الفصل الثاني عشر

المؤرخ : ذهبت الجارية والأمير والسلطان والسندباد. لكن بقِيَت تلك الكلمات على جدران القصر.
الحكماء : الكلمات على جدران القصر؟!
المؤرخ : تلك التي ردَّدها الوزراء السبعة والأمير، تلك التي حفظت حكمتكم وحفظته.
الحكماء : حكمتنا نحن؟
المؤرخ : ربما تغيرت قليلًا، ربما صارت خيوطًا في بِساط شرقي، ونُسجت منها حكايات وحكايات … لكنها أنقذت رأس الأمير.
الحكماء : وكيف عرفها الوزراء أو الحكماء السبعة؟
المؤرخ : لا ندري كيف. هل نفختها ريحُ الوجدان الشعبي، فطارت من جزر اليونان لأرض العرب١ وأرض الفرس؟ هل نقَلَتْها قوافل التجار المسافرين، أو حملتها سيوف المحاربين؟ كل ما ندريه أنها تسللت إلى القلوب قبل أن تظهر في وقت الشدة.
الحكماء : وهل لاحظت وجه الشبه بينهما؟
المؤرخ : وأنتم؟ ألم تُلاحِظوه؟
صولون : حذارِ! لا تبالغْ في شيء!
المؤرخ : قالها الوزراء السبعة كلٌّ بطريقته. وعندما أسرف السلطان في تهوُّره علموه أن العاقل هو من يلزم حده.
طاليس : الزم حدك! هذا قولي.
المؤرخ : ولما سبق لسانه عقله حذروه.
خيلون : لا تجعَلْ لسانك يسبِق عقلك.
كليوبوليس : استمِعْ كثيرًا، وتكلم قليلًا.
المؤرخ : وكذلك حذَّر الوزراء السبعة: العاقل من لزِم الصمت وصامَ الدهر، إن نطق بقول يتدبر عاقبة الأمر.
بیریاندر : ليتهم قالوا للملك ما قلت: إن حالفك الحظَّ فراعِ العدل، وإذا النحس أصابك فارعَ الحكمة والعقل.
المؤرخ : وهل قالوا له غير هذا؟ لقد اندفع وراء طَيْشه وغضبه، فظلوا يلحون عليه أن يتريَّث ويؤجل قراره:
شاور إن رُمْتَ الرأي الصائب،
أرباب الحكمة والعقل الثاقب.
صولون : لو بدأ بمعرفة النفس.
طالیس : ألم أقل إنها أصعب شيء؟
المؤرخ : ولكنه عرفها في النهاية … ولولا حكمتكم …
صولون : قلت لا تبالِغْ في شيء!
المؤرخ : لولاها ما بقيَتْ رأس الأمير على رقبته، فالحكمة تتدخَّل في وقت المحنة. وإذا غابتْ، وافتقد الناس الحكماء ولم يجدوا القدوة …
الحكماء : فالكارثة أو اللعنة!
المؤرخ : ذلك حق؛ ولهذا نحيا في المحنة.
الحكماء : كيف وما زلت تردِّد حكمتنا؟
المؤرخ : وأعلمها ويعلمها غيري. نكتب عنها ونردِّدها، لكن من يُحييها؟ ومن يذكرها ويحققها في نفسه؟
الحكماء : هل غاب الحكماء، وجفَّت آبار الحكمة؟
المؤرخ : بل أصبح كهَّان الحكمة أعدى أَعداء الحكمة.
طالیس : دَعْنا نُسمعهم صوت العقل.
صولون : أو ندعُوهم للمأدبة الكبرى.
طالیس : ونذكرهم — قبل فوات الوقت — بأقوالِ الحكماء السبعة.
المؤرخ : هل يجدي هذا مع مَن لا يعرفُ نفسه؟
طالیس : لن يجديَ شيءٌ غيره! … أنا أبدأ قولي:
اعرف نفسك!
معرفة الناس هي الحكمة،
لكن معرفة النفس ضياء.
والنور الأكمل لا يتدفَّق،
لا يترقرق إلا من مهجة شمسك.
صُنْ نبع صفائك.
ذُدْ عنك السحب؛ لكيلا تغشی شمس سمائك،
واعرف نفسك يا صاحِ بنفسك!
المؤرخ : أتفيد الحكمة مَن لا يعرف حدَّه؟
كليوبوليس : اسمع قولي له:
الزم حدَّك، لا تَطْمع!
وإذا أحسست الرغبة؛ فارغب في شيء واحد:
ألا ترغب شيئًا!
ليس هنالك جرم أبشع،
لا نكبة في العالم أفظع
من أن تأسرك الشهوة،
ويسوقك ثور الجشَع الأعمى
للثور الأجشع.
فارضَ بما عندك واقنَع.
الألوان الخمسة تُعمي البصر فلا تطمع.
والنغمات الخمس الناشزة تصم السمع،
فارقد في حِضن الصمت،
وازهَد في اللذة فاللذة باب الموت.
مرَّ على الحان ولا تتطلَّع.
حتى المعرفة أو الفِطنة،
حتى الحكمة إن جاوَزت الحد،
فنَبْذ الحكمة أنفع!
من ربِح العالم فهو الخاسر،
أما من خسر النفس
فإن خسارته أوجع.
المؤرخ : والمتظاهر … لا يشغله إلا المظهر،
هل يجدي معه النصح؟
بیاس :
تدبر!
واصدق مع نفسك.
كن، لا تظهر!
واسمع قول «بياس» وتفكر:
هل تظهر علمك، وتؤكد أنك في العلم مقدم؟
ليتك تعلم
أن العلم يميت الحكمة،
والأعلم ليس هو الأحكم!
في أوقات المحن وزحف الطوفان الأعظم،
يصبح أذكى الناس كأغباهم،
والأفصح فيهم أبكم.
هل تظهر أنك أنت البطَل الأوحد؟
أنك بعد المذبحة الكبرى
صرتَ المنتصر الأعظم؟
البطل الأوحد — فيما يُؤثر من أقدم عَهد —
كسب المعركة ووفى الوعد،
ثم توارى لم ترَه إلا عينُ الرب.
عبر إلى الشط الآخر وانتظر الشعب،
انتظر الموكب والبطَل الظَّافر؛
ليُتَوِّجه إكليل المجد.
مالت شمس نهار، وانحدرت شمس أخرى للغرب.
أما البطل فغاب، ولم يظهر بعدُ!٢
المؤرخ : من يتخذ الحكمة ترفًا، أو يجعل منها حلية، ويُثرثر — مثل الحاوي — في زمن الضَّنْك عن الحرية، ما قولك له؟!
بیتاكوس :
لن ينفع قول في زمنٍ يُسقط معنى القول.
فاجدل من قولي حبل الثورة والفعل،
يا مَن تلبَسُ ثوب الحكمة في زمن المحنة والأحزان،
اصنع من قولك حَجرًا وارجم كل الأوثان.
الشعب العاجز لا يملك دفعًا للطغيان.
هل تتأمل ضوء القمر، وشعبك في الوحل مُهان؟
الثورة هي فصل الحكمة، ثُرْ وتحرَّك!
واغضب للحق، وأعلِنْ للعالم سرك وارفَع صوتك!
وإذا اختلَّ نظام الشعب، وساد الرُّعب،
وضاع الواجب والقانون؛
فالحِكمة في المحنة خَوف والطِّيبة ضعف،
والعقلُ جنون.
عندئذٍ تستلُّ الحكمةُ سيفَ العدل،
وترفعُ أعلام الثورة والحرية،
وتقاتل؛ كي لا يسقط هذا العالم
في كف العسف الدموية.
جاء الحكماء وجاء الرسل، وتركوا للناس وصية.
للفقراء المحتاجين، لخبز الحكمة والحرية.
فروا من وجهِ طُغاة الأرض ولبوا صوت الشعب،
واجتمعوا تحت لواء البؤس زمانًا.
ثم تواروا في ليل الغَيْب:
رهبان الهند وكهَنة طيبة والفقراء بمكة،
أتباع البوذا وزرادشت، وكونفوشيوس والطاوية،
والمحزونون مع المحزون على جبل الزيتون، وفي جلجلة يوم الصلب مدوا حكمتهم طوق نجاة للبؤساء، وعاشوا من أجل قضية الحكمة في وقت المحنة تثأر وتثور وتضرب!
كُن نورًا في ليل العالم والحكمة شمسًا وسماء،
تنقشع السحب وتقصر عنك سهام السفَلة والسفهاء،
واترك هذا العالم خيرًا ممَّا كان عليه،
حين أتيت إليه.
المؤرخ : حق ما قلت، ويبقى القول هو القول.
أعداء الحكمة لن ينفع معهم قولٌ أو فعل.
الحكماء : جرِّب!
المؤرخ : جرَّبْت وألقيت البَذر،
لم أحصُد غير الحسرة والثمر المر.
الحكماء : قد يقع المطر على أرضٍ صالحة خصبة،
ويمر الصدق على الكاذب فيحرِّك قلبه.
المؤرخ :
أعداء الحكمة في هذا العصر
صم كالصخر.
شبوا في حِجر المكر، وشابوا في حِضن الغدر.
ماذا تنتظر من الأوغاد الكذَبة،
القوالين الوراقين الكتبة،
شهود الزور ونهَّازي الفرص،
لصوص الموتى والأحياء النهبة؟
هل ينبت زرع في أرض خَرِبة؟
اغتالوا الحق وراحوا يبكون الميت،
وأقاموا المأتم، وانطلقوا وبأعلى صوت:
الكاذب ينعى الصدق، وينشد أروع مرثية،
والمتسلط يبكي الحرية.
والمتسلق يندب حظ الشرف الضائع وعبيد السلطة يفتون عن الثورة.
والساجد للدولار يحض الناس على الزهد،
ويُسهب في مدح الفقر وإخلاص النية.
والكل يصيح، ويصرخ ويثير من اللاشيء قضية.
الحكماء : الكل؟ ألا تستثني أحدًا؟
المؤرخ : أستثني القِلَّة وأقل من القلة … مَن بالطبع أو العزة والأنفَة … عاشوا في كنف الغربة.
الحكماء : أتعيش الحكمة في تلك الغربة؟
المؤرخ : وتعزِّي النفس بذكرى الحكماء السبعة.
الحكماء : ومن سيعزي الحكماء السبعة؟
المؤرخ : إن الحكمة تبكي أيضًا.
الحكماء : ابكي أيتها الحكمة،
ابكي أيتها الحكمة.
عبد الغفار مكاوي
يناير ۱۹۸۷م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤