أسلوب الفكر العلمي

نشوؤه وتطوره في مصر خلال نصف قرن

نشوء أساليب الفكر، سواء أكانت علمية أم أدبية، وتغير نزعات الفن، واختلاف السبل التي تنتحيها الآمال أو تتمشى فيها العواطف أو تثور من أجلها الانفعالات، كلها منازع لا تدل على شيء دلالتها على أنَّ للأمم حياة كامنة، تختفي وراء الظواهر الاجتماعية التي تقع آثارها تحت حِسِّنَا، على أننا إن مضينا في بحثنا هذا مؤمنين بأن لأساليب الفكر نشوءًا، وأنَّ لنزعات النفس مناهج تتغير وتتحول، وأنَّ للآمال التي تجيش في الصدور والعواطف والانفعالات التي تمتلئ بها المشاعر مناحٍ خاصة، ومنازع تتبدل ولا تثبت على حال، فإنما نمضي في ذلك مقتنعين كل الاقتناع بأن للأساليب الفكرية وما إليها من مظاهر الحياة الكامنة، أجل ينقضي كحياة الأفراد، وأنَّ نشوءها وتطورها خاضع جهد الخضوع لسنن الحياة، وإن كان من الصعب أن نعرف من حقيقة تلك السنين شيئا، أو نستبين من خوافيها أمرًا.

تتكون الحياة الكامنة في الأمم من مجموع تلك «الآمال الغامضة المبهمة التي تجيش في صدور الآلاف المؤلفة من أبناء آدم، وهم عاجزون عن إقناع شهوتنا أو التعبير عن حقيقتها، والسقطات والهزائم التي تمر في عالم الحياة من غير أن يعرفها أحد أو يهتم بها إنسان، والرغبات التي تعيش في صدور الناس ممتدة في سلسلة من التواصل والتتابع غير متناهية، أو تتشكل في صورة ما من صور حياتهم، والمحاولات التي يتشبث بها الناس ابتغاء الوصول إلى حل المشكلات العملية التي يمليها الطمع عليهم، أو تبعث بها الحاجة في النفوس، وتلك الساعات الطويلة التي ينفقها محبو العلم سدى، طمعًا في الوقوف على أسرار الطبيعة، جماع هذه المجهودات المخبوءة وراء أستار الحياة هي التي تكون ذلك الهيكل الذي نسميه «فكر الأمة»، ولا يطفو منه ظاهرًا على سطح الحياة إلا جزء ضئيل بارز في صورة من الأدب أو العلم أو الفن أو المنتجات المادية.»١
وإذن ففي مشاعر الناس وآمالهم وانفعالاتهم وعواطفهم، وفي أعماق تصوراتهم يجب عليك أن تتغلغل مسترشدًا بمصباح «ديوجنيس»؛٢ لتفتش في تلك الأغوار القصية عن ضالتك، إذا أردت أن تتكلم في أساليب الفكر أو تعبر عن شيء من أسرار الحياة الكامنة في تضاعيف الأمم، على أنك لا محالة عاجز عن أن تبلغ من التغلغل في صميم تلك الأغوار إلى نهاية تلمس فيها الحقيقة العلمية، أو تبلغ عندها إلى الأسباب التي تحرك الجماعات وتقسرها على أن تتبع في الحياة طريقًا ما.

من هنا نعلم علمًا حقًّا أنَّ الوقوع على نقطة ابتداء نبدأ منها سفرنا في تقصي الأسباب التي تغير من أساليب الفكر أمر بعيد مناله، إنْ نحن بحثنا وراءه في حياة الأمم الكامنة، لهذا يجب علينا أن نرجع إلى ظواهر الحياة الملموسة لنتخذ منها نقطة ابتداء نتقصى بها شيئًا عن المتجه الذي يتمشى فيه الفكر، وأن ندرس الأسباب الظاهرة التي حَدَتْ بالجموع البشرية إلى اتباع سبيل دون غيرها، أو الاستنامة لفكرة أو مذهب أو مبدأ دون أن نتصور يومًا أنَّ في مستطاعنا معرفة الأسباب الحقيقية المستترة وراء تلك الظواهر.

خصت بعض عصور التاريخ بقيام حركات فاصلة، وحوادث عظيمة امتصت كل القوى العاملة النشيطة، واندمجت فيها كل العناصر العقلية والتخيلية، حتى إنك لتجد أنَّ تلك الحركات قد مضت مستبدة بأمرها إما لتخضع كل القوى المنبعثة في عصر ما للعمل في سبيل إبراز غرض معين، أو تثبيت فكرة بذاتها، وإما أن تلفيها وقد جرفت أمامها كل شيء إلى جو من التنازع والجِلَاد، يوجه بكل ما فيه من مختلف الصور والقوى إلى تزكية الحادث الرئيسي الذي تلتف من حوله قوة الفكر والعناصر، والأمثال التي يرويها التاريخ كثيرة منها تلك القرون الطويلة التي يقص أخبارها تاريخ اليهودية، والعصور الأولى أينعت فيها الكنيسة النصرانية، والزمان الذي تقشعت فيه عن المدنية سلطة اللاهوت، وزمان الإصلاح البروتستانتي، وعهد الثورة الفرنسوية.٣

في مثل هذه العصور لا يعوزك البحث أن تعنت نفسك باحثًا وراء نقطة ابتداء ترتكز عليها، وتتخذها لبحثك أساسًا، في حين أنك تمر على قرون أخرى من الزمان مرًّا سراعًا، فلا تجد فيها من حادث يلتئم من حوله الفكر أو أشخاص يجذبون بقوة عقولهم، أو ثورة مشاعرهم، أو قوة انفعالاتهم، أو تأجج عواطفهم، عقول الناس حول فكرة أو مذهب أو مبدأ تتخذ منه نقطة ارتكاز ترتكز عليها، قد تعجز عن أن تجد نقطة ارتكاز ترتكز عليها في عصر برمته من عصور التاريخ.

وقد تعجز عن أن تقع على ذلك في تاريخ أمة، وقد تفوز بأمنيتك في تاريخ أمة أخرى، فهل تقع في تاريخ مصر الحديث، لا في تاريخها القريب منذ نصف قرن، بل منذ قرن ونيف من الزمان، منذ أن غزا نابليون أرض مصر إلى اليوم، على حادث التأم من حوله الفكر التئامًا يكفي لأن يغير من أساليب الفكرة العلمية أو الأدبية؟

لم يترك فتح نابليون من أثر بَيِّنٍ في تغير أساليب الفكر، فقد وطئت أقدام الجيش الفرنسوي أرض مصر وتركتها، وأهل مصر في فجوة من كهف الزمان، بل في أعمق فجواته، ما تحركت فيهم شاعرية، ولا انفجر فيهم انفعال، ولا اهتزت لهم مشاعر.

لا يعوزنا لإثبات هذه النظرية من دليل، فإن أكبر علماء الأزهر، كانوا إذ ذاك أكبر عون لنابليون على تحقيق مطامعه، ولم يهتز فيهم عرق ولا نبض لهم قلب.

السبب في كل هذا أنَّ الحياة الكامنة أو الفكر الكامن كان إذ ذاك مفكك الأوصال مشتت العناصر، ضعيف الأثر، فلم يلتئم حول فكرة معينة أو مبدأ بذاته فينوء بقوة التئامه على تلك العقبة التي تصده عن الانصراف في السبيل التي تخطها له الطبيعة.

كذلك لا نستطيع أن نتخذ من عصر محمد علي الكبير نقطة ارتكاز قد يقال فيها أنها السبب في تغير أسلوب الفكر في مصر، سيقت الجماعات المصرية سَوْقًا نحو غايات لم تعرف يومًا أنها مسوقة في سبيلها، ولم تشعر بما ينتظرها وراء تلك الغايات من المقاصد التي كانت تجول في رءوس زعمائها، تجد هذا جليًّا واضحًا، لا في غزوات الجيش وحده، بل في ميدان العلم والمعرفة، فإن ذلك العهد على كثرة ما أخرج من نوابغ المتعلمين الذين أوفدهم المصلح الكبير إلى أوروبا، لم يخرج واحد استطاع أن يجمع شيئًا مما بددته مظالم الحكومات السابقة من قوة الفكر الكامن في المجتمع المصري حول غاية ما.

فإذا تركنا الحوادث التي انتابت مصر في أواخر القرن التاسع عشر، ورجعنا إلى الأشخاص لم نقع في طول ذلك العهد على مصري واحد استطاع أن يحرك من كوامن الفكر، ويجمع شتاتها حول مذهب أو مبدأ ما، ولكنا نقع على رجل واحد خرج من جوف آسيا ليلعب على مسرح مصر دورًا نستطيع إذا ما تبينا طبيعته أن نقع فيه على نقطة ارتكاز نرتكز عليها، على أننا لا نمضي في ذلك البحث قانعين بأن ما أحدث ذلك الزعيم من أثر هو نقطة ارتكازنا، بل طبيعة نزعته في تمثيل القديم، الذي لا يزال قائمًا بيننا بكل ما أوتي من قوة التقليد وحكم العادة، هي التي نستطيع أن نتخذ منها نقطة ابتداء ننظر من ناحيتها في تغير أساليب الفكر العلمي في مصر، إن جاز لنا أن نقول بأن في مصر فكرًا علميًّا، وأنَّ له أسلوبًا تغير أو تبدل.

السيد جمال الدين الأفغاني هو ذلك الزعيم، وهو لا يمتاز على غيره من زعماء المتدينين بشيء إلا بأنه أراد أن يتخذ من قوة الدين سبيلًا للتأثير السياسي، والدعوة السياسية القائمة حول فكرة استقلال الشعوب الإسلامية، وإعداد العدة لمقاومة النفوذ الأوروبي في الشرق الإسلامي.

تعلم السيد جمال الدين الأفغاني منتحيًا الأساليب العلمية العتيقة التي عكف عليها العرب منذ القرون الوسطى، فهو بذلك صورة مصغرة أو مكبرة لعصر من العصور البائدة في تاريخ الفكر الإنساني، وهو بنزعته السياسية أشبه الأشياء في عصره بالهياكل الحفرية التي تعيش بيننا بجثمانها وإن رجعت بتاريخها إلى أبعد العصور إيغالًا من أحشاء الزمان، لهذا نرجع بأنظارنا إلمامًا إلى نزعات العرب العلمية التي مثلها السيد الأفغاني في القرن التاسع عشر، لنتخذ من ذلك سبيلًا إلى المقارنة والاستنتاج.

والسيد الأفغاني وريث العرب بحق في علومهم وفلسفتهم، وقف من الرقي الفكري حيث وقفوا، ووقف عند النظر الغيبي، فكان في كل ما دبجت يراعته أو تحرك به لسانه مثالًا حيًّا لما اختلط من مباحث آبائه، ولما تناثر خلال كتبهم من مختلف الأبحاث، وما تضمنت مجلداتهم من متنافر الوضع الذي اتصفت به تآليفهم، وحد النظر الغيبي الذي انتهى عنده العرب جدير بإبراز أمثال ما أبرزوا من كتب اختلط فيها العلم بالفن ليخرج من مجموعها فلسفة، هي عنوان على ما بلغ الفكر الإنساني من تهوش وانحلال في القرون الوسطى.

•••

إذا كان ناموس جاذبية الثقل أعظم استكشاف وصل إليه العقل البشري في عالم الكون والفساد، فإن قانون «الدرجات الثلاث» الذي كشف عنه الفيلسوف الكبير «أوغست كونت» لأكبر استكشاف وصل إليه العقل البشري في الطبيعة الإنسانية، وأنَّ متابعتنا لشرح هذا القانون لهي النواة التي تدور حولها أبحاثنا، لذلك نتابع الكلام فيه بإيجاز إتمامًا لفائدة البحث.

إنَّ درس الإدراك الإنساني من كل ناحياته، وخلال كل الأزمان، يدلنا على وجود قانون ضروري يخضع له العقل، نستبينه من حقائق النظام الاجتماعي، والتجاريب التاريخية الثابتة، فإن كل فكراتنا الأولية ومدركاتنا، وكل فرع من فروع معرفتنا، لا بد من أن يمر على التوالي بثلاث حالات مختلفة، الأولى اللاهوتية أو التصورية التخيلية، والثانية الميتافيزيقية الغيبية أو المجردة، والثالثة اليقينية الإثباتية أو الواقعة، هذا هو قانون الدرجات الثلاث. ويمكننا أن نحصر القول في هذا القانون بأن العقل الإنساني فيه بطبيعته كفاءة لأن ينتحي ثلاث طرق مختلفة للتأمل من حقائق الأشياء، وطبيعته في كل من تلك الطرق تختلف عن الأخرى تمام الاختلاف، بل إننا لا نبالغ إذا قلنا أنها تتضاد تمام التضاد، من هنا ينتج ثلاثة ضروب من الفلسفة أو بالأحرى ثلاثة أساليب للتفكير في اكتناء حقيقة الظواهر كل منها تتافي الأخرى، أما الأسلوب الأول فخطوة ضرورية يبدأ بها العقل في سبيل تفهم الحقائق أو البحث عن مصادرها، وأما الأسلوب الثالث فيمثل العقل في آخر حالات ارتكازه على الحقائق البارزة الملموسة، وليس الأسلوب الثاني إلا خطوة انتقالية تتوسط بين الأسلوبين.

أما العقل في الدرجة اللاهوتية فإنه يبحث في طبيعة الأشياء وحقائقها، وفي الأسباب الأولى والعلل الكاملة، يبحث في الأصل والماهية والقصد من كل الأشياء التي تقع تحت الحس، وعلى الجملة يبحث في «المعرفة المطلقة»، وهنالك يفرض أو يسلم بأن كل الظواهر الطبيعية ترجع إلى الفعل المباشر الصادر عن كائنات تختفي وراء الطبيعة المرئية.

أما في الدرجة الثانية؛ أي في الحالة الميتافيزيقية الغيبية، وهي ليست إلا صورة معدلة عن الدرجة الأولى، فإن العقل يستبدل فرض الكائنات السائدة على الطبيعة، بفرض قوات مجردة أو شخصيات محققة الوجود في نظره، في مستطاعها إحداث مختلف الظواهر، وليس ما يعني في هذه الدرجة من تفسير الظواهر إلا نسبة كل منها إلى مصدره الأول.

أما في الدرجة الأخيرة، وهي الدرجة اليقينية، فإن العقل يكون قد اطَّرَح طريقة البحث العقيم وراء الأسباب المجردة، وأصل الوجود الكوني ومنقلبه، والعلل الأخيرة التي تعود إليها الظواهر، وألقى بجهوده في سبيل معرفة السنن التي تحكمها، هنالك يتحد العقل والمشاهدة ليكونا أساس المعرفة، فإذا تكلمنا في هذه الحال في تفسير حقائق الكون، فلا نخرج عن إيجاد صلة بين ظاهرة من الظواهر، وبين مجموعة من الحقائق العامة التي يقل عددها تدرجًا بحسب تقدم العلم اليقيني.

•••

فإذا نظرت بعد هذا التحليل في ما أبرز العرب من صور الفكر، من علم أو أدب أو فلسفة أو فن، وجدت أنَّ فيها من آثار التخلخل والتشعب ما هو جدير بأن يبرز في عصر عكف فيه الفكر على طريقة الشك الغيبي لم يَعْدُهَا إلى طريقة التحليل والنقد، ذاعت بينهم مذاهب فلسفية نقلها المترجمون، وجُلُّهم من النساطرة واليهود ووثنيي حران عن اليونانية، ولكنك لا تجد عندهم مدارس فلسفية ينسب إليهم ابتكارها، فليس لهم مدرسة تعزى إلى الفارابي أو ابن رشد أو ابن سينا مثلًا، بل إنَّ ابن رشد على الأخص لم تصبح له مدرسة تعتنق مذهبه الفلسفي الذي ذهب إليه في تفسير أرسطوطاليس، وتشيد بذكره وتذود عن حياضه، إلا بعد أن انتقلت كتبه إلى جامعات أوروبا في القرون الوسطى، فالمذهب الفلسفي ظل رأيًا فرديًّا عند العرب، وانقلب مدرسة فلسفية في أوروبا عند بدء نهضتها العلمية، بل إن شئت فقل عند بدء عكوفها على الأسلوب اليقيني، ذلك فرق جَلِيٌّ بين درجتين معينتين يمر بهما العقل الإنساني، الدرجة الغيبية والدرجة اليقينية.

وقد يخطئ بعض الناس إذ يقولون: إنَّ للسُّنِّيِّينَ أو للأشاعرة أو المعتزلين مدارس فلسفية، فإن جماع هذه وما يجري مجراها مذاهب لاهوتية استعانت بالفلسفة وببعض ضروبها دون بعض على بث أفكارها، وقد يصح أن يكون من أفرادها من غلب عليه النظر الفلسفي، فواصل بين عطاء مثلًا قد نعتبره مجددًا من جهة ما يدعو إليه من حرية الرأي واتباع ما يرشد إليه العقل في النظر العلمي والفلسفي والديني.

ولكن مدرسة المعتزلين، إن صح أن تدعى مدرسة بحق، ترجع في أصلها ونشأتها إلى النظر الديني المشوب بالفلسفة، أكثر من رجوعها إلى الفلسفة الصرفة، وكذلك الباطنيون «المتصوفة» فقد نقول: إنهم فلاسفة يقولون بوحدة الوجود، كما كان يقول الذين أخذوا عنهم من الفرس وأساتذتهم أصحاب الأفلاطونية الجديدة في مدرسة الإسكندرية، ولكن لم يكن لأحدهم مدرسة تنسب إليه ذاع رأيها وكان لها أثر في تطور الفكرة الفلسفية في المجردات خلال عصر من العصور.

وأنت لو نظرت نظرة أخرى في المؤلفات العلمية الصرفة عند العرب لوجدتها قليلة، اللهم إلا بعضًا منها في الطب والكيمياء وخصائص النبات، وهي مؤلفات وُسِمَتْ بطابع لا تراه يختلف كثيرًا عن الطابع الذي وُسِمَتْ به مؤلفاتهم في فروع المعرفة التي كانت ذائعة في عهدهم، كذلك إذ نظرت فيما كتبوا في النبات أو الحيوان، تجد أنَّ المؤلف إن تحرر من الخلط بين فروع من التاريخ والأدب، لم يَتَخَطَّ حَدَّ الوصف، فمن الكلام في صفات النبات أو الحيوان إلى نفعه في العلاج، وهنالك بعض مؤلفين أرادوا أن يوسعوا من دائرة تآليفهم فتناولوا الكلام في خصائص النباتات السحرية أو الطلسمات ونفعها في التمائم وتفسير الغيب، بل تراهم في حين آخر قد مزجوا بين الفلسفة والفن فوضعوا الموسيقى في الفلسفة اعتمادًا في الغالب على كلمة نقلت إليهم عن فيثاغورس لدى قوله: «العالم عدد، العالم موسيقى.»

هذه العقلية بذاتها هي التي ورثها السيد الأفغاني عن العرب، عقلية وقفت عند حد الأسلوب الغيبي لم تَتَعَدَّهْ، وتنكبت كل سبيل كان من الممكن أن يسلم بها إلى الأسلوب اليقيني، ولقد كان من السهل الهين أنَّ السيد الأفغاني يجمع ما تبدد من قوى الفكر حول ذلك الأسلوب، كما كان من المتعذر عليه، وأن يجمع قوة الفكر حول مبدأ جديد في العلم أو الفلسفة تلتئم من حوله شعب المجتمع المبددة لتدفع بقوتها نحو غاية أبعد مدى مما انتهت إليه أفكار آبائهم. لهذا نقول، ونقول بِحَقٍّ: إنَّ ما استجمع السيد الأفغاني من عناصر الفكر القديم القائم على الأسلوب الغيبي قد ناء بجماعه على تلك النواة الحية التي كانت تتجمع حول الأسلوب اليقيني في أفكار الأمة فلم تقوَ على محوها، ولكن عاقت خطاها ولا تزال تعوقها عن الانبعاث في سبيل الحرية الصحيحة.

فأثر السيد الأفغاني في حياة الفكر في مصر، وإن شئت فقل في الشرق أثر سلبي صرف، لا يذكر في تاريخ الفكر إلا كأداة رجعية تلقت الجماعات قوة صدمتها بأسلوب حديث، هو الأسلوب اليقيني والنزعة الإثباتية، تتنكت بهما سبيل الغيب، لتتبع سبيل الشهادة.

على أنَّ قوة ذلك الأسلوب الرجعي لا تزال قائمة بفئوسها ومعاولها، ولكنها تهدم ما تحت قدمها، وتقطع بمعولها الجذع الذي ترتكز عليه قدماها، لتنهار في النهاية وتذهب بددًا، فالمدرسة القديمة القائمة بين ظهرانينا تتبع سبيل النظر الغيبي، بل غالبًا ما ترجع سعيًا إلى النظر اللاهوتي، ذلك في حين أنَّ المدرسة الجديدة أخذت تبني على النظر اليقيني أساس نهضة كبرى، سوف نرى عما قليل بوادرها تنجلي لأعيننا ظاهرة من وراء حجب الغيب الكثيفة.

•••

طالما سمعنا من الذين لا يقوون على إنعام النظر طويلًا في مقدمات الأشياء ونتائجها، أنَّ الثورة العربية بدء نهضة فكرية حديثة، وأنَّ ثورة ١٩١٩ قد تعدت حد البدء بنهضة لتكون خاتمة تطور عظيم في الأفكار، لا في ميدان السياسة وحده، بل في عالم العلم وميدان الاقتصاد، على أننا لا نسوق بأنفسنا مع الذين يسوقون بأنفسهم في هذه المغامر الوعرة المتعسرة، حذر أن تغوص بنا أقدامنا في رمالها اللينة التي تبتلعنا غير شاعرين بليونتها ونعومة ملمسها، فإنَّ مواجهة الحقائق على خشونتها لأقوم طريقًا، وأهدى سبيلًا. إنَّ نظرة واحدة في الثورة العرابية كافية لأن تثبت لنا أنَّ هذه الثورة كثورة ١٩١٩، لم تمس من الحياة الكامنة في الأمة شيئًا، وأنها لم تتناول إلا ظاهر الحياة بآثار سريعة الزوال، كتلك الآثار التي تخطها يد الصبية فوق الرمال على شاطئ البحر، يكفي للذهاب بآثارها مد موجة واحد من موجاته.

لم تتناول الثورتان شيئًا من تلك القواعد التي ترتكز عليها الحياة الكامنة في أغوار عقلية الجماعات، فإن اتجاه الفكرة في الثورة العرابية نحو المساواة بين ضباط الجيش، واندلاع لهيب التحطيم والهياج في الثورة الأخيرة فجأة ولا سابقة، لظاهرتان تكفيان وحدهما لإثبات ما نذهب إليه.

قامت الثورة الفرنسوية على دعاية الإنسيكلوبيذيين، ديدرو وأصحابه، لامتر وهولباخ وهلفتيوس، وعلى عقد روسو الاجتماعي، وعلى آداب فولتير الوضاحة، بل على مجهود سلسلة من العظماء تعهدوا الفكر الكامن في طبقات الأمة المنتقاة منذ عهد ديكارت بتلك الفكرات الثابتة التي يذهب أثرها إلى أبعد غور من أغوار الحياة الخفية في نفس الأفراد والجماعات، فأخذت عناصر الثورة تتكون في الفترة ما بين ١٥٩٦ إلى سنة ١٨٧٩؛ أي منذ أن تنفس ديكارت نسيم هذه الحياة إلى اليوم الذي خرج فيه أهل باريس يصيحون: إلى السلاح، إلى السلاح.

استجمعت عناصر الثورة الفرنسوية في قرنين من الزمان دأبت فيها الجامعات على بث المذاهب العلمية والفلسفية، وقام بها فحول من الرجال أعطوا الجماهير أرقى المثل، كما تتحكم في رقاب الشعب المستنيم لحكم الفرد، مستبدون تعهدوه بأقسى المثلات.

وما أنت في كل ذلك، إن أردت أن تضع تاريخًا صحيحًا، بناظر إلى عدد المتعلمين، فمن الجائز أن يكون في مصر اليوم من المتعلمين عدد يربى على عدد المتعلمين في فرنسا عندما قامت بثورتها، أو على عددهم في إنجلترا عندما انتزع زعماء الشعب وثيقة «الماغنا كارتا» من يد الطاغية المستبد، فإن المسألة هنا مسألة «كَيْفٍ لا مسألة كَمٍّ»، انظر في القواعد التي قامت عليها ثورة فرنسا، ثم انظر في القواعد التي قامت عليها أية حركة من الحركات العنيفة في مصر، فإنك هنالك تستبين الفرق جليًّا، بين حركة أساسها نهضة أدبية فكرية تكون عناصرها، وبين حركة قائمة على لا شيء، على أنَّ الحركتين قد تتفقان من حيث نبالة القصد وسمو المبدأ، ولكننا نقيس هنا بين الآثار التي تخلفها كلتيهما لا بين الأسباب الباعثة عليهما.

•••

لقد مضينا حتى الآن نفتش في جنبات التاريخ المصري الحديث على حادث يلتئم من حوله الفكر لنتخذه نقطة ابتداء نبدأ منها، ويكون في ذاته سببًا في تغير أساليب الفكر في مصر، ولا ريبة في أننا أخفقنا فيما صبونا إليه حتى الآن.

على أنك أينما وليت وجهك في تاريخ مصر الحديث وقعت على آثار نهضة أدبية علمية تشربت الروح الحديثة في البحث، وسعت جادة في سبيل المكافأة بين قوة الذكاء الكامنة في حياة الشعب الفردية والاجتماعية، وبين حاجات العصر الحديث، فهل شبت هذه النهضة بلا بذر كالطفيليات؟ أم كان لها أساس من الجهد المشترك، ودعامة من جهود الأفراد؟

إن عجزنا عن أن نقع على حادث يلتئم من حوله في الفكر في ثمانية العقود الأولى من القرن التاسع عشر في مصر، وأضفنا لذلك معتقدنا في أنَّ الثورة المصرية في سنة ١٩١٩ لم تمس إلا ظاهر حياة الأمة لزمنا أن نسعى إلى البحث وراء السبب الحقيقي الذي قام عليه ما ندعوه «نهضة العلم والأدب»، كما يقول بعض الكتاب وإن كنا لا نجاريهم على صلاحية هذا الاستعمال إلا تجاوزًا.

أما إذا رجعنا إلى نهضة الصحف والمجلات العلمية والأدبية، فإنا نقع على عصر شبيه بالعصر الذي بدأت فيه نهضة إنجلترا الأدبية في أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر، فإن العصرين يتشابهان كثيرًا، على أننا لا نستطيع أن نمضي في هذه المقارنة، أو نخرج من صلب هذا المقال كتابًا، إلا أنَّ هذا لا يحول بيننا وبين القول بأن الفكر العلمي في مصر كان أكثر تأثرًا بالمجلات منه بالجرائد السياسية، فالمجلات لها الخطر الأكبر فيما نحس من تقدم ندعوه «نهضة العلم والأدب»، المجلات وحدها هي التي أخذت بيدنا وأفسحت أمامنا سبيل الخوض في عباب الأسلوب اليقيني الحديث، وهي التي قادت دفة الفكر في مصر، وهو يجتاز بحر الأسلوب الغيبي العميق لتتكيف «النهضة» على صورة بددت سحب الحياة القديمة بما فيها من ظلمات الفكر المجرد، لتكشف لنا عن شمس الأسلوب اليقيني الذي لم يصل إلينا من أشعتها إلا قدر ضئيل.

على أنك لا تقع في كل هذا على حادث يلتئم من حوله الفكر، غير أنني أتوقع، وعسى أن يكون ذلك قريبًا، أنَّ الخطوة التي خطوناها في سبيل الخروج من ظلمات الأسلوب الغيبي إلى وضح الأسلوب اليقيني، سوف تقودنا سعيًا إلى ميدان يتصادم فيه الأسلوبان تصادمًا يثير في جو الفكر عجاجة ينكشف غبارها عن الأسلوب الغيبي، وقد تحطمت جوانبه واندكت قوائمه، وتترك الأسلوب اليقيني قائمًا بهامة الجبار القوي الأصلاب مشرفًا على الشرق، وقد هب من رقاد القرون، ليسير في الدرب الذي مهدت سبله للأنام نواميس النشوء والارتقاء.٤

(١) أسلوب الفكر العلمي

نَقْدٌ وَعَتْبٌ٥

قرأت في مقتطف فبراير الماضي مقال «أسلوب الفكر العلمي»، فرأيت كاتبه الفاضل قد تعرض لأفراد وجماعات، فمَرَّ بالمرحوم السيد جمال الدين الأفغاني، وعلى ذكره تحدث عن العقلية العربية أو الفلسفة العربية، كما تحدث عن حركة مصر السياسية الأخيرة، ووردت خلال ذلك قضايا كثيرة يوجب الإنصاف التاريخي وحرمة الحقيقة النزيهة مناقشتها، وذلك ما أريد التعرض لبعضه في كلمتي هذه.

وضع الكاتب العرب في الدرجة الثانية من درجات — أوغست كونت — وهي التي وصفها بأنها لا تُعنى في تفسير الظواهر إلا بنسبة كل منها إلى مصدره الأول، وأنها لم تُلقِ بمجهودها في معرفة السنن التي تحكم العالم، ولم يَتَّحِدْ فيها العقل والمشاهدة ليكونا أساس المعرفة، وأخيرًا وصف عقليتهم بأنها «عقلية وقفت عند حد الأسلوب الغيبي لم تَتَعَدَّهُ، وتَنَكَّبَتْ كل سبيل كان من الممكن أن يصل بها إلى الأسلوب اليقيني»، وأنَّ تلك العقلية في جمال الدين الأفغاني قد ناءت بجماعها على نواة الأسلوب اليقيني التي كانت تجتمع في أفكار الأمة فلم تقو على محوها، ولكن عاقت خطاها ولا تزال تعوقها عن الانبعاث في سبيل الحرية الصحيحة، إلى آخر ما أراد الكاتب أن يهول.

ولكن هذه العقلية قد أورثها جمال الدين لتلميذه الأستاذ الإمام المرحوم، الذي كتب منذ حوالي ربع قرن عن حديث السنن الكونية ما كتب، حين تفضل بمناقشة صاحب كتاب فلسفة ابن رشد في دعوى كهذه، زعم فيها أنَّ العرب لا يقولون بالأسباب والمسببات تدينًا، ولا يزال ما كتبه في حكمته ومتانته خير صورة لأسلوب الفكر العلمي، ومثالًا لتلك العقلية التي نعتها الكاتب بما شاء، وهو في مناله يحسن صنعًا أن راجعه أو نظر فيه، هذه العقلية التي هذبها جمال الدين يعرف لها التاريخ مكانها بحق وستدين لها الأمة يوم تعترف نفسها جيدًا بسابغ الفضل على مختلف فروع نهضتها التي ينكرها الكاتب أيضًا.

وهلا تعطف فوضعهم في أول مرقاة الدرجة الثالثة وقدر شيئًا مما يشهد به المؤرخون المنصفون من الأجانب، أو ما يقرره أساتذة الجامعات الحديثة من أنَّ العرب هم واضعو قاعدة «جرب واحكم»، وأنه يرى هذه الشهادات فيما ترجم من كتب أمثال «سيديو» و«جوستاف لوبون»، وما نشر في الصحف والمجلات من هذا، وهلا يشفع للقوم عنده طب تجريبي، وفلك تحقيقي، وهندسة تطبيقية، وكيمياء عملية كانت الأساس لهذا العلم الحديث، ومشاهدات صحيحة وملاحظات عميقة في العلوم الطبيعية، وتصحيح لأخطاء يونانية، وغير هذا مما يسجله التاريخ ويعترف به أهل هذه العلوم؟

وهلا يقدر الكاتب أنَّ دارسي آثار هذا العقل العربي يشكون مر الشكوى من إمعان القوم في الأفكار وتقليب الفروض والمطالبة بالبرهان حتى ينتهي الأمر إلى بديهيته، ويرتكز على المشاهدة أو المسلمات العقلية، وأنَّ للقوم نظمًا للبحث أخرجتها عقلية ناضجة لم تكن تقول هكذا خلق الله، وهكذا جرى العمل، بل كانت تدفع بقوة وشدة إلى النظر والفكر والتدبر والبحث، ولا تزال قواعدهم فيه أسلم منطقية وأمتن مما نرى الآن ونسمع، ولا أزال أنصح للكاتب أن يقيس بها أحكامه لئلا يقدم على مثل هذا الاتهام المجرد والتهكم الشنيع والحكم القاسي دون برهان ولا شبهة، ولا يعتدل حتى يعرف للقوم شيئًا، ولا ينزل على رأي المنصفين فيهم.

وأنكر الكاتب أنَّ للعرب مدارس فلسفية، وأشار إلى أنه ذاعت بينهم مذاهب نقلها المترجمون وَجُلُّهم من النساطرة واليهود ووثنيي حران … إلخ، كأنه يرى في هذا منقصة ما، وكأن الحضارة كانت حضارة عربية الدم والجنس، وهذا ليس في شيء من الحق؛ لأنها حضارة الإسلام، نشأت في كنفه وعلى يد الأمم التي ألَّف بينها وأزال عنها فوارق العصبية، فتسابقت جهود أفرادها على اختلاف نِحَلهم وأجناسهم في سبيل العلم والمعرفة، على حين قُبرت العصبية العربية في القرن الثاني بقتل الأمين، وتقلص ظلُّها حين كان يمتد رواق هذه الحضارة الإسلامية العربية اللسان والمزاج، فلا شيء في نقل النساطرة والوثنيين واليهود، ولا وقت عند القراء للحديث في هذا، فلا نطيل الكلام عن هذه المدارس؛ لأن الكاتب قد اعترف أنَّ مدارس المعتزلة قد يصح أن تدعى مدارس بحق، إلا أنها ترجع في أصلها ونشأتها إلى النظر الديني المشوب بالفلسفة، كما قال عنها وعن مدارس الأشاعرة، وأنَّ جماع هذه المدارس وما يجري مجراها مذاهب لاهوتية استعانت بالفلسفة وببعض النظر الفلسفي دون بعض، فهل له — أصلحه الله — أن يقول ما هذا اللاهوت في الإسلام، وكم مجمعًا إسلاميًّا عقده القوم لتحرير مذهب أو بحث نظرية، وما الذي كان يتلقنه السلف الأول وهم أصدق الناس فهما للدين؟ وما الذي احتاج إليه الإسلام قرنًا ونصفًا قبل الفلسفة؟ ثم ما الذي استعان به بعد الفلسفة في سبيل تذليل عقبة من عقباته على نحو ما قد تكون المسيحية قد فعلت؟ إلا أنَّ حكم التاريخ وشهادة الزمن أنَّ الخوض في هذه الكلاميات لم يسبق الفلسفة، بل إنها أبحاث ترجع إلى الفلسفة الصرفة، التي لم يحتج إليها الدين، والكاتب يعيش في بلد إسلامي، ففي مكنته أن يعرف أنَّ ليس في قواعد الإسلام إلا شهادة أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأنَّ البدوي كان يتلقن هذه القواعد في جلسة قصيرة، وأنَّ الفلسفة بعد ذلك خلقت كل هذا، وخاضت حتى فيما نهى عنه، وذلك عمل مدارس القوم التي كانت فلسفية صرفة، شابها شيء من النظر الديني، لا مدارس دينية شابها النظر الفلسفي.

ويقودني حديث اللاهوت الذي ذكره الكاتب إلى عبارة أخرى وردت في مقاله إذ يقول: فالمدرسة القديمة قائمة بين ظهرانينا تتبع سبيل النظر الغيبي، بل غالب ما ترجع سعيًا إلى النظر اللاهوتي، ولعل هذا النظر اللاهوتي شيء مما نقله الكاتب عن «مرتز» في صدر مقاله إذ يقول: «والزمان الذي تقشعت فيه عن المدنية سلطة اللاهوت وزمان الإصلاح البروتستانتي»، فأقول للكاتب ومن رأيتهم من القوم يَنْحُون منحاه كثيرًا: إنَّ الإسلام شيء آخر غير ما تسمعونه عن الأوروبيين من أمر اللاهوت، إنَّ لديهم كنيسة وسلطة ورجالًا يربطون ويَحِلُّون، قد وقفوا في سبيل العقل يومًا ما وحرَّموا وحاكموا وعذبوا، على حين ليس لديكم من هذا، ولا يكاد يشبهه شيء، على حين أنْ لا رياسة في دينكم، ولا سلطة ولا حل ولا ربط ولا اعتراف ولا إحلال، على حين أنَّ هذا اللاهوت لفظ لا معنى له في الإسلام؛ لأن الإسلام إصلاح عملي حيوي لا يقدس شخصًا ولا يتقيد بشيء، ويحض على نظر ما في السموات والأرض، ويجعل استعمال العقل شكرًا لمنحه، وعلى حين يقول المرحوم الأستاذ الإمام، تلميذ جمال الدين صاحب العقلية إياها، أنَّ الكتاب الكريم لا يعرض لتقرير نظريات العلوم لئلا يقف في سبيل العقل ويحد قواه، مع أنه يستثيره ويستنهضه في تعميم إصلاحه، فلئن شكا القوم سلطة اللاهوت وَعَدَوُا الزمن الذي تقشعت فيه سلطته عن المدنية فاتحة عصر جديد، فلا تَشْكُوا منهم وأنتم الأصحاء، ولا تقفوا في مثل خطأ الأتراك الذين سمعوا حديث السلطتين فذهبوا يقيمون للإسلام بَابَا وخليفة صاحب سلطة روحية، وأرى هذا الخطأ يبدو في مظاهر مختلفة، ولكن هذه العجالة لا تتسع لها فإلى فرصة أخرى، وحسبنا هذا إلمامًا وإشارة إلى ما نريد.

وأخذ المؤلف على القوم قلة المؤلفات العلمية الصرفة، ولا أرجع به إلى نقل ولا تذكير بأن الإحصاء يظهر أنَّ ما ترجم الغرب في نهضته عن الشرق أكثر مما أخذ عنه الشرق إلى عهد قريب. لا أنقل شيئًا من هذا فهو في المجلات مذكورًا والكاتب يقدرها قدرها، ولا أذكره بما يبذل الغربيون من جهود ويرصدون من أموال لجمع هذا الشتات، ولكني أقول له: إنَّ من كتب القوم ما لم تقع عليه عيوننا ولا سمعت به آذاننا، وإنه يحسن بنا قبل النفي أن نتريث وأن نقدر أنه قد يكون في الدنيا ما لم يصل إليه علمنا، وأنَّ عَوَادِيَ الدهر قد سَطَتْ على أكثر ما بقي لنا، وأننا حتى الآن لا نعرف صورة ما عن الحياة العلمية لإسلامنا، وخير لنا أن نبني أولًا، وأن نتذكر أنَّ نهضة الغرب قامت على أساس متين عريض من إحياء القديم وبعثه، وهاهم أولاء رجال الغرب يتخصصون في دقائق الفروع بل في تَوَافِهِ الأمور، فحبذا لو كانت لنا بهم في بدء نهضتهم، وفي رقي مدنيتهم أسوة ما، فندرس فروع حضارتنا، ونَرُود مجاهل تاريخنا، ومبهمات آدابنا، ونستخرج دقائق ميراثنا، بدل أن نضع الحضارة العربية، وجهد أجيال، وعمل قرون في نقطة مداد نخط بها حكمًا عامًّا شاملًا، وعبارة مطلقة رهيبة، على حين تسمع بألم شكوى طلبتنا المصريين هنا من خجلهم أمام أساتذتهم — غير المستشرقين — في مختلف العلوم حين يسألونهم عن أشخاص وآراء لسلفهم لم يسمعوا بها لحظة ما، وحين يلفتهم أستاذ التشريح إلى اسم علمي يراه ليس عربيًّا، فيظهر بعد يسير من البحث أنه كذلك، وعلى حين يختار لهم أساتذتهم الأجانب مواضيع رسائلهم النهائية أبحاثًا عربية ويدلونهم على مراجعها في محفوظات لديهم أو على حين لا نعرف من تاريخنا إلا ما يجود به علينا باحثوهم ومستشرقوهم، فحبذا لو بنينا قبل أن نهدم في رفق؛ فلعل في الأنقاض ما قد يسلم لنا في بناء الجديد.

ورمى الكاتب القوم بأنهم يمزجون الفن بالعلم «حتى أنهم وضعوا الموسيقى في الفلسفة بناء على كلمة نقلت إليهم عن فيثاغورس»، وهكذا لم يتلطف في الوخز مع أنَّ الموسيقى علم وفن، وإنما كان فلاسفتهم يدرسون العلم، ولهم فيه نظريات لا تزال اليوم حديثة، ولصفي الدين عبد المؤمن البغدادي كتاب مخطوط — يوجد هنا في برلين — ليس إلا مناقشة نظريات علمية صرفة يعجب به الإخصائيون من الألمان وغيرهم، كما أنَّ لهم أبحاثًا نفسية في علاقة الأنغام بالألوان، وعلاقتها بالأراييح — الأزهار — وهو ما يعتبر بحثًا جديدًا شيقًا، ويدرسه في جامعة برلين أستاذ الموسيقى وعلم النفس البروفسور ڨون هورن بوستيل Von Horn Postil وللكندي الفيلسوف رسالة مخطوطة في الموسيقى — توجد أيضًا في برلين — تناول فيها الأبحاث الشيقة، وقد أعجب بها الأستاذ الألماني لاخمن واشترك مع الشاب المصري الفاضل الدكتور محمود الحفني الذي أتم دراسة الموسيقى ببرلين في إحياء هذه الرسالة وتفسيرها، ولا يزالان يعملان على إحياء غيرها من نفيس هذه الآثار. وأما فن الموسيقى أو الموسيقى العملية فقد دعوها صناعة الغناء، وذكر ابن خلدون في مقدمته فضل هذه الصناعة بين غيرها من الصنائع، فلم يكن فلاسفة العرب ملحنين ولا مغنين ولا أصحاب صنعة، كما لم يكن زرياب وإسحق ومعبد وشيعتهم فلاسفة. وما يرى كاتبنا الفاضل في أنَّ الأوروبيين قدوتنا وسادتنا يتابعون القوم في هذا الخلط، ويدرسون الموسيقى في قسم الفلسفة في جامعاتهم، كما هو الشأن هنا في برلين؛ إذ يدرس الطالب الموسيقى العلمية والفلسفة وعلمًا آخر يختاره، ويُعطى بعد ذلك لقب دكتور في الفلسفة، فلعل مشايعة السادة لقومنا في الخطأ تخفف من حدة الكاتب عليهم فلا يكونوا معتمدين على كلمة نقلت إليهم.

ملحق ثان: حول أسلوب الفكر العلمي٦

قرأت بكثير من الإمعان والعجب معًا ذلك المقال الذي نشره المقتطف في صدر باب المراسلة والمناظرة في العدد الماضي، والذي تناول فيه كاتبه نقد مقالي أسلوب الفكر العلمي، ولست أعلم إلى أي حد ذهب تأثير الفكرات التي أوردتها في ذلك المقال من نفسه، غير أنَّ الظاهر من أسطر مقاله أنَّ الأثر كان بالغًا، على أنه مهما كان يقيني فيما كتبت ثابتًا، ومهما كان اعتقادي في صحة ما أرى في أسلوب الفكر العلمي عند العرب راسخًا، فإني لا أتوقع مطلقًا أن أقنع به رجالًا عكفوا على أساليب المدرسة القديمة.

لقد وقف الفكر العربي عند حد النظر الغيبي الممسوس بشيء من الشك في حقيقة الأسباب التي كانت تعزى إليها الظاهرات، وكذلك في مقدرة الفكر الإنساني نفسه على معالجة مشكلات ما كان لنا أن نعيب عليهم أنهم عجزوا عن حلها، ولكن نقرر وبكثير من الاقتناع أنَّ طريقة نظرهم فيها لم تكن لتؤدي بهم إلى الوصول إلى حلها، أفينكر ناقدنا مثلًا أنَّ العرب قد بدءوا نظرهم العلمي والفلسفي من حيث نريد اليوم أن ننتهي؟ أينكر أنهم بدءوا بالنظر في الماهيات ابتغاء الوصول إلى غايات الفلسفة والعلم، وأنهم أغفلوا النظر في الظاهرات «الأعراض» وتعليلها لينتهوا منها إلى معرفة ما هي حقيقية الأشياء؟

نمضي قليلًا في المقارنة بين الأسلوب الغيبي الذي عكف عليه العرب أو المسلمون أو كما شئت فادعهم، والأسلوب اليقيني الذي وضعه باكون وجرت عليه الفلسفة في العصور الحديثة، خذ مثلًا موقف الأسلوبين إزاء الرياضيات؛ فإن العرب كانوا يعتقدون كما اعتقد غيبيو الحكماء، وعلى رأسهم أفلاطون أحد أساتذة العرب الأكرمين، أنَّ دراسة العدد ليس لها من فائدة عملية سوى رياضة العقل على البحث والاستبصار والوصول من طريق هذا البحث إلى معرفة حقائق الموجودات، وتجريد النفس من أدران المادة والتعالي بالفكر إلى ما بعدها، بل إنهم لم يجعلوا لدراسة علم الحساب أو الهندسة من فائدة عملية ما أو إحراز كسب مادي في ضرب من ضروب المعاملات كالتجارة أو الصناعة أو الحاجيات الأولية التي تحتاج إليها الجماعات في العمران، تلك الحاجيات التي لولاها لما كان لدراسة هذه العلوم من وزن يذكر في كل عصور التاريخ، أما لورد باكون فَعَيَّنَ لهذه العلوم قدْرها بما ينتج من المنافع المادية التي كان يعتقد الأقدميون أنها مرض الإنسانية العضال، وشأن العرب في الهندسة شأنهم في علم العدد، فقد قالوا مجاراة لأفلاطون أو لمن وصلت إليهم كتبه من تلاميذه أو المتخرجين في مذهبه: إنَّ المشتغلين بعلم الهندسة يجب ألا يتذرعوا بها لإحراز المنافع المادية وإلا نبا بهم القصد عن إصابة الغاية منها؛ لأن اشتغال العقل بالماديات يصرفه عن إدراك كنه الموجودات؛ أي ماهياتها أو التوصل إلى معرفة الحقيقة المحضة والخير المطلق، أما المحدثون أصحاب الأسلوب اليقيني فإنهم قالوا بأن الهندسة ليس لها من فائدة إلا بقدر ما تنتج من فائدة مادية في حياتنا العملية، ذلك في حين أنهم لم ينكروا تأثير العلوم الرياضية على الآداب وضروب المعقولات بتة، فوضعوا لآثارها حدودًا معينة، إذ قالوا بأن تأثير العلوم الرياضية من الوجهة المعنوية عرضي صرف، وكذلك نجد أنَّ الفرق بين الأسلوبين كبير لدى النظر في علم الفلك، فقد كان القدماء وعلى الأخص المسلمون يعتقدون أنَّ معرفة حركة الأجرام السماوية وكيفية هذه الحركة ليست بذات شأن كبير، ولم يحثوا على الاشتغال بالفلك لما ينجم عنه من المنافع كمعرفة الفصول والمواقيت؛ بل لما ينتج عنه من رياضة النفس على معرفة الحقائق المطلقة، أما الأسلوب الحديث فله في الفلك مآرب أخرى، مبناها المنفعة المادية المنحصرة في استكشاف المستحدثات.

كتب أرسطوطاليس في علم الحيوان وله مباحث عميقة في انقلابه الجنيني؛ وكتب العرب ومنهم الجاحظ في كتابه الحيوان، ومنهم الدميري في كتابه حياة الحيوان «والأكمة في كتابه التذكرة»، ومنهم القزويني في كتابه عجائب المخلوقات، فهل لناقدنا أن ينظر في هذه الكتب ويقارنها بكتاب أرسطوطاليس، وكان من الواجب ألا تغيب عنهم مفصلات ما كتب، ليحكم بعد ذلك علينا أو لنا؟ وليسائل نفسه: لماذا أصبح منطق أرسطوطاليس بين يدي العرب في المنزلة الأولى بعد القرآن، كما كان بين يدي اليعاقبة والنساطرة في المنزلة الأولى بعد التوراة والإنجيل؟ هل ينكر أنَّ السبب في هذا أنَّ المنطق — وعلى الأخص نواحيه الجدلية — أكبر مرض للعقل إذ يكب على الأسلوب الغيبي وأكبر عون لفلسفة الغيبيات في سبيل القضاء على الأسلوب اليقيني؟

أما قاعدة «جرب واحكم» فليس العرب أول من وضعها ولا الإسلاميون أول من اعتنقها؛ فإن أبيقورس وديمقريطس أول من علق عليها في تاريخ الفلسفة على ما بلغ إليه علمي، وليظهر لنا ناقدنا أي باحث من الإسلاميين في الفلك لم يخلط الفلك بالتنجيم وكشف الطوالع؟ وأي كيماوي منهم لم يعكف على تحويل المعادن إلى ذهب؟ وليبين لنا على أية قاعدة حاولوا أن يخرجوا بالعلوم التي ذاعت بينهم من حيز النظر إلى حيز التطبيق؟ فلعلنا على جهل بهذا، ولعله يزيدنا من لدنه علمًا.

ليس من الصعب أن يتفوه المرء أو يكتب كلمتي «جرب واحكم»، ولكن من الصعب أن يطبق هذه القاعدة، فلو أنَّ مجرد التفوه بشيء مرقاة إليه لأصبح الكلام ثمينًا ولأصبحت الكتب أغلى قيمة مما نرى، ولكان الأجدر بها أن تُكتز وأن تُشترى بأغلى الأثمان كما يقول تيوغينيس، ولكن الواقع نقيض ذلك، فإن «جرب واحكم» شيء عرفه العرب عن اليونان، ولكنهم مع الأسف لم يتخذوا هذه القاعدة أساسًا لأبحاثهم العلمية، وقد يكون هناك شواذ، غير أنَّ هذه الشواذ لا حكم لها، ولكني أستطيع أن أقول بكثير من التعيين أنْ لا شواذَّ أيضًا.

ألم يكتب الرازي في تحويل المعادن إلى ذهب أشياء لا يقبلها العقل ولا تجيزها التجربة؟ ألم يكتب جابر بن حيان كتاب البدوح في طلسمات تسهل على الوالدات الوضع إذا تعذر عليهن؟ وهما بعد أكبر من عرف العصر العربي من الكيماويين؟ وهل من شيء في هذا العالم هو أحوج إلى التجربة وإلى التخلص من موحيات الأسلوب الغيبي من علم الكيمياء؟ ولماذا أذهب بالناقد بعيدًا فما عليه إلا أن يقلب صفحات «تاريخ الحكماء»، وهو من الكتب المعتمد عليها في تاريخ الفلك عند العرب بتحقيق الأستاذ «نلليتو»، ليرينا أي فلكي ممن ذكرهم لم يأتِ في أول ترجمته أنه «الحاسب المنجم» حتى إذا ما رجعت إلى كتب «الحاسب المنجم» وقعت على أشياء هي أدنى إلى زجر الطير وضرب الحصى ونعيب الغربان وضرب السقاء، منها إلى أي شيء في عالم المعرفة الإنسانية.

والظاهر من كل ما كتب الناقد أنه أخطأ فهم ما نعني بالأسلوب العلمي اليقيني؛ فإنه ترفق في النقد، ولم تأخذه حدة؛ إذ توسل أن نجعل العرب في أول مراقي الدرجة الثالثة؛ أي الدرجة اليقينية من درجات «كونت»؛ ذلك لأن الأسلوب العلمي فكرة أو قاعدة يهتدي بها الإنسان إذ يمضي باحثًا وراء الحقائق، إنها ليست شخصًا ولا رمزًا ولا تمثالًا، بل هي طابع تطبع به المدنية، ونحلة ينتحلها الفكر، بحيث تصبح تلك النحلة عامةً شاملةً، فإذا فرض وظهر في العرب من جرب وحكم، أو إذا فرض وظهر فيهم من استكشف وقرر، فإنما ذلك عمل فردي ذاتي لا يدل على أنَّ ذلك كان للمدنية طابعًا، أو كان للفكر العام نحلة وديدنًا.

وبعد فلنرجع به إلى السيد الأفغاني، فإننا على ما نحمل له في قلوبنا من الاحترام، لا نُبَرِّؤُهُ من العكوف على الأسلوب الغيبي، وهل أتى ناقدنا ذكر رسالة الرد على الدهريين؟ هل أتاه ذكر النقد الذي وجه به إلى«داروين»، معلم القرن التاسع عشر، محاولًا أن ينقض مذهبه في النشوء، فلم يجد من قول يدفع به حقائق العلم إلا قوله أنَّ مذهب «داروين» يفضي بالبرغوث لأن يكون فيلًا وبالفيل لأن يكون برغوثًا؟ وإذا سألته لماذا؟ أجابك: لأن لكليهما خرطومًا! ولا أذكر له غير ذلك من تلك الرسالة على ما فيها من فاحش الخطأ وفاضح الخلط، تاركًا لناقدي الحرية الكاملة في أن يقدر إلى أية درجة من درجات قانون كونت يبلغ أسلوب الأفغاني في تقرير حقائق العلم.

أما الموسيقى فجائز أن تكون قد أصبحت علمًا أو فلسفة في العصر الحاضر، ولكنها لم تكن كذلك في زمان العرب، بل كانت مجرد فن لا غير، وهذا ليس ببعيد؛ فإن كثيرًا من العلوم الحديثة لم تكن منذ زمان قصير إلا نظريات أو مجرد فكرات ناحية الغيب فيها تربي على ناحية الشهادة.

ولست أعرف من أية طريق تبادر إلى ذهن الناقد أني أعيب على العرب أو على الإسلاميين نقل النساطرة واليهود ووثنيي حران لمذاهب الفلسفة من قبلهم، أليس هذا ما يرويه التاريخ؟ فلماذا يحمل كلامي على محمل النيل من العرب أو الإسلاميين إذا أنا قررت ما يرويه التاريخ؟ وكذلك هو يقول — أصلحه الله — «وما الذي احتاج إليه الإسلام قرنًا ونصفًا قبل الفلسفة» كأنه يعتقد خطأً أنَّ الفلسفة اليونانية لم تذع بين العرب إلا في العصر العباسي، وما أحيله على شيء يصلح به خطأه إلا أن يقرأ تاريخ انفصال اليعاقبة والنساطرة عن الكنيسة الرومانية، وشيئًا وجيزًا من اتصالهم بالشرق، وعلى الأخص بالعراق وسورية ومصر وفارس قبل ظهور الإسلام، ليعرف إن كان العرب قد عرفوا الفلسفة من العالم السرياني وهم بعد نصارى ويهود ووثنيين، أم إنهم لم يعرفوها إلا في العصر العباسي.

أما ذكر اللاهوت فالحق أني لم أقصد به سوى ما يعني من كلمة Theology ولا أظن أنَّ الناقد ينكر أنَّ المسلمين قد امتازوا بكثرة المذاهب الثيولوجية، وما ذلك عنه ببعيد، على أنَّ في رده لكثيرًا من البعد عما أقصد من اصطلاح اللاهوت، فإنه تساءل: كم مجمع اجتمع في الإسلام لتحرير مذهب أو بحث نظرية؟ كأنه يعتقد أنَّ فكرات اللاهوت لا تقوم إلا حيث تكون مجامع كمجمع نيقية أو إفسوس أو خلقيدونية، وأظن أنه كافٍ أن يتذكر أنَّ مسألة خلق القرآن وقدمه قد استنفدت من جهود المسلمين بقدر ما استنفدت طبيعة المسيح من الجهد عند النصارى، وأيُّ كبيرِ فَرْقٍ بين مجمع إفسوس وبين مجالس المأمون التي كان يعقدها للبحث في مسألة القرآن، وهل هو مخلوق أم قديم؟ وأي كبير فرق بين طرد النساطرة من الكنيسة وبين جَلْد الإمام أحمد بن حنبل وسجنه وإهانته إزاء استمساكه برأيه في قِدم القرآن؟ وبعدُ فليظهر لنا ما هو الاعتزال، وما هي القدرية، وما هي الجبرية، وما هي المرجئة، ومن هم الأشاعرة، ومن هم السنيون؟ وما هي بقية الفئات المعروفة؟ إن لم تكن فئات قامت لتقرير مذهب أو بحث نظرية.

وما أريد أن أذهب معه في البحث لأكثر من هذا، ولكن ذلك لا يحول دون أن أسأله: متى وفي أي عصر أزالت مدنية الإسلام عن الأمم الإسلامية فوارق العصبية؟ نترك كل شيء آخر لنسأله: هل أزالت مدنية الإسلام فوارق العصبية بين قبائل العرب في الأندلس، وهي لم تطأ إسبانيا إلا وهي على خلاف، ولم تفارقها إلا وهي أشد خلافًا في سبيل السيادة والملك انتصارًا للعصبية مما وطأتها؟ فإذا كانت الفوارق العصبية لم تزُل من بين العرب أنفسهم وهم بعدُ في غمرة من حروب الفرنجة، فكيف بنا نعتقد أنَّ فوارق العصبية قد زالت من بين الشعوب الإسلامية كما يدعي الناقد؟

ذلك ما رأيت أن أبعث به إلى ناقدي على صفحات المقتطف لعله لا يرمينا بعده بالتعصب للجديد لأنه جديد، ولا بالنيل من القديم لأنه قديم، ولكن هو الحق نسعى في سبيل الوصول إليه في هوادة وتريث، لا في ثورة واعتساف، والسلام.

العرب والبحث العلمي: ردٌّ٧

وَرَدَ على الخاطر مقالة في أسلوب الفكر في مصر، أنحى بها الفاضل أسماعيل بك مظهر على أسلوب العرب فيما كتبوه، وسماه أسلوبًا غيبيًّا على الإطلاق، وعلى العكس من ذلك فقد بت في أنَّ اليونان الأقدمين هم أرباب الأسلوب اليقيني وناشرو لوائه لبعض أقوال لهم في الاستقصاء والتجربة وتحكيم العقل.

وكنت أود ألا يغرب عن بال الفاضل حينما كتب مقالاته أنَّ كل شيء في هذا الكون نسبي كما يقولون، وأنَّ إرسال أحكام كهذه مطلقة لا يخلو من الشطط دائمًا؛ مثاله أنَّ لديَّ من «خلط» علماء يونان في كثير من العلوم ما يملأ مجلدًا ضخمًا، وعلى العكس لديَّ أقوال كثيرة لعلماء أوروبيين عظام يثبتون بها أنَّ كذا وكذا من مؤلفات العرب فيها ما يدهش من الأفكار العلمية المبنية على استقراء وتجارب مجردة عن كل وهْم سابق، فهل يجب أن نستنتج من ذلك قاعدة مطلقة تكون معاكسة لما قرره الكاتب المحترم في مقالاته؟ أو هل يجب أن نجاري بعض العلماء الأوروبيين فنحكم على كل من تقدمنا ونقول أنَّ الأسلوب اليقيني لم ينشأ إلا البارحة؟ لست أرى هذا ولا ذاك؛ أي لست ممن يرتئون وضع قواعد مطلقة في أمور كهذه، فاليونان ساروا في بعض أبحاثهم العلمية على الأسلوب اليقيني وحادوا عنه في بعض آخر.

وكذا أجدادنا العرب، وقد يكون اليونانيون أقرب إلى الأسلوب اليقيني من العرب إجمالًا، ولم يتفرد العرب أو الإسلام باتباع الأسلوب الغيبي، فلا غضاضة إذن عليهم، بل على العكس كانت علومهم المستمدة من علوم اليونان والفرس والهنود منارًا ينير باقي الأقوام في هاتيك العصور المظلمة مهما كان فيها من الحشو الذي لا تقره عقولنا اليوم، أقول: عقولنا اليوم وأنا على يقين من أنه سيأتي حين من الدهر يرى أبناء المستقبل فيه أننا نسير الآن على غير هدى في كثير من تجاربنا العلمية، وأننا نخبط خبط عشواء في قواعد مادية أوصلنا إليها الاستقراء العلمي المحض، وسببه التباس كثير من الغوامض علينا مما سيتبين في المستقبل القريب أو البعيد.

أتذكَّر أنني عندما كنت أدرس في أوروبا ضحكت بضع مرات مع معلمي من أنفسنا على أثر إخفاقنا في تجارب كنا نجربها في النبات والحشرات، ولكم ظن العلماء أنَّ أسلوبهم في تجاربهم العلمية سيوصلهم إلى الغاية بلا ريب فأخفقوا وتخبطوا تخبطًا ضحكوا منه هم أنفسهم أو ضحك غيرهم منه فيما بعد، ولا يجوز برأيي الحكم على العرب وحدهم بأنهم أصحاب أسلوب غيبي حكمًا مطلقًا مهما كان في كتبهم من الأمور التي هي أقرب إلى الشعوذة والتنجيم منها إلى الحقائق الراهنة، فالعرب وهم تلامذة اليونانيين قام فيهم عدد غير قليل ممن اتبعوا الأسلوب اليقيني فأثبتوا حقائق ستظل فخرًا لهم إلى الأبد، وخلاصة الرأي أنه يجب أن نقول بأن العرب كانوا كاليونانيين والرومانيين يتبعون الأسلوب الغيبي في بعض أبحاثهم، واليقيني في بعض آخر، ومن البديهي أننا لا نعني الفلسفة وحدها بل جميع العلوم والفنون التي كانت معروفة.

وإما أن نحكم على الأقوام الغابرة جميعًا حكمًا صارمًا فنقول: إنهم أصحاب أسلوب غيبي على الإطلاق، وإنَّ الأسلوب اليقيني لم يوجد إلا في عهد إسحق نيوتن وده كارت أو أقرب من ذلك؛ أي في عهد أوغست كونت، وفي الحالة الثانية يشمل الحكم اليونانيين بلا ريب، أما إذا خصصنا العرب بالحكم دون اليونانيين والأقوام القديمة فلا يفسر ذلك إلا بأن الشعوبية شر بلوى أصابت العرب منذ سادوا إلى اليوم.

حول أسلوب الفكر العلمي٨

سيدي الأستاذ محرر المقتطف

قرأت للأستاذ الشهابي نبذة قصيرة في باب المراسلة والمناظرة أدلى فيها برأي في أسلوب الفكر العلمي قال فيه بأنه كان من الواجب عليَّ أن أذكر أنَّ كل شيء في العالم نسبي، وأحب لو أني لاحظت هذه الحقيقة قبل أن أحكم حكمًا مطلقًا في مسألة نسبية، ولست أدري كيف تكون مسألة نسبية تلك التي تتناول الحكم في طابع من المدنية صبغ به عصر من عصور التاريخ؟ فإذا قلنا مثلًا بأن العصر الحديث هو عصر الإنتاج الميكانيكي، فهل يدل ذلك على أنه عصر عدم كل أنواع الإنتاج حتى الإنتاج العقلي؟ كلا بل معناه أنَّ طابع المدنية الحديثة هو الإنتاج الميكانيكي، أليس ذلك حكمًا مطلقًا؟ أليس هو حكمًا صحيحًا؟ وإذا قلنا بأن أسلوب العرب العلمي قد طبع بطابع الغيب، فليس معنى هذا أنهم عدموا كل قوة على اتباع أسلوب الشهادة، ولكن معناه أنَّ الأسلوب الغيبي شاع حينئذ، فأصبح للعرب طابعًا.

على أنَّ لنا على هذا الرأي برهانًا آخر، وهو برهان تاريخي، فإن الثابت أنَّ وراثة العرب العلمية قد انتقلت إليهم من طريق مدرسة الإسكندرية أكثر من انتقالها إليهم من أي طريق آخر، لا في الفلسفة وحدها، بل في الطب والكيمياء، وعنها أخذ العرب تلك الأساليب الغيبية التي خلطت بين الطب والفلك، وبين الفلك والكيمياء، فهم في الواقع ورثة فورفويوس الصوري في المنطق، وأخلاف ابن ناعمة في الإلهيات، أو بالأحرى خلفاء أفلوطين الإسكندري الذي ترجم عنه ابن ناعمة كتاب الإيثولوجيا، وتلاميذ الإسكندر الأفروديسي في الفلسفة وفي القول بحياة الأفلاك السماوية، والعقل الفاعل والعقل المنفعل، إلى غير ذلك من الأشياء المبهمة الغامضة التي لا مبعث لها إلا قوة التصور وحدها، ولا منبت لها إلا الأسلوب الغيبي.

ثم نعود بعد ذلك إلى اليونان، وأظن أنَّ الأستاذ لا ينكر أنَّ كل كتَّاب العصر الحديث منهم الأعلام جومبرتز ووندلبند وماهافي وجلبرت موري وأردمان وزيللر وهوفدنج قد أجمعوا على أنَّ الشعب اليوناني القديم أقدر شعب حملته الأرض وأظلته السماء من حيث القدرة على التفكير العلمي وعلى الحليل والنقد.

وأظن أنه لا ينكر أنه ما من علم حديث إلا ونجد له بداياته مطوية في ثنايا ما خلف الشعب اليوناني من آثار، فإذا كان أساتذة العصر الحديث قد اعترفوا بما كان للشعب اليوناني من تفوق على شعوب الأرض من بدء الخليقة إلى اليوم، فهل يعد ذنبًا وجريمةً أن عددت العرب مع الشعوب التي تفوق عليها اليونان من حيث الكفاءة العقلية، بما فيهم الألمان والأنجلوسكسون والشعوب اللاتينية في العصر الحاضر، والمصريون والكلدانيون والهنود وغيرهم في العصور الغابرة؟

وبعد فلست في مقام أنصر فيه العجم على العرب ولا علماء الغرب على علماء الشرق لأكون في نظر الأستاذ من الناصرين لمبدأ الشعوبية.

على أني لم أفز حتى اليوم ببرهان أو دليل يقنعني بأن رأيي الذي رأيت في أسلوب الفكر العلمي غير صحيح، وأني على الرغم من كل ما قيل لا أزال أعتقد حتى اليوم أنَّ أسلوب البادية في العلم والفلسفة كان أسلوبًا غيبيًّا صرفًا.

العرب والأسلوب العلمي: رد٩

سيدي الفاضل رئيس تحرير المقتطف حفظه الله

قرأت ما كتبه الأستاذ الفاضل إسماعيل مظهر في جزء ديسمبر ١٩٢٦ من المقتطف الأغر ردًّا على ما ذكرته في الجزء السابق حول أسلوب الفكر العلمي عند العرب.

للأستاذ أن يطنب بالشعب اليوناني القديم ما يشاء؛ فهذا الشعب حري بذلك، وله أيضًا أن يفضله مع من ذكر من الكتاب وغيرهم على كل الشعوب الحاضرة من حيث القدرة على تحليل الحادثات الكونية ونقدها وعلى التفكير العلمي، فأنا لا أريد أن أجادله في رأيه ما دام هذا الرأي لا يتعلق بالعرب وحدهم، لكنني آخذ على الكاتب قوله: «وإني على الرغم من كل ما قيل لا أزال أعتقد حتى اليوم أنَّ أسلوب أبناء البادية في العلم والفلسفة كان أسلوبًا غيبيًّا صرفًا»، فهذه الجملة تحتاج إلى إيضاح، ومعناه يجب أن نتساءل؛ أولًا: هل العرب أصحاب أسلوب غيبي كان لهم طابعًا أم لا؟ ثانيًا: إذا حكمنا بأن أساليبهم العلمية كان الغيب طابعها فهل انفردوا وحدهم بهذا الطابع أم شاركتهم فيه الشعوب الأخرى التي عاصرتهم أو درجت قبلهم؟

أجمع الفلاسفة منذ أيام أوغست كونت إلى اليوم على أنَّ الفلسفة والعلوم المعروفة لم تتجرد من الأساليب الغيبية إلا منذ عهد باكون وده كارت في الفلسفة، وكبلر وغاليليو في العلوم، فجميع الأقوام سواء في تعليل حوادث الكون؛ أي بجعلها خاضعة لإرادة الأصنام أولًا فالآلهة فالإله الأحد، فالعلل الكامنة بها المنفردة عنها، على التتابع، إلى أن عدل العقل البشري أخيرًا عن كل ذلك وانصرف عن البحث في أصل الكائنات وغايتها ومدبرها إلى النظر في النواميس الطبيعية التي تسير حوادث الكون بموجبها، ومنذ ذلك الحين أخذت العلوم تتسع وتتقدم.

فقد ذكر أصحاب الفلسفة اليقينية، وخصوصًا أوغست كونت في غير موضع من مجلداته الستة، أنَّ اليونانيين لم يتبعوا أسلوبًا يقينيًّا محضًا إلا في الرياضيات ومن أعظم رجالهم فيها أرخميدس وإقليدس، ثم في فلسفة أرسطو.

أما باقي الفلاسفة والعلماء اليونانيين الذين بحثوا في الفلسفة والنبات والحيوان والزراعة والطب وغيرها، فقد كان يغلب الأسلوب الغيبي على أبحاثهم، وأما باقي الشعوب التي لها مدنية تذكر في التاريخ القديم وتاريخ القرون الوسطى فمعظم أبحاثهم العلمية والفلسفية هي غيبية، بحيث إنه إذا أريد عدم البحث في النسبية، وأريد الحكم في الطابع الذي طبعت به أيام هذه الشعوب فلا يمكن نعته بسوى أنه غيبي.

يتضح من ذلك أنَّ ما ذكرته في عدد المقتطف الأسبق حول هذا الموضوع لم يتغير، ومفاده أنه إذا أريد اتخاذ قاعدة مطلقة عن الأسلوب العلمي الذي كان أكثر انتشارًا في الشعوب القديمة فالغيب طابع الجميع بلا استثناء لا طابع العرب وحدهم.

وبعد فأنا على اتفاق مع إسماعيل مظهر إذا سلم بهذا الرأي؛ أي بأن العرب لم يتفردوا بكونهم كانوا ذوي أسلوب علمي طبع بطابع الغيب، بل إن كل الشعوب المتمدنة التي عاشت قبلهم ومعهم يجب وَسْمُهَا بهذا الطابع، وأنَّ الأسلوب اليقيني لم ترجح كفته حتى صار طابعًا للعلوم إلا في المدنية الأوروبية الحديثة، أما إذا أصر الأستاذ على رأيه في إفراد العرب بهذا الأسلوب فمن المتعذر أن نتفق وقد تدوم مناظرتنا إلى أن نلتقي في العالم الثاني.

أسلوب العرب العلمي١٠

سيدي محرر المقتطف

نشرتم للأستاذ مصطفى الشهابي في مقتطف يناير الماضي كلمة وافق فيها على ما أرى من رأي في أسلوب العرب العلمي أنَّ الغيب قد وسم على جبين آثارهم العلمية طابعًا خالدًا، على أني لا أريد أن تمر هذه الفرصة من غير أن أعبر للأستاذ عن رأيي في أنَّ الأسلوب الغيبي قد شاع في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، على الرغم مما جاء به نيوتن وباكون وديكارت من قبل ذلك، أبادر إلى نشر هذه الحقيقة لأني أود من صميم قلبي أن ألتقي والأستاذ في عالم الشهادة؛ فإننا إذا لم نلتق فيه، فالراجح أننا لن نلتقي في عالم الغيب كما أشار الأستاذ في نهاية كلمته الأخيرة، والسلام.

١  راجع الأستاذ مرتز في مقاله نزعة الفكر الأوربي في القرن التاسع عشر ص١٥ و١٦ من الطبعة العربية.
٢  فيلسوف يوناني من المدرسة الكلبية كان يمشي في وضح النهار، وفي يده مصباح مُنار، فإذا سئل عن ذلك أجاب: أفتش عن إنسان.
٣  عن مرتز.
٤  نشرت بمقتطف فبراير سنة ١٩٢٦.
٥  نقد نشر بمقتطف أبريل سنة ١٩٢٦ بقلم أمين الخولي — ببرلين.
٦  ردي على النقد السابق في أسلوب للفكر العلمي نشر بمقتطف أبريل سنة ١٩٢٦.
٧  بقلم مصطفى الشهابي نشر بمقتطف نوفمبر سنة ١٩٢٦.
٨  ردي على الأستاذ الشهابي نشر بمقتطف ديسمبر سنة ١٩٢٦.
٩  بقلم الأستاذ الشهابي نشر بمقتطف يناير سنة ١٩٢٧.
١٠  آخر كلمة في الموضوع نشرت في مقتطف مارس سنة ١٩٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤