاح في وجه الحارس: «كيف توقفني؟ من أعطاك هذا الحق؟»

ظهر رجل ثالث فجأة، يرتدي زي السكك الحديد وتبين أنه هندي أيضًا. أبعدهما عن المدخل، باتجاه سلالم تؤدي إلى الشارع. قال لدينو: «نعم من فضلك؟ أنا ناظر المحطة — أخبرني من فضلك: ما المشكلة؟»

بذل دينو جهدًا ليحافظ على هدوء صوته: «سير … لا يسمحان لنا بالدخول … يقولان إن القطار للأوروبيين فقط.»

ابتسم ناظر المحطة بشكل اعتذاري: «نعم — هذا ما بُلِّغْنا به لتنفيذه.»

«لكن كيف يكون ذلك؟ … إنه زمن حرب … هذا قطار تهجير.»

«ماذا يمكن أن أقول؟ لماذا، في بننج، مستر ليم،٣٤ القاضي، أعيد وكان معه خطاب تهجير رسمي. لم يسمح له الأوروبيون بركوب العبارات لأنه صيني.»

بدأ دينو يتوسل: «أنت لا تفهم … ليس الأوروبيون وحدهم في خطر … لا يمكن أن تفعل هذا … إنه خطأ …»

امتعض ناظر المحطة، وهزَّ كتفيه استنكارا: «لا أرى خطأ في هذا. رغم كل شيء، إنه إحساس عام. إنهم الحكَّام؛ إنهم يقامون الخسارة.»

ارتفع صوت دينو. صاح: «هراء. إذا كنتم تنظرون إلى الأمر بهذه الطريقة، فالحرب قد خُسِرتْ بالفعل. ألا ترى؟ تنازلتم عن كل ما يستحق الحرب …»

حدق فيه ناظر المحطة: «سير. لا مبرر لصياحك. أؤدِّي وظيفتي ليس إلا.»

رفع دينو يديه وأمسك بياقة ناظر المحطة. قال وهو يهزه: «أنت لقيط. أنت لقيط … أنت العدو. أمثالك — الذين يؤدون وظائفهم ليس إلا … هم الأعداء.»

صرختْ أليسون: «دينو. انتبه!»

شعر دينو بيد تمسك قفاه وتبعده عن ناظر المحطة. اندفعتْ قبضة إلى وجهه فسقط على الأرض. امتلأتْ فتحتا أنفه برائحة الدم المعدنية. نظر إلى أعلى فرأى الحارسين يحدِّقان فيه بغضب، وأليسون وسايا جون يبعدانهما: «اتركاه. اتركاه.»

مدَّتْ أليسون يدها إلى دينو وساعدتْه على الوقوف: «تعال، دينو — لنذهب.» التقطت الأمتعة وأشارت لدينو وسايا جون إلى السلالم. حين عادوا إلى الشارع. استند دينو على عمود نور ووضع يديه على كتفي أليسون. قال: «أليسون — ربما يسمحون لك، بمفردك. أنت نصف بيضاء. عليك أن تحاولي، أليسون.»

وضعتْ يدها على فمه: «صه. لا تقل ذلك، دينو. لا يمكن أن أفكر في ذلك.»

جفف دينو الدم من أنفه: «لكن عليك أن ترحلي، أليسون … مع جدك — سمعت ما قال آه فات. بشكل أو آخر يجب أن ترحلا … لا يمكن أن تبقيا في مُرْنِنْجْسايد أكثر من ذلك …»

من داخل المحطة صدر صفير حاد. بدأ كل الناس حولهم يجرون، ويتزاحمون في مدخل المحطة، متدافعين على البوابات. أمسك كل من دينو وأليسون وسايا جون بذراع الآخر، واستندوا على عمود النور.

أخيرا سمعوا القطار يبتعد. قال سايا جون: «رحل.»

قالت أليسون بسرعة: «نعم، بابا. رحل.»

تراجع دينو وحمل حقيبة. قال: «لنذهب ونبحث عن إلونجو.»

«صباح الغد نعود إلى مُرْنِنْجْسايد.»

«لنبقى؟»

هز دينو رأسه. قال: «سأبقى هنا، أليسون. لن يصيبوني بأذًى — ليس لدي ما أخشى عليه. لكن أنت وجدك — بارتباطاتكما — أمريكية وصينية … لا أحد يعرف ما يمكن أن يفعلوه بكما. عليكما أن تذهبا …»

«لكن كيف، دينو؟»

أخيرًا قال دينو كلمات أفزعتهما كليهما: «الدايتونا … الوسيلة الوحيدة، أليسون.»

ألقتْ بنفسها عليه. «لا. ليس بدونك.»

حرص على الكلام بهدوء، وتظاهر بثقة كانت أبعد ما تكون عنه: «سيكون كل شيء بخير، أليسون. سألحق بكما قريبًا … في سنغافورة، سترين. لن نفترق كثيرًا.»

•••

كان الظلام قد حل حين استعاد أرجون وعيه. تحول الإحساس في ساقه إلى ألم فج نابح. أدرك أرجون، حين صفا ذهنه، انسياب جدول ماء بالقرب منه، وكان المجرور يدوي بصخب شديد ممل. استغرق الأمر عدة دقائق ليفهم أنها تمطر.

وحين بدأ أرجون يتحرك، شعر بيد كيشان سنجه تقبض بكتفه محذرة. همس كيشان سنجه: «ما زالوا حولنا، صاحب. نصبوا جماعة في المزرعة. ينتظرون.»

«كم يقتربون منا؟ على مدى السمع؟»

«لا. لا يستطيعون سماعنا في المطر.»

«كم من الوقت غبتُ عن الوعي؟»

«أكثر من ساعة، صاحب. ربطتُ جرحك. مضت الطلقة تمامًا من وتر ركبتك. ستكون بخير.»

لمس أرجون فخذه بحذر شديد. فك كيشان سنجه لفافتي الساقين، وثنى بنطلونه ووضع ضمادة ميدان. وصنع أيضًا مهدًا من نوع ما ليحافظ على ساقه بعيدة عن الماء بتثبيت عصوين على جانبي المجرور.

«ماذا نفعل الآن، صاحب؟»

أربك السؤال أرجون. حاول أن ينظر أمامه، لكن ذهنه لا يزال مشوَّشًا نتيجة الألم ولا يستطيع التفكير في خطة واضحة: «علينا أن ننتظر خروجهم، كيشان سنجه. نرى صباح الغد.»

«هان،٣٥ صاحب.» بدا الارتياح على كيشان سنجه.

أدرك أرجون بقوة، وهو يستلقي بلا حراك في مياه يبلغ عمقها عدة بوصات، ما يحيط به: طيات الملابس المبتلة تنفذ من المسام إلى جلده، ضغط جسم كيشان سنجه ممدَّدًا بجواره. امتلأ المجرور برائحة جسديهما: رائحة الملابس العفنة المشبعة بالمطر والعرق، الرائحة المعدنية لدمه.

شرد ذهنه، مضطربًا بالألم في ساقه. تذكر فجأة نظرة كيشان سنجه على الشاطئ قبل أيام، حين عاد من الجزيرة مع أليسون. هل كان ما رآه في عينيه ازدراءً — حكمًا من نوع ما؟»

هل فعل كيشان سنجه ما فعله؟ سمح لنفسه بممارسة الحب مع أليسون؛ بافتراسها؛ بخيانة دينو، وهو صديق وأكثر؟ لم يعرف لماذا انقاد لهذا الفعل؛ لماذا رغب فيها إلى هذا الحد. سمع أحد الرفاق يقول إن هذه الأشياء تصادفك في زمن الحرب — على الجبهة. لكن كيشان سنجه على الجبهة أيضًا — ومن الصعب التفكير في أن يفعل شيئًا من هذا القبيل. هل هذا جزء من الاختلاف بين أن تكون ضابطًا وجوان —٣٦ عليك أن تفرض نفسك، تؤكد إرادتك؟

خطر بباله أن يتحدث عن ذلك. تذكر أن كيشان سنجه أخبره ذات يوم أنه تزوج في السادسة عشرة. ودَّ أن يسأل كيشان سنجه: ماذا كان الحال حين تزوجت؟ هل عرفت زوجتك قبلها؟ في ليلة عرسك كيف لمستها؟ هل نظرت إليك في وجهك؟

حاول أن يكوِّن الجمل في رأسه ووجد أنه لا يعرف الكلمات المناسبة بالهندوستانية؛ لم يكن يعرف حتى نبرة الصوت التي يجب أن تُطرَح بها تلك الأسئلة. كانت أشياء لا يعرف كيف يقولها. إضافة إلى أنه لا يعرف كيف يقولها، بأية لغة، كان هناك شيء بشع، وحتى غير إنساني، في محاولة معرفة ما في داخل رأس شخص. ماذا قال هاردي في الليلة الماضية؟ شيئًا عن الارتباط بين يده وقلبه. دُهِش حين قال ذلك؛ لم يكن من المعتاد لرفيق أن يقول أشياء من هذا القبيل. لكن في الوقت نفسه، من الممتع أن يعتقد أن هاردي — أو أي شخص فيما يتعلق بتلك المسألة، ولو كان هو نفسه — ربما كان يريد شيئًا لا يعرفه. كيف يحدث ذلك؟ هل لأن أحدًا لم يعلمهم الكلمات؟ اللغة المناسبة؟ ربما لأن ذلك قد يكون خطيرًا جدًّا؟ أو لأنهم ليسوا كبارًا بما يكفي لأن يعرفوا. كان معوِّقًا بشكل غريب أن يفكر في أنه لم يملك أبسط أدوات الوعي الذاتي — لم تكن لديه نافذة يعرف من خلالها ما في داخله. هل هذا ما قصدته أليسون من أنه سلاح في يد شخص آخر. غريب أن هاردي قال الكلام نفسه أيضًا.

شعر، وهو ينتظر مرور الدقائق، أن ذهنه يركز على ساقه الجريحة. ازداد الألم باطِّراد، وصل إلى درجة سيطرت على كل وعيه، لاغيا كل الأحاسيس الأخرى. بدأ يتنفس بصعوبة، من بين أسنانه المتلاحمة. ثم، خلال غيمة الألم في رأسه، أدرك أن يد كيشان سنجه تقبض على ساعده وتهزُّ كتفه تشجيعًا.

«سابَر كارو،٣٧ صاحب؛ سينتهي.»

سمع نفسه يقول: «لا أعرف كم من الوقت أتحمل، كيشان سنجه.»

«يمكن أن تتحمل، صاحب. تماسكْ فقط. اصبرْ.»

انتاب أرجون هاجس مفاجئ بأنه سيغيب عن الوعي مرة أخرى، غطس وجهه أولًا في ماء المطر، وغرق حيث استلقى. في هلع تشبث بكيشان سنجه، قبض على ذراعه كأنه قارب النجاة.

«كيشان سنجه، قل شيئًا. تحدثْ. لا تتركْني أغيب عن الوعي مرة أخرى.»

«عم أتحدث، صاحب؟»

«لا يهم. تحدث فقط، كيشان سنجه — عن أي شيء. حدثني عن قريتك.»

بتردد بدأ كيشان سنجه يتكلم.

«اسم قريتنا كوتانا،٣٨ صاحب، قرب كُورُكشِترا — لا تبعد كثيرًا عن دلهي. قرية بسيطة كأية قرية أخرى، لكنَّ هناك شيئًا نقوله دائمًا عن كوتانا …»

«ماذا؟»

«في كل منزل في كوتانا تجد قطعة من العالم. في أحدها شيشة من مصر؛ وفي آخر صندوق من الصين …»

قال أرجون، متحدِّثًا عبر جدار الألم: «لماذا، كيشان سنجه؟»

«صاحب، لأجيال أرسلت كل عائلة من الجات في كوتانا أبناءها للخدمة في جيش السركار الإنجليزي.»

«منذ متى؟»

«منذ عصر جدِّ أبي، صاحب — منذ التمرد.»

«التمرد؟» تذكر أرجون صوت المقدم بكلاند، وهو يتحدث عن الشيء نفسه: «ما علاقة التمرد بهذا؟»

«صاحب، وأنا ولد، اعتاد الرجال الكبار أن يحكوا لنا قصة. كانت عن التمرد. حين انتهت الثورة ودخل البريطانيون دلهي، عرفوا أن عليهم الاحتفاظ بعدد كبير من العيون في المدينة. من كوتانا فُوِّض عدد من الكبار بالذهاب. خرجوا في الفجر، مع مئات من الآخرين، باتجاه المدخل الجنوبي للعاصمة القديمة. وهم لا يزالون بعيدين، رأوا سماء المدينة من فوقهم مسودة بالطيور. حملت الريح رائحة ازدادت قوة كلما اقتربوا من المدينة. كان الطريق مستقيما، على مستوى الأرض ويستطيعون الرؤية لمسافة بعيدة. كان المشهد محيِّرًا. بدا أن الطريق تغطيه قوات من رجال طوال جدًّا. كأن جيشًا من العمالقة ظهر لحراسة الجماهير. عند الاقتراب أكثر، رأوا أنهم ليسوا عمالقة بل رجالًا — جنودًا متمردين خوزقت أجسامهم في خوازيق حادة. كانت الرائحة مروِّعة. حين عادوا إلى كوتانا، جمع الكبارُ القرويين معًا. قالوا: «اليوم رأينا وجه الهزيمة ولن يكون وجهنا أبدًا.» منذ ذلك اليوم، قررت عائلات كوتانا إرسال أبنائهم إلى جيش السركار الإنجليزي. هذا ما قال لنا آباؤنا. لا أعرف إن كانت القصة صحيحة أم زائفة، صاحب، لكن هذا ما سمعتُه وأنا ولد.»

في التشوش الناتج عن الألم، وجد أرجون مشكلة في تتبع القصة: «ماذا تقولون، إذن، كيشان سنجه؟ هل تقولون إن القرويين التحقوا بالجيش نتيجة الخوف؟ لكن ذلك مستحيل: لا أحد أرغمهم — أو أرغمك على ذلك. مم خافوا؟»

قال كيشان سنجه بصوت منخفض: «صاحب، ليس كل الخوف بنفس الشكل. ما الخوف الذي يجعلنا نختبئ هنا، على سبيل المثال؟ خوف من اليابانيين، أم خوف من البريطانيين؟ أم خوف من أنفسنا لأننا لا نعرف من أيهما نخاف أكثر؟ صاحب، قد يخاف إنسان من ظل بندقية بقدر ما يخاف من البندقية نفسها — من يعرف أيهما حقيقي أكثر؟»

للحظة، بدا لأرجون أن كيشان سنجه يتحدث عن شيء غريب جدًّا، مخلوق خيالي: هلع يجعلك تعيد تشكيل نفسك، يجعلك تغير فكرتك عن مكانك في العالم — فلا تدرك الخوف الذي شكَّلك. بدت فكرة بهذا القدر من الهلع فكرة عبثية — مثل التقارير عن العثور على كائنات من المعروف أنها اندثرت. اعتقد أن هذا هو الاختلاف، بين الرتب العادية والضباط: ليس لعامة الجنود مدخل للغرائز التي تجعلهم يعملون؛ ليست لديهم مفردات يشكلون بها وعيهم. قُدِّر لهم، مثل كيشان سنجه، أن يكونوا غرباء عن أنفسهم، أن يوجههم آخرون دائمًا.

لكن بمجرد تشكل هذه الفكرة في رأسه بدَّلَها هذيان الألم. انتابتْه هلوسة بصرية مفاجئة. كان هو وكيشان سنجه فيها، لكن بشكلين آخرين: كانا قطعتين من الطين، يلفان على عجلات الخزافين. كان هو، أرجون، أول من لمسه خزاف خفي؛ جاءت يد عليه، لمستْه، وسلمتْه لأخرى؛ تكوَّن، تشكَّل — صار شيئًا في ذاته — لم يعد يدرك ضغط يد الخزاف، ولا يدرك حتى أنه انصرف. في مكان آخر، كان كيشان سنجه لا يزال يدور على العجلة، لا يزال طينًا لم يتكوَّن بعد، طريًّا، قابلًا للتشكيل. كان هذا اللاتشكل جوهر دفاعه ضد الخزاف ولمسة التشكيل.

لم يستطع أرجون محو الصورة من ذهنه: كيف يمكن أن يكون كيشان سنجه — غير المتعلم، غير المدرك لدوافعه — أكثر إدراكًا لثقل الماضي منه، أرجون؟

قال بصوت أجش: «كيشان سنجه، أعطِني بعض الماء.»

قدم له كيشان سنجه زجاجة خضراء فشرب، آملًا أن يبدد الماء سطوع هلوسة هذه الصور التي تمر أمام عينيه. لكن كان أثره عكسيًّا تمامًا. اشتعل ذهنه بالرؤى، بالتساؤلات. هل يمكن — ولو نظريًّا — أن تكون حياته واختياراته قد تشكلت دائمًا بمخاوف لم يدركها هو نفسه؟ فكر في الماضي: لنكاسوكا ومنجو وبيلا، في الساعات التي قضاها جالسًا إلى حافة النافذة، الإحساس اللذيذ بالتحرر الذي سيطر عليه حين عرف أنه قُبِل في الأكاديمية العسكرية. لم يلعب الخوف دورًا في شيء من هذا. لم يعتقد أبدًا أن حياته تختلف عن أية حياة أخرى؛ لم يشعر أبدًا بشك يتعلق باستقلاله الشخصي؛ لم يتخيل أبدًا أن عليه التعامل مع شيء إلا المجال التام للاختيار الإنساني. لكن إذا كان صحيحًا أن هذه الحياة تشكلت بشكل ما بفعل قوة لا يدركها — فذلك يعني بالتالي أنه لم يتبع إرادته أبدًا؛ لم يمر أبدًا بلحظة وعي حقيقي بالذات. كل ما افترضه بشأن نفسه كان كذبًا، وهْمًا. وإذا كان الأمر على هذا النحو، كيف يجد نفسه في تلك اللحظة؟

٣٧

حين انطلقوا إلى مُرْنِنْجْسايد في اليوم التالي، كانت الطرق مزدحمة أكثر من المخرج. بدا أن سيارتهم وحدها تتجه شمالا: كل السيارات الأخرى في الاتجاه العكسي — باتجاه كوالالامبور وسنغافورة. التفَّت الرءوس لتحدق وهم يمرون بها؛ أشار لهم بالتوقف عدة مرات أناسٌ يعرضون المساعدة أرادوا التأكد من أنهم يعرفون إلى أين يذهبون.

مروا بعشرات الشاحنات العسكرية، تسافر كل شاحنتين متجاورتين غالبًا، والأبواق تدوي، ليبتعدوا عن الطريق. اضطروا للسير فوق الحواف مسافات طويلة، زاحفين بسرعة تتراوح بين خمسة عشر ميلًا وعشرين ميلًا في الساعة.

وصلوا إلى سُنْجِي بتاني وقت الأصيل: مضى يوم واحد على سيرهم فيها، لكن البلدة بدت مكانًا مختلفًا. في الصباح كانت خاوية كأنها بلدة أشباح؛ تناثر معظم سكانها في الريف؛ وضعت ألواح على محلاتها وأغلقتْ. لم تعد سُنْجِي بتاني خاوية: كان هناك جنودٌ أينما نظروا — استراليون وكنديون وهنود وبريطانيون. لم تكن المجموعات المنظمة التي اعتادوا رؤيتها؛ كانوا رجالًا كسالى بوجوه مرهقة، في جماعات صغيرة ومجموعات ضئيلة متفرقة. يجوب بعضهم الشوارع وبنادقهم معلقة على أكتافهم مثل الصنانير؛ ويتسكع بعضهم في ممرات المحلات المظللة، يأكلون من علب ولفائف، يخرجون الطعام بأصابعهم. صُبِغتْ أزياؤهم بالعرق والقذارة، ولطَّخ الوحل وجوههم. رأوا في حدائق البلدة وطرقها الملتوية — حيث يلعب الأطفال عادة — مجموعاتٍ من رجال مرهقين، يتمددون نائمين، وأسلحتهم مثبتة في أذرعهم.

لاحظوا علامات النهب: نوافذ محطمة، بوابات فتحت بالقوة، محلات حطمت درفاتها. رأوا نهابين يدخلون الثغرات ويخرجون منها — جنودًا ومحليين يتشاجرون معًا، محطِّمين المحلات. لم يكن على مدى الرؤية رجال بوليس. كان واضحًا أن الإدارة المحلية رحلت.

خبط دينو على نافذة الشاحنة: «أسرعْ إلونجو. لنعبرْ …»

وصلوا إلى طريق أغلقته مجموعة من الجنود. وجَّه أحدهم بندقية إلى الشاحنة، ليقفوا. لاحظ دينو أنه يترنح. صاح في إلونجو: «واصل السير؛ إنهم سكارى …» انحرف إلونجو فجأة بالشاحنة من الوسط إلى ممر آخر. نظر دينو خلفه فرأى الجنود يجرون خلفهم، وهم يشتمون: «قرود أوساخ …»

دخل إلونجو زقاقًا، ثم سار بالشاحنة مبطئًا إلى طريق جانبي، خارج البلدة. بعد بضعة أميال، لمح على جانب الطريق شخصًا يعرفه. توقف ليسأل عما يجري.

كان الرجل مقاولًا في مزرعة مطاط لا تبعد كثيرًا عن مُرْنِنْجْسايد. أخبرهم بأنهم محظوظون لأن الشاحنة لا تزال معهم: في عزبته، صودرت كل المركبات. جاء ضابط إنجليزي مع مجموعة من الجنود في وقت مبكر من الصباح: أخذوا شاحنته.

تبادلوا النظرات، وفكر كل منهم فورًا في الدايتونا، في جراج مُرْنِنْجْسايد.

بدأ دينو يمضغ مفاصل أصابعه: «هيا، لا تضيع وقتًا …»

بعد دقائق وصلوا إلى المدخل المقوس لمُرْنِنْجْسايد. بدا كأنهم دخلوا بلدًا آخر؛ لم تكن هناك علامة على شيء غير متوقع. كانت العزبة ساكنة وهادئة؛ لوح لهم الأطفال وهم يسيرون إلى الطريق غير الممهد. ثم ظهر المنزل، بعيدًا أمامهم على المنحدر: بدا فخمًا وساكنًا.

أخذ إلونجو الشاحنة إلى الجراج مباشرة. قفز وفتح الباب. كانت الدايتونا في الداخل.

وقف دينو وأليسون ينظران إلى السيارة. أمسك دينو بذراعها ودفعها إلى الجراج: «أليسون … يجب أن ترحلي الآن فورًا … ليس هناك وقت.»

خلَّصتْ أليسون يدها من يده وأغلقت باب الجراج: «لا. أرحل فيما بعد — في الليل. من يعرف كم من الوقت ينقضي قبل أن يرى كل منا الآخر مرة أخرى؟ أريد أن أقضي بضع ساعات معك قبل أن أرحل.»

•••

في الصباح ذهب كيشان سنجه يستطلع الأمر ووجد اليابانيين انسحبوا من المزرعة تحت غطاء الليل. ساعد أرجون على الخروج من المجرور وسنده معتدلًا على أرض مفروشة بأوراق الأشجار. ثم سحب ملابس أرجون المبللة، وعصرها، ونشرها في بقعة مشمسة.

تغضن صدر أرجون وبطنه من الانغمار طويلًا في المياه، لكن ألم ساقه سكن. شعر بارتياح حين رأى أن الضمادة على فخذه أدت دورها وأوقفت النزيف.

وجد كيشان سنجه غصنًا يمكن استخدامه عكازًا، وبدآ السير ببطء وكان أرجون يتوقف كل بضع خطوات ليعدل قبضته. وصلا إلى درب محصَّب. تبعا اتجاه الدرب محتمين بصف من الأشجار. لاحظا بعد لحظة علامات على وجود حي سكني قريب — خِرَقًا وآثارَ أقدام وقشرَ بيض متناثر أبعدته الطيور. رأيا بعد قليل سحبًا من دخان الخشب ترتفع فوق الأشجار. شمَّا رائحة مألوفة لأرز وبذور خردل محروقة. ثم لمحوا حي عمال المزرعة: صفين متشابهين من الأكواخ يواجه كل منهما الآخر عبر الدرب. كان عدد كبير من الناس يتشاجرون في الخلاء وكان واضحًا، حتى من بعيد، أن شيئًا غير طبيعي يحدث.

كانت الأكواخ في منخفضٍ بسيطٍ، حوضٍ، محاطٍ بأرض أعلى من كل جانب. بمساعدة كيشان سنجه صعد أرجون حافة منخفضة. تطلعا، وهما مستلقيان على بطنيهما، إلى الحوض.

كان هناك حوالي خمسين مسكنًا في صفين متوازيين. وفي النهاية معبد هندوسي صغير — سقيفة بسقف من الصفيح يحيط بها جدار مدهون بالأحمر والأبيض. بجوار المعبد منطقة منزوعة الأشجار بسقيفة مفتوحة الجوانب، بسقف من الصفيح أيضًا. من الواضح أن هناك لقاء جماعيًّا. كانت السقيفة مركز الإثارة، وكل من في القرية يتجهون إليها.

«صاحب. انظر.» أشار كيشان سنجه إلى سيارة سوداء تقف شبه مختبئة خلف السقيفة. كان هناك علم على الكبوت، مثبت في قضيب عمودي. بدا العلم صغيرًا جدًّا من تلك المسافة ولم يتعرف عليه أرجون من النظرة الأولى. كان مألوفًا وغير مألوف؛ تصميمًا يعرفه جيدًا لكنه لم يره منذ فترة طويلة. التفت إلى كيشان سنجه فوجد المراسلة ينظر إليه بحذر.

«هل تعرف ذلك الجهندا،٣٩ كيشان سنجه؟»
«صاحب، إنه التيرنجا …»٤٠

بالطبع — كيف فشل في التعرف عليه؟ علم الحركة الوطنية الهندية: عجلة تلفُّ على خلفية من البرتقالي والأبيض والأخضر. وهو لا يزال مرتبكا بشأن العلم أتت دهشة ثانية. خرج من السقيفة شخص مألوف معمم بالكاكي، يتجه إلى السيارة. هاردي، يستغرق في محادثة مع رجل آخر، غريب — سيخي بلحية بيضاء يرتدي سترة بيضاء طويلة يرتديها الرجال المتعلمون، جياني.

لم يعد هناك سبب للانتظار. كافح أرجون مع قدميه: «كيشان سنجه، شلو …» مال بثقله على عكازه، وبدأ يسير إلى أسفل المنحدر باتجاه السقيفة.

«هاردي! أوي،٤١ هاردي!»

قطع هاردي المحادثة وتطلع إلى أعلى: «يار؟ أرجون؟»

جاء يجري إلى المنحدر، والابتسامة تملأ وجهه: «يار — اعتقدنا بشكل مؤكد أن اللقطاء أمسكوا بك.»

قال أرجون: «عاد كيشان سنجه من أجلي. لم أكن هنا الآن لولاه.»

خبط هاردي كيشان سنجه على كتفه: «شاباش!»٤٢

هزَّ أرجون كوع هاردي: «أخبرْني الآن، ماذا يحدث هنا؟»

قال هاردي: «لا تتعجل، يار. سأخبرك، لكن اغتسل أولًا. أين أصيبت؟»

«في وتر الركبة، على ما أعتقد.»

«هل الجرح شديد؟»

«أحسن اليوم.»

«لنذهب إلى مكان يمكن أن نجلس فيه. ونضع ضمادة على جرحك.»

أشار هاردي لجندي. «جالدي إم. أوه. كو بهيجو.»٤٣ أدخل أرجون إلى أحد الأكواخ وترك الباب مفتوحًا. قال بابتسامة: «قائدنا الأعلى.»
كان الكوخ مظلمًا، والنوافذ الصغيرة مغطاة بخِرَقٍ. والحوائط الخشبية مغطاة بطبقات من السناج، ورائحة الدخان قوية. بجوار إحدى الحوائط شربوي٤٤ ضيق من الخيوط: أخذ هاردي أرجون إلى السرير وساعده على الجلوس.

كانت هناك طرقة على الباب ودخل ممرض. فحص ضمادة أرجون بدقة ونزعها بحركة واحدة سريعة. كشر أرجون فقدَّم له هاردي كوبًا من الماء.

«اشربْ. أنت في حاجة إليه.»

تجرع أرجون الكوب وأعاده. قال: «هاردي، أين بَكِي؟»

قال هاردي: «يستريح. في سقيفة خالية على الطريق. المكان الوحيد المناسب له. يعاني من مشكلة ذراعه. أعطيناه مسكنات. راح في غيبوبة طوال الصباح.»

بدأ الممرض ينظف جرح أرجون وهو يتشبث بحافة السرير.

قال من بين أسنانه المنقبضة: «أخبرني، هاردي، ماذا يحدث هنا؟»

قال هاردي: «سأحكي لك باختصار قدر ما أستطيع. حدث الأمر على النحو التالي: الليلة الماضية، بعد أن فقدناك بوقت قصير، التقينا بهنديين من نقاري المطاط. وحين تحدثنا إليهما قالا إننا سنكون آمنين في حي العمال. حضرنا إلى هنا. كانوا كرامًا جدًّا: قدَّموا لنا طعامًا وأسرَّة. أرونا السقيفة التي وضعنا فيها بكي. لم نكن نعرف، لكن تبين أن بعضهم أعضاء في جمعية الاستقلال الهندية. أرسلوا كلمة إلى مكتبهم وفي هذا الصباح وصل جيانجي٤٥ في سيارة — يرفرف عليها العلم. يمكن أن تتخيل مدى دهشتنا. تبين أنه جياني أمريك سنجه — تعرف الاسم؟ كان توقيعه على المنشورات التي أسقطها اليابانيون علينا في جيترا.»

قال أرجون، بجفاف: «نعم. أعرف ذلك الاسم. ماذا يريد؟»

توقف هاردي، مردِّدًا لحنًا بصوت منخفض. عرف أرجون أنه يفكر بدقة فيما يقول بعد ذلك.

«أرجون، هل تتذكر الكابتن موهون سنجه؟»٤٦

«نعم. البنجاب الرابعة عشرة، حسنًا؟ ألم يكن في جيترا أيضًا؟ أعتقد أني رأيته في الطريق إلى خط أسون.»

«نعم. تواروا في المزرعة واتجهوا إلى الشرق كما فعلنا بالضبط.»

«ماذا إذن عن الكابتن موهون سنجه؟»

«أخبرني جيانجي أنه على اتصال بجمعية الاستقلال الهندية.»

«واصلْ»

«انتظرْ.» انتهى الممرض من وضع ضمادة على جرح أرجون. رآه هاردي يخرج فأغلق الباب. توقف، ممرِّرًا إصبعًا في لحيته. قال: «انظرْ، أرجون. لا أعرف كيف ستفهم هذا. أخبرك فقط بما أعرف …»

«واصلْ، هاردي.»

«اتخذ الكابتن موهون سنجه خطوة كبيرة.»

«أية خطوة؟»

«قرر الانشقاق عن البريطانيين.»

«ماذا؟»

قال هاردي بصوت ثابت وهادئ: «نعم. سيشكل وحدة مستقلة — الجيش الوطني الهندي. معه كل ضباط البنجاب الرابعة عشرة — أقصد الهنود. كومار ومسعود وآخرون كثيرون أيضًا. وقد دعوا كلًّا منا للانضمام …»

قال أرجون: «هكذا؟ تفكر في هذا؟»

ابتسم هاردي: «ماذا أقول، أرجون؟ تعرف ما أشعر به. لم أخفِ آرائي أبدًا — على عكس بعض رفاقك.»

وجه أرجون إصبعًا إليه: «هاردي، انتظر. فكر دقيقة فقط. لا تتعجلْ. كيف تعرف هذا الجياني؟ كيف يمكن حتى أن تعرف أنه يقول الحقيقة فيما يخص الكابتن موهون سنجه؟ كيف تعرف أنه ليس إلا أداة يابانية؟»

قال هاردي: «كان أمريك سنجه في الجيش أيضًا. عرف أبي — لا تبعد قريته عن قريتنا كثيرًا. إذا كان أداة يابانية، فلابد أن هناك سببًا. على أية حال، من نحن لنسميه أداة؟» ضحك هاردي: «رغم كل شيء، ألسنا، نحن، أدوات أكبر من الكل؟»

«انتظرْ.» حاول أرجون ترتيب أفكاره. شعر بارتياح كبير لأنه تمكن من الإفصاح أخيرًا، من الإعلان عن مناقشات طويلة أجراها مع نفسه في عقله.

قال أرجون: «إذن ماذا يعني هذا؟ هل سيحارب موهون سنجه ورفاقه إلى جانب اليابانيين؟»

«نعم. بالطبع. حاليًا — حتى يخرج البريطانيون من الهند.»

«لكن هاردي — لنفكرْ في الأمر جيدًا. ماذا يريد اليابانيون منا؟ هل يهتمون بنا وباستقلالنا؟ لا يريدون إلا إخراج البريطانيين ليدخلوا ويأخذوا مكانهم. يريدون استغلالنا فقط: ألا ترى ذلك؟»

استهجن هاردي إذعانه: «بالطبع يريدون، أرجون. إذا لم يكن هم، فسيكون غيرهم. سيكون هناك دائمًا من يحاول استغلالنا. هنا تكمن الصعوبة، ألا ترى؟ نحاول للمرة الأولى في حياتنا أن تكون لنا آراؤنا — لا أن نتلقى الأوامر.»

اجتهد أرجون للحفاظ على هدوء صوته: «هاردي، انظر. هذا ما قد يبدو لك الآن، لكن اسألْ نفسك: ما فرص أن نتمكن من عمل شيء لأنفسنا؟ سننتهي على الأرجح ونحن نحاول مساعدة اليابانيين على الدخول إلى الهند. ماذا يعني استبدال اليابانيين بالبريطانيين؟ ليس البريطانيون، كما قال سادة استعماريون، بهذا السوء — أفضل من الكثير. من المؤكد أنهم أفضل بكثير مما سيكون عليه اليابانيون.»

ضحك هاردي ضحكة عالية، ولمعتْ عيناه: «يار أرجون، فكر في أين سقطنا حين بدأنا الحديث عن سادة طيبين وسادة أشرار. ماذا نحن؟ كلاب؟ أغنام؟ ليس هناك سادة طيبون وسادة أشرار، أرجون — بطريقة ما كلما كان السيد أفضل كانت حالة العبد أسوأ، لأنه يُنسيه حقيقته …»

حدق كل منهما في الآخر، والوجهان لا يبتعدان أكثر من بوصات. ارتجف جفن هاردي وشعر أرجون بحرارة نفَسه. كان أول من انسحب.

«هاردي، لن يفيدنا أن نتعارك معًا.»

«لا.»

بدأ أرجون يمضغ مفاصل أصابعه. قال: «اسمع، هاردي. لا تظن أني أختلف مع ما تقول. لا أختلف. أعتقد أنك على صواب في معظم ما تقول. لكني أحاول فقط أن أفكر فينا — في رجال مثلك ومثلي — في مكاننا في العالم.»

«لا أفهم.»

«انظر فقط إلينا، هاردي — انظر فقط إلينا. ماذا نحن؟ تعلمنا رقص التانجو وعرفنا أكل لحم البقر المشوي بالشوكة والسكين. باستثناء لون بشرتنا، لا يستطيع معظم الناس في الهند التعرف علينا كهنود. حين التحقنا بالجيش، لم نضع الهند في عقولنا: أردنا أن نكون صحابًا وصرنا. هل تعتقد أننا نستطيع إلغاء هذا كله بمجرد وضع علم جديد.

هزَّ هاردي كتفيه اشمئزازًا. قال: «انظرْ، أنا عسكري بسيط، يار. لا أعرف ما ترمي إليه. المسألة بالنسبة لي صح وغلط — ما هو جدير بالقتال من أجله وما هو غير جدير. هذا كل ما في الأمر.»

كانت هناك طرقة على الباب. فتحه هاردي فوجد جياني أمريك سنجه يقف في الخارج.

«الجميع ينتظرون …»

استدار هاردي إلى أرجون: «جيانيجي، إيك مينيت٤٧ … انظرْ، أرجون …» كان صوته مجهدًا من المناقشة — «سأقول لك ما أنا ذاهب لأفعله. عرض جياني أن يأخذنا إلى خطوط اليابانيين إلى موهون سنجه. بالنسبة لي اتخذتُ قراري بالفعل. أنا ذاهب لأشرح هذا للرجال؛ أنا ذاهب لأخبرهم لماذا أعتقد أن هذا ما علينا أن نفعله. يمكن أن يقرروا بأنفسهم. هل تريد أن تأتي وتسمع؟»

أومأ أرجون: «نعم.»

أعطى هاردي أرجون عكازه، وذهبا معًا إلى السقيفة، سارا ببطء في المسار المحصَّب. السقيفة ممتلئة؛ الجنود في المقدمة، يقرفصون في صفوف منتظمة. وخلفهم سكان حي العمال: الرجال في السارُنج والنساء في الساري. وكثير من النقارين معهم أطفال في أيديهم. في أحد أطراف السقيفة طاولة وكرسيان. احتلَّ هاردي مكانه خلف الطاولة وجلس أرجون وجياني أمريك على الكرسيين. كان هناك صخب شديد: أناس يهمسون، يتحدثون؛ وأطفال يضحكون من طرافة المناسبة. كان على هاردي أن يصيح ليُسمَع.

بمجرد أن بدأ هاردي، أدرك أرجون، بدهشة، أنه متحدث موهوب، خطيب متمرس. ملأ صوته السقيفة، وردد السقف الصفيح صدى صوته — الواجب، البلاد، الحرية. أدرك أرجون، وهو يستمع باهتمام، أن طبقة من العرق تنساب على وجهه. نظر إلى أسفل وأدرك أن العرق يتساقط منه، يتدفق من كوعيه وساقيه. شعر أن حرارته ترتفع كما كان الحال في الليلة السابقة.

فجأة دوَّت في السقيفة أصوات جماعية، صخب يصم الآذان. سمع أرجون هاردي يجأر في الحشد: «هل أنتم معي؟»

كان هناك هياج آخر؛ انفجار هائل لأصوات تتدفق إلى السقف فيردد صداها. وقف الجنود على أقدامهم. أمسك اثنان منهم بأذرع بعضهما وبدآ يرقصان البهنجرا،٤٨ هازين الأكتاف وضاربين الأرض بالأقدام. ومن خلفهما العمال — رجالًا ونساء وأطفالًا — يصيحون أيضًا ملقين بأشياء في الهواء، يخبطون، ويلوِّحون. نظر أرجون إلى كيشان سنجه فرأى وجهه متوردًا، مبتهجًا، وعينيه ساطعتين.
لاحظ أرجون، بطريقة مستقلة وحيادية تقريبًا، أن كل ما في السقيفة، منذ دخلها، تغير. كأن لون العالم كله تغير، انتحل مظهرًا مختلفًا. بدت حقائق بضع دقائق سابقة مثل حلم غير مفهوم: هل اندهش حقًّا حين نظر على الجرف ورأى علمًا هنديًّا في حي العمال؟ لكن في أي مكان آخر كان هذا العلم؟ هل صحيح حقًّا أن جد كيشان سنجه فاز بوسام في الفلندرز؟٤٩ هل صحيح أن كيشان سنجه الرجل نفسه الذي عرفه دائمًا — أكثر الجنود إخلاصًا، المنحدر من أجيال من الجنود المخلصين؟ نظر إلى الرجلين الراقصين: كيف خدم مع هؤلاء الرجال مدة طويلة ولم يعرف أبدًا أن إذعانهم لم يكن كما بدا؟ وكيف يمكن ألا يعرف ذلك أبدًا عن نفسه؟

هل هكذا يشتعل التمرد؟ في لحظة طيش، يصبح المرء غريبًا عن الشخص الذي كان عليه قبل لحظة؟ أم العكس؟ حدث الأمر حين تعرف المرء على الغريب الذي كان عليه دائمًا؛ تبدلت كل ولاءات المرء ومعتقداته؟

لكن إلى أين تذهب ولاءاته، وكانت طليقة؟ كان رجلًا عسكريًّا، ويعرف أنه لا شيء — لا شيء مهم — بدون الإخلاص، بدون الإيمان. لكن لمن يدَّعي الإخلاص؟ الولاءات القديمة للهند، الولاءات القديمة — حطموها منذ زمن بعيد؛ شيد البريطانيون إمبراطوريتهم بمحوها. لكن الإمبراطورية كانت ميتة — عرف هذا لأنه شعر بأنها تموت داخله، حيث كان لها أقوى نفوذ — ومع مَنْ يحافظ على إيمانه؟ الولاء، العام، الإيمان — كانت أشياء أساسية وهشة مثل عضلات قلب الإنسان؛ تحطيمها سهل، ومن المستحيل إعادة بنائها. كيف للمرء أن يبدأ العمل على إعادة خلق النسيج الذي يربط الناس معًا؟ يفوق ذلك قدرات شخص مثله، شخص تدرب على أن يدمر. إنه عملٌ لا يستغرق عامًا أو عشرة أعوام أو خمسين عامًا — عملٌ يحتاج قرونًا.

«هكذا، أرجون؟» فجأة كان هاردي يركع أمامه، ناظرًا في وجهه. كان مبتهجًا، متألقا بالانتصار.

«أرجون؟ ماذا أنت فاعل، إذن؟ هل أنت معنا أم ضدنا؟»

مدَّ أرجون يده إلى عكازه واندفع واقفًا على قدميه: «اسمعْ، هاردي. قبل التفكير في أي شيء آخر — هناك شيء علينا أن نفعله.»

«ماذا؟»

«بَكِي، القائد — يجب أن ندعه يذهب.»

حدق هاردي فيه ولم ينطق بكلمة.

واصل أرجون: «علينا أن نفعل ذلك. لا يمكن أن نكون مسئولين عن قبض اليابانيين عليه وأسره. كان رجلًا عادلًا جدًّا، هاردي، وكانت الخدمة تحت قيادته جيدة — تعرف ذلك. يجب أن ندعه يذهب. ندين له بذلك.»

هرش هاردي لحيته: «لا يمكن أن أسمح بذلك، أرجون. يمكن أن يبوح بموقعنا، تحركنا …»

قاطعه أرجون. قال بتعب: «ليست مسألة ما تسمح به، هاردي. لست رئيسي، ولستُ تابعك. أنا لا أطلب منك. أنا أخبرك بأني ذاهب لأقدم للقائد بعض الطعام وبعض الماء وأدعه يعثر على طريق للعودة عبر الحي. إذا أردت أن توقفني، فسوف تُشعل حربًا بيديك. أعتقد أن بعض الرجال سيأخذون جانبي. قررْ.»

عبرت ابتسامة باهتة وجه هاردي. «انظر لنفسك، يار.» كان صوته لاذعًا بالسخرية. «حتى في هذا الوقت أنت شبلوس —٥٠ ما زالت تفكر في التملق. فيم تأمل؟ أن يقف بجانبك إذا لم تسر الأمور بشكل صحيح؟ تأخذ ضمانًا صغيرًا للمستقبل؟»

«أنت لقيط.» تمايل أرجون باتجاه هاردي، وهو يمد يده إلى ياقته، ويهزُّ عكازه.

ابتعد هاردي بسهولة. قال بصوت أجش: «آسف. كان لا يجب أن أقول ذلك. ثيك هَي.٥١ افعل ما تريد. سأرسل شخصًا يريك مكان بَكِي. لكن أسرعْ — هذا كل ما أطلبه.»

٣٨

استغرق دينو وأليسون ساعة في إخلاء الغرفة المظلمة. لم يكن هناك كهرباء، وكان عليهما العمل على ضوء الشموع. أنزلا مكبِّره، كوَّما طفاياته، وحزما صوره والنيجاتيف، ولفاها في ملابس قديمة ووضعاها في صناديق. حين انتهيا، أطفأ دينو الشمعة، وهما لا يزالان واقفين في الدفء الساكن في غرفة تشبه الدولاب، يستمعان لصوت أزيز الحصاد في الليل ونقيق ضفادع الطقس الممطر. سمعا على فترات متقطعة، صوتًا متقطعًا، نوعًا من النباح، كأنَّ مجموعة كلاب أُقْلقتْ في قرية نائمة.

همستْ: «بنادق.»

مدَّ دينو يده إليها في الظلام، وشدَّها إليه.

«إنهم بعيدون.»

ضمَّها، التفَّتْ ذراعاه حول جسمها بقوة. فتح راحتي يديه ومسح على شعرها وكتفيها والمنحني المقعر لظهرها. ارتطمت أصابعه بطوق ردائها، وسحب الثياب ببطء، رفعها عن كتفيها، وشدَّها للخلف. غطس على ركبتيه، مس وجهه جسمها بطوله، لمسها بخده وأنفه ولسانه.

استلقيا على الأرضية الضيقة، متلاصقين، والسيقان تلتف حول بعضها، والفخذ على الفخذ، والأذرع ممتدة، وسطح بطن كل منهما مطبوع على الآخر. علقتْ أغشية من العرق متشابكة بين جسميهما، ربطت بينهما، شدَّتْهما معًا.

«أليسون … ماذا أفعل؟ بدونك؟»

«وأنا، دينو؟ ماذا عني؟ ماذا أفعل؟»

بعد ذلك، رقدا ساكنين، ورأس كل منهما على ذراع الآخر. أشعل سيجارة ووضعها بين شفتيها.

قال: «ذات يوم، حين نعود إلى هنا معًا، سأريك السحر الحقيقي لغرفة مظلمة …»

«ما هو؟»

«حين تطبعين بالتلامس … حين تضعين النيجاتيف على الورقة وترين الحياة تنبعث فيها … تصبح ظلمة أحدهما نور الآخر. تساءلتُ حين رأيتُ ذلك يحدث أول مرة، ماذا تكون هذه اللمسة؟ … مع هذا الامتصاص التام؟ … بالنسبة لشيء تصل إليه إشعاعات ظلال الآخر؟»

لمستْ وجهه بأناملها: «دينو.»

«إذا استطعتُ فقط أن أبقي عليكِ بهذه الطريقة … بحيث تطبعين عليَّ … كل جزء مني …»

«دينو، سيكون هناك وقت.» أخذتْ وجهه بين يديها وقبَّلتْه. «أمامنا بقية حياتنا …» قامتْ على ركبتيها، أشعلت الشمعة مرة أخرى. أمسكتْ باللهب أمام وجهه، نظرتْ بقوة في عينيه، كأنها تحاول غرسهما في رأسها.

قالتْ: «لن تطول المدة، دينو؟ أليس كذلك؟»

«لا … لن تطول.»

«هل تؤمن بذلك حقًّا؟ أم تكذب — من أجلي؟ أخبرني بالحقيقة، دينو: أفضِّلُ أن أعرف.»

أمسك بكتفيها. تكلم بكل ما استطاع من ثقة: «نعم، أليسون. نعم. سنعود إلى هنا بعد فترة قصيرة … نعود إلى مُرْنِنْجْسايد … سيكون كل شيء على حاله، إلا …»

«إلا؟» عضَّتْ شفتها، كأنها تخشى سماع ما سينطق به.

«إلا أننا سنكون متزوجين.»

انفجرتْ في ضحكة مبتهجة. قالت وهي تهزُّ رأسها: «نعم. نعم. سنكون متزوجين. تركنا ذلك فترة طويلة. كانت غلطة.»

التقطت الشمعة وخرجتْ من الغرفة جريًا. استلقى ساكنًا، يسمع وقع خطاها: كان المنزل أهدأ مما عرف في أي وقت. في الدور الأرضي، كان سايا جون في السرير، مرهقًا ونائمًا.

نهض وتبعها عبر الدهاليز المظلمة إلى غرفة نومها. فتحت أليسون الخزائن وكانت تفتش الأدراج. التفتتْ فجأة إليه، وهي تمدُّ يدها: «انظرْ.» لمع خاتمان ذهبيان في ضوء الشمعة.

قالت: «كانا خاتمي والديَّ.» مدَّتْ يدها إلى يده ودفعتْ خاتمًا فوق مفصل بِنْصَرِه: «بهذا الخاتم أتزوجك

ضحكتْ وهي تضع الخاتم الآخر في كفِّه. ثم مدَّتْ إصبعًا، ويدها تمتدُّ أمامها.

تحدتْه: «هيا. افعلْها. أتحداك.»

قلَّب الخاتم في يديه ثم وضعه في مكانه في إصبعها.

«هل نحن متزوجان الآن؟»

هزَّتْ رأسها ضاحكة، ورفعت إصبعها إلى ضوء الشمعة. قالتْ: «نعم. بطريقة ما. في نظر أنفسنا. وأنت بعيد تبقى لي بهذا الخاتم.»

شدَّت الناموسية المعلقة من السقف، وأسدلتْها على أطراف سريرها. «تعال.» أطفأت الشمعة وسحبتْه إلى الناموسية.

بعد ساعة، استيقظ دينو على صوت طائرات تقترب. مدَّ يده إلى يدها ووجدها مستيقظة، تجلس منتصبة وظهرها إلى رأس السرير: «أليسون …»

«لا تقلْ حان الوقت. لم يحنْ بعد.»

أمسك كل منهما بالآخر واستمعا. كانت الطائرات فوقهما مباشرة، على ارتفاع منخفض. ارتجَّت النوافذ وهي تقترب منها.

قال دينو: «وأنا صغير. حكي أبي ذات مرة حكاية عن مَنْدالي. حين نُفِي الملك، كان على فتيات القصر أن يسرن في المدينة، إلى النهر … كانت أمي معهن وتبعها أبي، محتميًا بالظلال. كانت المسافة كبيرة والفتيات مرهقات وفي حالة مزرية … وضع أبي كل ما معه من فلوس واشترى بعض الحلوى … ليرفع معنوياتهن. كان يحرس الفتيات جنودٌ، غرباء، إنجليز … استطاع أبي بطريقة ما التسلل عبر الطوق … أعطى أمي علبة حلوى. وعاد بسرعة إلى الظلال … رآها تفتح العلبة … ذهل … كان أول ما فعلتْه تقديم بعضها للجنود الذين يسيرون بجوارها. غضب في البداية؛ شعر بإهانة … لمَ تخلَّتْ عنها … خاصة لأولئك الرجال، آسريها؟ لكن، بعد ذلك، ببطء، فهم ما فعلتْ، وكان سعيدًا … رآه صحيحًا — كانت طريقة للبقاء على قيد الحياة. كان إعلان التحدي لا يخدم أي هدف …»

قالت بهدوء: «أعتقد أنك تريد أن تقول لي شيئًا ما، دينو. ماذا؟»

«أريد فقط أن تكوني حذرة، أليسون … لا تكوني عنيدة … تخلي عن طباعك، لبعض الوقت فقط … كوني حريصة، هادئة …»

ضغطتْ على يده: «أحاول، دينو. أعدك. وأنت أيضًا: كن حذرًا أنت الآخر.»

«سأكون — طبيعتي. لسنا متماثلين في هذا … لهذا أنا قلق عليك.»

مرَّ سربٌ آخر من الطائرات. كان الحفاظ على السكون أكثر من ذلك مستحيلًا والنوافذ ترتج كأنها تتحطم. لفَّتْ أليسون ساقيها ونزلتْ من السرير. التقطتْ حقيبة يدٍ بها مفاتيح الدايتونا. كانت ثقيلة على غير المتوقع. فتحت الإبزيم، ونظرتْ داخلها ورفعتْ حاجبها لدينو.

«مسدس أبيك. وجدْتُه في درج.»

«هل هو مشحون؟»

«نعم. فحصته.»

أغلقت الإبزيم وعلقت الحقيبة على كتفها: «حان الوقت.»

نزلا ووجدا سايا جون يجلس في مقعده المفضل. نزلتْ أليسون إلى ركبتيها بجواره ووضعتْ يدًا حول خصره.

«أريد بركاتك، جدي.»

«لماذا؟»

«سنتزوج أنا ودينو.»

امتلأ وجهه بابتسامة. رأت، مما أسعدها، أنه فهم؛ كانت عيناه نقيتين وصافيتين. أشار لهما بالاقتراب أكثر ووضع ذراعيه حول أكتافهما.

«ابن رَجْكومار وابنة ماثيو.» ترنَّحَ برقة من جانب إلى آخر، ممسكًا برأسيهما مثل إكليلين تحت ذراعيه: «هل هناك ما هو أفضل؟ ربطتما العائلتين. سيسعد آباؤكما.»

خرجا، كان المطر ينهمر. أنزل دينو كبوت الدايتونا وأبقى الباب مفتوحًا من أجل سايا جون. ربت الرجل العجوز على ظهره وهو يدخل السيارة.

قال: «أخبرْ رَجْكومار بأنه سيكون عرسًا كبيرًا. سأصرُّ على حضور رئيس الأساقفة.»

حاول دينو أن يبتسم: «نعم. بالطبع.»

ثم ذهب دينو إلى ناحية أليسون وركع بجوار النافذة. لم تنظرْ إليه.»

«لن نقول كلمات الوداع.»

«لن نقول.»

أدارت السيارة ورجع للخلف. في قاع الممر، توقفت الدايتونا. رآها تميل للخارج، ورأسها مظلل في أضواء السيارة المطوقة بالمطر. رفعتْ ذراعًا لتلوح، وردَّ عليها بالتلويح. ثم صعد السلالم جرْيًا، متنقلًا بسرعة من نافذة لأخرى. شاهد أضواء الدايتونا حتى اختفتْ.

•••

كانت السقيفة التي قضى فيها المقدم بكلاند الليل بناية من الطوب الأحمر تحيط بها الأشجار، على بعد حوالي ربع ميل من حي العمال. قاد أرجون إلى هناك «مقاولٌ» شاب سريع الكلام يرتدي شورتا كاكيا: حمل زجاجة الماء وصرة الطعام الذي أعد للمقدم.

أطلع المقاولُ أرجون على درب يتجه للجنوب بين هضاب منخفضة. قال: «هناك بلدة تبعد ميلين. آخر ما سمعنا أنها ما زالت في قبضة البريطانيين. سلَّمه المقاولُ زجاجة الماء وصرة الطعام.

«سيكون الكولونيل آمنا إذا سار في هذا الدرب. لن يستغرق الأمر منه أكثر من ساعة أو اثنتين حتى يصل إلى البلدة، حتى لو سار ببطء شديد.»

صعد أرجون، بحذر شديد، خطوات إلى الباب. طرق الباب وحين لم يسمع ردًّا استخدم طرف العكاز ليدفع الباب ويفتحه. وجد المقدم بكلاند مستلقيًا على الأرضية الأسمنت فوق فراش.

«سير.»

جلس المقدم بكلاند فجأة، محدِّقًا حوله. قال بحدة: «من أنت؟»

«الضابط روي، سير.» حيَّاه أرجون، مستندًا على عكازه.

صار صوت المقدم دافئًا: «أوه، روي. أنا سعيد لرؤيتك.»

«أنا أيضًا سعيد لرؤيتك، سير.»

«أنت جريح — ماذا حدث؟»

«رصاصة في رباط الركبة، سير. ستكون على ما يرام. كيف حال ذراعك؟»

«تحسنتْ قليلًا.»

«هل تعتقد أنك في حالة تسمح لك بالمشي، سير؟»

رفع المقدم بكلاند حاجبًا. حدَّقَ بحدَّةٍ في الصرة وزجاجة الماء اللتين في يدي أرجون: «لماذا؟ ماذا تحمل فيها، روي؟»

«بعض الطعام والماء، سير. تقدم اليابانيون في الطريق السريع بين الشمال والجنوب. إذا سرْتَ في الاتجاه الآخر، يمكنك أن تجتاز الخطوط.»

«أجتاز الخطوط؟» كرر المقدم بكلاند العبارة لنفسه ببطء: «أنا ذاهب وحدي، إذن؟ ماذا عنك؟ وعن الآخرين؟»

«نبقى هنا، سير. حاليًا.»

«أرى.» نهض المقدم بكلاند على قدميه، ساندًا يمناه على صدره. أخذ زجاجة الماء من أرجون وفحصها، قلَّبها في يديه. «ستنضمون لليابانيين، أليس كذلك؟»

«لا أعبِّر عن الأمر بهذا الشكل، سير.»

«أنا متأكد من أنك لا تعبر عنه بهذه الطريقة.» تطلَّع المقدم بكلاند في أرجون عن قرب، مقطِّبًا.

قال أخيرًا: «تعرف، روي. لم اعتبرْك انتهازيًّا أبدًا. بعض الآخرين، نعم — ربما تستطيع أن ترى أين تكمن الإمكانية. لكن ليس لك مظهر الخائن.»

«قال البعض إني كنتُ خائنًا طوال الوقت، سير؟»

هزَّ المقدم بكلاند رأسه: «لا تؤمن حقًّا بذلك، أليس كذلك؟ لا تؤمن بأي من هذا.»

«سير؟»

«لا تؤمن. وإلا ما كنت هنا، تأتي إليَّ بطعام وماء. العسكري غير الكفء فقط هو الذي يساعد عدوًّا على الهرب. أو الأحمق.»

«شعرْتُ أن عليَّ أن أفعل ذلك، سير.»

«لماذا؟»

قال أرجون: «لأنها ليستْ غلطتك، سير. كنْتَ دائمًا عادلًا معنا. كنت أفضل قائد يمكن أن نأمل فيه — في ظلِّ هذه الظروف.»

«أفترض أنك تتوقع مني أن أشكرك على هذا الكلام؟»

فتح أرجون الباب: «لا أتوقع شيئًا، سير. لكن إن كنْتَ لا تبالي، سير، ليس هناك وقت. سأريك الطريق.»

خرج المقدم بكلاند وتبعه أرجون. نزلا الدرج وسارا بين الأشجار. حين ابتعدا قليلًا، سلك المقدم بكلاند حنجرته، وقال: «انظرْ، روي. لم يفت الوقت بعد. يمكن أن تغير رأيك. تعال معي. يمكن أن تتخلى عن هذه الزلة. سننسى هذا … هذا الحدث.»

مضتْ لحظة قبل أن يردَّ أرجون: «سير، هل يمكن أن أقول شيئًا؟»

«قلْ.»

«هل تتذكر وأنت تدرِّس في الأكاديمية — اقتبسْتَ ذات مرة عبارة في إحدى محاضراتك. جنرال إنجليزي — اسمه منرو٥٢ على ما أعتقد. اقتبسْتَ شيئًا قاله منذ مائة عام عن الجيش الهندي: ستندلع روح الاستقلال في هذا الجيش حتى قبل أن تصبح فكرة بين الناس بوقت طويل …»

أومأ المقدم بكلاند: «نعم. أتذكر ذلك. جيدًا.»

«كنا جميعًا في الفصل من الهنود وفوجئنا بأنك اخترت اقتباس هذه العبارة لنا. صممنا على أن منرو يقول كلامًا لا معنى له. ولم توافقْ …»

«هل حدث ذلك؟»

«نعم. اعتقدْتُ حينها أنك تلعب دور محامي الشيطان؛ تحاول استثارتنا فقط. لكن ذلك لم يكن صحيحًا، أليس كذلك، سير؟ عرفْتَ الحقيقة طوال الوقت: كنْتَ تعرف ما سوف نفعل — عرفتَه قبل أن نفعله. عرفْتَ لأنك صنعتنا. إذا أتيتُ معك الآن، فلن يندهش أحد أكثر منك. أعتقد أنك، في أعماق قلبك، ستحتقرني.»

«هراء، روي. لا تكنْ أحمق، يا رجل. ما زال هناك وقت.»

توقف أرجون ومدَّ يده: «لا، سير. هذا كل ما عندي. من هنا أستدير.»

نظر المقدم بكلاند إلى يده ثم إليه. قال بهدوء، بصوت مباشر يخلو من العاطفة: «لن أسلم عليك، روي، يمكن أن تبرر ما تفعل لنفسك بألف طريقة مختلفة، لكن لا تزيف الحقيقة، روي. أنت خائن. أنت عارٌ على النظام وعلى بلادك. أنت غثاء. حين يحين الوقت ستعاقب، روي. حين تجلس أمام مجلس عسكري، سأكون هناك. سأراك مشنوقًا. سأراك. لا تشك في هذا لحظة.»

أنزل أرجون يده. للمرة الأولى منذ أيام طويلة شعر بثقة كاملة في رأيه. ابتسم.

قال: «هناك شيء واحد عليك أن تتأكد منه، سير. في ذلك اليوم، إذا جاء، ستقوم بواجبك، سير، وسأقوم بواجبي. سينظر كل منا للآخر كرجلين شريفين — للمرة الأولى. لهذا فقط يستحق الأمرُ العناء.»

حيَّاه، وتوازن على عكازه. تردَّدَ المقدم بكلاند لحظة، ثم ارتفعتْ يده، بشكل لا إرادي، لردِّ التحية. دار على عقبيه وسار بين الأشجار.

رآه أرجون يرحل، ثم استدار على عكازه وعاد يعرج إلى حي العمال.

•••

لاحظتْ إليسون بعد ساعة تقريبًا أن دواسات الديتونا تسخن تحت قدميها. شاهدتْ غطاء المحرك ورأتْ كتلًا من البخار تتسرب. خرجتْ عن الطريق، وحين التفتَ إليها جدُّها، ابتسمتْ تطمئنه. قالتْ: «كل شيء على ما يرام، بابا. لا تقلقْ. يستغرق الأمر دقيقة فقط.» تركتْه في السيارة ونزلتْ.

والسيارة واقفة، رأت البخار يتسرب من الحاجز، كان غطاء المحرك ساخنًا بدرجة تجعل لمسه مستحيلًا. لفتْ وشاحها حول يدها وتحسست الكبوت لترفعه. اندفع وابل من البخار في وجهها فتراجعتْ وسعلتْ.

كان الظلام شديدًا. مدَّتْ يدها من النافذة وأضاءت الكشافات الأمامية. رأتْ غصنًا على الأرض قرب قدميها. استخدمته لترفع الكبوت فاندفعتْ سحابة من البخار. فتحتْ غطاء المحرك وعادتْ إلى النافذة لتطفئ الكشافات الأمامية.

قالتْ: «لن يستغرق الأمر وقتًا طويلًا، بابا. ننتظر فقط بعض الوقت.»

إلى الشمال، رأتْ ومضات من النور. تقلصتْ حركة السير على الطريق السريع واقتصرتْ على سيارة مسرعة كل فترة. انتابها شعور بأنها من آخر من يسيرون على الطريق؛ مَنْ خططوا للرحيل رحلوا منذ فترة طويلة وينتظر الآخرون ما يأتي.

كان الليل باردًا وبعد وقت قصير توقف انبعاث البخار من الراديتير. لفَّتْ يدها في الوشاح مرة أخرى وفتحت الغطاء. ثم أمسكتْ بزجاجة وصبَّتْ فيه بعض الماء: غلى فورًا وطفا إلى القمة. رشَّتْ بعض الماء على الراديتير وانتظرتْ فترة أطول قبل تصب البقية فيه. أغلقت الكبوت، وعادتْ إلى مقعد القيادة.

ابتسمتْ لجدها. قال: «كل شيء على ما يرام الآن. سنكون بخير.»

أدارت المفتاح وشعرتْ بارتياح هائل حين استجاب المحرك. أشعلت الكشافات الأمامية، واندفعت على الطريق مرة أخرى. لم تمر بهما سيارة أخرى لفترة. أغراها الطريق، وهي تسير وحدها عليه، بالسير بسرعة عالية. كان عليها أن تتذكر أن تسير ببطء إذا أرادت ألا تسخن السيارة مرة أخرى.

لم يسيرا إلا بضعة أميال وبدأ المحرك يقرقع. عرفتْ أنه لا مجال للسير أكثر من ذلك. في الملف التالي خرجتْ عن الطريق الرئيسي، إلى طريق جانبي مغبر، لم يكن إلا دربًا محصَّبًا. على جانبيه أعمدة من المطاط؛ امتنت لذلك بشكل مبهم، سعدتْ برؤية بيئة مألوفة.

قررتْ أن البقاء قرب الطريق أفضل شيء: ربما تستطيع طلب المساعدة في الصباح. أخذت السيارة مسافة قصيرة في الدرب ثم استدارت إلى الأشجار، مندفعة إلى بقعة مظللة بأجمة. أوقفت المحرك وفتحتْ بابها.

قالت: «نبقى هنا بعض الوقت، بابا. يمكن أن نواصل حين يكون النور أفضل.» فتحتْ غطاء المحرك مرة أخرى وعادتْ إلى مقعدها. قالتْ: «نمْ، بابا. لا مبرر لأن تبقى مستيقظًا. لا شيء يمكن أن نفعله الآن.»

نزلتْ من السيارة وتمشَّتْ حولها. ومع انطفاء الكشافات الأمامية خيم ظلام شديد: لم تر ضوءًا أو دليلًا على منطقة سكنية. عادتْ إلى مقعدها وجلستْ مرة أخرى. جلس سايا جون يتطلع إلى يده باهتمام. فَرَدَ أصابعه أمامه، كأنه يعدُّ شيئًا.

قال: «أخبريني، أليسون. اليوم هو السبت — أليس كذلك؟»

«هل هو السبت؟» حاولت أن تتذكر ولم تستطع: «لا أعرف. لماذا تسأل؟»

«أعتقد أن غدًا الأحد. آمل أن يتذكر إلونجو أن عليَّ أن أذهب إلى الكنيسة.»

حدَّقتْ فيه. قالتْ بحدة: «آسفة، بابا. أخشى أنه سيكون عليك ألا تذهب إلى الكنيسة غدًا.»

نظر إليها مثل طفل خاب أمله وانتابها فجأة شعور بالندم لأنها كلمته بحدة. مدَّتْ يدها إلى يده: «هذه المرة فقط، بابا. نذهب إلى ماس٥٣ في سنغافورة الأسبوع القادم.»

ابتسم لها ومال للخلف، وسند رأسه على مقعده. نظرتْ في ساعتها. كانت الرابعة صباحًا. سيحلُّ الفجر قريبًا. بمجرد بزوغ الضوء تعود إلى الطريق السريع لترى إن كانت تستطيع إيقاف شاحنة أو سيارة: من المؤكد أن يأتي شيء. تركتْ رأسها يسقط على مقعدها: كانت مرهقة — لم تكن خائفة، كانت مرهقة فقط. سمعتْ جدَّها، وقد غرق في النوم، يتنفس ببطء وعمق. أغلقتْ عينيها.

أيقظها شعاع من ضوء الشمس يسطع خلال المظلة الخفيفة فوقها. تحرَّكتْ وسقطتْ يدها على الكرسي الذي بجوارها. كان خاليًا. انتصبتْ، مروَّعةً وفركتْ عينيها. حين نظرتْ إلى المقعد لم تجدْ جدَّها.

فتحت الباب ونزلتْ. «بابا؟» ربما ذهب إلى الأشجار ليشعر بارتياح. رفعتْ صوتها. «بابا — هل أنت هناك؟» مظللةً عينيها، تلفتتْ في الطريق كله من حولها، محدِّقة في أنفاق المطاط من حولها. لم تره في أي مكان.

تعثرتْ، وهي تسير حول السيارة، في حقيبته الجلدية البنية. كانت مفتوحة على الأرض والملابس خارجها، مبعثرة بين أوراق الشجر. كان يبحث عن شيء — لكن ماذا؟ تلفتتْ حولها، لمحتْ بعض الملابس على الأرض تبعد بضع ياردات. فحصتها، وجدت بنطلونًا وقميصًا، الملابس التي كانت على جدِّها في الليلة السابقة.

واتتها فكرة مفاجئة. عادتْ إلى حقيبته وفتشتْ بسرعة عن بقية ملابسه، بحثتْ عن البدلة السوداء التي يحبُّ ارتداءها وهو ذاهب إلى الكنيسة. لم تجدْها؛ كانت متأكدة أنه أخذها معه حين خرجا. لم يتعود الذهاب إلى أي مكان بدونها. ارتداها حين غيَّر ملابسه؛ كانت متأكدة من هذا. ربما سار على الطريق السريع، معتقدًا أن سيوصله إلى كنيسته. عليها أن تسرع إذا كان لها أن تعثر عليه قبل أن يتعرض لمشكلة.

مدَّتْ يدها في السيارة وأخذتْ حقيبة يدها من على المقعد. خطر لها أن تتبعه بالسيارة، لكنها قررت العكس. لا أحد يعرف كم من الوقت يمكن أن يضيع وهي تحاول تشغيل السيارة. ربما يكون السير على قدميها أسرع. علَّقتْ حقيبتها على كتفها، وجرتْ باتجاه الطريق السريع.

كانت تستطيع القول، حتى وهي بعيدة، إنه لا توجد حركة مرور. كان الطريق السريع هادئًا جدًّا. لكن وهي على بعد حوالي عشرين ياردة من الطريق، سمعت صوتًا يأتي من بعيد. وقفت تتطلع، نظرت بحذر بطول دهليز من جذوع الأشجار. لمحتْ مجموعة على دراجات عن بعد: حوالي ستة يسيرون باتجاهها.

شعرت في البداية بارتياح؛ عرفتْ أنها تستطيع، لو جرت بسرعة، الوصول إلى الطريق وراكبو الدراجات يمرون به. ربما يستطيعون مساعدتها. خطت خطوتين، ثم توقفت ونظرت مرة أخرى، محتمية خلف جذع شجرة. أدركت أن راكبي الدراجات جميعًا بكابات وملابس باللون نفسه. امتنتْ للاحتماء بالمزرعة، تسللتْ أقرب قليلًا إلى الطريق، وحرصتْ على الابتعاد عن المشهد.

وراكبو الدراجات على بعد حوالي عشرين ياردة، عرفتْ أنهم جنود يابانيون. كانوا غير حليقين وأزياؤهم الرمادية ملوثة بالغبار والطين، وستراتهم غارقة في العرق. وضع بعضهم كابات حولها كوفيات طويلة، بينما وضع آخرون خوذات مغطاة بشبكات. كانوا يضعون لفافات سيقان محكمة وينتعلون أحذية من القماش. مع الرجل الذي يقودهم سيف في حزامه: صلصل الغمد بشكل إيقاعي وهو يخبط في رفرف الدراجة. ويحمل الآخرون بنادق مزودة بسونكي. كانت دراجاتهم تصر وتئن وهي تمر بها. سمعتهم يلهثون وهم يبدِّلون.

كان أمامها بمسافة قصيرة ركن به ملف حاد على الطريق السريع. كان راكبو الدراجات لا يزالون في المشهد وهم يلفون المنعطف: سمعتْ أحدهم يصيح، رافعًا يده ليشير إلى الطريق. سيطر عليها فجأة إحساس حادٌّ بالشكِّ. كان عليها أن تعتقد أنها ستجد جدَّها عائدًا، في اتجاه سُنْجِي بتاني؛ لكن ماذا إذا كان، بدلًا من ذلك، قد سار في الاتجاه الآخر؟

نظرتْ في الجهتين، وجدت الطريق السريع خاليًا. أسرعتْ عبر الطريق، انسلتْ إلى أعمدة المطاط على الجانب الآخر. اتجهتْ بميل خلال الأشجار، رأت الطريق السريع مرة أخرى: رأت ظهور راكبي الدراجات، يبدلون، مشيرين لشخص ضئيل على مسافة بعيدة أمامهم. كان رجلًا يرتدي قبعة وبدلة، يسير متمهلًا على جانب الطريق. عرفتْ أليسون أنه جدها. كان الجنود يطبقون عليه، يبدلون بسرعة.

بدأتْ تجري مسرعة، متنقلة بين الأشجار. وهي لا تزال على بعد مئات الياردات لحق الجنود بسايا جون. رأتْهم ينزلون من فوق الدراجات ويضعونها على العشب. أحاطوا به، سمعتْ صوتًا: كان أحد الجنود يصيح ويقول كلامًا لم تتبينه. همهمتْ لنفسها وهي تجري: «من فضلكم، من فضلكم …»

عرفتْ أن جدها لا يفهم ما يقوله الجنود. لمس قبعته واستدار، محاولًا الابتعاد عنهم. مدَّ أحد الجنود يده ليوقفه فأبعدها. صاح فيه الجنود كلهم، لكن بدا أنه لا يسمع شيئًا. شوَّح بيده فيهم، كأنه يحاول أن يبعد كسالى يتسكعون في أركان الشوارع. هاجمه جندي، وصفعه على وجهه، فقد توازنه. سقط بقوة على الأرض.

توقفتْ أليسون، لاهثة، مستندة على جذع شجرة، أمسكته بيديها. لو استطاع فقط أن يبقى ساكنًا، فسيبتعدون، كانت متأكدة من ذلك. همهمتْ لنفسها، داعية ألا يكون قد فقد الوعي. لم يبالوا به: من المؤكد أنهم رأوا أنه مجرد عجوز مشوش؛ وأنه لم يقصد أي أذى.

لكن بدأ جسم جدها المنبطح يتحرك مرة أخرى. تقلب وجلس وساقاه ممددتان أمامه، مثل طفل استيقظ في الصباح. مدَّ يده إلى قبعته، وضعها على رأسه ووقف على قدميه مرة أخرى. نظر إلى الجنود بتجُّهمٍ وارتباكٍ، داعكًا وجهه. ثم أعطاهم ظهره وبدأ يبتعد عنهم.

رأت جنديًّا يسحب بندقيته من ظهره. صاح بشيء ووضع البندقية بحيث يتجه السونكي مباشرة إلى ظهر الرجل العجوز.

بدون تفكير تقريبًا، مدَّتْ أليسون يدها إلى حقيبتها. أخرجت المسدس ونزلتْ على إحدى ركبتيها. مدَّت يسراها أمامها، ثبَّتتْ رسغها على ساعدها، كما علمها أبوها. وجهته إلى الرجل الذي يمسك بالسونكي، على أمل أن تسقطه. لكن في تلك اللحظة كان جندي آخر في مسار الطلقة؛ أصابته الطلقة في ضلوعه، وسقط على الأرض صارخًا. تجمد الرجل الذي يحمل السونكي لحظة، لكن ذراعه تحركت بعد لحظة، فجأة، كما لو بدافع من الاسترخاء، غرست النصل في جسد سايا جون ونزعته منه في حركة سريعة. تداعى سايا جون، وسقط بوجهه على الأرض.

كانت ساكنة تمامًا، تتنفس بهدوء. حددت هدفًا بدقة وأطلقت النار مرة أخرى. في هذه المرة أصابت الرجل الذي يحمل السونكي. صرخ وسقطتْ منه البندقية، وسقط بوجهه على الأرض. طاشت طلقتها الثالثة، وصلتْ إلى كتلة من العشب على جانب الطريق. استلقى الجنود على بطونهم، واحتمى اثنان منهم خلف جسد سايا جون الهامد. كانت أهدافها أصغر، ابتعدت طلقتها الرابعة. لكن الخامسة أصابت جنديًّا آخر فترنح وسقط على جانبه.

ثم، فجأة، ضربها شيء ما بقوة هائلة، وألقاها على ظهرها. لم تشعر بألم، لكنها عرفتْ أنها أصيبت. رقدتْ ساكنة، تتطلع للغصون المقوسة على أشجار المطاط من حولها. كانت الأغصان تتمايل في النسيم مثل المراوح.

كانت سعيدة لأنها انتهتْ بهذه الصورة؛ وعيناها تستريحان على شيء أليف. تذكَّرتْ ما قال دينو عن أمه والحلوى التي تقاسمتْها مع آسريها. جعلتْها الذكرى تبتسم؛ لم يكن ذلك ليناسبها إطلاقًا. كانت سعيدة لأنها دفَّعتْهم الثمن، لأنها لم ترحلْ بدون أن تردَّ عليهم.

سمعتْ وقع أقدامهم وعرفتْ أنهم يجرون باتجاهها. رفعت المسدس إلى صدغها وأغلقت عينيها.

٣٩

تخلى دوه سي، وكان دائمًا صديقًا وفيًّا، عن احتفالات عائلته بالكريسماس ليكون في عون رَجْكومار. وصل إلى رنجون يوم ٢٢ ديسمبر. كما توقع رَجْكومار، بدأ العمل بسرعة، رتب لاستئجار فريق من الفيلة وستة أوسيين. واتفق نيل على تأجير لوريين. وقرَّر البدء في إخلاء شادر الخشب في بَزُنْدُنْج في اليوم التالي.

ترك دوه سي وريموند ونيل ورَجْكومار المنزل في وقت مبكر من الصباح. ذهبوا في البكارد، يقودها نيل. لوَّحتْ لهم دُلِّي ومنجو. ذهبوا إلى الساحة ليجدوا الأوسيين وصلوا بأفيالهم. وصل اللوريان المؤجران أيضًا. شعر رَجْكومار بارتياح: كان يأمل في بداية مبكرة. كان قلقًا من تأخر الفرق.

ظهرتْ بعد ذلك حركة غير متوقعة. قال سائق لوري: «نودُّ أن نتحدث إليك.» وصل مفوض إلى الكابينة الصغيرة التي كانت مكتبًا؛ تبين أن الأوسيين وسائقي اللوريين يريدون جزءًا من مستحقاتهم في منتصف اليوم.

لم يكن غير شائع، بالطبع، بالنسبة لجماعات مستأجرة أن تتقدم بطلبات بمجرد بدء العمل: وهم، بالطبع، في أفضل وضع للمساومة. كان رَجْكومار قد خطط للذهاب إلى البنك بعد الظهر مباشرة، والعمل على وشك الإنجاز. ولما كانت أجازات الكريسماس ستبدأ في اليوم التالي، فقد كان آخر يوم عمل للبنوك في الأسبوع. حرص على الذهاب إلى البنك في اليوم السابق للتأكد من أن الفلوس جاهزة ومتاحة. كان يمكن أن يأخذها معه على الفور لكن واتتْه فكرة أفضل. لم يكن الأمر مأمونًا — وخاصة أنهم وحدهم في المنزل، وبدون حارس. قرر أن يعود والعمل على وشك الاكتمال.

كان هذا التطور الجديد يعني أن على رَجْكومار تغيير خططه. شجَّع الرجال على البدء في العمل، ووعدهم بأن تكون الفلوس جاهزة في منتصف اليوم. ذهب إلى نافذة مكتبه ليشاهدهم يبدأون.

ابتسم وهو ينظر إلى الشادر بأكوام الخشب الهائلة المرتبة. كان التفكير في أن هذا حصيلة كل ما يملك يثير الأعصاب. كان يعرف أن عليه مواصلة الطريق، لكن لم تكن له حيلة في تضييع الوقت. حتى بعد كل هذه السنوات، لم يقاومْ متعة مشاهدة الأفيال وهي تعمل: مرة أخرى يعجب بالثبات الذي تشق به طريقها في الممرات الضيقة، وهي تمر بأجسادها الهائلة بين أكوام الخشب. كان ذلك شيئًا يكاد يكون خارقًا، يتعلق ببراعتها في ثنى خراطيمها حول الزنود.

لمح نيل يندفع بين الأفيال. ابتهج رَجْكومار برؤية ابنه مع الأفيال.

نادي رَجْكومار: «نيل، كن حذرًا.»

استدار نيل، وابتسامة عريضة على وجهه الملتحي. لوَّح.

«سأكون بخير، أبي. يجب أن تذهب إلى البنك الآن. لا تتأخر كثيرًا.»

نظر رَجْكومار إلى ساعته: «ما زال هناك وقت. البنك لم يفتح بعد.»

ضمَّ دوه سي صوته إلى صوت نيل: «نعم، اذهب الآن، رَجْكومار. كلما ذهبْتَ أسرع عدْتَ أسرع. سأهتم بكل شيء هنا — سيكون كل شيء على ما يرام.»

خرج رَجْكومار إلى الشارع فوجد ركشو بدراجة. بدَّل السائق بجدٍّ وبسرعة اقتربا من مركز المدينة. كانت حركة المرور كثيفة وخشي رَجْكومار أن يتأخر. لكن السائق اندفع برشاقة عبر الشوارع ووصل إلى البنك في وقت قصير.

دفع رَجْكومار أجرة السائق وصعد مجموعة عريضة من السلالم. كان الباب الرئيسي للبنك مغلقًا: هناك ربع ساعة على موعد الفتح. كان بعض الرجال ينتظرون عند الباب. انضمَّ رَجْكومار إلى الطابور. كان الصباح صافيًا بشكل استثنائي والسحب نادرة في السماء. كان يومًا باردًا بشكل غير عادي بالنسبة لرنجون وعدد كبير من عابري السبيل متلفعين بالشيلان والسترات الصوف.

كان البنك في تقاطع مزدحم. والشوارع المحيطة تعجُّ كالمعتاد بالمرور في ساعة الذروة مع بداية اليوم. تتهادي الحافلات على الطريق، وتقذف بالدخان؛ وتحت سلوك ملتفة معلقة، يدمدم الترام وأجراسه ترنُّ.

فجأة، انطلقتْ من بعيد صفارة إنذار، تعلن عن غارة جوية. لم يهتم رَجْكومار أو الناس من حوله كثيرًا. انطلقتْ تحذيرات من الغارات الجوية عدة مرات في آخر بضعة أسابيع — وتبين أنها كلها إنذارات زائفة. أسفل سلم البنك، كانت هناك بائعة متجولة تقلي بايا جاو في قدر كبير مسود. كشرت وواصلت عملها. كان رد فعل رَجْكومار شبيهًا برد فعلها إلى حدٍّ بعيد: انزعج حين فكر في التأخير الذي قد يحدث نتيجة لصفارات الإنذار.

انطلقتْ صفارات الإنذار مرة أخرى فانتبه الناس أكثر. لم يكن من المعتاد أن تنطلق الإنذارات مرتين متتاليتين بهذه السرعة. ظهرت الرءوس من نوافذ الحافلات والترام؛ اتجهت العيون إلى السماء كأنها تبحث عن مطر.

لمح رَجْكومار مراقب غارات جوية بقبعة من الصفيح، يمشي في الشارع، يلوِّح بذراعيه للمارة. عرف رَجْكومار المراقب: كان أنجلو بورميًّا يعمل في المراهنات، معرفة من أيام السباق. نزل السلالم مهرولًا ليبادره بالكلام.

لم يضيع المراقب وقتًا في الكياسة. قال بفظاظة: «من الأفضل أن تجد مكانًا أمينًا، مستر رها. البالون فوق بالتأكيد. اجتازوا النظام الثاني للتحذير.» كور المراقب يديه حول فمه وبدأ يصيح في المارة: «ابعدوا عن هنا؛ اذهبوا إلى ملاجئكم، اذهبوا إلى بيوتكم …»

حدَّق بعض الناس، لكنهم لم يبالوا. استشاط المراقب غضبًا، ويداه في خصره: «انظروا إليهم؛ يعتقدون أنه سيرك دموي …»

كانت هناك حديقة صغيرة أمام البنك. قبل شهور، حفرت خنادق ضيقة بين نخيل الزينة. تجمَّعتْ في الخنادق، في الوقت ذاته، برك نتنة الرائحة، إضافة إلى بذور المانجو ذات الوبر الأبيض ونفايات أخرى. توقف الناس وهم يثبون إليها.

عاد رَجْكومار وصعد السلالم ليرى إن كان البنك قد فتح. حينها دوَّتْ صفارات الإنذار للمرة الثالثة. اهتمَّ الجميع. أصيبتْ حركة المرور في الشارع بشلل مفاجئ. لم يكن هناك هلع أو جرى بحثًا عن ملاذ. لكن الناس نزلوا من الترام والحافلات ووقفوا في الشوارع في ذهول يكادون لا يصدقون، وتطلعوا إلى السماء، مظللين عيونهم من النور. صعد عدة رجال الدرج ليقفوا بجوار رَجْكومار: كانت عتبة البنك تطلُّ على مشهد رائع يحيط بها.

«اسمعوا.» صار الأزيز المنخفض المستمر مسموعًا عن بعد.

أضفى الصوت مصداقية مفاجئة منذرة بالشؤم على فكرة وجود غارة جوية وشيكة. سادتْ لحظة شكٍّ واندلع الهلع مثل عاصفة في الشوارع. بدأ الناس يجرون. انسلَّ البعض إلى المباني؛ وابتعد البعض مهرولين بين السيارات المتوقفة. وامتلأت الخنادق التي تفوح منها الروائح القذرة في ثوانٍ.

في مكان ما قريب، عوت امرأة من الألم. التفتَ رَجْكومار حوله ورأى عربة البايا جاو مقلوبة أسفل الدرج؛ انسكب قدر البائعة المتجولة، ناثرًا عليها الزيت المغلي. جرتْ في الطريق تصرخ وتقبض بيديها الاثنتين على ملابسها.

قرر رَجْكومار عدم مواجهة الجماهير المروَّعة، واستند على الأبواب الثقيلة للبنك. تحول الأزيز البعيد إلى صخب إيقاعي مرتفع. ثم ظهرت الطائرات الأولى: بقع ضئيلة تقترب من الشرق. انطلقت المدافع المضادة للطائرات في المدينة بصوت مدوٍّ مزعج. كانت المدافع قليلة ومركَّزة أساسًا بجوار مطار مِنجَلادون ومعسكر الجيش. لكن كان هناك شيء مطمئِنٌ في فكرة أن دفاعات المدينة تعمل. حتى وسط الهلع، يمكن سماع أناس كثيرين يهللون.

غيَّرتْ قاذفات القنابل الصورة وهي تقترب من الحدود الشرقية للمدينة، على ارتفاع منخفض في السماء. انفتحتْ بطون الطائرات وبدأتْ حمولتها من القنابل تنزل، منتشرة خلف الطائرة مثل شرائط مبهرجة متلألئة، كأن ستارة فضية هائلة ظهرت فجأة في الأفق الشرقي.

سقطت القنابل الأولى على بعد عدة أميال، وتعاقبت الانفجارات في تتابع إيقاعي منتظم بدقة. دوَّى فجأة صوت أقوى، عدة مرات، من كل الانفجارات السابقة. من مكان ما في المراكز الشرقية للمدينة، تمددت سحابة هائلة من الدخان الأسود إلى أعلى باتجاه السماء، وابتلعت قاذفات القنابل تقريبًا.

قال واحد: «ضربوا مخازن الزيت، في خليج بَزُنْدُنْج.»

عرف رَجْكومار في الحال أن هذا صحيح. انقلبت معدته. كانت خزانات الزيت الرئيسية في المدينة على الجانب البعيد من الخليج، على مدى البصر من شادر الخشب. تطلع إلى قاذفات القنابل ورآها تقوم بطلعة أخرى فوق المنطقة نفسها. أدرك أنها لا تضرب عشوائيًّا: استهدفت المنطقة الساحلية الطويلة في المدينة، حيث المطاحن والمستودعات والخزانات وخطوط السكك الحديد.

فكر رَجْكومار فجأة في الأفيال التي تعمل في الشادر. تذكر رد فعل هذه الحيوانات لصخب غير متوقع. يتشتت القطيع أحيانًا من صوت واحد حاد. ذات مرة في سالف الأيام، في أحد معسكرات الساج، شاهد هذا التشتت؛ أفزع صدى طلقة بندقية فيلةً عجوزًا فصرخت صرخة مدوية مميزة، وفجَّر ذلك استجابة غريزية في القطيع، أدى إلى كثير من الدمار واستغرق الأمر ساعات من الأوسيين للسيطرة من جديد على الحيوانات.

ماذا يحدث إذا أصاب فريقَ الأفيال هلع في المناطق المكتظة بالزنود في شادر الخشب؟ شيء يفوق التصور.

لم يعد رَجْكومار يحتمل البقاء حيث كان. بدأ يسير على قدميه باتجاه بزُنْدُنْج. كانت القنابل تقترب أكثر، تتساقط حاجبة كل شيء، منطلقة باتجاه مركز المدينة. فجأة ظهرت أمامه عربة ثيران، تعدو إليه في ممر المشاة. كانت أفواه الثيران المسرعة مزبدة وبياض عيونها واضحًا. صرخ السائق، وهو يمسك بجانبي العربة. قفز رَجْكومار وابتعد في الوقت المناسب لتمر.

كان سرب من الطائرات فوق رأسه مباشرة. تطلع رَجْكومار إلى سماء ديسمبر الصافية الساطعة. اندفعتْ إلى أسفل وانفتحتْ مخازنها. ظهرت سلاسل من القنابل، تساقطتْ جانبًا، جاذبة الأنظار إلى ضوء متألق مثل الماس.

لم تكن هناك خنادق قريبة. جثم رَجْكومار في مدخل، ووضع يديه على رأسه. اهتزَّ الهواء وشعر بصوت زجاج يتحطم.

لم يعرفْ كم من الوقت بقي هناك. لم يتحرك إلا حين شعر بدفء خلفه. استدار فوجد كلبًا يندفع إليه وينبح خوفًا. أبعد الكلب ووقف. كانت أعمدة الدخان تتصاعد في السماء من كل ما حوله. فكَّر في دُلِّي ومنجو وجايا، حفيدته. نظر في اتجاه كمندين وشعر بارتياح حين رأى أن ذلك الجزء من المدينة لم يتأثر نسبيًّا. بدأ يسير في الاتجاه الآخر، باتجاه شادر الخشب في بَزُنْدُنْج.

في الشارع التجاري ضُرِب سوق. كانت الفواكه والخضراوات مبعثرة على جانبَي الطريق، والمتسولون وجامعو النفايات ينبشون في الأنقاض. لاحظ البقايا المحترقة لمحل وتذكر، بإحساس النوستالجيا تقريبًا، أنه مكانه المفضل لشراء الدجاج التندوري.٥٤ دفع الانفجار مجموعة أسياخ في الجدران الطينية للفرن، فكسرته إلى نصفين مثل قشرة بيضة. سمع صوت رجل ينادي طلبًا للمساعدة. أسرعَ. لم يكن لديه وقت: كان عليه أن يذهب إلى الشادر في بزُنْدُنْج.

مرَّ بواجهة روي وكو. تحطمت النوافذ وظهرت فتحات مجوفة في الحوائط. كان النهابون يتسللون من الفجوات. رأى شجرة الكريسماس التي وضعها المحل تستلقي بانحراف على الأرضية، وامرأةً عجوزًا تعمل بجد بجوارها، وقد ابيضَّ وجهها من بودرة التلك. كانت تلتقط حشو القطن من الأرضية، وتجمعه في كيس.

أمام مكتب التلغراف ضُرِب أنبوب مياه رئيسي. انفجرتْ نافورة ارتفاعها عشرة أقدام في السماء. كان الماء في كل مكان، تجمع في برك، وانساب في الطريق. كانت هناك دوامة حول فتحة الأنبوب الرئيسي المحطم.

كان الناس يقبعون بطول جدران مكتب التلغراف حين ضرب مصدر المياه، ومات عدد كبير منهم. وظهرت أطراف لا تحصى في البركة التي تجمعت حول الأنبوب الرئيسي: ذراع طفل، وساق. أشاح رَجْكومار بعينيه وواصل المشي.

حين اقترب من بزُنْدُنْج، رأى جانبي الخليج يغطيهما اللهب. وهو لا يزال على مسافة كبيرة لمح جدران الشادر، تغطيها سحب من الدخان.

كل ما يملك في ذلك المكان، كل ما عمل من أجله طوال حياته؛ حصيلة حياة من العمل مخزونة في مخبأ واحد من الخشب. فكر في الأفيال والقنابل التي سقطت حولها؛ في اللهب يقفز من الخشب المكدس جيدًا؛ في الانفجارات والأصوات المدوية.

هو الذي ركز كل ما يملك في مكان واحد — وكان ذلك أيضًا جزءًا من الخطة — أتت القنابل على هذا كله. لكن لا يهمُّ؛ لا شيء يهمُّ طالما لم يتعرض نيل للأذى. الباقي مجرد أشياء، ممتلكات. لكن نيل …

دخل إلى الزقاق الذي يؤدي إلى الشادر ورآه مليئًا بسحب كثيفة من الدخان. على بشرة وجهه، شعر بالحرارة المحرقة للنيران الثائرة في الشادر. صاح وسط الدخان: «نيل.»

رأى شخصًا يتشكل عن بعد. جرى: «نيل؟ نيل؟»

كان دوه سي. وجهه المخطط المتغضن مسودٌّ من الدخان. يبكي.

«رَجْكومار …»

«أين نيل؟»

غطَّى دوه سي وجهه: «سامحني، رَجْكومار. لم يكن هناك ما أفعله. جرت الأفيال بهمجية. حاولتُ أن أبعد ولدك، لم يستجب. تفككت الزنود وسقط تحتها.»

رأى رَجْكومار دوه سي يجرُّ جسدًا في الزقاق، يبعده عن النيران. جرى إليه وسقط على ركبتيه.

لا يمكن التعرف على الجسد تقريبًا، سحقه وزن هائل. لكن رغم التشويه المرعب عرف رَجْكومار أنه ابنه وأنه ميت.

•••

ذات مرة شاهدت منجو، وهي طفلة، حلاقة رأس أرملة. كان ذلك في منزل مجاور في كلكتا: أخذ الحلاق أجرًا ليفعل ذلك وساعدته نساء العائلة بالتناوب.

أخذتْ منجو مقصًّا من صندوق الخياطة. وهي تجلس على التسريحة، نظرت في المرآة وجربت المقص في شعرها. النصلان باردان وشعرها قويٌّ وكثيفٌ وأسود — شعر امرأة شابة. لم يُجْدِ المقص نفعًا. أعادته إلى صندوق الخياطة.

بدأت الطفلة تصرخ، فأغلقت منجو الغرفة عليها. نزلت السلالم إلى المطبخ — غرفة مظلمة مسخمة مكتومة خلف المنزل. وجدتْ سكِّينًا، سكينًا طويلًا بنصل مستقيم وحافة مسننة، ومقبض خشبي. جربته في شعرها ووجدت أنه ليس أكثر نفعًا من المقص.

بحثتْ منجو حولها عن آلة أفضل، تذكرت المناجل التي استخدمت ذات يوم في قطع عشب المجمع. كانت مناجل حادَّةً جدًّا: تذكرت كيف تردد صدى هسيس أنصالها في أنحاء المنزل. رحل الماليون الذين اعتنوا بالأرض منذ فترة طويلة، وبقيت المناجل. كانت تعرف أين تجدها: في غرفة حراسة قرب البوابة الأمامية.

فتحت البوابة الأمامية وجرت عبر المجمع إلى غرفة الحراسة. المناجل حيث اعتقدت، مكومة مع أدوات أخرى تستخدم في الحدائق. وقفت على عشب المجمع، الذي يصل إلى الركبة، وأمسكت شعرها، سحبته بعيدًا عن رأسها. رفعت المنجل وحشَّتْه، بتهور، ويدها خلف رأسها. رأت كمية من الشعر تسقط على العشب فتشجعتْ. جزَّت حفنة أخرى ثم أخرى. رأت كوم الشعر يكبر في العشب حول قدميها. شعرت بألمٍ لمْ تعرف مصدره: لماذا يؤلم قص الشعر إلى هذا الحد؟

سمعت صوتًا يتكلم بهدوء في مكان قريب. التفتتْ حولها فرأت ريموند يقف بجوارها. مدَّ يده إلى المنجل. ابتعدت خطوة: «لا تفهم …» حاولت أن تبتسم، لتخبره أنها تعرف ما تفعل ولا يمكن أن يُفعَل بطريقة أخرى. لكن فجأة كانت يداه على رسغها. لوى ذراعها فسقط المنجل من قبضتها. التقطه، وألقى به بعيدًا.

اندهشتْ منجو من قوة قبضة ريموند؛ ومن الطريقة التي قيدها بها بقبضة مصارع. لم يمسكها أحدٌ أبدًا بهذه الطريقة — كأنها مجنونة.

«ماذا تفعل، ريموند؟»

لوى يديها لتكونا أمام وجهها. رأتْ أصابعها ملطخة بالدم.

قال بهدوء: «جرحْتِ نفسك. جرحْتِ فروة رأسك.»

«لم أعرف.» حاولتْ تخليص ذراعيها، لكنه شدد من قبضته. أدخلها إلى البيت وجعلها تجلس على مقعد. وجد بعض القطن الطبي ومسح فروة رأسها. بدأت الطفلة تصرخ: سمعاها من الدور الأرضي. أخذها ريموند إلى السلم ودفعها.

«اذهبي. الطفلة تحتاج إليك.»

صعدت بضع درجات، ولم تستطع أن تواصل. لم تستطع تحمل فكرة دخول الغرفة وحمل الطفلة. كان ذلك بلا جدوى. جفَّ ثدياها. لم يكن هناك ما يمكن أن تفعله. دفنتْ وجهها في يديها.

جاء ريموند إلى السلم وشدَّ رأسها للخلف، وهو يمسك به من بقايا شعرها. رأتْه يسحب ذراعه للخلف ويضربها بيده على خدِّها. نبشتْ وجهها الملسوع ونظرت إليه. كانت نظرته ثابتة ولا تفتقر إلى العطف.

قال: «أنت أم. اذهبي إلى الطفلة. لن يتوقف جوع طفل، مهما كان الأمر …» تبعها إلى الغرفة وظل يشاهدها حتى حملت الطفلة وأعطتها ثديها.

•••

كان الكريسماس في اليوم التالي وفي المساء غادر دوه سي وريموند المنزل ليذهبا إلى الكنيسة. وبعد ذلك بقليل انطلقت صفارات الإنذار وعادت قاذفات القنابل. كانت الطفلة نائمة، أيقظتها صفارات الإنذار وبدأت تصرخ.

يوم الغارة الأولى، عرفت منجو ودُلِّي بالضبط ما يجب فعله: ذهبتا إلى غرفة بلا نوافذ في الدور الأرضي وانتظرتا حتى انتهت صفارات الإنذار تمامًا. كان هناك إحساس بالضرورة؛ لكن لم يتبق منه شيء. كأن المنزل خالٍ بالفعل.

بقيت منجو في السرير مع الطفلة والقنابل تتساقط. في تلك الليلة بدا صوت الطفلة أعلى مما كان: أعلى من صفارات الإنذار والقنابل والانفجارات البعيدة. بعد بعض الوقت لم تعد منجو تحتمل سماع صوت صراخ الطفلة. تركت السرير ونزلت السلم. فتحت البوابة الأمامية ودخلت المجمع. كان الجو شديد الظلمة باستثناء اللهب ووميض الضوء الذي ينطلق في السماء.

رأت شخصًا آخر أمامها، وبطريقة ما، حتى في الظلام، عرفتْ أنه رَجْكومار. أول مرة تراه منذ موت نيل. لا يزال بالملابس التي كانت عليه في ذلك الصباح: بنطلون وقميص ملطخ بالسواد. كان رأسه ملقًى إلى الخلف محدِّقًا في السماء. كانت تعرف ما ينظر إليه فذهبت تقف بجواره.

كانت الطائرات بعيدة في السماء، تُرَى بالكاد، مثل ظلال الفراشات. تمنت لو تقترب أكثر؛ تقترب بما يكفي لأن ترى وجهًا. كانت تواقة لمعرفة أي كائن ذلك الذي يشعر بالحرية في أن يدمر بلا حدود: من أجل ماذا؟ أي كائن يمكن أن يفكر في شنِّ حربٍ عليها وعلى زوجها وطفلتها — على أسرة مثل أسرتها — لأي سبب؟ من هؤلاء الناس الذين أخذوا على عاتقهم إعادة صنع تاريخ العالم؟

كانت تعرف أنها لو استطاعت فقط أن تجد معنى لهذا لاستطاعت إعادة النظام إلى ذهنها؛ لاستطاعت التبرير بالطرق المعتادة؛ لعرفت الوقت المناسب والطريقة المناسبة لإطعام الطفلة؛ لاستطاعت أن تفهم لماذا عليها أن تلجأ إلى ملجأ، أن ترعى طفلتها، أن تفكر في الماضي والمستقبل وفي مكانها في العالم. وقفت مع رَجْكومار ونظرت في السماء. لم يكن هناك ما يُرَى سوى ظلال بعيدة فوقهما وقريبة في متناول اليد، اللهب والانفجارات والصخب.

•••

عاد دوه سي وريموند في الصباح التالي، بعد الاحتماء في الكنيسة طوال الليل. قالا إن الشوارع خالية تقريبًا. كان عمال المدينة من الهنود أساسًا وقد فرَّ الكثير منهم أو اختفوا. فاحت في بعض المناطق نتانة القاذورات التي لم يتم تنظيفها. في الميناء، كانت السفن تسير في اللهب وحمولاتهما ما زالت سليمة في بطونها. لم يكن هناك عمال تفريغ لإفراغ السفن: كان معظمهم من الهنود أيضًا. فتحت الإدارة بوابات المصحة العقلية في رنجون وخرج نزلاؤها يتجولون في الشوارع بحثًا عن طعام وملاذ. كان النهابون في كل مكان، يدخلون المنازل المهجورة والشقق، حاملين غنائمهم بانتصار في الشوارع.

قال سوه دي لم يعد البقاء في رنجون آمنًا. نجت البكارد من القنابل بمعجزة. كان ريموند قد جددها وأعادها إلى كمندين. حمَّلتْ دُلِّي السيارة ببعض الأشياء الضرورية — بعض الأرز والدال واللبن المجفف والخضراوات والماء. قاد ريموند السيارة وخرجوا من المنزل: كانت الخطة أن يذهبوا جميعًا إلى هوي زيدي ويبقوا هناك حتى تتغير الظروف.

أخذوا طريق بِجُو، واتجهوا إلى الشمال. كانت المناطق المركزية في المدينة لا تزال خاوية بشكل مرعب، واستحال السير في عدد كبير من الطرق العامة، لفوا ولفوا للخروج من المدينة. هُجرت الحافلات في التقاطعات؛ خرجت عربات الترام عن مسارها وانجرفتْ في القطران؛ انتشرتْ عربات الركشو على جانبَي الطريق؛ وكانت كابلات خطوط الترام مفكوكة عبر طرق المشاة.

شاهدوا أناسًا آخرين — حفنات قليلة متناثرة في البداية، وبدأت الأعداد تزيد وتزيد وتزيد، حتى ازدحمت الطرق بشدة وصاروا يتحركون بالكاد. يسير الجميع في الاتجاه نفسه: باتجاه الشمال، ممر على اليابسة إلى الهند — مسافة تزيد على ألف ميل. ممتلكاتهم في صرر على رءوسهم؛ يحملون أطفالًا على ظهورهم؛ ويجرُّون المسنين في العربات الكارو وعربات اليد. تقلبت الأقدام طويلًا، مثيرة سحابة هائلة من الغبار فوق الطريق مثل شريط، يحدد الطريق إلى الأفق الشمالي. معظمهم من الهنود.

كانت هناك سيارات وحافلات أيضًا، إضافة إلى التاكسيات والركشو والدراجات وعربات الثيران. شاحنات مفتوحة، وعشرات الناس يقرفصون في قيعانها. كانت المركبات الأكبر تسير أساسًا في منتصف الطريق، تتبع بعضها في خط مستقيم. كانت السيارات تقفز في هذا الخط، متخطية الحافلات والشاحنات بالدويِّ الهائل لأبواقها. لكن ضغط المرور كان شديدًا والحركة بطيئة.

في نهاية اليوم الأول لم تكن البكارد قد غادرت رنجون تمامًا. في اليوم التالي، شقوا طريقهم باتجاه مسار اللاجئين، وكانت الظروف أفضل. بعد ذلك بيومين وجدوا أنفسهم ينظرون عبر النهر باتجاه هوي زيدي.

عبروا وبقوا في هوي زيدي عدة أسابيع. لكن تبيَّن أن تقدم اليابانيين يتسارع. قرر دوه سي إخلاء القرية ونقل سكانها في أعماق الغابة. في ذلك الوقت صار سلوك منجو مزعجًا جدًّا: قرر رَجْكومار ودُلِّي أخذها إلى الوطن. اختاروا القيام بمحاولة أخيرة للوصول إلى الهند.

أخذتهم عربة ثيران إلى النهر — منجو ودُلِّي ورَجْكومار والطفلة. وجدوا مركبا سار بهم في النهر، عبر ميكتيلا، مرورا بمَنْدالي، إلى بلدة موليك٥٥ الصغيرة، على نهر شِندوين. هناك واجههم مشهد مذهل؛ حوالي ثلاثين ألف لاجئ يقرفصون على طول ضفة النهر، في انتظار التحرك باتجاه سلاسل جبلية كثيفة الأشجار تقع أمامهم. لم تكن أمامهم طرق، لم يكن هناك إلا مسالك وأنهار من الوحل، تنساب خلال الأنفاق الخضراء في الغابة. منذ بداية الخروج الهندي، اكتظت المقاطعة بشبكة من قوافل التهجير المعروفة رسميًّا: كانت هناك طرق «بيضاء» وطرق «سوداء»، كانت الأولى أقصر وتستخدم بكثافة. سافر مئات الألوف بالفعل عبر هذه البرية. ولا يزال يتوافد عدد هائل من اللاجئين يوميًّا. كان الجيش الياباني لا يزال يتقدم إلى الجنوب ولم يكن هناك مجال للتراجع.

•••

حملوا الطفلة في شال عُلِّق على أكتافهم مثل أرجوحة. كل بضع مئات من الياردات يتوقف الثلاثة جميعًا، منجو ودُلِّي ورَجْكومار، ويبدلون الأحمال، في أدوار. يبدلون بين الطفلة والصرر الملفوفة بالمشمع التي يحتفظون فيها بملابسهم وحزمة حطب الوقود.

كانت دُلِّي تستخدم عصا، كانت تعرج بشدة. ظهرت على مشط القدم اليمنى قرحة، ظهرت في البداية مثل بثرة حميدة. في ثلاثة أيام صارت التهابًا ضخمًا بعرض قدمها تقريبًا. كانت تنز صديدًا كريه الرائحة وتأكل الجلد والعضل واللحم باستمرار. التقوا بممرضة، قالت إنها «قرحة ناجا»؛٥٦ قالت إن دُلِّي محظوظة لأن اليرقات لم تغزُ قدمها. وقد سمعت عن حالة أصيب فيها ولد بهذه القرحة في فروة رأسه: حين عولجت بالكيروسين، خرج منها ما لا يقل عن ثلاثمائة وخمسين يرقة، كل منها في حجم دودة صغيرة. إلا أن الولد بقي على قيد الحياة.

برغم الألم اعتبرت دُلِّي نفسها محظوظة. قابلوا أناسًا تآكلتْ أقدامهم كلها تقريبًا، أكلتها الالتهابات: لم تكن إصابة قدمها بذلك السوء. وقد جعل ذلك منجو تجفل من مشاهدتها: ليس بسبب ألمها الشديد، ولكن بسبب احتمالها له في تكتم. كانا كلاهما، دُلِّي ورَجْكومار، قويين، متماسكين جدًّا — كانا مترابطين معًا بقوة، حتى حينذاك، رغم العمر، ورغم كل شيء. كان فيهما شيء ينفِّرُها، يملؤها بالاشمئزاز: ربما دُلِّي أكثر من رَجْكومار، بانفصالها الجنوني، كأن ذلك كله كابوس في مخيلة شخص آخر.

في مرات رأت منجو الشفقةَ في عيني دُلِّي، نوعًا من التعاطف — كأنها كائن أكثر حزنًا منها؛ كأنها هي التي فقدت سيطرتها على عقلها وصوابها. جعلها هذا المنظر تغلي. ودَّتْ لو تضرب دُلِّي، تصفعها، تصيح في وجهها: «هذا واقع، هذا هو العالم، انظري إليه، انظري إلى الشرِّ المحيط بنا؛ التظاهر بأنه وهم لن يجعله يتلاشى.» كانت هي العاقلة، لا هما. هل هناك دليل على الجنون أفضل من أنهما لا يريدان الاعتراف بحجم الهزيمة؛ الفشل المطلق، كأبوين، ككائنين بشريين؟

كان الحطب الذي معهم ملفوفًا في أوراق الساج كبيرة تشبه الفرو لحفظه من المطر. كان مربوطًا بحبل لفه رَجْكومار من غصن كرمة. كان الحبل يرتخي أحيانًا وتقع عصا أو قطعة خشب. كل قطعة تسقط تختفي في الحال — يأخذها الناس من خلفهم أو تداس في الوحل بعمق بحيث لا يمكن استعادتها.

كان للوحل تكوين غريب، كان أقرب إلى الوعث من الطين. يمكن أن تغور فيه فجأة؛ قد تغطس إلى الفخذ قبل أن تعرف. ولا تستطيع إلا أن تقف ساكنًا وتنتظر حتى يأتي شخص يساعدك. وكان الحال أسوأ حين تتعثر أو تسقط على وجهك؛ يمكن أن يمسك بك مثل حيوان جائع، ويتشبث بملابسك وأطرافك وشعرك. يمسك بك بإحكام فلا تستطيع الحركة؛ يمكن أن يشلَّ ساقيك وذراعيك، ويغرسها بقوة في المكان، كما يمسك الصمغ بالحشرات.

في مكان ما مروا بامرأة نيبالية تحمل طفلًا بالطريقة نفسها التي يحملون بها طفلتهم، معلقة في قماش ملفوف. سقطت على وجهها في الوحل وعجزت عن الحركة؛ ولسوء حظها حدث ذلك والحركة قليلة. لم يكن هناك أحد يساعدها؛ ماتتْ حيث كانت مغروسة في الوحل وطفلها مربوط على ظهرها. جاع الطفل حتى الموت.

كان رَجْكومار يغضب بشدة إذا فقدوا جزءًا من كنز الحطب الذي معهم. جمع معظمه. كان يتطلع وهم يمشون ومن حين لآخر يلمح غصنًا أو أغصانًا صغيرة لم يلاحظها عشرات الألوف الذين ساروا أمامهم، ومروا في الطريق نفسها، واجتازوا الأرض المشبعة بالماء إلى نهر من الوحل. في المساء، حين يتوقفون، يمشي إلى الغابة ويعود بحمل من الحطب. كان معظم اللاجئين يخافون من ترك القافلة؛ هناك شائعات مستمرة عن لصوص وعصابات يقتلون الشاردين. كان رَجْكومار يذهب على أية حال؛ قال لا يمكن أن تعرضا عليه أن يفعل غير ذلك. كان الحطب رأسمالهم، ثروتهم الوحيدة. في نهاية كل يوم يقايض رَجْكومار على هذا الخشب مقابل الطعام — هناك دائمًا أناس في حاجة إلى الخشب؛ لم يكن للأرز والدال فائدة بدون نار للطبخ. كان الخشب يشتري الطعام أسهل مما تشتريه الفلوس أو الأشياء القيمة. لم يكن للمال قيمة. قدَّم أناس — تجار أثرياء من رنجون — قبضات من الأوراق المالية مقابل بضع علب من الدواء. ولم تكن الأشياء القيمة، إلا وزنًا إضافيًّا. كُدِّستْ طرق القوافل ببضائع مرمية — أجهزة راديو وإطارات دراجات وكتب وأدوات حرفيين. لم يتوقفْ أحدٌ حتى لإلقاء نظرة.

مروا ذات يوم بسيدة، ترتدي ساريا حريريا جميلا، كَنْجيفارام٥٧ أخضر كالطاووس. يبدو أنها من عائلة ثرية، لكنها أيضًا تسير بدون طعام. حاولت التسول من مجموعة من الناس يجلسون قرب نار. بدأت فجأة تخلع ملابسها، وحين خلعت ساريها رأوا أنها ترتدي ساريات أخر على الملابس الداخلية، جميلة من الحرير الفخم تساوي مئات الروبيات. عرضتْ ساريًا منها مقابل حفنة من الطعام. لم تكن له فائدة عند أحد؛ يطلبون بدلًا من ذلك وِلْعة وخشبًا. رأوها تجادلهم دون طائل — ثم، ربما وقد عرفتْ أخيرًا انعدام قيمة ما تدخر من ثروة، كومت الساري إلى كرة ووضعته في نارهم: احترق الحرير بطقطقة وتقافز من اللهب.

كان في الحطب شظايا، يمكن أن تأخذ طريقها إلى اللحم، لكن منجو فضلت حمل الخشب عن حمل ابنتها. كانت الطفلة تبكي كلما اقتربت منها. كانت دُلِّي تقول: «إنها جائعة. أعطيها ثديك.» كانوا يتوقفون، فتجلس في المطر والطفلة في ذراعيها، وينصب رَجْكومار فوقهما ساترًا من الأوراق والأغصان.

قالوا، لم يتبق الكثير. لم تعد الهند بعيدة. لم تتبق إلا مسافة قصيرة.

لم يكن في جسمها شيء — كانت منجو متأكدة من ذلك — لكن بشكل ما كانت الطفلة تجد طريقة لعصر بعض النقط من ثدييها المقرحين المتقيحين. وحين يجف المجرى الهزيل، تبدأ الصراخ مرة أخرى — بطريقة غاضبة انتقامية، كأنها لا تريد أكثر من أن ترى أمها ميتة. حاولت أحيانًا إطعام الطفلة أشياء أخرى — كانت تعجن بعض الأرز وتضعه في ركن من فم الطفلة. بدا أنها تتلذذ بالطعم: كانت فتاة جائعة، تواقة للحياة؛ تشبه جديها أكثر مما تشبهها.

ذات يوم غلب النوم منجو وهي تجلس والطفلة في ذراعيها. استيقظت فوجدت دُلِّي واقفة بجوارها، تتطلع إلى وجهها في قلق. سمعت أزيز حشرات تطير حول رأسها. ذباب أزرق بأجنحة لها وميض، يسميه رَجْكومار «ذباب الجشع» لأنه يُرى دائمًا على الضعاف جدًّا الذين لا يستطيعون مواصلة الطريق — أو من اقتربوا من الموت.

سمعت منجو الطفلة تصرخ في حجرها، لكن لم يزعجها الصوت لحظة. سرى خدر مريح في جسدها؛ لم تكن تريد إلا أن تجلس بقدر ما تستطيع، متلذذة بغياب الإحساس. لكن كما هو الحال دائمًا أزعجها جلاداها؛ صاحت دُلِّي فيها: «انهضي، منجو، انهضي.»

قالت: «لا. دعيني من فضلك. لحظة فقط.»

صاحت: «تجلسين هنا منذ أمس. يجب أن تنهضي، منجو، وإلا بقيت هنا إلى الأبد. فكري في الطفلة؛ انهضي.»

قالت منجو: «الطفلة سعيدة هنا. دعينا. غدًا نواصل المشي. ليس الآن.»

لكن لم تكن دُلِّي تسمع: «لن نتركك تموتين، منجو. أنت شابة؛ لديك طفلة، فكري فيها …» أخذت دُلِّي الطفلة من ذراعيها، وشدَّها رَجْكومار لتقف على قدميها. هزها بقوة، حتى اصطكت أسنانها.

«واصلي، منجو؛ لا يمكن أن تستسلمي.»

وقفت تحدق فيه والمطر يتدفق وهي في ساريها الأبيض، ساري الأرملة، وشعرها مقصوص. كان يرتدي لُنْجِيًا رثًّا، وينتعل شبشبًا غارقًا في الوحل. كان بطنه غائرًا، وهيكله هزيلًا من الجوع، ووجهه منقطًا ببقع بيضاء، وعيناه محتقنتين، حولهما هالتان حمراوان.

«لماذا، أيها الرجل العجوز، لماذا؟» صاحت فيه. دعته بورو٥٨ بازدراء؛ لم تعد تبالي بأنه أبو نيل، وكانت تخشاه دائمًا: كان آنذاك معذبها فقط، الذي لا يجعلها تستمتع بالمتبقي مما كسبته: «لماذا عليَّ أن أواصل؟ انظرْ إلى نفسك: واصلتَ — وواصلت وواصلتَ وواصلت. وماذا جلب ذلك لك؟»

ثم، لدهشتها، تدفقت الدموع في عينيه وانسابت على تجاعيد وجهه وشقوقه. بدا مثل طفل مروَّع: يائسًا وعاجزًا عن الحركة. ظنَّتْ لحظة أنها ربحتْ أخيرًا، لكن تدخلت دُلِّي. أخذت ذراعه وأدارتْه بحيث ينظر أمامه، إلى السلسلة التالية من الجبال. وقف حيث كان، وكتفاه متهدلان، كأن حقيقة حالتهم بزغت أمامه أخيرًا.

دفعتْه دُلِّي. «لا يمكن التوقف الآن، رَجْكومار — واصل.» عند انطلاق صوتها، بدا أن غريزة داخلية سيطرت عليه. علَّق صرة الحطب على كتفيه وواصل السير.

كانت هناك أماكن تتجمع فيها طرق القوافل وتصبح ضيقة. كانت عادة على ضفاف الجداول والأنهار. عند كل من هذه التقاطعات يتجمع آلاف وآلاف معًا، يجلسون، ينتظرون — يتحركون في الوحل، بخطى صغيرة مرهقة.

وصلوا إلى نهر يبدو واسعًا جدًّا. يتدفق بسرعة جدول جبلي، ومياهه باردة كالثلج. كان هناك، على امتداد ضفة رملية محاطة بغابة مرتفعة، أكبر تجمع التقوا به: عشرات الألوف — بحر من الرءوس والوجوه.

انضموا إلى تلك الكتلة الهائلة من البشر وجلسوا مقرفصين على ضفة النهر الرملية. انتظروا، وبمرور الوقت وصل رمث. بدا ثقيلًا جدًّا وليس كبيرًا جدًّا. شاهدته منجو يترنح على النهر المفعم بالمياه: أجمل مركب رأته في حياتها، رأت أنه مخلِّصها. امتلأ في دقائق وابتعد في النهر، متحرِّكًا ببطء حول انحناءة كبيرة. لم تفقد الإيمان؛ كانت متأكدة أنه سيعود. وبتأكيد كافٍ، في برهة، عاد الرمث مرة أخرى. ومرة أخرى وأخرى، وفي كل مرة يمتلئ في دقائق.

في النهاية جاء دورهم وركبوا. أعطت منجو الطفلة لدُلِّي ووجدت لنفسها مكانًا على حافة الرمث فجلست قرب المياه. انطلق الرمث ورأت النهر يندفع بجوارها؛ رأت دواماته وتياراته تدوِّم — ظهرتْ أشكالُ انسيابه وحركته على سطحه. لمست المياه ووجدتها باردة جدًّا.

في مكان ما بعيد، سمعت طفلة تصرخ. مهما يكن الضجيج حولها، مهما يكن عدد الناس الذين تراهم يحيطون بها، تعرف دائمًا صوت ابنتها. وتعرف أن دُلِّي ستبحث عنها فورًا وتعطيها الطفلة؛ ستقف على رأسها، تشاهدها، لتتأكد أن الطفلة رضعتْ. تركتْ يدها تسقط فوق حافة الرمث وارتجفت من لمس الماء. بدا أنه يشدُّها، يرغمها على النزول فيه. تركتْ ذراعها تنزل قليلًا ثم غرستْ قدمها فيه. شعرتْ بساريها يصبح أثقل، ينتشر في المياه، يبتعد عنها، يسحب جسمها، ويرغمها على أن تتبعه. سمعت صوت الصراخ وكانت سعيدة لأن ابنتها في ذراعي دُلِّي. مع دُلِّي ورَجْكومار ستكون الطفلة في أمان؛ سيريانها وطنها. كان ذلك أفضل: أفضل أن يأخذاها، وكانا يعرفان ما يعيشان من أجله، في رعايتهما. سمعت صوت دُلِّي يناديها — «منجو، منجو، توقفي — احذري …» عرفت أن الوقت حان. لم يكن مجهدًا إطلاقًا أن تنزلق من الرمث إلى النهر. كان الماء سريعًا ومظلمًا وشديد البرودة.

١  ألور ستار Alor Star: عاصمة ولاية كيداه في ماليزيا. تقع على بعد ٩٥كم إلى الشمال من بترورث، بننج، وعلى بعد ٤٥كم من حدود ماليزيا مع تايلاند.
٢  البوجينفيلا bougainvillea: نبات متسلق، يوجد في أمريكا الجنوبية، له أوراق ملونة حول قاعدة زهوره.
٣  كوتا بهارو: Kota Baharu.
٤  بيرل هربور Pearl Harbor: خليج على المحيط الهادي على الساحل الجنوبي لأهايو. في يوم الأحد الموافق ٧ ديسمبر ١٩٤١م، هاجمت الطائرات اليابانية القاعدة، مدمرة ١٩ سفينة بحرية وحوالي ٢٠٠ طائرة. دخلت الولايات المتحدة الحرب في اليوم التالي لهذا الهجوم.
٥  جيترا Jitra: بلدة في ولاية كيداه، ماليزيا. أثناء الحرب العالمية الثانية، حين هاجم اليابانيون الملايو، كانت جيترا من الخطوط الدفاعية الرئيسية التي أقامها البريطانيون، وقامت هناك واحدة من أعنف المعارك.
٦  ليسترشاير Leicestershire: نسبة إلى منطقة في وسط إنجلترا.
٧  الهفيلدار havildar: رقيب في الجيش الهندي.
٨  الدفانجارية Devanagari: أبجدية تكتب بها السنسكرتية وعدد من اللغات الهندية الحديثة.
٩  أمريك سنجه: Amreek Singh.
١٠  ماء وودورد للمغص Woodward Gripe Water: دواء لعلاج المغص كان ينتج في المملكة المتحدة.
١١  أسون: Asoon.
١٢  أمير ويلز: Prince of Wales؛ ريبلس: Repulse.
١٣  ويبلي: Webley.
١٤  سيملا Simla: مدينة شمال الهند إلى الشمال من دلهي.
١٥  بُرَّا خانه burra khana: حفل عشاء (هندي).
١٦  جمادر عبد القادر: Jemader Abdul Qadir.
١٧  جون فرنش John French (١٨٥٢–١٩٢٥م): ضابط بريطاني كان قائد القوات البريطانية في الحرب العالمية الأولى.
١٨  شوتيا chootiya: خسيس (هندي).
١٩  شيانج كي شك Chiang Kai-shek (١٨٨٧–١٩٧٥م): رئيس المجلس عسكريالعسكري الوطني في الصين من ١٩٢٨م حتى ١٩٤٨م.
٢٠  كوكين: Kokine. كالا بَسْتي Kalaa Bustee: الحي الهندي.
٢١  كوتيكورا: Cuticura.
٢٢  ليدلو: Laidlaw.
٢٣  سكوت ماركت: Scott Market.
٢٤  معمدانيون Baptists: أتباع كنيسة بروتستانتية إنجيلية، يتبعون التقاليد الإصلاحية في العبادة، ويؤمنون بحرية الفرد، والفصل بين الكنيسة والدولة.
٢٥  مسيح هاندل Handel’s Messiah: وهاندل (١٦٨٥–١٧٥٩م) موسيقي ألماني شهير من أشهر أعماله المسيح (١٧٤٢م) وموسيقى الماء (١٧١٧م).
٢٦  لي إنفيلد Lee Enfield 303.
٢٧  براثها paratha: خبز بالزبد من عدة طبقات.
٢٨  أندي كا بهوجيا ande-ka-bhujia: عجة.
٢٩  شالاو جولي chalao goli: جولي بمعنى طلقة (سنكرسيتية)، اطلق النار.
٣٠  بيش. شلو piche. Chalo: شلو بمعنى ابعدْ.
٣١  كمبيتاي: Kempeitai.
٣٢  كيا هوا: kya hua.
٣٣  دكه لو: dekh lo.
٣٤  ليم: Lim.
٣٥  هان han: نعم (سنكرستية).
٣٦  جوان jawan: جندي، من السياق.
٣٧  سابَر كارو sabar karo.
٣٨  كوتانا: kotana.
٣٩  الجهندا jhanda: عَلَم (هندوستانية).
٤٠  التيرنجا tiranga: العلم الوطني الهندي (هندوستانية).
٤١  أوي: oye.
٤٢  شاباش shabash: برافو (هندوستانية).
٤٣  جالدي إم أوه كو بهيجو Jaldi M. O. Ko Bhejo.
٤٤  شربوي charpoy: سرير يتكون من إطار خشبي حول مجموعة من الحبال المعقودة معًا.
٤٥  جيانجي: Gianiji.
٤٦  موهون سنجه: Mohun Singh.
٤٧  إيك مينيت ek minit: دقيقة واحدة.
٤٨  بهنجرا bhangra (هندي، بنجابي): رقصة شعبية في منطقة البنجاب، بدأت كرقصة يرقصها الفلاحون في بداية الربيع.
٤٩  الفلندرز Falnders: منطقة جغرافية تقع حاليًّا في بلجيكا وفرنسا وهولندا.
٥٠  شَبْلوس chaploos.
٥١  ثيك هَي theek hai.
٥٢  منرو: Munro.
٥٣  ماس: Mass.
٥٤  التندوري tandoori: المطبوخ في التندور، فرن من الطين، يتم تسخينه إلى درجة حرارة عالية على الفحم أو الخشب ويستخدم في الهند لصناعة الخبز واللحم المشوي.
٥٥  موليك Mawlaik: بلدة شمال غرب بورما، على نهر شندوين.
٥٦  ناجا Naga: ناجا كائن في الميثولوجيا الهندوسية والبوذية، نصفه بشر ونصفه حية.
٥٧  كَنْجيفارام Kanjeeevaram: نوع فخم من الساري.
٥٨  بورو: buro.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥