القصر الزجاجي
٤٠
كانت بيلا في الثامنة عشرة حين عبر رَجْكومار ودُلِّي الجبال. وقد بقي يوم وصولهما إلى لنكاسوكا حيًّا في ذهنها للأبد.
كان ذلك في ١٩٤٢م. كانت سنة مرعبة لم تعرف لها البنغال مثيلا. في ذلك الوقت، لم يعرفوا في الهند إلا القليل عن الظروف في بورما والملايو. نتيجة الإجراءات الأمنية وقت الحرب، كانت الأخبار هزيلة، وقد قُطِعتْ كل قنوات الاتصال المعتادة. في السنة التي قبلها، حين وصلت أول سفينة تهجير من رنجون إلى كلكتا، ذهبت بيلا ووالداها لمقابلتها في حوض السفن. كانوا يأملون في رؤية منجو بين المسافرين النازلين من السفينة. لكنهم علموا أن رَجْكومار وأسرته قرروا البقاء في بورما.
ثم جاء قصف رنجون بالقنابل والخروج الكبير للهنود باتجاه الشمال. حين وصل أول اللاجئين إلى كلكتا، بحثتْ عنهم بيلا، وسألتْ عن معلومات، مسجلة أسماء وعناوين. لم تعرف شيئًا.
كانت أوما في البيت منذ شهرين حين جاء البواب العجوز، بعد ظهيرة أحد الأيام، يخبرها بوجود بعض المعدمين في الخارج، يسألون عنها. كان ذلك شائعًا جدًّا في ذلك الوقت؛ كانت البنغال في آلام المجاعة، واحدة من أسوأ المجاعات في التاريخ. كانت المدينة مليئة بالمهاجرين الجوعى من الريف؛ أناس ينزعون الأعشاب وأوراق الشجر من المنتزهات، باحثين بين البالوعات عن حبات أرز.
في لنكاسوكا، كان الطعام الفائض يوزع على الفقراء مرة يوميًّا. في ذلك اليوم المحدد، كان توزيع الطعام في الصباح قد انتهى منذ وقت طويل. كانت أوما مشغولة في مكتبها حين دخل الشوكيدار يخبرها بهؤلاء المعدمين. قالت: «أخبرْهم بأن يعودوا غدًا في الوقت المناسب.»
لم يبتعد الشوكيدار إلا ليعود بعد وقت قصير: «لا يريدون أن ينصرفوا.»
تصادف أن بيلا كانت قريبة. قالت أوما: «بيلا، اذهبي لتري ما الأمر.»
خرجت بيلا إلى الفناء وسارتْ باتجاه البوابة. رأت رجلًا وامرأة تمسك القضبان المعدنية. ثم سمعتْ صوتًا ينطق باسمها في همس أجش — «بيلا» — فنظرت بتفحص في وجهيهما.
سمعت أوما صرخة فجرتْ إلى الفناء. انتزعت المفاتيح من يدي الشوكيدار. جرت إلى البوابة وفتحتها.
«انظري.»
كان رَجْكومار جاثمًا على الرصيف. فتح ذراعيه فرأوا أنه يحمل طفلة رضيعة — جايا. فجأة تحول وجه الطفلة إلى الأحمر القاتم المتألق وبدأت تصرخ بأعلى صوتها. في تلك اللحظة لم يكن في العالم صوت أجمل من هذا التعبير عن الغضب: أعلن هذا الصوت البدائي، صوت الحياة تصميمه على الدفاع عن نفسه.
•••
في نهاية الحرب أعيد ألوف من أعضاء الجيش الوطني الهندي إلى الهند كسجناء حرب. بالنسبة للبريطانيين كانوا أعضاء الطابور الياباني الخامس — اعتبروهم خونة — لكل من الإمبراطورية والجيش الهندي، الذي واصل هيكله القتال مع الحلفاء في شمال أفريقيا وجنوب أوروبا، وأخيرًا في الغزو المضاد البريطاني لبورما. إلا أن الشعب الهندي رأى المسألة بشكل مختلف تمامًا. رأى الإمبريالية والفاشية شرين توأمين، أحدهما مشتق من الآخر. واستقبل سجناء الجيش الوطني الهندي المهزوم، لا المنتصرين العائدين، استقبال الأبطال.
بمجرد بدء المحاكمة، دخلت الدعوى في المشاكل بسرعة. لم تكن هناك قدرة على إقامة دليل بين الجيش الوطني الهندي والفظائع اليابانية في جنوب شرق آسيا أو إساءة معاملة الأسرى البريطانيين أو الاستراليين. بينما ثبت أن بعض السجناء الهنود أسيئت معاملتهم، ولم يكن هناك ارتباط لهذه الحالات بالثلاثة المدَّعى عليهم.
كانت مقاومة الجيش الوطني الهندي في تلك المرحلة رمزية إلى حد بعيد، تُنفَّذ على أمل إثارة تمرد في الجيش الهندي. وبالرغم من أنهم لم يمثلوا أبدًا تهديدًا كبيرا للجيش الرابع عشر المنتصر، فقد كانوا أكثر من مهيِّج صغير. قاتل عدد كبير وماتوا بشجاعة كبيرة، مقدِّمين أبطالًا وشهداء للحركة. وأرجون من بين الذين ماتوا أبطالا، كما قال هاردي. وكذلك كيشان سنجه. وذلك كل ما عرفوا عن موت أرجون وكانوا مطمئنين لأنه كان كذلك.
•••
على مدى السنوات الست التالية أقامت دُلِّي ورَجْكومار مع أوما في شقتها. نُسي تراث شجار رَجْكومار مع أوما وربطت الطفلة، جايا، بين كل سكان المنزل.
عملتْ دُلِّي مع وحدة نشر تابعة للجيش، ترجمت كتيبات فترة الحرب إلى البورمية. وقام رَجْكومار بعمل إشرافي مؤقت في ورش نجارة وشوادر خشب. في يناير ١٩٤٨م نالت بورما استقلالها. وبعد قليل قررت دُلِّي العودة مع رَجْكومار إلى رنجون، على الأقل لبعض الوقت. وفي أثناء ذلك تبقى جايا في كلكتا مع خالتها بيلا وجديها الآخرين.
وكان شغف دُلِّي بالعودة إلى بورما يعود أساسًا إلى أنها لم تسمع شيئًا عن دينو منذ سبع سنوات. كانت دُلِّي تؤمن بأنه لا يزال على قيد الحياة وتحرص على العثور عليه. عبَّر رَجْكومار عن رغبته في الذهاب معها فحجزت تذكرتين.
لكن مع اقتراب اليوم، تبين أن رَجْكومار لم يكن متأكِّدًا من رأيه. على مدى السنوات الست الأخيرة، ارتبط ارتباطًا شديدا بحفيدته اليتيمة. أكثر من أي شخص آخر في المنزل، أخذ على عاتقه مسئوليات الاهتمام اليومي بها: يجلس معها أثناء وجباتها، ويمشي معها في المنتزه، ويحكي لها حكايات قبل النوم. بدأت دُلِّي تتساءل إذا كان يستطيع تحمل ألم الابتعاد عن الطفلة.
استقرَّ السؤال حين اختفى رَجْكومار قبل موعد السفر إلى بورما بيومين. عاد بعد أن أبحرت السفينة. عبر عن ندمه وقدم أعذارًا كثيرة؛ قال إنه لا يتذكر أين ذهب أو لماذا. ألحَّ على دُلِّي أن تحجز مرة أخرى؛ ووعد بألا يحدث ذلك مرة أخرى. وأثناء ذلك، قررت دُلِّي أن الأفضل ترك رَجْكومار حيث كان — من أجله ومن أجل جايا. ولم تعترضْ أوما من جانبها؛ كانت مطمئنة إلى بقائه: لم يكن مزعجًا وكثيرًا ما يقوم بأعمال مفيدة في المنزل.
«سيكون بخير، دُلِّي.»
«هل ستعتنين به، أوما؟ من أجلي؟»
«سأعتني به؛ أعدك.»
في لنكاسوكا، استيقظ رَجْكومار ليجد ورقة على مخدته، بخط دُلِّي الجميل. التقط الورقة وفتحها برفق. كان فيها: رَجْكومار — أعرف من أعماق قلبي أن دينو لا يزال على قيد الحياة وأني سوف أجده. بعد ذلك أذهب إلى ساجاينج كما كنتُ أريد منذ وقت طويل. وأنا أعرف أن لا شيء في هذا العالم أصعب عليَّ من أن أتخلى عنك وعن ذكرى حبنا. دُلِّي.
لم يرها مرة أخرى أبدًا.
٤١
كطفلة وحيدة في المنزل، شغلت جايا لنكاسوكا وهي تكبر. كانت خالتها بيلا تعيش في الدور العلوي؛ ورثت الشقة بعد موت والديها. لم تتزوج أبدًا، ووقعت على عاتقها بشكل أساسي مسئولية الاهتمام اليومي بجايا: في شقتها تنام جايا وتأكل عادة.
لم يبعد رَجْكومار أبدًا: بعد رحيل دُلِّي، استمرَّ يعيش في الدور الأرضي في شقة أوما. كانت له غرفة صغيرة بمفرده قرب المطبخ، بها سرير ضيق ورفان من أرفف الكتب.
كان الشيء الوحيد غير الضروري في غرفة رَجْكومار هو الراديو — بيلارد من طراز قديم بصندوق خشبي وواجهة مغطاة بالقماش. كان رَجْكومار يأخذ غفوة بعد الظهيرة والراديو مفتوح دائمًا — تغلقه جايا عادة بعد العودة من المدرسة. وكان صمت الراديو يوقظه غالبًا من غفوته. كان يجلس، مائلًا على مخدته، ويأخذ حفيدته بجواره. وحين يضع ذراعه حول كتفي جايا تختفي في ثنية كوعه؛ كانت يداه ضخمتين، وبشرته داكنة، معرَّقة بأوردة لونها أفتح، والشعر الأبيض على مفاصل أصابعه يبدو تناقضًا رهيبًا. كان يغلق عينيه وتمتلئ تجاويف وجهه بالثنايا الجلدية. وحين يتكلم، تتدفق الحكايات منه — عن أماكن لم تذهب إليها جايا أبدًا ولم ترها؛ عن صور ومشاهد كانت جلية وكأنها تطفح من كوب الواقع إلى بحار الأحلام. عاشت في حكاياته.
كان المكان المفضل الذي يتردد عليه رَجْكومار معبدًا بوذيًّا صغيرًا في مركز المدينة، مكانًا كانت دُلِّي أيضًا تحبُّ زيارته، في الماضي. كان مكانًا تجتمع فيه الجالية البورمية في كلكتا، وفي مناسبات خاصة أخذ رَجْكومار جايا معه. كان المعبد في الدور الرابع من بناية قديمة متداعية، في منطقة تزدحم فيها حركة المرور ويمتلئ الهواء بعادم الديزل. كانا يشقان الطريق عبر البلدة في حافلة وينزلان في محطة مستشفى عدن. يصعدان سلالم رخامية قذرة وحين يصلان إلى القمة، يدخلان قاعة تبدو عالمًا بعيدًا عما يحيط بها: مليئة بالأضواء، يفوح منها عبير زهور ندية، وأرضيتها تلمع من النظافة. وعلى الأرضية حصائر منسوجة بأنماط مميزة: تختلف عن الحصائر الهندية، وكانت في الوقت نفسه متشابهة.
ذات مرة وجايا في العاشرة، أخذها رَجْكومار إلى المعبد في الثادينجوت. كان المعبد مليئًا بالناس؛ النساء يمرحن في لنجياتهن، استعدادًا لعيد؛ والجدران متألقة بأنوار براقة لمئات اللمبات والشموع. فجأة، وسط الصخب والمرح، خيم السكون. جرت همسات في الغرفة: «الأميرة … الأميرة الثانية، تصعد السلم …»
دخلت الأميرة، فتسارعت الأنفاس، وكثر وكز الكيعان ممن يعرفون أداء الشيكو. كانت الأميرة ترتدي هتامينًا قرمزيًّا ووشاحًا، في أواخر الستينيات من العمر، وكان شعرها الرمادي مربوطًا إلى مؤخرة رأسها في كعكة صغيرة جدًّا. كانت ضئيلة، وجهها لطيف وعيناها سوداوان متألقتان. كانت تعيش في الهند، في محطة الهضبة في كليمبُنْج. وكان معروفًا أن ظروفها سيئة جدًّا.
تبادلت الأميرة بعض الدعابات اللطيفة مع الناس من حولها. ثم وقعتْ عيناها على رَجْكومار فتجعد وجهها بابتسامة دافئة ودودة. قطعت أحاديثها؛ تفرق الحشد وشقت طريقها ببطء عبر الغرفة. تركزت كل العيون في المعبد على رَجْكومار. شعرتْ جايا بالانتفاخ زهوًا نيابة عن جدها.
حيت الأميرة رَجْكومار تحية حارة بالبورمية؛ لم تفهم جايا كلمة من محادثتهما، لكنها شاهدت وجهيهما بعناية، وتأملت تعبيراتهما المتغيرة، مبتسمة حين يبتسمان، ومقطبة حين يتجهمان. قدمها رَجْكومار: «وهذه حفيدتي …»
فيما بعد التفَّ الناس حول رَجْكومار، متسائلين عن سر اختيارها له. سألوا: ماذا قالت سموها؟ كيف عرفتْك؟»
قال رَجْكومار بتلقائية: «أوه، عرفتُها معظم أيام حياتي.»
«حقًّا؟»
«نعم. رأيتها أول مرة في مَنْدالي وعمرها ستة أشهر.»
«أوه؟ وكيف حدث ذلك؟»
بدأ رَجْكومار من البداية، عاد إلى ذلك اليوم الذي انقضى عليه أكثر من ستين عامًا حين سمع صوت المدافع الإنجليزية تنطلق عبر السهل إلى جدران حصن مَنْدالي.
•••
في ركن هادئ من لنكاسوكا، كانت هناك كوة بمثابة ضريح لوالدي جايا وخالها أرجون. في إطار في الكوة صورتان: إحداهما صورة لمنجو ونيل، التقطت يوم العرس — التقطت لهما وهما يرفعان عيونهما عن النار المقدسة في دهشة. وقد انزلق حجاب منجو لحظة من فوق رأسها. كانا يبتسمان، ووجهاهما متألقان ومشرقان. والتقطت صورة أرجون في محطة هورا: كان في زيه، يضحك. وكان هناك وجه ثانٍ مميز بوضوح على كتفه: قالت بيلا لابنة أختها أنه مراسلة خالها، كيشان سنجه.
وجايا لم تزل في العاشرة، تنامى اهتمامها بالكاميرات والصور، وخطر ببالها أن تسأل خالتها عن الصور ومن التقطها.
اندهشت بيلا. قالت بارتباك: «اعتقدتُ أنك تعرفين. التقطها عمك دينو.»
قالت جايا: «من؟» هكذا عرفت جايا أن لها عمًّا — عمًّا لم يُذكَر لأن مصيره مجهول. لم يتكلم أحدٌ أبدًا في لنكاسوكا عن دينو — سواء رَجْكومار أو أوما أو بيلا. لا أحد كان يعرف ما جرى له. كان معروفا أنه أقام في مُرْنِنْجْسايد حتى الأسابيع الأخيرة من ١٩٤٢م. وفي وقت ما رحل إلى بورما. ولم يسمع عنه شيء بعد ذلك. توقع الجميع سرًّا أن يكون ضحية أخرى من ضحايا الحرب، لكن لم يرغب أحد أن يكون أول من ينطق بهذه المخاوف، ولذا لم يذكر اسم دينو في المنزل أبدًا.
عاشت جايا، حتى يوم زواجها، في لنكاسوكا مع خالتها وأوما ورَجْكومار. تزوجت صغيرة، في السابعة عشرة. كان زوجها طبيبًا، يكبرها بعشر سنوات. نشأ بينهما حب قوي وبعد سنة من العرس رزقا بابن. لكن وهو ابن سنتين، حدثت مأساة: قُتِل والده في حادث قطار.
بعد قليل عادت جايا إلى لنكاسوكا. بدعم خالتها بيلا التحقت بجامعة كلكتا، وحصلت على درجة علمية وعملت مدرسة في كلية. عملت بجد لينال ابنها تعليمًا جيدًا. التحق بأفضل مدارس المدينة وكلياتها، وفي الثانية والعشرين فاز بمنحة تعليمية وسافر إلى الخارج.
الآن، لأول مرة في سنوات، كان هناك وقت متاح لجايا. بدأت تعمل من جديد في أطروحة دكتوراه الفلسفة في تاريخ التصوير الفوتوغرافي في الهند.
•••
في ١٩٩٦م أرسلت الكلية جايا لحضور مؤتمر عن التاريخ في جامعة جوا. في الطريق، وهي تغير الطائرة في مطار بومباي، كمنتْ لها إحدى أسوأ الخبرات المحتملة في المطارات: عند الوصول إلى مكتب المراجعة قيل لها إن الطائرة تحت الفحص. وإذا أرادت تأكيد الحجز، فعليها الانتظار يومين على الأقل؛ وبشكل بديل يمكن أن تتحمل شركة الطيران أجرة الانتقال بحافلة أو قطار.
ذهبت جايا إلى مكتب آخر ملوحة بتذكرتها. وجدت نفسها في نهاية طابور طويل من الغاضبين؛ يصيحون جميعًا باللازمة نفسها في الموظف: «لكن لنا حجوزات …»
كانت جايا نحيلة متوسطة الطول. وكان شعرها ناحلًا، ورماديًّا وتبدو كما هي تمامًا — أستاذة جامعية متواضعة ومنطوية، كثيرًا ما وجدت صعوبة في الحفاظ على النظام في الفصل. عرفت أن إضافة صوتها إلى كورس السخط عند الطاولة بلا معنى: حيث احتشد الآخرون، لم يبدُ أحدٌ أقل قدرة على الانتصار من واحدة مثلها. قررت أن تستقل القطار.
بعد برهة كانت تقف بجوار أبواب ملونة لجاليري فنون مكيف الهواء. ترك نفَسُها هالة منداة على الزجاج الأخضر البارد. كان على الباب إعلان ينوه عن عرض لعمل اكتشف حديثا لمصورة رائدة من بدايات القرن، امرأة بارسية كانت مجهولة حتى ذلك الوقت. وعلى قمة الإعلان صورة، نسخة مصغرة بالكمبيوتر لإحدى صور المعرض — بورتريه لمجموعة من أربعة أشخاص جالسين. كان في الصورة شيء شدَّ عين جايا. فتحت الباب. كان الجاليري شديد البرودة وخاليًا تقريبًا. وكانت الشوكيدارة الفظة المعتادة تجلس على كرسي، خلف منضدة، امرأة تبدو ضجرة في ساري من الحرير وحلق أنف من الماس.
«هل يمكن أن تريني من فضلك الصورة التي في هذا الإعلان؟»
لا بد أن المرأة سمعتْ نبرة الإثارة في صوت جايا، لأنها نهضت بسرعة وأخذتها إلى الركن البعيد من الجاليري: «هذه الصورة؟»
أومأت جايا. كانت الصورة بحجم كبير، أكبر من بوستر، بينما النسخة التي تتذكرها لا يزيد حجمها عن بطاقة بريدية. عرفت الصورة طوال حياتها، لكنها تطلعتْ إليها كأنها تراها لأول مرة. التُقِطت الصورةُ في حديقة مقر الجابي. كانت المقاعد الأربعة موضوعة في نصف دائرة على عشب مشذب جيدًا. أوما وزوجها وسط المجموعة، يجلس بجوارهما من الجانبين دُلِّي ورَجْكومار.
في الخلف حديقة مستطيلة، تنحدر بشدة على جانب الهضبة. في الحدود المظللة على مسافة متوسطة ظهر عدد من الناس، في أوضاع منظمة بعناية — خدم وسائسون وبستانيون، وكل منهم مزوَّد بأدوات مهنته: مناجل وفئوس وسياط. في الخلفية، بامتداد الإطار، مشهد طبيعي — رائع ودرامي بدا وكأنه خلفية مرسومة: نهر يلتف حول هضبة ويتسع عند المصب، صف منحدرات تنبثق من بحر مزبد، شاطئ مصفوف بالنخيل ينزلق برقة في خليج غسلته الشمس.
كان الجابي في صدر الصورة، نحيلًا ورشيقًا، يرتدي بدلة من الكتان بثلاثة أزرار. يجلس على حافة مقعده مثل طائر يقظ، ورأسه منتصب بزاوية ثابتة تثير بعض الريبة. من ناحية أخرى، بدت أوما منبسطةً جدًّا. وكان في سلوكها وفي الطريقة التي أراحت بها يدها بخفة على ركبتيها توازن معين وثقة في الذات. كانت ترتدي ساريًا بسيطًا فاتح اللون بحافة مطرزة؛ وأخيرًا على رأسها شيء مجعد كالشال. كانت عيناها كبيرتين برموش طويلة، ووجهها سمحًا وقويًّا أيضًا: تتذكره جايا جيدًا من طفولتها. تذكرت باستغراب أن مظهر أوما لم يتغير إلا قليلًا على مدار حياتها.
قطعت صاحبة الجاليري هذه التأملات. قالت: «أظنك تعرفين هذه الصورة؟»
«نعم. المرأة التي في الوسط عمة أبي. اسمها أوما دي.»
ثم لاحظت جايا تفصيلا. قالت: «انظري، انظري كيف ترتدي ساريها.»
مالت صاحبة الجاليري لفحص الصورة: «لا أرى شيئًا غير عادي فيه. هكذا ترتديه كل النساء.»
قالت جايا: «حقًّا، أوما دي من أوائل نساء الهند اللائي ارتدين الساري بهذه الطريقة.»
«أية طريقة؟»
«الطريقة التي أرتدي بها ساريَّ، على سبيل المثال — أو ترتدين بها ساريك.»
تجهمت المرأة. قالت كأمر مسلم به: «هذه الطريقة يُلبَس بها الساري دائمًا. الساري رداء قديم جدًّا.»
قالت جايا بهدوء: «نعم، إنه كذلك، لكن الطرق التي يلبس بها ليست كذلك. الأسلوب المعاصر لارتداء الساري مع بلوزة وجيبة ليس قديمًا جدًّا على الإطلاق. ابتكره رجل أيام الحكم البريطاني.»
فجأة، عبر السنوات، سمعتْ صوت أوما تشرح تطور ارتداء الساري. أصيبت جايا برجفة، حتى بعد تلك السنوات كلها، وهي تتذكر مدى دهشتها حين سمعت القصة أول مرة. تخيلت دائمًا أن الساري جزءٌ من النظام الطبيعي للعالَم الهندي، يرجع إلى العصور السحيقة. وكان اكتشاف أن للرداء تاريخًا ابتكره أناس حقيقيون، إرادة إنسانية، صدمة لها.
توقفت جايا في طريق الخروج من الجاليري لشراء بطاقة بريدية عليها الصورة. كان في ظهر البطاقة ملاحظة تفسيرية تقول: تقع رتناجيري بين بومباي وجوا. باندفاع أخرجت جايا مواعيد القطارات من حقيبتها: رأت أن قطارها يتوقف في رتناجيري في طريقه إلى جوا. فكرت في التوقف هناك ليلة أو اثنتين: سيبدأ المؤتمر بعد يومين.
شعرت بحاجة للتحدث مع أحد. دفعت الفاتورة وخرجت. اندفعت مع الجماهير، ومشت في شارع مسافة طويلة حتى وصلت إلى كابينة تليفون. دخلتها، طلبت نمرتها في كلكتا. بعد رنتين ردَّتْ خالتها: «جايا؟ أين أنت؟»
«في بومباي …» شرحتْ جايا ما حدث. وهي تتحدث، تصورت خالتها تقف بجوار التليفون الأسود المكسر في غرفة نومها، تتجهم في قلق، ونظارة القراءة ذات الإطار الذهبي تنزلق على أنفها الطويل النحيل.
قالت جايا: «أفكر في قضاء ليلتين في رتناجيري. يتوقف قطاري هناك في الطريق إلى جوا.»
كان هناك صمت. ثم سمعت صوت بيلا، تتكلم بهدوء في التليفون: «نعم — بالطبع عليك أن تذهبي؛ كان عليك أن تذهبي منذ سنوات …»
•••
كانت صورة رتناجيري رائعة كما تخيلت جايا تمامًا. لكنها اكتشفت بسرعة أنه لم يتبق إلا القليل جدًّا من الأماكن التي سمعتْ عنها في طفولتها. كان المرفأ في مندفي أنقاضًا منهارة؛ ومعبد بهاجفتي، وكان ذات يوم مجرد برج وضريح، كتلة شاهقة من الخرسانة المدهونة بالجير؛ هُدِم منزل أطرام، حيث عاش الملك ثيبو وحاشيته حوالي خمسة وعشرين عامًا، وشيد من جديد. لم تعد رتناجيري بلدة إقليمية صغيرة كما كانت أيام ثيبو. صارت مدينة مزدهرة، تجمعت حولها الصناعات بكثافة من كل الجهات.
لكن الغريب أن هذه البلدة، خلال هذا كله، نجحت بشكل ما في الحفاظ على الملك ثيبو وذكراه نابضين بالحياة. كان الملك ثيبو في كل مكان في رتناجيري: نقش اسمه على اليافطات ولوحات الإعلانات، في أركان الشوارع وعلى المطاعم والفنادق. مات الملك منذ أكثر من ثمانين عامًا، لكن الناس يتحدثون عنه في البازارات وكأنهم أول من عرفوه. وجدت جايا في أن رجلًا مثل ثيبو، ما زال ثابتًا بعمق ويحظى بكل هذا الحب في أرض منفاه، أمرًا مؤثرًا في البداية ومحرِّكًا للمشاعر بعمق.
كان مقر الجابي أول مكان حقيقي تعثر عليه جايا — المكان الذي عاشت فيه أوما. تبين أنه قريب من الفندق الذي تقيم فيه، على قمة هضبة تطل على الخليج والبلدة. كان المجمع ملك الحكومة وقد أحيط بسور هائل وعر. وأزيلت الأشجار من كان أرجاء الهضبة — وكانت كثيفة الأشجار أيام أوما — فصار المشهد دراميًّا أكثر مما كان، بانوراما شاسعة من النهر والبحر والسماء. ورتناجيري تمتدُّ تحتها، نموذج دقيق لبلدة في مقاطعة استعمارية، بخط خفي يفصل بازاراتها المزدحمة عن «الكتشيري» — المجمع الفيكتوري المشيد بالطوب الأحمر الذي يضم محاكم المقاطعة ومكاتبها.
كومت جايا، تواقة لإلقاء نظرة على مقر الحاكم، بعض الطوب بجوار سور المجمع ووقفت فوقه تنظر داخله. وجدت خيبة أمل أخرى في الانتظار: لم يعد البنجلو القديم موجودًا برواقه اليوناني وعشبه المتدرج وحدائقه المستطيلة. قُسِّمت الأراضي لإقامة عدة منازل صغيرة عليها.
كانت جايا على وشك النزول حين بادرها بالكلام حارس مسلح. صاح: «هِيْ. ماذا تفعلين؟ انزلي من عندك.»
جاء مسرعًا وأطلق وابلًا من الأسئلة: من هي؟ من أين؟ وماذا تفعل هناك؟
لتصرف انتباهه أخرجت البطاقة البريدية التي اشترتها من الجاليري في بومباي. كان لها التأثير الذي تمنته. حدَّق الحارس في الصورة وسمح لها بالسير في الطريق لإلقاء نظرة على لسان من الأرض معلق على الوادي.
ثم بدأ يطرح أسئلة عن الناس الذين في الصورة — الجابي وأوما. حين أشار إصبعه إلى رَجْكومار، ضحك.
قال: «وانظري إلى هذا الرفيق. يبدو كأنه يملك المكان.»
نظرت جايا بدقة أكبر إلى الصورة. رأت رأس رَجْكومار يميل بشكل أنيق حقًّا، وباستثناء ذلك بدا وقورًا تمامًا. وجهه ضخم بفك كبير، وعيناه قاتمتان؛ بدا عملاقًا بجانب الجسم النحيل الضئيل للجابي. كان يرتدي بنطلونًا غامقًا، وسترة من الكتان وقميصًا بياقة مدورة. لم تكن ملابسه أنيقة أو جيدة التفصيل كملابس الجابي، لكنه بدا أكثر انبساطًا بكثير؛ كانت ساقاه متقاطعتين قليلًا، وفي يده علبة سجائر فضية رقيقة. يمسك بها كأنها الورقة الرابحة، بين إصبعه وإبهامه.
قالت جايا على سبيل الشرح: «هذا جدي.»
كان الحارس قد فقد بالفعل الاهتمام برَجْكومار أثناء ذلك وشردت عيناه في دُلِّي، تجلس في زاوية بجانب أوما، وجسمها يستدير عكس الكاميرا كأنها تحمي نفسها من نظرتها.
ترتدي دُلِّي لُنجِيًا أخضر من الحرير وبلوزة بيضاء. وجهها طويل ونحيل، وعظامها الرقيقة بارزة تحت بشرتها. شعرها مربوط إلى الخلف، وخصلة واحدة تسقط على الصدغ. لم تكن تلبس أية مجوهرات، وكانت هناك زهور، فرنجيباني ببتلات بيضاء، مثبتة فوق إحدى أذنيها. وفي يديها إكليل من الياسمين الأبيض.
قال الحارس: «جميلة جدًّا.»
قالت جايا: «نعم. الجميع قالوا ذلك …»
كان اليوم التالي اليوم الأخير لجايا في رتناجيري. وقت الأصيل استأجرت ركشو بدراجة وطلبت من السائق الذهاب إلى شاطئ بهات. انطلقت الدراجة عبر البلدة، بجوار مباني المدرسة الثانوية والكلية المشيدة بالطوب الأحمر، وفوق الجسر الذي يعبر المصب، على شاطئ في الطرف الجنوبي للخليج. عن بعد، انتفخت الشمس لتملأ فم الخليج، وازداد حجمها وهي تغطس باتجاه الأفق. كان الرمل بلون النحاس، ينزلق في المياه بميل رقيق. ونخيل جوز الهند ينمو بكثافة على طول حافة الشاطئ، وجذوعه تتمايل بشدة نتيجة الرياح. وعلى طول الخط، حيث يتحول الرمل إلى طمي، كميةٌ متشابكة بكثافة من العشب والقواقع والأعشاب البحرية الجافة.
هناك، مختبئة تحت الشجيرات، وجدت جايا ما تتطلع إليه — صخرة صغيرة تخليدًا لذكرى زوج عمة أمها، الجابي. بهتت الكتابة المحفورة بفعل الرياح والمياه والرمال. كان الضوء كافيًا لقراءة الشاهد. عليه: «إلى ذكرى بيني براساد دي إسك، جابي مقاطعة، ١٩٠٥–١٩٠٦م.» وقفت جايا تنظر إلى الشاطئ الذي تجرفه الرياح ينحدر قليلًا تحت الأمواج. تحول الرمل الأحمر إلى رمادي مع غروب الشمس. أخبرتها أوما، منذ زمن طويل، أنها إذا سارت من الشاهد إلى المياه في خط مستقيم، فسوف تمر بالبقعة التي وجد فيها جسد الجابي، مع حطام قاربه المقلوب.
٤٢
بدأت جايا، بعد العودة إلى كلكتا، تنظر في مجموعة هائلة من الوثائق والأوراق التي تركتها أوما تحت تصرفها. داعبت جايا أحيانًا فكرة كتابة سيرة عمة أمها؛ عرض ناشر مهم عليها أن توقع عقدًا ذات يوم. عرفت جايا أن هناك، في الأيام الأخيرة، قدرًا كبيرًا من الاهتمام بإحياء ذكرى أوما، كشخصية سياسية رائدة. ساد اتجاه لكتابة سيرة عاجلة — اشمأزتْ من التفكير في ظهورها تحت اسم شخص آخر.
استغرق الأمر من جايا عدة أيام لتصنيف أوراق أوما، وقد أكلت الحشرات الكثير منها. والغريب أنها كلما قرأت أكثر، ازداد تفكيرها في رَجْكومار. كأن عادات الطفولة بقيت معها في تداعي الأفكار. عاش جدُّها، في كل السنوات التي عرفته خلالها، في الدور الأرضي، في غرفة انتظار صغيرة في شقة أوما. لم يُستدَل على علاقة زواج من العيش بهذه الطريقة: كان من المفهوم أن وضع رَجْكومار بين أهل المنزل يقع في مكان ما بين قريب فقير ومستخدَم. لكن جغرافية المنزل كما كانت، وكما كانت تعني بالنسبة لجايا، تجعل التفكير في أحدهما يعني التفكير في الآخر: كان النزول لرؤية جدها يعني أيضًا رؤية عمة أمها.
كان مالك محل البان عصبيًّا إلى أقصى حد. تذكرت مناسبة سمعته يعنف فيها رَجْكومار: «نعم، نعم، لا حاجة إلى أن تخبرنا مرة أخرى. بورماك ذهبية جدًّا حتى أنك تستطيع التقاط كتل من الذهب من براز الناس …»
كان رَجْكومار دائمًا أكثر المتسائلين صخبًا، مستغلًّا مزية صوته المدوِّي ليطرح الأسئلة بصوت عال — أسئلة عن شخص يحمل اسمًا بورميًّا؛ شخصًا لم تعرف أنه عمها حتى أخبرتها بيلا وهي في العاشرة — عمها دينو، الذي لم تقابله أبدًا.
لفت انتباه جايا، وهي تنظر إلى المحتويات المصفرة لملفها، صورة في مجلة: صورة أُنْج سان سو كي. وأدهشها شيء مختلف في الصورة؛ كانت بها سمة تبعدها عن معظم صور المجلات. التقط المصور الوجه النحيل لأُنْج سان سو كي في لحظة تأمل هادئ؛ كان في تأطير الصورة شيء ذكَّرها بالصور ذات الإطارات الفضية في تسريحة بيلا.
أخرجت الصورة وأشارت إلى السطر الذي يحمل الاسم: «هل يمكن أن يكون هذا؟»
غضنت بيلا أنفها وهي تنظر بنظارتها ذات الإطار الذهبي. همهمت بصوت منخفض: «يو تون بي؟ دعيني أتذكر … كو تون بي … يو تون بي … لماذا نعم! يبدو صحيحا …» قلبت الورقة: «لكن متى التقطت هذه الصورة؟»
«سنة ١٩٨٨م.»
مطَّتْ بيلا شفتيها: «أعرف ما تفكرين فيه، جايا. لكن لا تذهبي بعيدًا. يمكن أن يكون شخصًا آخر. آلاف الناس في بورما يحملون الاسم نفسه. وعلى أية حال، كان دينو في الرابعة والسبعين في ١٩٨٨م. أي أنه في الثانية والثمانين إذا كان لا يزال على قيد الحياة. ولم يكن قويًّا أبدًا، إضافة إلى ساقه. شيء غير محتمل تمامًا …»
قالت جايا وهي تستعيد الصورة: «ربما تكونين على حق. لكن عليَّ أن أكتشف الأمر. عليَّ أن أعرف بشكل مؤكد.»
•••
تعودت جايا على مدى السنتين التاليتين، لتبقى على اتصال مع ابنها، على البريد الإلكتروني والإنترنت. كانت تتعامل مع مركز تجاري للكمبيوتر وفي المرة التالية اشترت لنفسها نصف ساعة على الويب. في البداية بحثت تحت كلمات «يو تون بي.» لم يظهر شيء. ثم أراحت أصابعها على لوحة المفاتيح وأخذتْ نفسًا عميقًا. ثم كتبت «إلونجو ألاجبان» وداست «إنتر.»
ارتجف محرك البحث مثل كلب صيد استنشق قافلة حارة. على مدى دقيقة طويلة مثيرة للأعصاب، وَمَضَتْ أيقونة على الشاشة. فجأة ارتجفت الشاشة مرة أخرى وظهرت رسالة: وصلت المدونات تحت «إلونجو ألاجبان» إلى خمسمائة وستين بندًا. قامت جايا من مقعدها وذهبت إلى منضدة المدير: «أعتقد أني قد أحتاج ساعة أخرى. وربما اثنتين …»
كان أحد البنود في قائمة الشاشة عن «تعاونية مُرْنِنْجْسايد.» قررت جايا انتهاز الفرصة. دخلت على الموقع وتركت رسالة لإلونجو. قدمت نفسها وقالت إنها تجمع مادة كتاب — عن عمة أبيها أوما وجدها رَجْكومار. وعبَّرتْ عن رغبتها الشديدة في الالتقاء به؛ وقالت إنها ستكون ممتنة إذا تعطف بالرد.
•••
كان التشابه بين إلونجو ورَجْكومار مذهلًا حتى أن جايا حين وضعت عينيها أول مرة عليه في محطة قطار سُنْجِي بتاني، وقف شعر رأسها. مثل رَجْكومار، كان إلونجو ضخمًا: طويلًا، عريض المنكبين، شديد السواد، وكان له أيضًا بطن حقيقي، ليس من النوع الناتج عن الكسل لكنه على الأرجح نتيجة مزيد من الطاقة — كانت معدته بمثابة خزان وقود إضافي مربوط خارج شاحنة. كان شعره أبيض ومجعدًا، وكثًّا على كل أجزاء جسمه — ذراعيه وصدره وأصابعه: يتناقض بياضه بشدة مع لون بشرته. وكان في وجهه، مثل وجه رَجْكومار، تجاعيد عميقة، مع لغد ثقيل وفكين ضخمين؛ كان هائلًا وشائكًا، بدا أنه تكون أساسا من درع، كأن الطبيعة زودته به ليبقى حيًّا في البحار العميقة.
قال: «حدثيني إذن عن كتابك. عم يتحدث؟»
قالت: «لستُ متأكدة بعد. ربما تكون لدي فكرة أفضل بعد اللقاء بك.»
ظلت العزبة معروضة للبيع سنتين تقريبًا. لم يكن هناك مشترون. لم يكن تيموثي رجل الأعمال الوحيد الذي رأى أن الاحتياج إلى المطاط انتهى. كان آلاف من عمال المزارع بلا عمل في كل أرجاء الملايو؛ اشترى المستثمرون العِزَب وباعوا الأرض مجزأة. وفي النهاية قرر إلونجو أن يمسك الأمور في يديه: أن يفعل ذلك أو يرى الجميع يُطرَدون. لفَّ بسلطانية، تسوُّل — بمعنى الكلمة — وفي النهاية وُجِدت الفلوس.
قال إلونجو، مشيرًا أمامه: «هذه هي، مُرْنِنْجْسايد.»
سارا بالسيارة تحت علامة مقوسة. كانت أسطورة عزبة مُرْنِنْجْسايد مزخرفة عليها بحروف قوطية جميلة لكنها شاحبة. تحتها، أكثر سطوعًا وبحروف أبسط، ظهرت الكلمات: ملك تعاونية عمال المزارع الماليزيين. كان جننج جراي أمامهما مباشرة، وقمته مغطاة بستارة كثيفة من السحب.
كان الطريق يتجه إلى أعلى الهضبة، ملتويًا في المسارات المتعاقبة للمطاط ومحصول آخر — نخيل قصير سميك. قال لها إلونجو إنه نخيل الزيت، وكان استثمارًا أكثر ربحًا من المطاط: زادتْ مساحة محصول على حساب الآخر.
انبهرت جايا بنخيل الزيت: عناقيد من ثمار برتقالية مصفرة معلقة من جذوع تشبه الأعقاب، وكل منها في حجم الحَمَل. كان الهواء ساكنًا جدًّا وبدا قوامه لزجًا. بين النخيل أعشاش للطيور فوق أعمدة: قال إلونجو هناك أعشاش للبوم: تجتذب الثمار الغنية بالزيت كميات كبيرة من القوارض؛ وتساعد الطيور على إبقاء أعدادها تحت السيطرة.
بدا منزل مُرْنِنْجْسايد أمامهما. دُهن حديثًا وبدا متألقًا ومبهجًا: كان سقفه ونوافذه حُمْرًا، بينما كان بقية المنزل بالأخضر الجيري الباهت. ركنت شاحنات وسيارات أمامه — تحت الرواق وبطول المدخل. نشط الناس في كل مكان.
قالت جايا: «يبدو أن بالمنزل شغلًا كثيرًا.»
قال إلونجو: «نعم. أودُّ أن أشعر بأنه يستغل استغلالًا جيدًا. لا نشغل أنا وأسرتي إلا جزءًا واحدًا منه. ويستغل الباقي كمكتب للتعاونية. لا أريد أن يكون المنزل تذكارًا. الأفضل أن يكون بهذا الشكل: يؤدي وظيفة مفيدة.»
سارا بالسيارة حول المنزل إلى المدخل الخلفي. كانت مسز ألاجبان، زوجة إلونجو، في الانتظار، طويلة رمادية الشعر، ترتدي ساريا حريريا أخضر. كان الاثنان يعيشان وحديهما في الجزء المخصص لهما من المنزل: كبر الأبناء، جميعًا «استقروا تمامًا في وضع جيد.» إحدى بنتيهما في موظفة؛ الأخرى طبيبة؛ والابن رجل أعمال، يقيم في سنغافورة.
«نحن فقط الآن.»
كل سنة، في الشتاء، يأخذان إجازة على سفينة سياحية. وكان البيت مليئًا بأشياء تذكارية من زياراتهما لجنوب أفريقيا وموريشيوس وفيجي وأستراليا؛ وكانت هناك صورة لهما وهما يرقصان في قاعة رقص في سفينة. كانت ترتدي ساريا حريريا؛ وكان يرتدي بدلة سفاري رمادية.
اندهشت جايا تمامًا، وهي تنظر من الصورة إلى الجبل والعكس. كان إلونجو يقف بجوارها. استدارت إليه، وقالت: «داتو؟ من التقط هذه الصورة؟»
ابتسم: «تعتقدين من؟»
«من؟»
«عمك — دينو.»
«وهل لديك صور أخرى له؟»
«نعم — كثير. ترك مجموعة كبيرة معي هنا. لهذا أردتُ أن تأتي. أعتقد أنه كان يريد أن تأخذيها. كبرتُ الآن، ولا أريد أن تُنسَى. كتبتُ إليه أسأله عما أفعل، ولم أتلقَّ الرد أبدًا …»
«أنت على اتصال به إذن؟»
«لم أقل ذلك بالضبط — لكن تلقيتُ أخبارًا عنه ذات يوم.»
«متى؟»
«أوه، مضى على ذلك وقت الآن …»
قال إلونجو: قررت التعاونية، قبل خمس سنوات، أن تبدأ برنامجًا عن العمال المهاجرين. بدأت الثروة المتزايدة في ماليزيا تجتذب كثيرًا من المهاجرين من كل أرجاء المنطقة. وكان بعض هؤلاء العمال من بورما (أو مينامار، كما تسمى الآن). لم يكن التسلل سرًّا من مينامار إلى ماليزيا صعبًا جدًّا: لا يفصل بين حدود البلدين إلا بضع مئات من الأميال على الشريط الساحلي. وكان من بين المهاجرين من مينامار بعض النشطين في الحركة الديمقراطية. كانوا يعملون تحت الأرض بعد الإجراءات القمعية في ١٩٨٨م وقرروا بعد ذلك الفرار عبر الحدود. بالصدفة تمامًا، قابل إلونجو نشطًا من أصل هندي — طالبًا شاب يعرف دينو جيدًا. قال إن دينو كان يعيش وحيدًا في رنجون — ينجون، كما تسمى الآن — حين سمع عنه آخر مرة.
قال إلونجو: «سألتُ إن كانت هناك طريقة للاتصال به. فقال الولد لن يكون ذلك سهلًا — حرم المجلس دينو من التليفون والفاكس. وقال حتى الخطابات ليست سهلة، لكنها الطريقة الوحيدة. وهكذا كتبتُ، لكني لم أتلقَّ الرد أبدًا. أفترض أن شخصًا حجز الخطاب …»
قالت جايا: «لكن لديك عنوانه، إذن؟»
«نعم.» مدَّ إلونجو يده في جيبه وأخرج ورقة: «لديه أستوديو تصوير صغير. يصور بورتريهات، وصور أفراح، وصورًا جماعية؛ شيئًا من هذا القبيل. العنوان عنوان الأستوديو: يسكن فوقه مباشرة.»
أعطاها الورقة فأخذتها. كانت الورقة ملطخة ومجعدة. نظرت فيها بتمعن، كاشفة غموض الحروف. كانت الكلمات الأولى التي وقعت عليها عينيها «القصر الزجاجي: أستوديو تصوير.»
٤٣
بعد بضعة أشهر، كانت جايا تسير في شارع هادئ، غير مزدحم نسبيًّا في أحد الأحياء القديمة في ينجون. كانت حجارة الأرصفة في ممرات المشاة ملتوية ومكسرة والأعشاب تنمو بين الشقوق. كانت جدران المنازل على طول الطريق من الجص، معظمها ملطخ وباهت. لمحت أفنية بها أشجار تنمو على الأبواب. كان منتصف ديسمبر، يومًا باردًا وصافيًا. كانت حركة المرور قليلة جدًّا؛ عاد الأطفال من المدارس، وكانوا يلعبون كرة القدم في الطريق. بدت نوافذ بقضبان حديدية في الشارع من الناحية الأخرى؛ خطر في بال جايا أنها الوحيدة على مدى البصر التي ترتدي شيئًا غير اللُّنْجِي؛ كانت النسوة اللائي يرتدين الساري قليلات، وبدا أن رجال البوليس والجنود والرجال الذين يرتدون أزياء يرتدون البنطلون على وجه الحصر تقريبًا. انتابها إحساس بأن عيونًا كثيرة ترصدها.
كانت تأشيرة جايا لا تسمح لها بالبقاء في مينامار إلا أسبوعًا واحدًا. بدا وقتًا قصيرًا جدًّا للعثور على شخص. ماذا إذا كان دينو غائبًا يزور الأصدقاء، مسافرًا؟ جاءتها كوابيس حيث تنتظر في فندق حقير في مكان لا تعرف فيه أحدًا.
قبل ذلك، في مطار كلكتا، تبادلت النظرات مع المسافرين المرافقين لها. حاولوا جميعًا استكشاف بعضهم البعض: لماذا يذهب، أو تذهب، إلى ينجون؟ أية أعمال يمكن أن تأخذ شخصًا إلى مينامار؟ كان المسافرون جميعًا من الهنود، أناسا مثلها؛ تستطيع القول إنهم ذاهبون للغرض نفسه الذي تذهب من أجله: للبحث عن أقارب واستكشاف روابط عائلية قديمة.
عانتْ جايا لتحصل على مقعد بجوار نافذة في الطيارة. تطلعتْ لمقارنة خبراتها في الرحلة إلى ينجون بكل الروايات التي سمعتها على مدار السنوات. لكن بمجرد الجلوس، تملكها إحساس بالفزع. إذا وجدت دينو، من يؤكد لها أنه يرغب في الكلام معها؟ كلما فكرت أكثر في ذلك، بدا أن الأمور التي لا يمكن الحكم عليها تتعاظم أكثر.
كانت، بوضوح، في المكان الصحيح، كان الباب مقفولًا والمكان مغلقًا. كانت على وشك الابتعاد محبطة حين رأت الرجل في الصيدلية يشير لها في اتجاه زقاق مجاور تمامًا للقصر الزجاجي. نظرتْ في الركن ورأتْ بابًا يبدو مغلقًا من الداخل. خلفه فناء وعتبة منزل قديم. نظرتْ فوق كتفها، رأت الصيدلي يشير إليها بقوة؛ كان يحثها على الدخول. طرقتْ على الباب، لم يكن هناك رد، طرقتْ بقوة، ضربت الخشب بقبضة يدها. انفتحت الأبواب فجأة. دخلتْ ووجدتْ نفسها في فناء بسور. رأت امرأتين تقرفصان في ركن، تتابعان نارًا للطبخ. ذهبت إليهما وسألت: «يو تون بي؟» أومأتا مبتسمتين، وأشارتا إلى سلم لولبي يؤدي للدور الثاني.
كانت غرفة واسعة بسقف عال: متخمة تمامًا بالناس. يجلس عدد قليل منهم على مقاعد، ويجلس معظمهم على حصير على الأرض. كان الحشد أكبر من أن تتسع له الغرفة بشكل مريح، وبرغم وجود عدد من مراوح المكاتب، كان الهواء ساخنًا ومكتومًا. كان في الطرف البعيد من الغرفة نافذتان طويلتان بدرف بيضاء. وكانت الجدران مشبعة بالرطوبة، وملطخة بالأزرق وأجزاء من السقف مسودة بالسخام.
كان المتحدث يجلس في مقعد بذراعين من الرتان بكسوة خضراء. وُضِع المقعد بحيث يواجه معظم المستمعين: وجدت نفسها تنظر إليه مباشرة عبر الغرفة. شعره محلوقٌ بعناية ومفروقٌ، رماديٌّ عند الصدغين فقط. يرتدي لُنْجِيًا أرجوانيًّا غامقًا وتي شيرت أزرقَ أنيقًا مع شعار منقوش على الصدر. كان نحيفًا وجبهته ووجنتاه مليئة بتجاعيد وشقوق بدا أنها تتحرك بانسيابية الموج على الماء. كان وجهًا رائعًا جدًّا، غمرته آثار العمر: خلقت حركية خطوطه انطباعًا بمجال إدراك وشعور يتجاوز المعتاد بكثير.
اندهشت جايا للمرة الأولى لأنها لم تر أبدًا صورة لعمها دينو: كان خلف الكاميرا دائمًا، ولم يكن أمامها أبدًا. هل يمكن أن يكون هو؟ لم ترَ جايا أي شبه برَجْكومار: بدا لها بورميًّا تمامًا — لكن ذلك صحيح بالنسبة لكثير من الهنود أو أنصاف الهنود. لم تكن متأكدة على أية حال.
لاحظتْ جايا أن المتحدث يمسك بشيء في يديه — ملصقًا كبيرًا. بدا أنه يستخدمه لتوضيح محاضرته. رأتْ صورة لقوقعة، صُوِّرتْ عن قرب. التفَّ ذيلها المستدير بشهوانية في جذع بدا أنه يخرج من سطح الصورة تقريبًا. عرفتْ أنها نسخة من الصورة الشهيرة لنوتيلوس ويستون.
وقفت جايا على الباب دقيقتين دون أن يلاحظها أحدٌ. فجأة التفتت كل العيون في الغرفة تجاهها. خيَّم الصمتُ، وبدا أن المكان امتلأ، على الفور تقريبًا، بغيمة من الخوف. وضع المتحدث الملصق جانبًا ووقف على قدميه ببطء. وحده بدا هادئًا وغير خائف. مدَّ يده إلى عكاز وأتى يعرج، يجر ساقه اليمنى خلفه. نظر إلى وجهها وقال شيئًا بالبورمية. هزَّتْ جايا رأسها وحاولتْ أن تبتسم. رأى أنها غريبة وسمعتْه يتنهد تقريبًا شاعرًا بارتياح.
قال بهدوء بالإنجليزية: «نعم؟ أية مساعدة؟»
كانت جايا على وشك أن تسأل عن يو تون بي حين غيَّرتْ رأيها. قالت: «أبحث عن مستر دينانث رها …»
ومضتْ تجاعيدُ وجهِه كأنَّ رياحًا عاصفةً اجتاحت بحيرةً فجأة. قال: «كيف عرفْتِ الاسم. سنوات طويلة، طويلة منذ سمعته يُستخدَم آخر مرة.»
قالت: «أنا ابنة أخيك. جايا — ابنة أخيك …»
«جايا!»
أدركت جايا أنهما انتقلا بشكل ما إلى لغة أخرى وأنه يتحدث إليها بالبنغالية. ترك عكازه يسقط، وضع يده على كتفها ونظر إليها بدقة، كأنه يبحث عن تأكيد لهويتها. «تعالي اجلسي بجواري»، انخفض صوته إلى مستوى الهمس: «لم يتبقَّ إلا بضع دقائق أخرى.»
في أحد أركان الغرفة طاولة مزخرفة بشكل جيد. فوقها راية مرسومة باليد؛ مكتوب عليها: «عيد ميلاد سعيد.» وعلى الطاولة أكواب من الورق ووجبات خفيفة وهدايا ملفوفة في ورق …
تمنت لو عرفتْ ما يحدث.
•••
قالت: «لم يكن انتظارًا طويلًا، عم كنت تتحدث؟»
«الصور … الصور الفوتوغرافية … كل ما يخطر على البال. بمجرد أن أبدأ — يأتي دور الآخرين. يستمعون.» ابتسم، متلفتًا حول الغرفة: كانت مليئة بمحادثات كثيرة مختلفة. في الخلف، حفنة من الناس ينفخون بالونات.
سألت: «فصل دراسي؟ مجموعة محاضرات؟»
ضحك: «لا. يأتون فقط … كل أسبوع … يأتي البعض لأول مرة، وأتى البعض إلى هنا من قبل. بعضهم طلاب، بعضهم فنانون، لدى البعض طموح بأن يصبحوا مصورين … بالطبع لا يستطيع معظمهم شراء كاميرا — تعرفين كم نحن فقراء في مينامارنا» — ضحك استهجانا وهو ينطق الكلمة — «وحتى لو استطاعوا، فلن يستطيعوا شراء فيلم أو دفع تكاليف طباعته أو تطوير … لكن لدى بعضهم فلوس — ربما كان آباؤهم مهربين أو مقاولين أو ضباطًا كبارًا … لا أسأل … الأفضل ألا أعرف. يلتقطون صورًا ويأتون بها إلى هنا … نمررها بيننا ونتناقش حولها … أو أفرجهم على نسخ من صور قديمة ونتحدث عن أسباب جمالها أو عدم جمالها. القصر الزجاجي المكان الوحيد في ينجون الذي يمكن أن ترى فيه شيئًا من هذا القبيل … أعمال من الفن المعاصر …» حمل عكازه وأشار إلى خزانات الكتب: «كتب، مجلات … صعب جدًّا، مستحيل تقريبًا أن تعثري عليها هنا بسبب الرقابة. هذا أحد الأماكن القليلة التي توجد فيها. الناس يعرفون، ولذا يأتون …»
سألت: «كيف حصلت على هذه الكتب؟»
ضحك: «كان الأمر صعبًا … كونت أصدقاء من جامعي النفايات وفارزي الزبالة. أخبرتهم بما أريد وحافظوا عليها من أجلي. يميل الغرباء الذين يقيمون في ينجون — الدبلوماسيون وعمال الإغاثة إلخ — بشدة إلى القراءة … ليس هناك شيء آخر يمكن أن يفعلوه، كما ترين … إنهم مراقَبون طوال الوقت … يحضرون كتبًا ومجلات معهم ومن وقت لآخر يستغنون عنها … لحسن الحظ لا تواتي العسكريين فكرة السيطرة على نفايتهم … تجد تلك الأشياء طريقها إلينا. كل خزانات الكتب هذه — جمع محتوياتها واحدًا واحدا جامعو القمامة. أفكر أحيانًا في دهشة الملاك الأصليين إذا عرفوا … استغرق الأمر وقتًا طويلًا … ثم انتشر الكلام وبدأ الناس يأتون … أتوا، نظروا ولم يفهموا غالبًا ما يرون، سألوني وأعطيهم رأيي. في البداية كان العدد قليلًا، ثم زاد … وزاد. يأتون الآن كل أسبوع … حتى حين لا أكون موجودًا يأتون … يتحدث شخص آخر … ينظرون إلى الصور … الذين يستطيعون الدفع يساهمون معًا — لشراء الشاي والحلوى والوجبات الخفيفة. والذين لا يستطيعون لا يساهمون … لم يُستبعَد أحدٌ أبدًا. اليوم عيد ميلاد أحدهم …» أشار عبر الغرفة إلى شاب. «أقام أصدقاؤه حفلة هنا. كثيرًا ما يحدث ذلك … هنا يشعرون بالحرية في الاستمتاع … أشجعهم على قول كل ما يحلو لهم … على الكلام بحرية، حتى عن الأشياء البسيطة — بالنسبة لهم مغامرة، اكتشاف …»
«ماذا تقصد؟»
قال: «عليك أن تفهمي أنهم تدربوا طوال حياتهم على أن يطيعوا … آباءهم، مدرسيهم، العسكريين … هذا ما يتعلمونه من تعليمهم: عادة الطاعة …»
ضحك، ورمشتْ عيناها: «حين يأتون هنا … لا يجدون أحدًا يوبخهم على ما يقولون … يمكن أن ينتقدوا حتى آباءهم إذا أرادوا … هذه فكرة صادمة جدًّا لكثير منهم … بعضهم لا يعودون أبدًا … لكن الكثيرين يعودون، مرة ومرة …»
«هل يتكلمون في السياسية أيضًا؟»
«نعم. طوال الوقت. من المستحيل ألا يتكلموا، في ميانمار …»
«ألا يفعل العسكريون شيئًا؟ ألا يحاولون إيقافك؟ يرسلون جواسيس؟»
في الطرف الآخر من الغرفة، كانت حفلة عيد الميلاد قائمة. ارتفع الصخب يطالب بدينو عند الطاولة. نهض على قدميه وذهب، مائلًا بثقله على العصا. كانت هناك أطباق مشهيات مقلية، كعكة وزجاجتا كوكاكولا كبيرتان من البلاستيك. وعلبة كبيرة من البيرة الكندية وسط الطاولة، نقية لم تمس، مثل إناء مزخرف. أوضح دينو أن أحد المنتظمين في التردد على القصر الزجاجي ابن جنرال كبير. يحضر سرًّا بدون علم أسرته. ومن وقت لآخر يحضر أشياء غير متاحة إلا للمهربين وكبار ضباط المجلس. يمكن أن تبقى البيرة على الطاولة عامًا.
بدأ شخص يداعب أوتار الجيتار. وبدأ الكورس وتم تقطيع الكعكة. أشرف دينو على الاحتفال بمزاج كريم طيب وقدر كبير من الفكاهة والبهجة. تذكرت جايا مقولة مفضلة لدى رَجْكومار: «لا توجد في أي مكان موهبة الضحك كما في بورما …» إلا أنه كان واضحا أن للضحك هنا حافة خاصة، تُشحَذ على المخاوف التي لا تغيب أبدًا بشكل تام. نوع شره من المرح، كأن الجميع يريدون أخذ أقصى ما يستطيعون.
دارت في أجزاء أخرى من الغرفة عدة مناظرات ومناقشات. احتكمت أحيانًا مجموعة أو أخرى لدينو. بعد تدخل من هذا النوع التفت دينو إلى جايا يوضح لها: «يتجادلون حول الصورة التي تحدثتُ عنها — نوتيلوس ويستون … يرى بعضهم أنهم ثوريون … يصرون على أن القضايا الجمالية لا علاقة لها بوضعنا …»
«وماذا كان ردك؟»
«اقتبست عن ويستون … ويستون وهو يفكر في تروتسكي … يمكن لأشكال الفن الثوري الجديد أن توقظ شعبًا أن تهز قناعته أو يرتاب في تصورات قديمة مع نبوءات بناءة للتغيير … لا يهم … هذا يحدث كل أسبوع … كل أسبوع أقول الكلام نفسه.»
ببطء، والمساء على وشك الانتهاء، صار الجميع أهدأ. بدا أن رحيلًا قهريًّا يبدأ، كأن الظلام يطرق النوافذ، مذكِّرا بديمومة يقظته.
قبل التاسعة بقليل، قال دينو لجايا: «أين تقيمين؟»
قالت له إنها تقيم في فندق صغير حجزت فيه بشكل عشوائي.
قال: «أطلب منك أن تقيمي هنا. أعيش وحدي ويمكن أن تعتني بنفسك … الأمر سهل … لكن الإجراء لسوء الحظ يستغرق وقتًا طويلًا.»
أصيبت بالهلع: «إجراء لماذا؟»
قال معتذرًا: «للضيوف. لا تنسي أنك في ميانمار. لا شيء بسيط هنا. كل أسرة لها قائمة مسجلة من الأعضاء … لا أحد يستطيع قضاء الليل هناك بدون إذن. أعرف امرأة كان عليها بعد ثلاث سنوات من الزواج أن تقدم طلبًا كل أسبوع لتكون ضمن قائمة ضيوف عائلة زوجها …»
«ومن أين يأتي هذا الإذن؟»
«من رئيس مجلس الدائرة … في كل حي واحد … يمكن أن يجعلوا حياتك جحيما … يكرههم الجميع … وأنا بشكل خاص. هكذا، ترين، أريد أن أطلب منك البقاء، لكن … يقوم البوليس بتفتيش منتظم، خاصة في الليل. لا يمكن أن تعرفي أبدًا متى يأتون …»
ضرب دينو جايا على ظهرها: «الأفضل أن تذهبي الآن … يأخذك الآخرون إلى فندقك … لا بدَّ أنهم رأوك وأنت قادمة إلى هنا، تأكدي من ذلك … هل كان هناك رجل في الصيدلية في المنزل المجاور؟ هناك … إذا لم يكن هناك بالصدفة، انتظري حتى يراك تنصرفين … إذا لم يرك تنصرفين فتأكدي من أنه سيكون هناك طرق على بابي بعد وقت قصير. عودي غدًا … مبكرًا … سأجهز بعض الصور. سنتحدث كثيرًا كما تريدين … لن نفعل شيئًا إلا الكلام … كل يوم وأنت هنا …»
٤٤
غادر دينو الملايو بعد موت أليسون بقليل. بعد الاحتلال الياباني عم الاضطراب عزب المطاط. ترك مئات العمال مُرْنِنْجْسايد للانضمام لجمعية الاستقلال الهندية والجيش الوطني الهندي. كان إلونجو واحدًا منهم، وعن طريقه عرف دينو أن أرجون من أوائل من انضموا للجيش الوطني الهندي بقيادة الكابتن موهون سنجه. حشدت الحركة قوة لم يكن لدينو حيلة إزاءها. إلا أن آراءه الخاصة بشأن الحرب بقيتْ على حالها، وبعد وصول أخبار موت أليسون إلى مُرْنِنْجْسايد، قرر التسلل سرًّا إلى بورما.
رافقت القواتِ اليابانيةَ الأرضيةَ مجموعةٌ صغيرة من المتطوعين البورميين — جيش الاستقلال البورمي. وكان يقود المجموعة أحد معارف دينو من رنجون، قائد الطلبة أُنْج سان. والجيش الياباني يتقدم، حدثت صدامات دموية بين المجموعة التي يقودها الطالب وأناس في المنطقة الحدودية — خاصة المسيحيين الأصليين، وقد بقي كثير منهم موالين للبريطانيين. عم الاضطراب المنطقة الحدودية ولم يكن هناك إمكانية للسفر إلى الشمال. بقي دينو في مرجوي عدة أشهر.
بمرور الوقت شقَّ دينو طريقه إلى رنجون، في يونيو ١٩٤٢م والمدينة تحت الاحتلال الياباني. ذهب دينو إلى كمندين فوجد المنزل مهدَّمًا: تعرَّض المجمَّع لضربة مباشرة. ذهب دينو يبحث عن ثيها سو، صديقه القديم، وعرف أنه فرَّ، مع كثير من اليساريين الآخرين، إلى الهند؛ تشتت أسرته في الريف. لم تبق في رنجون إلا جدة ثيها سو: ترعاها قريبة شابة، فتاة اسمها ما ثين ثين آي. أخذت قريبتا ثيها سو دينو ومنحتاه ملاذًا؛ ومنهما علم دينو بموت نيل ورحيل أسرته بعد ذلك إلى هوي زيدي.
وصل دينو إلى هوي زيدي ليجد أسرته رحلتْ والقرية مهجورة تقريبًا. اكتشف أن تعاطف الناس في هذه المنطقة كان قويًّا مع الحلفاء: كان ريموند من بين كثير من الرجال من هوي زيدي الذين جندوا في مجموعة أنصار الحلفاء — القوة ١٣٦.
حين علم ريموند بوصول دينو، ظهر فجأة، ليرحب بعودته. لم يعد ريموند الطالب النعسان الذي في ذاكرة دينو: كان يرتدي سترة كاكية ويحمل بندقية. أوضح أن أباه، دوه سي، حثَّ رَجْكومار ودُلِّي على البقاء ووعد بعمل كل ما يستطيع للتأكد من توفير الراحة والأمان لهما. لكن بعد موت نيل كانت تصرفات منجو مزعجة وفي النهاية، خوفًا على عقلها، قرر رَجْكومار ودُلِّي العودة بها إلى الهند. غادروا قبل وصول دينو بعدة شهور؛ لم يكن لديه أمل للالتحاق بهم في ذلك الوقت. قرر دينو البقاء مع دوه سي وريموند، في معسكر في أعماق الغابة.
في ١٩٤٤م، قام الحلفاء بغزو مضاد لبورما، يتقدمه الجيش الرابع عشر تحت قيادة الجنرال سليم. في بضعة أشهر دُفع اليابانيون بعيدًا عن الحدود الهندية وفي أوائل ١٩٤٥م انسحبوا عشوائيًّا. وتلقوا ضربة أخيرة على يد الجنرال أُنْج سان، الذي عكس ولاءه بشكل درامي: مع أن جيش الاستقلال البورمي دخل البلاد بمساعدة اليابانيين، فلم يكونوا أكثر من حلفاء معارضين للاحتلال. في ١٩٤٥م أصدر الجنرال أنج سان أمرًا سريًّا لأتباعه بالانضمام لحملة إخراج اليابانيين من بورما. وبعد ذلك وضح أن الاحتلال الياباني في نهايته تقريبًا.
لكن المعركة لم تنتهِ. ذات يوم في مارس ١٩٤٥م، أرسل دوه سي لدينو؛ أخبره بأنه تلقى أخبارًا مزعجة. نشبت معركة كبيرة في بلدة ميكتيلا، على بعد بضع مئات من الأميال إلى الشمال. حقق الجيش الرابع عشر انتصارًا حاسمًا وانسحب اليابانيون فجأة. لكن كان بعض آخر الباسلين من الجيش الوطني الهندي لا يزالون يقاتلون في وسط بورما، يعرقلون تقدم جيش الحلفاء. وانتشرت إحدى هذه الوحدات عبر نهر سيتانج وشاع اعتقاد بأنها تتقدم باتجاه معسكرهم. انشغل دوه سي باحتمال أن يسبب الجنود مشاكل للقرويين؛ طلب من دينو الخروج والتوسط عندهم. كان يأمل أن يستطيع دينو بفضل ارتباطاته الهندية، إقناعهم بالبقاء بعيدًا عن قريتهم.
خرج دينو في الصباح التالي، ومعه ريموند ليرشده.
•••
بعد الانتظار بضعة أيام، تم ترتيب لقاء من خلال عمدة قرية. عُقِد في معسكر ساج مهجور في أعماق الغابة. كان المعسكر قديمًا، من النوع الذي سمع دينو أباه يصفه — به طاي من خشب الساج وسط منطقة منزوعة الأشجار. كان معسكرًا مهجورًا لسنين طويلة، من قبل الحرب بكثير. امتدت الغابة من جديد إلى معظمه؛ ارتفعت في المنطقة منزوعة الأشجار أعشابٌ يصل طولها إلى أربعة أقدام، وهدمت الرياح والأمطار الكثير من أكواخ الأوسيين. كان الطاي وحده لا يزال قائمًا، إلا أن سلمه التف عليه كَرْم وانهارت أجزاء من سقفه.
جاءت التعليمات لدينو بالانتظار وحده. قاده ريموند إلى حافة المنطقة منزوعة الأشجار وانسلَّ للغابة. وقف دينو أمام الطاي، في مكان يمكن أن يُرَى فيه عن بعد. كان يرتدي لُنْجيًّا بنيًّا وسترة كارن بالأبيض والأسود صناعة منزلية. كان يقف حليقًا بعد وصوله إلى هوي زيدي وقد غيرت لحيته مظهره بشكل كبير. كان حول رقبته ثوب أبيض وأحمر وعلى كتفه حقيبة منسوجة بها طعام ومياه وتبغ.
جلس دينو على جذل شجرة أمام الطاي مباشرة. بدأت نسمة رقيقة تهزُّ الأعشاب الطويلة في المنطقة منزوعة الأشجار من المعسكر. وارتفعت حفنات من الندى من قمم أشجار تحيط بالغابة طولها مائة قدم. كانت الخضرة كثيفة، جدارًا خاليًا: عرف دينو أن الجنود الهنود في مكان ما وراءه، يراقبونه.
في حقيبة الكتف المصنوعة من القماش كان مع دينو لفائف من الأرز المسلوق ملفوفا في أوراق موز. فتح واحدة وبدأ يأكل. وهو يأكل، استمع إلى أصوات الغابة: هياج بين سرب من الببغاوات يخبره باقتراب الجنود. جلس ساكنًا وواصل الأكل.
رأى، بزاوية عينه، جنديًّا هنديًّا يدخل المنطقة منزوعة الأشجار. لفَّ ورقة الموز على شكل كرة وألقاها بعيدًا. ظهر رأس الجندي: كان يخوض وسط الأعشاب بخطى واسعة، مستخدمًا البندقية ليزيح الشجيرات جانبًا.
رأى دينو الرجل يقترب. كان وجهه هزيلًا جدًّا وبدا ذاويا تقريبًا — مع أن دينو خمن، من مشيته وبنيته، أنه في أوائل العشرينيات. كان زيه رثًّا وحذاؤه ممزَّقًا بصورة سيئة حتى أن أصابعه ظهرت منه؛ كان الحذاء مربوطًا في قدميه برباط. توقف الجندي على بعد قدمين من دينو وأشار بمقدمة بندقيته. وقف دينو.
قال بالهندوستانية: «ليس معي أية أسلحة.»
تجاهله الجندي. قال: «أرني ما في حقيبتك.»
فتح دينو حقيبته القماش.
«ماذا فيها؟»
مدَّ دينو يده وأخرج إناء الماء ولفافة من الأرز المسلوق ملفوفة بورقة شجرة. رأى في عيني الجندي نظرة أوقفته. فكَّ الحزمة وأعطاها له.
قال: «ها. خذها. كلْ.»
وضع الجندي الحزمة في فمه والتهم الأرز. رأى دينو أن حالته أسوأ حتى مما ظن في البداية: في بياض عينيه مسحة صفراء ويعاني من سوء التغذية، مع شحوب بشرته وقروح في زاويتي فمه. بعد دقيقة من رؤيته، بدا لدينو شيء مألوف في الجندي. فجأة عرفه. في صوت غير مصدق قال: «كيشان سنجه؟» نظر الجندي إليه غير مستوعب، مضيِّقًا العينين المشوبتين بالصفار. «كيشان سنجه — ألا تتذكرني؟»
أومأ الجندي والأرز ما زال في فمه. تغير تعبيره بالكاد: كأنه مرهق بدرجة لا تسمح له ببذل جهد للتعرف عليه.
قال دينو: «كيشان سنجه، هل أرجون معك؟»
أومأ كيشان سنجه مرة أخرى. ثم استدار على كعبه، وألقى بالورقة التي كان الأرز ملفوفًا فيها وعاد بين الأشجار.
مدَّ دينو يده إلى حقيبته القماش. أخرج شيروتًا وأشعله بيد مرتجفة. جلس مرة أخرى على الجذل. عن بعد، دخل شخص آخر إلى المنطقة منزوعة الأشجار، يتبعه حوالي ثلاثين رجلًا. وقف دينو. لسبب لم يفهمه، عرق كفَّاه، وانطفأ الشيروت.
توقف أرجون على بعد خطوات قليلة. وقف هو ودينو في المواجهة عبر الجذل. لم ينطقْ أحد منهما بكلمة. أشار بتأني إلى الطاي: «لنذهب إلى هناك.»
أومأ دينو موافقًا. وضع أرجون رجاله في الحراسة حول الطاي، ثم صعد هو ودينو السلم، وجلسا على ألواح الأرضيات المتهرئة. عن قرب، بدا أرجون في حالة أسوأ حتى من حالة كيشان سنجه. تآكل جزء من فروة رأسه نتيجة قرحة؛ امتد الجرح من فوق أذنه اليمنى حتى عينه تقريبًا. وغطَّى الوجهَ تمزقٌ ولدغُ حشرات. فقد كابه وسقطتْ أزرار زيه؛ وكان أحد كمي سترته مقطوعًا.
ما كان دينو ليأتي لو عرف أنه سيقابل أرجون. انقضت ثلاث سنوات على آخر لقاء بينهما، وبقدرٍ ما كان دينو يعتبر أرجون مذنبًا، بالتداعي، بشأن كثير من الرعب والدمار في تلك السنوات. إلا أن دينو لم يشعر بغضب أو نفور وهما في المواجهة. كأنه لا ينظر إلى أرجون بل إلى بقاياه المسحوقة، قشرة الرجل الذي كان ذات يوم. فتح دينو حقيبته القماش وأخرج اللفائف الباقية من الأرز.
قال: «ها. يبدو أنك في حاجة إلى ما تأكله.»
«ما هذا؟»
«بعض الأرز …»
رفع أرجون اللفائف إلى أنفه وشمها. قال: «رائع منك. سيمتن الرجال …»
نهض وذهب إلى السلم. سمع دينو أرجون يطلب من رجاله توزيع الأرز عليهم. حين عاد، رأى دينو أنه تنازل عن كل اللفائف. فهم أن الكبرياء منع أرجون من قبول طعام منه.
قال دينو: «وماذا عن الشيروت؟ هل يمكن أن أعطيك واحدًا؟»
«نعم.»
قدم له دينو شيروتًا وأشعل عود ثقاب. قال أرجون: «لماذا أنت هنا؟»
قال دينو: «طُلِب مني أن آتي. أعيش في قرية … ليست بعيدة عن هنا. سمعوا أن رجالكم يتجهون إليهم … انتابهم القلق.»
قال أرجون: «لا داعي للقلق. نحاول أن نبقى بعيدًا عن السكان المحليين. لا خلاف بيننا وبينهم. يمكن أن تقول لهم إنهم في أمان — بالنسبة لنا على أية حال.»
«سيسعدون.»
سحب أرجون نفَسًا من الشيروت ونفثه من أنفه. قال: «سمعت عن نيل. حزنتُ — من أجلك، ومن أجل منجو …»
تقبل دينو ذلك بإيماءة.
قال أرجون: «وماذا عن أسرتك. هل لديك أخبار — عن منجو؟ الطفلة؟»
قال دينو: «لم أسمع أخبارًا في السنوات الثلاث الأخيرة. كانوا هنا لبعض الوقت … بعد وفاة دينو … في المكان الذي أنا فيه الآن … مع عائلة تربطنا بها صداقة قديمة. ثم ذهبوا إلى موليك، ليحاولوا العبور … لم يُسمَع عنهم شيء بعد ذلك … أمي، أبي … لا أحد منهما …»
عضَّ دينو ظفر إبهامه وسلَّك حنجرته: «وهل سمعت عن أليسون … وجدِّها؟»
تكلم أرجون بصوت هامس: «لا. ماذا حدث؟»
«وهما يتجهان من مُرْنِنْجْسايد إلى الجنوب … تعطلت السيارة ووقعا في أيدي الجنود اليابانيين … قُتِلا … لكنها قاومت …»
غطى أرجون وجهه بيديه. عرف دينو من الرجفة المنتظمة في كتفيه أنه ينتحب. شعر دينو بالشفقة على أرجون، حينها فقط. مدَّ ذراعه عبر الأرضية ووضعها حول كتفيه.
«أرجون … توقفْ … لن يفيد …»
هزَّ أرجون رأسه بعنف، كأنه يريد الاستيقاظ من كابوس: «أتساءل أحيانًا إن كان ذلك سينتهي.»
«لكن، أرجون …» اندهش دينو من رقة صوته: «أرجون … أنت الذي … أنت الذي انضممت إليهم … بإرادتك الحرة. وما زلت تقاتل — الآن … حتى بعد اليابانيين … لماذا؟ من أجل ماذا؟»
نظر أرجون إلى أعلى وعيناه مطبقتان: «ترى، دينو —. لا تفهمُ حتى الآن. تعتقد أنني انضممتُ إليهم. لم انضم. انضممتُ إلى جيش هندي يقاتل لهدف هندي. ربما انتهت الحرب بالنسبة لليابانيين — لم تنتهِ بالنسبة لنا.»
لا يزال صوت دينو رقيقًا: «لكن، أرجون … لا بد أن ترى أنه ليس لديك أمل …»
عند ذلك ضحك أرجون.
قال: «هل كان لدينا أمل في أي وقت. نثور على إمبراطورية شكلت كل ما في حياتنا؛ لونت كل ما في العالم كما نعرفه. وصمة هائلة، إزالتها مستحيلة لوثتْنا جميعًا. لا نستطيع تدميرها بدون أن ندمر أنفسنا. وأفترض أنني في هذا الموقف …»
وضع دينو ذراعه حول أرجون مرة أخرى. شعر بالدموع تتدفق من عينيه، لكن لم يكن هناك ما يقوله.
اعتقد أن الخطر الأكبر يكمن في النقطة التي وصل إليها أرجون — حيث نسمح للقوى التي تشكلنا، ونحن نقاومها، بالسيطرة على كل المعاني؛ هذه لحظة انتصارهم: أصيبوا بهذه الطريقة بهزيمتهم النهائية الأكثر بشاعة. لم يشعر تجاه أرجون بشفقة بل بتعاطف: بم تشعر وأنت ترى الهزيمة تتراكم، بشكل كامل إلى هذا الحد؟ كان في ذلك نوع من الانتصار — بسالة — لم يشأْ أن يقلل من قيمتها بالجدل.
قال دينو: «يجب أن أذهب الآن.»
«نعم.»
نزلا السلم الملفوف بالكَرْم. أسفله، تعانقا مرة أخرى.
«احذرْ، أرجون … احذرْ.»
ابتسم: «سأكون بخير. ذات يوم سوف نسخر من هذا.» لوَّح وابتعد وسط الأعشاب التي تصل إلى الكتف.
استند دينو على سلم الطاي وشاهده يذهب. بقي مكانه وقتًا طويلًا بعد انصراف الجنود. حين ظهر ريموند، من بين الظلام، قال دينو: «لنبقَ هنا الليلة.»
«لماذا؟»
«لا أشعر أني في حالة تسمح لي بالذهاب.»
هزَّت المواجهة مع أرجون دينو بعمق: للمرة الأولى، بدأ يفهم حقيقة القرار الذي اتخذه أرجون، الحقيقة التي يستحيل التقليل من شأنها؛ رأى السبب الذي جعل كثيرين ممن عرفهم — رجال من قبيل أُنْج سان — يختارون الاختيارات نفسها. بدأ يرتاب في إدانته المطلقة لهم. كيف يمكن للمرء أن يحكم على شخص يزعم أنه يعمل من أجل شعب خاضع، بلد؟ على أي أساس يمكن إثبات حقيقة هذا الادعاء أو دحضه؟ من يستطيع الحكم على وطنية شخص غير مَنْ يزعم أنه يعمل باسمهم — مواطنيه. إذا اختار شعب الهند اعتبار أرجون بطلا؛ إذا رأت بورما أنج سان مُخلِّصَها — هل يمكن لشخص مثله، دينو، أن يفترض أن هناك واقعًا أكبر، قوة التاريخ، يمكن استدعاؤه لدحض هذه المعتقدات؟ لم يعد مقتنعًا بأن الأمر بهذه الصورة.
٤٥
كانت وحدة أرجون تضم في البداية حوالي خمسين رجلًا: لم يتبقَّ إلا ثمانية وعشرون. فُقِد قليلٌ منهم بنيران معادية. كان معظم المفقودين نتيجة الهروب.
منذ البداية، انقسمت الوحدة بالتساوي بين الجنود المحترفين والمتطوعين. وكان المحترفون الذين جندوا في الهند، رجالًا مثل كيشان سنجه وأرجون نفسه. حين سقطت سنغافورة، كان على الجزيرة حوالي خمسة وخمسين ألفًا من القوات الهندية. انضمَّ أكثر من نصفهم للجيش الوطني الهندي. وكان المتطوعون مجندين من الجالية الهندية في الملايو ومعظمهم من عمال المزارع التاميل.
في البداية تشكك الضباط، رفاق أرجون، في إمكانيات المجندين الجدد وقدراتهم على التحمل. كان الجيش الذي دربهم، الجيش الهندي البريطاني، لا يجند التاميل: اعتبروا إحدى الطوائف الهندية الكثيرة غير الصالحة عِرْقيًّا للعسكرية. ولكونهم عسكريين محترفين، فقد شُبِّعوا بالأساطير العرقية لجيش المرتزقة القديم. وبرغم معرفتهم بأن تلك النظريات لا أساس لها، وجدوا صعوبة في التخلص تمامًا من المفاهيم الإمبريالية القديمة بشأن نوعية الرجال الذين يصلحون للعسكرية والذين لا يصلحون. ولم يعترفوا بزيف هذه الأساطير إلا تحت النيران: كشفت الخبرة أن مجندي المزارع، على أية حال، أكثر صلابة وإخلاصًا من المحترفين.
وجد أرجون، في وحدته، نمطًا واضحًا للهروب: كل الذين اختفوا تقريبًا من المحترفين؛ لم يرحل أحد من مجندي المزارع. حيَّره ذلك حتى كشف له كيشان سنجه عن السبب: يعرف المحترفون الرجال على الجانب الآخر؛ الرجال الذين يحاربونهم أقاربهم وجيرانهم؛ كانوا يعرفون أنهم إذا هربوا فلن يلقوا معاملة سيئة.
كان أرجون يعرف أن عمال المزارع يفهمون ذلك أيضًا. يعرفون الجنود المحترفين وأية طبقة انحدروا منها؛ يعرفون كيف تعمل عقولهم ولماذا يهربون. في كل مرة يفقد فيها بضعة «محترفين» آخرين، يرى أرجون ازدراء أعمق في عيونهم؛ كان يعرف أن رجال المزارع يسخرون سرًّا من الحياة المدللة التي اعتاد عليها العسكريون، من الطريقة التي كان يطعمهم بها سادتهم ويسمنونهم. بدا أن مجندي المزارع عرفوا ذلك في النهاية، لم يكن صراعهم الصراع الذي يخوضه المحترفون؛ على أية حال، كانوا لا يخوضون حتى الحرب نفسها.
ذات مرة، وهم فوق حافة، طلب راجان من أرجون أن يشير إلى جهة الهند. أراه أرجون: إلى الغرب. وقف راجان طويلًا يحدِّق بعيدًا؛ وهكذا فعل كثير من الرجال الآخرين.
سأل أرجون: «هل زرت الهند؟»
هزَّ راجان رأسه: «لا، سير.»
«ماذا تعتقد أن تجد هناك؟»
هزَّ راجان كتفيه: لا يعرف وبطريقة ما بدا أنه لا يبالي. يكفي أن تكون الهند.
اكتشف أرجون فيما بعد أن راجان ولد في الملايو؛ جاءت معلوماته عن الهند أساسا من الحكايات التي حكاها والداه. كان الشيء نفسه صحيحًا بالنسبة لمجندي المزارع جميعًا: يقاتلون من أجل بلاد لم يروها أبدًا؛ بلاد قذفت آباءهم وبترتهم. وهذا ما جعل حماسهم كبيرًا تمامًا. لماذا؟ ما دوافعهم؟ كان هناك الكثير عن حياتهم لا يعرفه أرجون ولا يستطيع سبر غوره — الطريقة التي تحدثوا بها عن «العبودية»، على سبيل المثال، مستخدمين الكلمة الإنجليزية دائمًا. في البداية اعتقد أرجون أنهم يستخدمون المصطلح بشكل غير دقيق، نوع من المجاز — لأنه رغم كل شيء، لم يكن صحيحًا تقنيًّا أنهم عبيد؛ كان راجان يعرف ذلك بالضبط كما يعرفه أرجون. ماذا يعني، إذن؟ ماذا يعني أن تكون عبدًا؟ حين يطرح أرجون هذا السؤال، يردُّ راجان دائمًا بشكل غير مباشر. يبدأ الكلام عن العمل الذي كانوا يؤدونه في المزرعة — كل فعل يراقب ويُرصَد ويلاحظ باستمرار؛ كم أوقية من السماد بالضبط، وضعت بالضبط، في حفر عرضها كم بوصة بالضبط. قال راجان لم يكن الأمر أنك تعامل كحيوان — لا، لأنه حتى الحيوانات لها غرائز استقلال. كنا نعامل كآلة: انتُزِع عقلك ووضعت مكانه آلية منتظمة. أي شيء أفضل من ذلك.
والهند — ماذا كانت الهند بالنسبة لهم؟ الأرض التي يقاتلون من أجل حريتها، الأرض التي لم يروها أبدًا لكنهم على استعداد للموت من أجلها؟ هل عرفوا ما خلف آباؤهم وأجدادهم وراءهم من فقر وجوع؟ هل عرفوا التقاليد التي تمنعهم من الشرب من آبار طائفة عليا؟ لم يكن شيء من ذلك حقيقيًّا بالنسبة لهم؛ لم يجربوه أبدًا ولا يستطيعون تخيله. كانت الهند الجبل الساطع خلف الأفق، قربان التضحية — استعارة للحرية كما كانت العبودية استعارة للمزرعة. تساءل أرجون، ماذا يجدون، حين يعبرون الأفق؟
ومن خلال طرح هذه الأسئلة بدأ أرجون يرى نفسه بعيونهم — محترفًا، مرتزقة، لم يستطع أبدًا التخلص من وصمة ماضيه والسخرية التي أتت معه، العدمية. عرف السبب الذي قد يدعوهم للنظر إليه بازدراء — وحتى كعدو — لأنه كان صحيحًا، في النهاية، أنه لا يخوض حربهم؛ لا يؤمن بما يؤمنون به؛ لا يحلم أحلامهم.
•••
أعاد راجان كيشان سنجه ويداه مقيدتان، يتعثر في الشجيرات. كانت حالة كيشان سنجه لا تسمح له بالابتعاد كثيرًا. وجده راجان مختفيًا تحت نتوء، مختبئًا، يرتجف ويدعو.
دفع راجان كيشان سنجه، فوقع على ركبتيه.
أمسك راجان كيشان سنجه من ياقته وأوقفه. ازداد كيشان سنجه نحولا، كان مثل العصا، دمية محطمة.
نظر راجان بازدراء لكيشان سنجه. كلَّم أرجون مباشرة، وهو ينظر في عينيه: «وماذا تفعل له الآن؟»
لم يكن هناك «سير» أو «صاحب»، ولم يكن السؤال «ماذا يجب أن يتم؟» بل «ماذا تفعل؟» رأى أرجون التحدي في عيني راجان؛ عرف ما يدور في عقل راجان — يتكاتف المحترفون معًا، وسيجد طريقة للعفو عن كيشان سنجه. الوقت. كان عليه أن يحدِّدَ وقتًا.
قال أرجون: «علينا أن نعقد مجلسًا عسكريًّا.»
«هنا؟»
أومأ أرجون: «نعم. هناك إجراء. علينا أن نحاول ونلتزم به.»
«إجراءات؟ هنا؟» كان التهكم واضحًا في صوته.
عرف أرجون أن راجان يحاول إحراجه أمام الرجال الآخرين. مستخدمًا مزية طوله، ذهب إليه وحدق في عينيه.
قال أرجون: «نعم. إجراءات. وعلينا أن نحترمها. هكذا تدار الجيوش — هذا ما يجعلها تختلف عن عصابات الشوارع.»
هزَّ راجان كتفيه ومسح بلسانه على شفتيه. قال: «لكن أين؟ أين تجد مكانًا لمجلس عسكري؟»
قال أرجون: «نعود إلى معسكر الساج. أسهل هناك.»
«المعسكر؟ لكن ماذا إذا كان هناك من يتتبعنا؟»
«ليس بعد. سوف نذهب.» المعسكر على بعد ساعة: يمكن أن يستغرق وقتًا أقل.
«طابور.» أخذ أرجون المبادرة. لم يكن يريد مشاهدة كيشان سنجه مسحوبًا ويداه معقودتان خلف ظهره.
تساقط المطر وكانوا مبللين حين وصلوا إلى المعسكر. سار أرجون في الطريق عبر المنطقة منزوعة الأشجار إلى الطاي. كانت المنطقة تحت الركائز جافة، محمية من الأمطار بالمبنى الذي فوقها. ترك راجان كيشان سنجه فغاص في الأرض جاثمًا على مؤخرته يرتجف.
قال أرجون: «هنا. نعقد الجلسات هنا.»
أحضر راجان مقعدًا من الطاي ووضعه أمام أرجون. قال بلهجة تأدب ساخرة: «لك، سير، أنت القاضي.»
تجاهله أرجون: «لنبدأ.»
حاول أرجون إطالة الطقوس، طرح الأسئلة واستغرق في التفاصيل. لكن الحقائق كانت واضحة: لا جدال فيها. حين طلب من كيشان سنجه أن يتكلم دفاعًا عن نفسه، لم يستطع إلا أن يتوسل عاقدًا يديه معًا: «صاحب — زوجتي، أسرتي …»
كان راجان يشاهد أرجون، مبتسمًا: «أية إجراءات أخرى؟ سير؟»
«لا.» رأى أرجون راجان والرجال الآخرين يشكلون دائرة: هو وكيشان سنجه وسطها. وقف أرجون: «اتخذتُ قراري.» التفت إلى راجان، قال: «أكلفك بمسئولية فرقة الإعدام. اطلب متطوعين. بسرعة.»
نظر إليه راجان مباشرة، وهزَّ رأسه. قال: «لا. لا أحد منا سيتطوع. إنه واحد منكم — واحد من رجالك. تعاملْ معه بنفسك.»
نظر أرجون إلى دائرة الرجال من حوله. ينظرون إليه جميعًا؛ وجوههم جامدة وعيونهم لا ترمش. استدار أرجون؛ طافت في ذهنه نتف من الذكريات … هكذا يبدو التمرد على الجانب الآخر؛ أنت وحيد، ولا يمكن الاعتماد إلا على سلطة سلسلة طويلة من القيادة؛ على تهديدات عدالة الجيش، والجزاء النهائي بمجرد تحقيق النصر. لكن ماذا تعمل حين تعرف أنه لن يكون هناك نصر، حين تكون الهزيمة مؤكدة؟ كيف تستند إلى صلاحية المستقبل، وأنت تعرف أنه لن يكون مستقبلك؟
«تعال، كيشان سنجه.» ساعد أرجون المراسلة السابق للوقوف. كان جسمه خفيفًا جدًّا، بدون وزن تقريبًا. شعر أرجون بيديه تزدادان رقَّةً وهو يمسك بذراع كيشان سنجه. كان غريبًا أن يلمسه بهذه الطريقة، وهو يعرف ما يأتي.
«تعال، كيشان سنجه.»
«صاحب.»
وقف كيشان سنجه وأخذ أرجون بذراعه، ودفعه إلى الأمام، بعيدًا عن الآخرين، خارج مظلة الطاي، إلى المطر. خاضا في الأعشاب الطويلة وتعثر كيشان سنجه. وضع أرجون ذراعه حوله وأوقفه. كان كيشان سنجه ضعيفًا، يمشي بالكاد؛ أراح رأسه على كتف أرجون.
كان صوته ناعمًا، كما لو كان يهمس لحبيبة: «واصل المشي، كيشان سنجه. سَابَر كارو، كيشان سنجه — سينتهي ذلك عاجلًا.»
«صاحب.»
حين وصلا إلى حافة المنطقة منزوعة الأشجار، تركه أرجون. سقط كيشان سنجه على ركبتيه، وبقي منتصبًا بالتشبث بساق أرجون.
«صاحب.»
«لماذا فعلْتَ ذلك، كيشان سنجه؟»
«صاحب، كنتُ خائفًا …»
فك أرجون أزرار حافظته الجلدية بيد وأخرج سلاحه الجانبي — الويبلي الذي كان كيشان سنجه يصقله ويشحمه.
«لماذا فعلت ذلك، كيشان سنجه؟»
«صاحب — لم أستطع الاستمرار …»
تطلع إلى الإصابات وقروح الغابة على رأس كيشان سنجه. فكر في وقت آخر حين برك كيشان سنجه بين قدميه، طالبًا حمايته؛ فكر في صراحته وصدقه وبراءته، في كيف حركه التاريخ الذي يكمن وراءهما — الطيبة والقوة اللتين رآهما فيه؛ كل الصفات التي فقدها هو نفسه وخانها — صفات لم تكن أبدًا صفاته منذ البداية، هو الذي قفز جاهزًا ومشوَّهًا من عجلة الخزاف. كان يعرف أنه لا يستطيع أن يسمح لكيشان سنجه بخيانة نفسه، بأن يصبح غير ما كان عليه — أن يصبح مخلوقًا مثله، بشعًا، مسخًا. منحتْه الفكرةُ القوةَ لتصويب البندقية إلى رأس كيشان سنجه.
عند لمس المعدن البارد، رفع كيشان سنجه عينيه، ونظر إليه: «صاحب — تذكر أمي وبيتي وطفلي …»
أمسك أرجون برأس كيشان سنجه، لاعبًا بأصابعه في شعره الملبَّد: «لأني أتذكر ذلك عليَّ أن أفعل هذا، كيشان سنجه. حتى لا تنسى ما كنت عليه — لأحميك من خيانة نفسك.»
سمع الطلقة وترنح باتجاه مجموعة من الأشجار. مدَّ يده إلى غصن ليحفظ توازنه، ورأى شريحة تنزُّ من اللحم والعظم معلقة في الأغصان. لم يستطع إبعاد عينيه عنها: كانت جزءًا من كيشان سنجه، من رأس أمسك به للتو بين يديه. أخذ خطوة أخرى وسقط على ركبتيه. حين نظر إلى أعلى، كان راجان والرجال الآخرون يقفون ملتفين حوله، يشاهدون. وفي عيونهم نوع من الشفقة.
•••
سادت البهجة في المعسكر حين قرر دوه سي العودة إلى هوي زيدي. كانت الحركة في المنحدر عرض انتصار مبهج اكتمل بالطبول والمزامير والأفيال.
وفر دوه سي مكانًا لدينو بمفرده على حافة القرية. لم يكد دينو يستقر فيه حتى عثر عليه ريموند.
قال ريموند: «تعال معي. عندي ما أخبرك به.»
سارا بجوار الجدول وشاهدا أطفال القرية يصوبون على الأسماك من الأماكن الضحلة من جدول هوي زيدي بالأقواس والرماح المصنوعة من البامبو.
«لديَّ بعض الأخبار.»
«ماذا؟»
قال ريموند: «مات أرجون. تتبعته وحدة من القوة ١٣٦؛ لحقوا به في معسكر الساج القديم.»
سأل دينو: «هل أنت الذي أرشدتهم إلى هناك؟»
«لا. هارب. واحد من رجاله — جندي قديم.»
قال دينو: «لكنك كنت هناك؟ في النهاية …»
«نعم.»
«ماذا حدث؟»
«نادوني — الناس الذين اصطادوه. سمعوا أن كثيرًا من رجاله تركوه …»
«هل كان أرجون وحده إذن؟»
«نعم. وحده تمامًا — عاد إلى معسكر الساج المهجور. غادر بقية الرجال المكان، رحلوا جميعًا — خلعوا أزياءهم، وارتدوا لنجيات واختفوا في الغابة. حاولت تتبعهم — كان الأمر مستحيلًا، كانوا يعرفون الغابة — تلاشوا.»
«وأرجون؟»
«كان هناك كولونيل هندي. حاول أن يجعل أرجون يستسلم، قائلًا له إن المعركة انتهت، وأنه سيكون بخير. لكن أرجون ردَّ بإطلاق النار، وصفهم بالعبيد والمرتزقة. ثم خرج إلى فراندة الطاي، وأخذ يطلق النار …»
توقف ريموند ليلقي بحصاة في الجدول.
قال: «كان واضحًا أنه لا يريد أن يعيش.»
٤٦
في ١٩٤٦م، وبورما على وشك الحصول على استقلالها، قرر دوه سي مغادرة هوي زيدي والتحرك باتجاه الشرق، إلى المناطق الجبلية على حدود بورما وتايلاند.
جعلت الحرب أطراف البلاد ضد مركزها: وكان دوه سي واحدًا من كثيرين لديهم شكوك عميقة بشأن ما يخبئه المستقبل لأقليات بورما.
في ١٩٤٧م، استعدادًا للرحيل البريطاني، أقيمت أول انتخابات وطنية في بورما. وفاز فيها الجنرال أُنْج سان. وساد على نطاق واسع اعتقاد بأنه الشخص الوحيد القادر على تأكيد وحدة البلاد واستقرارها. لكن في ١٩ يوليو، قبل أن يتولى أنج سان المنصب بوقت قصير، اغتيل مع عدد من رفاقه. خلال شهور من الاغتيال، انفجر عصيان بقيادة شيوعية في وسط بورما. تمردت بعض وحدات الكارن في الجيش. والكارن أكبر مجموعة عرقية بعد البورمان؛ رفع تنظيم كارنيٌّ كبير السلاح ضد حكومة رنجون. وتبعتهم مجموعات أخرى مباشرة. في وقت قصير، اندلع ستة عشر عصيانًا في بورما.
ذات يوم، في لويكو، جاء ولد يجري إلى باب دينو: «كو تون بي — هناك شخص يسأل عنك.» وتبعه طفل آخر ثم آخر. وقفوا في المدخل يلهثون، ويشاهدون بعيون تترقب بشدة. قالوا جميعًا الشيء نفسه: «كو تون بي — هناك زائرة، تأتي مشيًا من محطة الأتوبيس.»
تجاهلهم؛ بقي داخل الأستوديو، لا يفعل شيئًا، ويحاول ألا ينظر من الشباك. ثم سمع مزيدًا من الأصوات تقترب — بدا أن موكبًا يشقُّ طريقه باتجاه كوخه. سمع أناسًا ينادون: «كو تون بي — انظر مَنْ هنا!» رأى ظلًّا على العتبة ونظر. كانت دُلِّي.
استغرق الأمر عدة أشهر من دُلِّي لتتتبع مسار دينو إلى لويكو. وصلت إلى بورما أواخر ١٩٤٨م، أثناء فترة العصيان. حين وصلت إلى رنجون، اكتشفت أن سلطة الحكومة المنتخبة لا تمتد أبعد من الحدود الإدارية للعاصمة. حتى المساحات التي على حدود مطار مينجلادون كانت في أيدي المتمردين. كان معظم رنجون مهدَّمًا، ضرب بالقنابل وتحول إلى رماد نتيجة الحملات الجوية المتتابعة. ومع احتراق منزل كمندين بالكامل، لم يكن هناك مكان تقيم فيه؛ قدمت لها صديقةٌ ملاذًا.
ذات يوم سمعت دُلِّي أن ثيها سو، الصديق القديم لدينو، عاد إلى رنجون، ويعمل في صحيفة. ذهبت إليه تسأله إن كان لديه أخبار عن دينو. وتصادف أن يو ثيها سو حضر مؤخَّرًا مؤتمرًا سياسيًّا حضره ريموند أيضًا. أخبر يو ثيها سو دُلِّي بأن دينو يعيش في أمان في لويكو. غادرت دُلِّي رنجون بمركب في اليوم التالي. وبعد رحلة استغرقت عدة أسابيع استقلتْ أتوبيسًا قديمًا مقعقعا في طريقها إلى لويكو.
قضت دلي ودينو أيَّامًا يتحدثان. حدثتْه عن موت نيل وموت منجو؛ عن المسيرة عبر الجبال وكيف قامت هي ورَجْكومار بالرحلة من حدود الهند، عبر أسام، إلى كلكتا؛ وفسرتْ له سبب عودتها إلى بورما وحدها.
التقط صورًا لها. كانت دلي نحيلة جدًّا، يمكن رؤية عظام وجهها بوضوح كأنها حواف كوب محزز. كان شعرها مربوطًا بإحكام إلى الخلف عند القفا: كان لا يزال أسود لامعًا، مع بضعة خطوط بيضاء عند الصدغ.
حثتْه على الكتابة إلى والده: «اذهبْ وقابلْه؛ لن تكون هناك مشكلة معه كما كان يحدث من قبل؛ يحتاج إليك — إنه وحيد.»
لم يقدم دينو وعودًا: «ربما. ذات يوم.»
عرف، بدون أن تخبره، أنها لم تأتِ لتقيم. لم يندهش حين قالت: «في الأسبوع القادم أغادر إلى ساجاينْج.
ذهب معها. كانت المرة الأولى التي يتجرأ فيها على الذهاب إلى السهول منذ انتهاء الحرب. روَّعه الدمار. سافرا عبر مناطق لم تحرق مرة بل مرتين على أيدي الجيوش المنسحبة. كانت قنوات النهر مسدودة وخطوط السكك الحديد مخربة على عوارضها. من قرية لقرية كانت المسئولية في يد مجموعة أو حزب مختلف. ردم الفلاحون حفر قنابل مستديرة؛ أشار الأطفال إلى مواضع بها ألغام لم تنفجر. كانا يلفَّان حول الطرق، حول المناطق التي قيل إنها شديدة الخطورة. مشيا واستأجرا عربات ثيران، واستقلا أحيانًا أتوبيسًا وقاربًا نهريًّا. توقفا في مَنْدالي ليلة. تهدم معظم الحصن؛ ودمرت نيران المدفعية القصر؛ وحُرقت تمامًا الأجنحة التي عرفتها دُلِّي.
سارا آخر بضعة أميال إلى ساجاينج وعبرا إرَّاودِّي بعبَّارةٍ. شعرا بارتياح شديد لأن ساجاينج لم يتغير. كانت الهضاب ساكنة وجميلة، تزينها آلاف المعابد البيضاء. أسرعت دُلِّي وهما يقتربان من الدير. عند المدخل عانقت دينو بقوة وقادتها إيفلين إلى الداخل. في اليوم التالي، حين ذهب دينو لزيارتها، كان رأسها حليقًا وترتدي روبًا زعفرانيًّا. بدت مشعة.
تم الاتفاق على أن يعود ليراها مرة أخرى في العام التالي. حان الوقت وعاد، من لويكو إلى ساجاينج، قاطعًا الرحلة الطويلة مرة أخرى. انتظر وقتًا طويلًا على بوابات الدير. أخيرًا جاءت إيفلين. ابتسمت له ابتسامة رقيقة.
قالت: «رحلت أمك منذ شهر. لم نستطع إخبارك بسبب المشاكل. وقد يسعدك أن تعرف أنها رحلتْ سريعًا جدًّا ولم تتألمْ.»
•••
في ١٩٥٥م مات دوه سي في لويكو، وكان بطريركا كبيرًا وقائدًا مهمًّا. حزن الآلاف عليه. كان دوه سي بالنسبة لدينو أبًا بقدر ما كان معلمًا: كان موته صدمة كبيرة. بعد ذلك بقليل، قرر دينو الانتقال إلى رنجون.
في منتصف خمسينيات القرن العشرين هدأت الأمور نسبيًّا في بورما. توقفت حالات العصيان وعملت الحكومة بشكل ديمقراطي. صار يو ثيها سو محرِّرًا لصحيفة رائدة باللغة البورمية، كان تأثيرها كبيرًا في رنجون.
عند وصول دينو إلى رنجون، ذهب لرؤية صديقه القديم: تحول من ولد نحيل وطويل إلى رجل مهيب عليه سمات ذوي النفوذ. كان يرتدي لنجيات ملونة وقمصان مشجرة، وفي يده غليون بشكل دائمٍ تقريبًا. عمل دينو مصوِّرًا في جريدته. بعد ذلك، حين وجد دينو مكانًا مناسبا لأستوديو، أقرضه يو ثيها سو المال لشرائه.
كان بعض أفضل المصورين في رنجون قبل الحرب من اليابانيين. بعد الحرب أغلق كثير منهم الأستوديو وتخلصوا من الأدوات بأسعار زهيدة. في السنوات التي قضاها دينو في لويكو صار خبيرًا في إصلاح أدوات التصوير القديمة والمهملة وإعادة تشغيلها: جهَّز الأستوديو بتكلفة زهيدة جدًّا.
كان يو ثيها سو من أوائل زوار أستوديو دينو. نظر إليه باستحسان. «رائع جدًّا، رائع جدًّا.» توقف ليسحب نفَسًا من غليونه. «لكن ألم تنسَ شيئًا؟»
«ماذا؟»
«اليافطة. لا بد أن يحمل الأستوديو اسمًا، رغم كل شيء.»
«لم أفكِّرْ في اسم …» تلفت دينو حوله. أينما نظر كان هناك زجاج: صور في إطارات، أسطح الطاولات، وعدسات الكاميرا.
قال فجأة: «القصر الزجاجي. سأطلق عليه هذا الاسم …»
«لماذا؟»
قال: «كانت عبارة مفضلة لأمي. فقط شيء تعوَّدتْ أن تقوله …»
كانت ما ثين ثين آي نحيلة، صغيرة الجسم، ودقيقة في حركاتها. كل يوم، في الرابعة عصرًا، تمشي في الشارع، بجوار الصيدلية، إلى الباب الخشبي الذي يؤدي إلى القصر الزجاجي. تقف في الخارج وتنادي باسمِ دينو — «يو تون بي!» — ليعرف أنها أتت. في السابعة والنصف تغلق هي ودينو الأستوديو: تبتعد في الشارع ويقفل دينو ويلف حول الركن ليصعد السلالم إلى غرفته.
بعض بضعة أسابيع، اكتشف دينو أن ما ثين ثين آي لا تقضي أوقات الصباح كلها في البحث فقط. كانت كاتبة أيضًا. كانت تزدهر في رنجون ثقافة المجلات الأدبية الصغيرة. وقد نشرت إحداها بعض قصصها القصيرة.
تتبع دينو قصصها. أثارت دهشته. كانت أعمالها مبتكرة وتجريبية؛ استخدمت اللغة البورمية بطرق جديدة، مزاوجة بين الكلاسيكية والاستخدام الشعبي. أدهشه ثراء التلميح، واستخدامها اللهجة العامية، وكثافة تركيزها على شخصياتها. بدا له أنها حققت كثيرًا مما طمح لتحقيقه ذات يوم — طموحات هجرها منذ فترة طويلة.
كان دينو يخاف بعض الشيء، ومن الصعب أن يخبر ما ثين ثين آي بإعجابه بأعمالها. بدلًا من ذلك، بدأ يضايقها بطريقته المتقطعة الجادة. قال: «قصتك، القصة التي عن الشارع الذي تعيشين فيه … تقولين إن الناس في الشارع من أماكن كثيرة مختلفة … من الشواطئ والهضاب … لكنهم في قصتك يتحدثون البورمية جميعًا. كيف يحدث ذلك؟»
لم تنزعج إطلاقًا.
قالت برقة: «حيث أعيش، يتحدث كل منزل في الشارع بلغة مختلفة. ليس أمامي من اختيار إلا أن أثق في أن قارئي يتخيل صوت كل منزل. وإلا فإنني لن أستطيع إطلاقًا الكتابة عن شارعي — وأن تثق في قارئك ليس شيئًا سيئًا.»
قالت: «لكنه يستطيع. لماذا تعتقد أنه لا يستطيع؟ الكلمة على الصفحة مثل الوتر في آلة. يردد قرائي الموسيقى في رءوسهم، وتبدو لكل بشكل مختلف.»
في ذلك الوقت من حياة دينو، لم يعد التصوير هواية بالنسبة. لم يكن يصور إلا أعمالًا تجارية، يلتقط بورتريهات الأستوديو ويطبع نيجاتيف الآخرين. كان يولي ما يفعله قدرًا كبيرًا من العناية والاهتمام لكنه لا يجد فيه متعة: كان يشعر بالامتنان أساسًا لأنه يمتلك مهارة يمكن أن تكون رهانًا لتوفير سبل العيش. حين سأله الناس عن السبب في أنه لم يعد يصور خارج الأستوديو، أخبرهم بأن عينيه فقدت عادة النظر؛ ذبل بصره نتيجة عدم الممارسة.
لم يرَ الصور التي اعتقد أنها عمله الحقيقي، إلا نادرًا. وكانت هذه الصور، على أية حال، ضئيلة العدد. دمرت نسخه المبكرة والنيجاتيف حين أتت النيران على منزل كمندين؛ والأعمال التي صورها في الملايو لا تزال في مُرْنِنْجْسايد. كل ما في حوزته من أعماله بضع صور التقطها في لويكو — لأمه ودوه سي وريموند وأسرتيهما. وُضِع بعضها في إطارات وعُلِّق على جدران شقته. قاوم الخجل لدعوة ما ثين ثين آي للصعود إلى الدور الثاني لرؤيتها. لا تزال صغيرة — أصغر منه بأكثر من عشر سنوات. وكان من المهم إلى حد بعيد أن لا تنظر إليه نظرة سيئة.
انقضتْ سنة، وكل يوم تغادر ما ثين ثين آي الأستوديو وتدخله من الباب الذي يؤدي إلى الشارع. ذات يوم قالت: «يو تون بي، هل تعرف أصعب ما في كتاباتي؟»
«ماذا؟»
«حين أترك الشارع وأدخل منزلا.»
تجهم: «لماذا …؟ لماذا ذلك؟»
فركتْ يديها معًا في حجرها، وبدت الطالبة الجادة تمامًا. قالت: «ذلك صعب جدًّا. بالنسبة لك قد يبدو شيئًا تافهًا. لكني أعتقد أن هذه اللحظة تميز الاختلاف بين الكتابة الكلاسيكية والحديثة.»
«أوه …! كيف؟»
«ترى، في الكتابة الكلاسيكية، يحدث كل شيء في الخارج — في الشوارع والميادين العامة وساحات المعارك، في القصور والحدائق — في أماكن يتخيلها الجميع.»
«لكنك لا تكتبين بهذا الشكل؟»
ضحكت: «لا. وحتى هذا اليوم، مع إني لا أفعل ذلك إلا في عقلي، لا شيء أكثر صعوبة من هذا — الدخول إلى منزل، اقتحامه، انتهاكه. وحتى مع أن ذلك في رأسي فقط، أشعر بالخوف، وأنا أعبر العتبة، إلى منزل.»
أومأ لكنه لم يعلِّقْ. أعطى نفسه وقتًا للتفكير فيما قالت. بعد ظهيرة أحد الأيام اشترى برياني من شارع المغول ودعاها للصعود.
بعد بضعة أشهر تزوجا. كان الاحتفال هادئًا وقد دعيا عددًا صغيرًا جدًّا. بعد ذلك، انتقلت ما ثين ثين آي إلى غرفتي دينو. حددت لنفسها ركنًا ووضعت فيه منضدة. بدأت تدرِّس الأدب في الجامعة. وبعد الظهيرة تساعد في الأستوديو. كانا سعيدين، قانعين بصغر عالمهما وخصوصيته. ولم يبدُ عدم الإنجاب نقصًا كبيرًا. بدأت أعمالها تلفت الأنظار، حتى خارج الدوائر الأدبية. صارت واحدة من مجموعة مختارة من الكتاب البورميين الذين يُسعى لوجودهم بانتظام في المهرجانات والريف.
ذات صباح، كانت دو ثين ثين آي توجه أحد طلابها الواعدين في الجامعة حين سمعت صوت طلق نار قريب. ذهبت إلى الغرفة فرأت مئات الشباب والشابات يجرون، والبعض مغطى بالدماء.
شدَّها تلميذها بعيدًا عن النافذة. اختبآ تحت منضدة. بعد بضع ساعات عثر عليهما أحد زملاء دو ثين ثين آي. عرفا أن هناك انقلابًا. تولى الجنرال ني وِن السلطة. وأطلقت النيران على عشرات الطلاب داخل الجامعة.
•••
لم يكن دينو أو دو ثين ثين آي قد انخرطا في السياسة مباشرة من قبل. بعد الانقلاب بقيا في حالهما وانتظرا تغير الرياح. ولم يدركا إلا بعد سنوات أنها عاصفة جاءت لتبقى.
كل عام تزداد قوة الجنرالات ويزداد بقية أهل البلاد وهَنًا: كانت العسكرية مثل روح شريرة تمتصُّ الحياة من عائلها. مات يو ثيها سو في سجن إنسين، في ظروف غامضة. أُحضِر جسده إلى البيت وعليه علامات التعذيب ولم يُسمَح لأسرته بإقامة جنازة عامة. نشأ نظام رقابي جديد، نما من أسس النظام الذي خلفته وراءها حكومة الإمبريالية القديمة. كان لا بد من تقديم كل كتاب ومجلة لهيئة فحص المطبوعات ليتمعن فيها جيش صغير من الضباط.
ذات يوم طُلِب من دو ثين ثين آي الحضور إلى مكتب هيئة الفحص. كان المبنى بسيطًا وعمليًّا، مثل مدرسة، تفوح من دهاليزه الطويلة رائحة المراحيض والمبيدات. ذهبت إلى مكتب بباب خشبي مكون من طبقات وانتظرت عدة ساعات على دكة. وحين عُرِضتْ في النهاية، وجدت نفسها في مواجهة ضابط بدا في أواخر العشرينيات، يجلس على منضدة وأمامه مخطوطة من إحدى قصصها. كانت يداه في حجره وبدا أنه يلعب في شيء — لم تعرف ما هو.
وقفت عند المنضدة، تتململ ممسكة بطرف بلوزتها. لم يطلب منها الجلوس. حدَّقَ فيها متمعنًا من أعلى إلى أسفل. ثم وخز إصبعه في المخطوطة: «لماذا أرسلتها إلى هنا؟»
قالت بهدوء: «طُلِب مني ذلك، هذا هو القانون.»
قال: «القانون بالنسبة للكتاب. ليس لأمثالك.»
«ماذا تقصد؟»
«لا تعرفين كيف تكتبين البورمية. انظري إلى كل هذه الأخطاء.»
نظرت إلى المخطوطة ورأتها مغطاة بعلامات من قلم أحمر، مثل كتاب مدرسي زاخرٍ بالأخطاء.
قال: «ضيعتُ وقتًا طويلًا في تصحيحها. ليست وظيفتي تعليم الناس الكتابة.»
نهض من مقعده فرأته يمسك في يديه بعصا جولف. مدَّ يده إلى مخطوطتها وطبقها على شكل كرة بإحدى يديه. ألقاها على الأرض بين قدميه. خطا خطوات صغيرة وهو يُطوِّح رأس عصاه للخلف والأمام. تَأرْجحَ، وأبحرت كرة الورق عبر الغرفة. أخذ وضعًا للحظة، معجبًا بتأرجحه — الركبة المائلة والساق المثنية. التفت إليها. قال: «خذيها. خذيها إلى البيت وادرسيها. لا ترسلي شيئًا إلى هذا المكتب حتى تتعلمي كتابة البورمية بشكل صحيح.»
في الأتوبيس، في الطريق إلى البيت، فردت الصفحات صفحةً صفحة. أدركت أن ألفاظه ألفاظ طفل؛ كان متعلمًا بالكاد. أجرى قلمه على كل ما لم يفهمه — التورية والتلميح والألفاظ المهجورة.
توقفت عن الكتابة. لا شيء يمكن نشره إلا بعد خضوعه لفحص الهيئة. كانت الكتابة صعبة بما يكفي الكفاية، حتى لو لم يتعامل معها غيرك. وقد جعلت فكرة مواجهة أخرى من هذا القبيل الساعات التي تقضيها على المنضدة غير محتملة.
امتلأت الصحف باتهامات حادة للإمبريالية. بسبب الإمبرياليين عُزِلتْ بورما عن العالم؛ وكان على البلاد مقاومة الإمبريالية الجديدة والعدوان الأجنبي.
أسأمت هذه الخطب دينو. ذات يوم قال لزوجته: «انظري إلى الطريقة التي يستخدم به هؤلاء السفاحون الماضي لتبرير الحاضر. هم أنفسهم أسوأ بكثير من الإمبرياليين؛ على الأقل في سالف الأيام، كان يمكن أن تكتبي وتقرئي.»
ابتسمت دو ثين ثين آي وهزَّتْ رأسها استنكارًا. قالت: «استخدام الماضي لتبرير الحاضر سيئ بما يكفي — لكن استخدام الحاضر لتبرير الماضي سيئ بالقدر نفسه. وتأكَّدْ أن هناك كثيرين يمكن أن يفعلوا ذلك أيضًا: لكن علينا فقط ألا نصبر عليهم.»
صارت حياتهما هادئة جدًّا وعقيمة: كانا نباتات شُذِّبتْ جذورها لتوضع في آنية ضئيلة. يختلطان بعدد ضئيل جدًّا من الناس ويحرصان دائمًا على ما يتفوهان به، حتى مع الأصدقاء. ظهرت عليهما تجاعيد العمر، في الداخل والخارج؛ تحركا في حجرتيهما بتأنٍّ وبطء، مثل أناس يخشون إسقاط أشيائهم.
لكن لم يكن كل شيء هادئًا حولهما. كانت هناك تغيرات لا يعلمان بها. كانت حياتهما هادئة جدًّا، منعزلة جدًّا، حتى أنهما لم يشعرا بالدمدمة الأولى تحت البركان. وحين أتى الانفجار، أثار دهشتهما.
بدأ بنزوات مجنونة أخرى للجنرال — تلاعب آخر بالعملة. لكن في هذه المرة لم يقنع الناس برؤية مدخرات حياتهم تتحول إلى أوراق بلا قيمة. ظهرت اعتراضات، هادئة ومترددة في البداية. ذات يوم، في الجامعة، نشبتْ مشاجرة في مطعم صغير — حدث صغير، يبدو تافهًا. لكن الفصول خلت فجأة، تدفق الطلاب إلى الشوارع؛ ظهر قادة وبسرعة مذهلة نشأت تنظيمات.
ذات يوم أُخِذتْ دو ثين ثين آي إلى اجتماع. ذهبت غير راغبة، يدفعها طلابها. بعد ذلك، ساعدتْ في كتابة بيان. حين أمسكت بالقلم، ارتجفتْ يدها — رأت نفسها في مكتب الرقيب مرة أخرى. لكن حين بدأت الكتابة، حدث شيء غريب. مع كل جملة رأت أوراقها المكورة تبعث إلى الحياة، ترتفع من الأرض وتضرب عصا الجولف، وتسقطها من يد الرائد.
بدأت تذهب إلى اجتماعات في كل أرجاء البلدة. حاولتْ حثَّ دينو على الذهاب، لكنه قاوم. وذات يوم انتشرتْ أخبار عن متحدثة جديدة: ستخطب في حشد كبير قرب شوي داجون — اسمها أُنْج سان سو كي، ابنةُ معرفةٍ قديمٍ من معارف دينو في الجامعة — الجنرال أُنْج سان.
كان دينو في الرابعة والسبعين؛ مع تقدم العمر يَبُسَتْ ساقه أكثر وكان يمشي بصعوبة، لكن كان للاسم الجديد تأثير منشط عليه. ذهب إلى الاجتماع وبعدها لم يستطع البقاء في البيت مرة أخرى. التقط صورًا؛ سافر بالكاميرا، جمع تسجيلًا تصويريًّا للحركة في أعنف الأيام وأبهجها.
في ٨ أغسطس ١٩٨٨م، استيقظ دينو مصابًا بحمَّى بسيطة. أعدَّتْ له دو ثين ثين آي وجبة وطلبت منه البقاء في السرير. كانت هناك مسيرة مهمة في المدينة في ذلك اليوم: غادرت المنزل في وقت مبكر من الصباح. بعد حوالي ثلاث ساعات أو أربع، سمع دينو وابلًا متكررًا من الطلقات النارية عن بعد. كان مريضًا بدرجة لا تسمح له بالخروج؛ استلقى في السرير وانتظر عودة زوجته إلى البيت. في وقت الأصيل سمع طَرْقًا على الباب. جرَّ نفسه من السرير وفتح الباب.
كان هناك ثلاثة أو أربعة من رجال البوليس في زيهم يقفون على السلم. وخلفهم عدد من الرجال يرتدون لنجيات وملابس بسيطة.
قال دينو: «نعم؟ ماذا تريدون؟»
اندفعوا خلفه بدون كلمة. وقف بلا حيلة وهم يتحركون في الشقة، يفتحون الدواليب والخزانات، قاذفين بمحتوياتها. ثم أشار رجل ممن يرتدون الملابس البسيطة إلى صورة لريموند في إطار. اجتمع الآخرون حوله، يتهامسون.
جاء أحد رجال البوليس إلى دينو وفي يده صورة في إطار. قال لدينو: «هل تعرف هذا الرجل؟»
أومأ دينو: «نعم.»
«هل تعرفه؟»
انتقى دينو كلماته بعناية: «أعرف اسمه.»
«هل تعرف أنه قائد العصيان؟ هل تعرف أنه أحد أكثر الإرهابيين المطلوبين في البلاد؟»
«لا.» كانت إجابة دينو ملتبسة.
«على أية حال — يجب أن تأتي معنا.»
قال دينو: «ليس الآن. لا أستطيع. أنا مريض وفي انتظار زوجتي.»
قال الرجل الذي يرتدي الزي: «لا تقلق بشأنها. أُخذَتْ بالفعل إلى مكان آمن.»
٤٧
في اليوم الأخير لجايا في رنجون، وعدها دينو باصطحابها إلى ٣٨ شارع الجامعة، لحضور لقاء عام في منزل أنج سان سو كي.
شهد عام ١٩٩٦م توقيف أنج سان سو كي في منزلها للمرة السادسة. ورغم حجزها، كان مجمع أنج سان سو كي لا يزال مركز الحياة السياسية في المدينة. تقيم لقاء في منزلها يومي السبت والأحد أسبوعيًّا: يقف الناس في الخارج وتخطب فيهم من البوابة. صارت هذه اللقاءات زيارات مقدسة. كان الصمت يخيم على رنجون في عصر نهاية الأسبوع ويتدفق آلاف إلى المدينة من كل أرجاء البلاد.
ذهب دينو إلى فندق جايا لاصطحابها. أخذهما أحد أصدقائه في سيارته — سكودا تشيكية موديل ١٩٥٤م. كانت السيارة تصدر صخبًا عاليًا يشبه السعال، يرتفع وهي تتسكع في الشارع. لاحظت جايا وهي تركب أن أبواب السيارة كلها مختلفة الألوان، وكلها مشوهة بشكل غريب، كأنها طُرِقت بهذا الشكل بمرزبة.
قالت: «سيارة غريبة جدًّا.»
كان لعادم محرك الأسكودا أثر في الشوارع وهم يبتعدون. كان مركز المدينة هادئا بصورة مخيفة تقريبًا، أكثر خلوًا مما رأته جايا في أي وقت من قبل. لكن وهم يسيرون شمالًا زادت حركة المرور: ظهرت سيارات وأتوبيسات وشاحنات صغيرة. وصلوا إلى شارع واسع مظلل بالأشجار وممتلئ بفيلات كبيرة. ركنوا على مسافة مناسبة وانضموا إلى مئات آخرين يسيرون في الشارع.
وصلوا إلى منزل بسياج أخضر وأصفر. كانت الجماهير غفيرة في الخارج. لم تظهر أشياء كثيرة داخل المجمع: كان المنزل بعيدًا عن الطريق، تحيط به أعمدة طويلة من البامبو، والبوابات معدنية برزات طويلة. اجتمع حولها حوالي عشرة آلاف، يجلس معظمهم في صبر على الحافة المعشبة التي تغطي الشارع من الجانبين. أخلى الطريق رجال البوليس والمتطوعون، وانسابت حركة المرور خلاله، إلى البوابات، بخطى بطيئة وثابتة.
كان المتطوعون يرتدون سترات زعفرانية ولنجيات خضراء: عرفت جايا أنهما لونا الحركة الديمقراطية. تعرف على دينو عدد كبير من المتطوعين. لوحوا له إلى موقع ممتاز قريب جدًّا من البوابات. كان المشهد رائعًا وقضت جايا وقتًا طويلًا تتطلع إلى الناس من حولها: كان بينهم كثير من الطلاب وعدد من الراهبات والرهبان البوذيين، لكن بدا أن معظمهم جماهير عادية. كان هناك عدد كبير من النساء، كثيرات منهن يصطحبن أطفالًا. كان جو ترقب لكنه خالٍ من التوتر؛ كان عدد كبير من باعة الأطعمة يشقون طريقهم بين الجماهير، يبيعون مشروبات ووجبات خفيفة.
وكز دينو كوع جايا وأشار إلى مصور وبضع رجال بنظارات شمسية بإطارات رفيعة. قال وهو يضحك ضحكة خافتة: «م.ع. مخابرات عسكرية. يصورون فيلمًا ويأخذونه إلى مركز القيادة. سيشاهده رؤساؤهم غدًا.»
لاحظت جايا وجود عدد كبير من الهنود ضمن الجماهير. علقت على ذلك لدينو وقالت: نعم، ثقْ أن هذه الحقيقة لا تفوت على النظام … كثيرًا ما تصف الأوراق الرسمية هذه الاجتماعات بأنها تجمعات للهنود الأشرار.» ضحك.
فجأة حدث صخب هائل. قال دينو: «هي. أنج سان سو كي.»
ظهرت امرأة نحيلة وجميلة. ظهر رأسها فقط فوق البوابة. شعرها أسود قاتمًا ملتفًّا عند العنق. تضع زهورًا بيضاء فوق شعرها. جمالها يفوق التصور.
لوحت أنج سان سو كي للجماهير وبدأت تتكلم. تحدثت بالبورمية وكانت جايا لا تفهم ما تقول. لكن الأداء كان يختلف تمامًا عن كل ما سمعته من قبل. كانت تضحك باستمرار وكان هناك سطوع كهربي في أسلوبها.
اعتقدت جايا أن الضحك كريزمتها. سمعتْ صدى ضحك أنج سان سو كي في كل مكان من حولها، في الجماهير. برغم ممثلي الاستخبارات المحتشدين، لم يكن الجو ثقيلًا أو مليئًا بالخوف. سادت روح طيبة وبدا الأمر متناقضًا تمامًا مع المدينة الميتة خلفها. فهمت جايا لماذا يضع عدد كبير من الناس آمالهم على أنج سام سو كي؛ عرفت أنها نفسها يمكن أن تفعل أي شيء يطلب منها في تلك اللحظة: من المستحيل أن تشاهد هذه المرأة ولا تعشقها.
كانا، هي ودينو، صامتين وهما عائدان إلى الأسكودا القديمة. ركباها، وحينها قال دينو: «غريب … عرفتُ أباها … عرفتُ آخرين كثيرين يعملون في السياسة … رجالًا كثيرين يعتبرون أبطالًا الآن … لكنها القائدة الوحيدة التي يمكن أن أؤمن بها.»
«لماذا؟»
«لأنها الوحيدة التي يبدو أنها تفهم حقيقة وضع السياسة … ماذا يمكن أن تكون … يجب مقاومة الفوضى والطغيان، ويجب أيضًا مقاومة السياسة نفسها … لا يمكن أن يُسمَح لها بالتهام الحياة كلها، الوجود كله. بالنسبة لي هذه هي الإهانة الأكثر رهبة في وضعنا — ليس فقط في بورما لكن في كثير من الأماكن الأخرى أيضًا … غزت السياسة كل شيء، لم تُبْقِ على شيء … الدين والفن والأسرة … تغلبت على كل شيء … لا مهرب منها … لكن ماذا يمكن أن يكون أكثر تفاهة في النهاية؟ تفهم هذا … وحدها … وهذا ما يجعلها أعظم بكثير من مجرد سياسية …»
قالت جايا بتردد: «لكن إذا كان ذلك صحيحًا، ألا يجعل ذلك نجاحها أصعب بكثير — كسياسية؟»
ضحك دينو: «لكنها نجحت بالفعل … ألا ترين؟ مزقت الأقنعة من على وجوه الجنرالات … أرتهم حدود ما تريد أن تفعله … وهذه الحدود تسجنهم أيضًا … تلازمهم بدون توقف، كل لحظة … جردتهم من الكلمات، من الخطاب. لا يستطيعون مقاومتها إلا بوصفها بالإمبريالية … وهو اتهام مضحك … لأنهم استعانوا بالقوانين الإمبريالية القديمة وتشريعاتها للحفاظ على السلطة في أيديهم. الحقيقة أنهم خسروا ويعرفون هذا … هذا ما يجعلهم يائسين إلى هذا الحد … معرفة أنهم بعد وقت قصير لن يجدوا مكانًا يختبئون فيه … مسألة وقت فقط ويكون عليهم الرد على كل ما فعلوا.»
٤٨
وصل دينو إلى فندق جايا لاصطحابها إلى المطار. في الطريق، وهما يسيران في المدينة في الأسكودا، قال دينو: «قضيْتِ هنا سبعة أيام ولم نذكر أبي أبدًا.»
قالت جايا بشعور بالذنب: «صحيح.»
قال دينو: «حدثيني عن أيامه الأخيرة. هل كنْتِ معه؟»
«نعم، أتذكر ذلك جيدًا. ماتتْ أوما عمة أمي قبله ببضعة أيام، ترى. كانا في التسعين تقريبًا …»
مات الاثنان في بضعة أسابيع. رحلت أوما أولًا: ماتتْ في نومها، وجدَها رَجْكومار. كان للخبر دوي: أقيمت لها جنازة رسمية حضرها المحافظ. وتراجعت العائلة إلى الخلفية في هدوء.
مات رَجْكومار من نوبة قلبية بعد شهر. جاءت جنازته متواضعة بقدر مهابة جنازة أوما. حمل بعض أصدقائه من المعبد البورمي جثته إلى المحرقة. وبعد ذلك أخذت جايا وبيلا رماده إلى النهر. وبعثرته جايا في المياه.
نظرت جايا إلى دينو ورأته يبكي، والدموع تجري في تجاعيد وجهه. مدَّتْ يدها إلى يده.
قالت: «سألْتَني عن أيامه الأخيرة، والحقيقة إن ما قلتُ لك يختلف تمامًا عما أتذكر.»
«ماذا تتذكرين؟»
«أتذكر حكاية حكاها لي ابني؟»
«ابنك؟ لم أعرف أن لك ابنًا.»
«نعم، عندي ابن. كبير. يعيش في أمريكا منذ بضع سنوات.»
«وما حكايته؟»
•••
كنتُ صغيرًا جدًّا، ربما في الرابعة أو الخامسة. كان لنكاسوكا بيتي أيضًا؛ كنتُ أعيش في الدور العلوي مع أمي وخالتها بيلا. ورَجْكومار يعيش في الدور الأرضي، في شقة أوما، في غرفة صغيرة بجوار المطبخ. في الصباح، حين أستيقظ، كان أول ما أفعله النزول لإلقاء نظرة عليه.
في ذلك الصباح ذهبتُ إلى غرفة رَجْكومار ولم أجده في سريره. انتابتني حالة ذعر. جريت في الشقة إلى غرفة نوم أوما لأخبرها بأن جد أمي ليس موجودًا.
مع أن رَجْكومار عاش في شقة أوما حوالي عشرين عامًا، لم يحدث أبدًا التباس بشأن نظام الحياة التي اتخذاها أو طبيعة العلاقة بينهما. فهم الجميع أن ارتباطهما نوع من الإحسان، مؤسس على مشاعر أوما تجاه دُلِّي. أوما محسنة خيِّرة؛ وهو لاجئ معدم تقريبًا. لم يكن وجوده في المنزل بحال من الأحوال يعرض سمعة أوما كامرأة مستقلة متجمدة، أرملة في حداد على زوجها لأكثر من نصف قرن.
عكست جغرافية شقة أوما العلاقة بينهما. كانت أوما تنام في غرفة نوم السادة، تطل على الحديقة؛ وكانت غرفة رَجْكومار مخزنًا في الأصل قرب المطبخ. لم يسمح له بدخول غرفة أوما إلا بعد الظهر وكان يجلس في المكان نفسه دائمًا — أريكة كبيرة عليها حشايا محشوة بالقطن. عاشا بهذا الشكل عشرين عامًا.
لكن في ذلك الصباح، حين جريت إلى غرفة أوما، وجدتُ، لدهشتي، رَجْكومار في سريرها. كانا نائمين بعمق، يتغطيان بملاءة رقيقة من القطن. ظهرا هادئين ومرهقين جدًّا، كأنهما يستريحان بعد جهد كبير. الرأسان ملقيان إلى الخلف على حافة مخدات مكومة والفمان مفتوحان. الوضع الذي نأخذه نحن الأطفال في الألعاب التي تتطلب تمثيل الموت: رأس محني للخلف، فم مفتوح، ولسان ناتئ بين الشفتين. حتى التبس على الأمر وظننت أنه طبيعي.
صحتُ: «هل أنتما ميتان؟»
استيقظا، ينظران بعدم تبصر. كانا ضعيفي البصر إلى حد بعيد وأدى ذلك إلى اضطراب من خبط السرير وقلب المخدات وهما يتحسسان نظارتيهما. وفي هذه العملية، انزلق الغطاء وتبين أنهما عاريان. بدت بشرة أوما رقيقة جدًّا مغطاة بزخرفة رقيقة لشقوق ضئيلة؛ كانت كل شعرة على جسم رَجْكومار قد انقلبت بيضاء، مما خلق تأثيرًا رائعًا بشكل غريب مع بشرته السوداء.
قلتُ بغباء: «لماذا، ثيابكما مخلوعة …»
عثرا على نظارتيهما وشدا الغطاء على جسميهما. أصدرت أوما صوت غرغرة مرتفعة، همهمة بركانية. كان فمها مجعَّدًا بشكل غريب، وعند النظر بدقة أكبر أدركتُ أنها هي ورَجْكومار بدون الأسنان.
فُتِنتُ بأطقم الأسنان، كحال كل الأطفال، وكنت أعرف أين تضع أوما طاقمها حين تخلعه في الليل: لتحافظ عليه من الكسر، كانت تضعه بعيدًا عن السرير، مغمورًا في مياه، في قدح زجاجي كبير.
في جهد للقيام بمساعدة، وصلتُ إلى القدح لأجنِّبهما الحرج والارتباك وهما ينهضان عاريين من السرير. لكن حين نظرت في القدح، اكتشفت أنه لا يوجد طاقم واحد بل طاقمان. والأكثر من ذلك أنهما متشابكان، حتى أن فكاهما تعشَّقا، ووصل كل منهما إلى أعماق فم الآخر، كان كل منهما يعض أسنان الأخر.
وفي مزيد من الجهد للقيام بمساعدة، حاولتُ فصل الطاقمين. لكن نفد صبر رَجْكومار وانتزع القدح مني. لم يكتشف أن طاقم أسنان أوما مشبوك في طاقمه إلا بعد أن وضعه في فمه. ثم، وهو يجلس هناك، محدِّقًا بارتباك بعين مدورة في الفكين القرنفليين اللذين يبرزان من فكيه، حدث شيء مذهل — مالت أوما إلى الأمام وأغلقت فمها على أسنانها. تشابك فماهما وأغلقا عيونهما.
لم أر أبدًا قبلة من قبل. في الهند، في تلك الأيام، كان يقص هذه الأشياء من مجال الرؤية رقباء غير مرئيين، في الحياة الواقعية كما في الأفلام. حتى وأنا لا أعرف أن هذا العناق له اسم، أدركتُ أن البقاء في الغرفة قد يكون انتهاكًا لشيء يتجاوز إدراكي. انسللتُ مبتعدًا.
ما رأيتُ ذلك الصباح في غرفة نوم خالة أمي يبقى إلى هذا اليوم الأكثر عاطفية والأكثر تحريكًا للمشاعر مما رأيت طوال حياتي، ومنذ اليوم الذي جلستُ أكتب فيه هذا الكتاب — الكتاب الذي لن تكتبه أمي أبدًا — عرفتُ أنه يجب أن ينتهي هنا.
المرشال باتين Marshal Pétain (١٨٥٦–١٩٥١م): عسكري وسياسي فرنسي قاد الحكومة الفرنسية الموالية للألمان (١٩٤٠–١٩٤٤م). اتهم بالخيانة وسجن عام ١٩٤٥م.
حلفت اليمين de jure، الفعلية de facto: بالفرنسية في الأصل.