الفصل السابع

المؤرخ : بعد المأدبة يجيء المسرح.
الحكماء : المسرح؟!
المؤرخ : نعم. فقد مرَّت الأيام والسنون، ومالت إلى المغيب شمس العصر القديم. نسِيَكم الناس، ولكن لم ينسوا حكمتكم بعدُ. وها هو ذا شاعر عالم وقنصل ومربي أمراء يذكِّر بكم الأجيال،١ ويقدمكم فوق المسرح، أو يجعلكم تقدمون أنفسكم واحدًا بعد الآخر.
الحكماء : نحن؟ نظهر على المسرح؟
المؤرخ : سموه مسرح العقل أو الخيال أو التاريخ.
الحكماء : وماذا نقول غيرَ ما قلناه؟
المؤرخ : لا تنسوا … أوشكت الناس أن تنساكم؛ ولهذا ستقفون على الخشبة، ويردد كلٌّ منكم حكمته الخالدة على الآذان.
الحكماء : كي تنساها بعد سنين أو أجيال.
المؤرخ : طَبْع الانسان هو النسيان … قد ينساكم أو يظهركم في شكل آخر. قد ينسج عنكم في كل زمان أسطورة … لكن الحكمةَ باقية حتى اليوم. مهما احتاجت من يخرجها من ظلمات التاريخ.
الحكماء : أو ظلمات النسيان.
المؤرخ : ها هو ذا رجل لا ينسى، يظهر ليقدِّمكم للجمهور، كي يتذكَّر شعب الرومان مآثرَكم، كي يتعلَّم من حِكمتكم، حتى تصبح أسلوب حياة.
الممثل (يتقدم على المسرح، ويلقي بالتمهيد) : الحكماء السبعة. مَن أعطاهم العصر القديم هذا الاسم، ولم تأخذه منهم العصور التالية، يقفون اليوم على خشبة المسرح في ثيابهم الإغريقية.٢ لمَ يحمرُّ وجهك، أيها الروماني في ثوبك الأبيض، لدى ظهور هؤلاء الرجال المشاهير؟
نحن وحدنا نشعر بالخجَل، أما الأثينيون فلم يشعروا به؛ إذ كان المسرح عندهم مجلس رأي أو شورى.

لكل فعل عندنا مكانه الخاص به.

فمجلس الشعب يشغل میدان مارس، ومجلس الشيوخ يحتل المبنى الحكومي، والقضاء مقرُّه في السوق والمحكمة. لكن في أثينا وبلاد الإغريق مكان يتجمَّع فيه الناس للتشاور في الرأي. وهذا المكان أهداه الترف المتأخر لمدينتنا؛ فقد أقام لنا ناظر الشرطة خشبة المسرح، وعلى وجه السرعة أعلى بناءَها بغير أحجار ثقيلة، مورينا وجالیوس فعَلَا هذا كما هو معروف. إن السادة العظام الذين لم يتهيبوا النفقات الباهظة، قد اعتقدوا أنهم سيخلدون أسماءَهم بإقامة مبنًى عالٍ مؤسَّس على الأحجار، يُتيح إلى الأبد فرصة التمثيل المسرحي. وهكذا ارتفع هذا البيت الهائل المقسَّم إلى أدوار وطوابق، بعدما تنافس في الإنفاق عليه بومبيوس وبالبوس وأغسطس. لكن لماذا أُثرثر بهذا الكلام؟

إني لم أظهر أمامكم لأحكي عمن أقام المسرح والسوق والأسوار، بل لأقدم لكم رجالًا أجلاء أثنَتْ عليهم الآلهة، ولكي أعلن عن مقصدهم.

لقد تعوَّدَا على النطق بعباراتهم؛ فكل حكيم منهم يلقي حكمته الأثيرة. إنكم تعرفون هذه الحكم والعِبارات، لكن حين تضمحل ذكرى الأخبار القديمة، عندئذٍ يظهر هذا الشخص المرِح؛ لكي يشرح الحكم التي غابت عني.
الشخص المرح : في دلفي، كما يقال، كتب صولون الأثيني: اعرف نفسك.٣ غير أن البعض يزعم أن قائل هذه الكلمة هو خيلون. يا خيلون الأسبرطي، ما زالت الآراء كذلك مختلفة حول هذه العبارة التي تنسب إليك: «على كل إنسان أن يتبصر بنهاية الحياة»؛ فهل أنت الذي قلتها، عندما أوصيت أن ينتظر المرء نهاية العمر الطويل (قبل أن يحكم على أحد بالسعادة أو الشقاء)؟٤كذلك يزعم الكثيرون أن صولون قد قال هذه العبارة يومًا للملك كرويزوس. أما بيتاكوس، من جزيرة لسبوس، فيُروى عنه أنه قال: اعرف اللحظة، وأنه نبه إلى معرفة الوقت الملائم. وأما بياس المنسوب إلى مدينة برينيه فقد قال: معظم الناس أشرار، وعليك أن تفهم من قوله إن الحمقى في رأيه هم الأشرار. ويقول برياندر من مدينة كورنثة: المران هو كل شيء. وهو يقصد أن التروي يحقق للمرء كل ما يريد، ويعلم كليوبوليس من لندوس أن الحد هو الأفضل. أما طاليس فيحذر من أن تضمن غيرك، فتجلب الضرَر على نفسك. وطبيعي أن يسخط مقترض المال على هذا التحذير. لقد قلتُ ما عندي، وسأنسحب الآن، لكي يتقدم المشرع صولون.
صولون : ها أنا ذا أخطو على هذه الخشبة على طريقة الإغريق، أنا صولون الذي وهبَه المجد أولَ جائزةٍ مُنحت للحكماء السبعة. غير أن المجد شيء يختلف عن صَرامة الحُكم الصحيح؛ ولهذا لا أحب أن أكون أول الحكماء، بل أريد أن أكون واحدًا منهم؛ لأن المساواة لا تطيق التقسيم إلى مراتبَ ودرجات. وبحقِّ نصح إله دلفي ذلك «الشاب» الذي سأل هذا السؤال الطائش: من هو أول الحكماء؟ نصحه أن يكتب باقةَ أسماء الحكماء على هيئة دائرة، حتى لا يكون منهم أول ولا أخير.
ولهذا أتقدم من دائرتهم، أنا صولون، حتى أبلغ كلَّ الناس ما قلته يومًا للملك كرويزوس: أدعو الإنسان لأن ينظر في خاتمة حياته. وليحذر كل منهم أن يتكلم عن إنسان، فيقول هذا تعِس، أو ذاك سعيد؛ لأن السعادة والتعاسة يحوطُهما الغموض على الدوام. الأمر كذلك، فاسمحوا لي أن أُثبته باختصار. كان الملك كرويزوس، لا بل طاغية ليديا، أحد هؤلاء السعداء. وكان يملك الكنوز التي لا حدَّ لها، وبنى للآلهة معابدَ رفع أسوارها الذهبية، ودعاني الملك إليه فأُطلعت حتى يتسنَّى لليديين أن يجلس على عرشهم أفضل الملوك. سألني الملك إن كنت أعرف إنسانًا سعيدًا؟ وسميت له تیلوس، ذلك المواطن النبيل، الذي سقط قتيلًا وهو يدافع عن وطنه. وبدا له هذا المواطن حقيرًا، فأعاد السؤال. وخطر على بالي أجلاوس الذي لم يغادِرْ حدود حقله مرة واحدة في حياته.

ضحِك الملك وقال: أين أكون إذن، وأنا الموصوف بأني السَّعيد الوحيد على ظهر الأرض؟ قلت له: «على المرء أن ينتظر نهاية الحياة، ثم يصدر الحكم بأنه سعيد إذا دامت له السعادة.» كانت العبارة قاسية على الملك، ولكنني انصرفت من عنده … وكان أن أعلن الحرب على الفُرس … ودخل المعركة وهُزم. مَثَل أمام الملك مقيدًا بالأغلال، وعرفت أنه سيموت فوق المحرقة؛ إذ كان اللهب يملأ المكان، ويرفع ألسنة الدخان المتوهِّج إلى السماء.

وارتفعت صيحة كرويزوس بعد فوَات الأوان، فصرخ بصوت رهيب: «صولون! صولون! صولون! يا من صدقت نبوءتك بحق!» وحرَّك النداء قلب قورش، فأمر بإطفاء النار ورفعه عن المحرقة. وانهمر المطر من السحب.

فقهر الحريق، وتقدَّمت كتيبة من الجنود فأمسكت بكرويزوس، وقادته إلى الملك.

سأله عن صولون وعن سبب هتافه باسمه، فأخذ يروي عليه تجربته بالتفصيل، وأشفق عليه الملك، وأثنى على صولون الذي أدرك قوة القدَر فأحسن الإدراك.

وأصبح كرويزوس منذ ذلك الحين صديق قورش الذي أمر بتطويق عُنقه بقلادة ذهبية، وجعله يقضي بقية عمره بجانبه. أما أنا فشهادة الملَكين مديح وثناء عليَّ، إذ قال كلاهما: معك الحق.

وعلى كل منكم أن ينتبه لما قلت لأحدهما.

لقد انتهيت مما جئت لأجله.

انظروا! ها هو خيلون قادم فوداعًا، وصفقوا!
خيلون : يؤلمني فَخِذاي من الجلوس، كما تؤلمني من النظر عيناي، وقد انتظرت حتى انصرف صولون.
آه! ما أقل ما يقوله «الأتيكي» في خطبة طويلة!

فلقد ألقى عبارته الوحيدة في أكثر من مائة بيت … ها هو ما يزال يتلفت نحوي، لكنه قد ذهب لحاله.

أنا خيلون الأسبرطي الذي يتقدم منكم الآن، ألجأ للإيجاز المعروف عنا وأوصيكم بحكمتي: «اعرف نفسك».

وهي الحكمة المنقوشة على عمود معبد دلفي. إنه لجهد شاق — وإن كان يجلب أجمل الجزاء — أن تعرف ما تقدِر عليه وما لا تقدر، وأن تَفْحص في الليل والنهار ما عملته وما لم تعمله، وتدقِّق في أدق تفاصيله.

إن جميع الواجبات، من شرفٍ وحياء وصُمود، كلها هنا (في هذه الحكمة)، ومعها كل المجد الذي أسكت عنه.

لقد تكلمت وقلت ما عندي، فوداعًا وتفكَّروا فيه!

لن أنتظر التصفيق!
كليوبوليس : أنا كليوبوليس، أصلي من جزيرة صغيرة، ومع ذلك فقد عثَرت على حكمة كبيرة، يشيد بذكرها الناس: «الحد هو الأفضل.»
تلك هي الحكمة التي تُنسب إلي.

ترجمها أنت، يا من تجلس بالقُرب من الخشبة على أول درجة من الدرجات الأربع عشرة. أليس الحد هو الأفضل؟

قل رأيك! هل أطرقت برأسك؟ شكرًا لك!

سأتابع قولي بالترتيب. فقديمًا قال شاعركم تيرينس في هذا المكان: «لا تبالغ في شيء». وكذلك قال أحد شعرائنا: «لا تسرف على نفسك»، والقولان من الروماني والإغريقي مرتبطان بما نحن بصدده: في أثناء كلامك أو صمتك في يقظتك ونومك.

يصدق هذا الحد، في الإحسان إلى الناس، وتقديم الشكر في العمل وفي الدرس وفي الإيذاء أو الضر، في كل أمور حياتك يجب عليك أن تلتزم الحد.

ها أنا ذا أنهيت حدیثي، ولهذا أذهب، فارعوا الحد، ارعوا الحد.

ها هو طاليس يتقدم منكم.
طاليس : اسمي طاليس. مسقط رأسي ملطية.
علمت، كما علم بندار، أن الماء هو أصل جميع الأشياء. ووعاء البخور الذهبي ذو القوائم الثلاثة٥ أحضره إليَّ الصيادون الذين سحَبوه بشِباكهم من البحر.

وساقتهم إليَّ نبوءةُ أبوللو الذي جعل هذا الوعاء من نصيب أحكم الحكماء. لم أشأ أن أحتفظ به، فردَدته إليهم؛ لكي يحملوه إلى غيري ممن اعتقدت أنهم أولى به.

هكذا دار الوعاء دورته وأُرسل إلى الحكماء السبعة جميعًا، ثم أعاده الصيَّادون إليَّ بعد أن أرسله الحكماء، فأخذته منهم ونذرته للإله أبوللو.

وإذا كان أبوللو قد أمر باختيار حكيم (ليكون الوعاء من نصيبه)؛ فمن الحق أن يسري هذا الأمر على إلهٍ لا على إنسان.

هذا هو أنا. وقد ظهرت على المسرح مثلما ظهر الاثنان اللذان سبقاني؛ لأنقل إليكم حكمتي من هذا المكان.

ربما تثير السخط عليها، لكنها لن تسوء الأذكياء الذين أنضجتهم الخبرة، وحنَّكتهم التجربة.

لقد قلت باليونانية ما ترجمته: خُذ قرضًا من غيرك بضمان، وبذلك تؤذِي نفسك!

يمكنني أن أضرب أكثر من ألف مَثَل لأبين ندَم المواطن على ما فعل.

لكني لن أذكر أحدًا باسمه، وسأترك لكم الأمر لتتدبروه بأنفسكم وتعرفوا مدَى الألم والأذى الذي جلبه الدَّيْن بالضمان على أصحابه، ومع ذلك يبقى هذا العمل حبيبًا إلى نفوس الصبية الخَلِيعين.

وإذن فليصفق لي جزء منكم، وليصفِّر الجزء الباقي سخطًا واستهجانًا.
بياس : أنا بياس من بريينه، الذي قال: «أغلب الناس أشرار.» وودت لو لم أقل هذه العبارة أبدًا؛ «فقول» الحقيقة يولِّد الكراهية.
وقد وصفت بالشر البرابرة والحمقى الذين يزدرون الحق والقانون والحُرمات المقدسة.

أما الشعب الذي يحوط هذا المكان، فهو من الأخيار الخالِصين.

إن الأشرار لا وجودَ لهم إلا في بلاد الأعداء، هذا ما قصدت قوله فصدقوني.

لكن ما من أحد يرضَى لنفسه أن يكون قاضيًا سيئًا، بحيث لا ينضم إلى زمرة الأخيار الطيِّبين، سواء أكان طيبًا بحق أم أراد أن يُحسب من الطيبين.

بهذا تكون الكلمة السيئة عن الشرير قد كشَفت عن معناها. وبهذا أنسحب من المسرح. فوداعًا، وصفِّقوا، يا من أغلبكم أخيار!
بيتاكوس : أنا بیتاكوس، أصلي من ميتيلينه في لسبوس، ولقد قلت: اعرف قيمة اللحظة.
فاللحظة تدعو وتنبه «الغافل» إلى معرفة الزمن. ولهذا يقول الرومان: تعالَ في الوقت المناسب. كذلك أوصى شاعركم الهزلي «يترنس» بإدراك أهمية هذا الوقت المناسب، عندما حضر العبد درومو لسيدته أنتيفيلا في أشدِّ اللحظات حرجًا ودقة.

تفكروا جميعًا في المصاعب التي يتعرَّض لها ذلك الذي لا يُقدِّر قيمة الفرصة المواتية!

إن الزمن ينبئني ألا أُثقل بالقول عليكم، فصفِّقوا!
بيرناندر : وها أنا ذا أظهر أمامكم، برياندر الذي ولد في كورنثة، والذي أعلن أن كل شيء يرجع للمِران.
وأنا أؤيد قول القائل إن ما يُحسِن المرء أداءه إنما يقوم على التأمل، ولا ينجح في عمله إلا من يَتدبَّره قبل الإقدام علیه.

والشاعر الهزلي تیرنس يعلِّمنا أن ننظر في فُرص الحظ وسوء الحظ.

وكل من يريد أن يستأجر بيتًا، أو يعلن حربًا، أو يعقد صلحًا وسَلامًا، أو يرسم خُطةَ شيءٍ عظيم أو حقير، فعليه أن يتفكر ويدبِّر. سيَرِين الكسَل عليك إذا أقبلت على عمل لم تتدبَّرْه قبل شروعك فيه.

ولا شيء أولى بالحرص والعناية من التفكيرِ في خطوة جديدة. إن الغافلين يوجِّهُهم الحظ لا الذكاء.

ومع ذلك فها أنا ذا أتراجع جانبًا. صفِّقوا، وتدبَّروا الأمر من أجل بلدكم.
المؤرخ : هكذا انتهت هذه اللعبة المسرحية.
الحكماء : كانت لعبة أطفال وتلاميذ مدارس … الحمد لرب الحكمة إذ انتهَتْ أدوارنا.
المؤرخ : ماذا تقولون؟ لم ينتهِ دوركم بعد؛ فالحكاية ما تزال على نول الأيام، وخيوط أخرى تغزلها في ثوبكم الأجيال.
الحكماء : ألا تنتظر حتى نغيِّر ثيابنا.
المؤرخ : وأصفِّق لكم، ثم أنسحب لاستراحة قصيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤