الفصل الثامن

المؤرخ : وتمر الأيام وتأتي الأجيال بعد الأجيال، فيتغير كلُّ شيء. هذا قانون لا يسلم منه حي أو جماد؛ فكل ما في الوجود يتبدَّل ويتحوَّل ويَصير إلى ضدِّه. هذا ما سيقوله حكيم جاء بعدكم، وأشاد بذكركم، واسمه هيراقليطس. حتى قصتكم يا حكمائي السبعة لم تسلم من التغير والتحول و…
الحكماء : قصتنا؟ … هذا جائز … لكن حكمتنا؟
صولون : اعرف نفسك! الزم حدك! لا تتطرف! لا لا … لا يمكن أن تتغير.
الحكماء : هل يمكن أن ينقلب الخير إلى الشر، أو يرضَى الناس بتقديس الخسَّة والغدر؟
المؤرخ : معذرةً يا حكماء … حكمتكم فوق الشك، ولكن …
الحكماء : ماذا تعني؟
المؤرخ : أعني أن الحال تحول، والقيم تُغيِّر سلمها الراسخ وتتبدل.
الحكماء : أوضح قولك.
المؤرخ : بل هو قول التاريخ وحُكمه … صار العصر غير العصر، وتبدَّلت العقيدة غير العقيدة، ودخلت بلادكم في دين جديد هو دين المسيح.
الحكماء : المسيح؟
المؤرخ : أجل. وهو عند المؤمنين به: ابن الله الذي افتدى البشر؛ ليكفر عن خطاياهم.
الحكماء : ابن زيوس؟ أم أبوللو؟
المؤرخ : بل ابن الواحد والثالوث … جاء إلى الأرض بميلاد مُعجز، جاء على صورة بشر يحيا في الزمن ويأكل مثل البشر ويشرب، وأخيرًا يُصلب ثم يقوم ويرفع.
الحكماء : لم نرَه، لم نسمع عنه.
المؤرخ : بل تروي القصة أنكم تنبَّأتم به.
الحكماء : نحن الحكماء تنبأنا به؟!
المؤرخ : والنبوءة صارت هي حكمتكم الوحيدة. وها هو ذا واحد من آباء الكنيسة الذين علَّموا في مصر، وهو كليمنس السكندري،١ يسميكم في حوالي سنة مائتين بعد ميلاد المسيح بالأنبياء. لقد راح هذا الأب المسيحي يفسر أقوالكم الأثيرة. إنكم تعرفون هذه الحِكم والعبارات تفسيرًا رمزيًّا يضع عليها ثوبًا إلهیًّا … فعبارتكم «اعرف نفسك» صارت: «اعرف سبب ولادتك، وصورة من أنت، ماذا تملك، ماذا تصنع، واعرف صلتك بالله وقربك منه.»
الحكماء : غريب … شيء غريب.
المؤرخ : الأغرب من هذا أن أسماءكم المشهورة بدأت تلتفُّ في ضَباب الأفق البعيد، ومعها عالمكم القديم كله، لم يبقَ من هذه الأسماء إلا أصداء غامضة. واختلطت بأسماء أخرى ظهَر أصحابها قبلكم أو بعدكم؛ فالكاتب المتدين لا تهمُّه الآن إلا حكمة واحدة، ولا يعنيه إلا حدث تاريخي واحد.٢ إنه لا يعرف حكايتكم ولا يذكر أقوالكم، ولا يرى بأسًا من أن يدخل في زمرتكم شاعرًا كهوميروس، أو فيلسوفًا كأفلاطون وتلميذه أرسطو، أو مؤرخًا كتوكيديدس الذي سجَّل وقائع الحرب الأهلية التي وقعَتْ بعد عهدكم بين أثينا وأسبرطة، أو مؤرخًا متأخرًا مثل بلوتارك. بل إنه لا يجد حرَجًا في أن يجعل شاعر الملهاة ميناندر واحدًا منكم.
الحكماء : هل يمكن أن ينسانا العالم كل النسيان؟ أو لا يذكر أحدًا منا؟
المؤرخ : بل ما زال الكاتب يرفع ذكراكم، وإن كان لا يعرف شيئًا عنكم. مع ذلك لا يصح أن نجحد فضله في إحياء ذكراكم، والإيحاء إلى الفنانين برسم صُوركم ونقوشكم على الأيقونات، وجدران الكنائس الأرثوذكسية في بلدكم. استمعوا الآن. لقد أصبحتم أنبياء أو متنبِّئين ومنجمین.
الحكماء : ما أشقانا! … متنبئين ومنجمين؟!
المؤرخ : وجئتم إلى معبد أبوللو في أثينا لتسألوه.
الحكماء : نبِّئنا أيها النبي أبوللو … قل لنا يا ساطعَ الضوء: ماذا سيكون حال بيتك هذا؟ ولمن سيئول من بعدك؟
المؤرخ : ويرد عليكم إلهُ النورِ والفنِّ على لسان العراف، فيقول:
أبوللو : سيكون بيتًا للفضيلة والطاعة والنِّظام. إني أبشر بالثالوث، بالرب الحاكم في الأعالي، الذي تحولت كلمته الخالدة إلى ثمرة جسدية في رَحِم عذراء طاهرة؛ لأن كلمة الرب ستنطلق كصاعقة من نار في العالم كله، وتقدِّمه للرب هدية. أما هذه العذراء فاسمها مريم.
الحكماء : إنك تكذب يا أبوللو.
أبوللو : بل أُخبِر بالحق وبالصدق، وأقسم بمن يُمسك بزمامي ويهزُّ أعنة صدري.
الحكماء : ولم نصدِّقه بطبيعة الحال.
المؤرخ : بل صدقتم ومضيتم في نبوءتكم بالنور الطالع والرب الآتي من علياء سمائه، يفدي البشرية في صورة بشَر، ثم يقوم ويرتفع إلى عرش أبيه.
الحكماء : نحن نفعل هذا؟!
المؤرخ : وتبشِّرون بالوعد والخلاص على لسان بياس وصولون وخيلون … ويكون بياس أول المتكلمين فيقول:
بيباس : مستحيل أن أقول ما أقوله لغير المريدين والمؤمنين؛ إلا أن تَعُوا بعقولكم ما أنطق به … هذا الرب هو النور الروحاني الطالع من نور الرُّوح القدس، بالنور وبالأنفاس تُلقى الوحدة من روحه، كل شيء منه وعن طريقه، خصبًا نزَل إلى الطبيعة الخصبة، فخلق الماء الخصب بالماء الخصب.
صولون : وهو الذي جاء قادمًا من أعالي السموات، أقوى من نار اللهَب الأبدي الخالد. ترتعش أمامه السماء، وترتجف الأرض والبحر والمحيط الذي تسبح فيه الأرواح السفلية. وهو نفسه أبوه المثلث البركات.
خيلون : يومًا سيجيء إلى هذه الأرض المتصدِّعة، وبلا خطيئة يتجسد … وبنعمة الألوهية ومشيئتها، سيَرفع الفساد ويخلص من الآلام التي لا تُداوى ولا تُشفى.
ولسوف يصيبه حسَد الشعب ويعلق على الصليب، كأنه استحقَّ الموت عقابًا له، ثم يتحمل كل شيءٍ في هدوء.
توكيديديس : إن طبيعة الخلق الإلهي لا تعرف الكلَل، والرب يحول كلمته إلى وجود.
ميناندر : اخشَ الرب وآمِنْ به، لكن لا تسأل مَن هو ولا كيفَ هو. وسواء أدركت وجوده أم لم تدركه، فاخشع لهذا الوجود واعرفه؛ لأن من يحاول معرفة الله إنسان خلا قلبه من التقوی.٣
أفلاطون : الشيخ شاب والشاب شیخ، الأب هو الابن والابن هو الأب، الواحد ثلاثة والثلاثة واحد، الذي بلا جسَد متجسِّد، والأرض ولدت خالق السماء.
الحكماء : نحن نقول هذا كله؟
المؤرخ : والأدهى من هذا أن تقولوه وأكثر منه على لسان أشخاص وُلدوا بعد أن شبِعتم موتًا.
الحكماء : أي أشخاص؟ لم نعرفهم أبدًا!
المؤرخ : بل عرفتموهم وقابلتموهم أيضًا.
الحكماء : ماذا تقول؟ كيف نعرفهم أو نقابلهم؟
المؤرخ : هذا ما يقوله الكتَّاب الورِعون الذين دوَّنوا المخطوطات التي وصلتنا عنكم في عصر متأخر٤ لقد جعلوكم تقابلون فيلسوفًا سموه ديوجينيس، وتدخلون بيته القائم في أثينا الذهبية.
الحكماء : حقًّا؟ نحن الحكماء السبعة؟
المؤرخ : ولكن بأسماء أخرى بعد أن نسِيَ أولئك الكتاب أسماءكم. أتدرون من هم الحكماء السبعة الذين دخلوا بيت ديوجينيس، فأجلَسَهم ورحَّب بهم، وأخذ يسمع حديثهم عن الهندسة والفلك والتنجيم وطبيعة الأرض وغيرها من العلوم والفنون؟
الحكماء : ألم تقل إنهم الحكماء السبعة؟
المؤرخ : نعم، ولكن بأسماء أخرى، لم يراعَ فيها اختيار ولا ترتيب: بلوتارك وآريس.
الحكماء : آريس؟ حتى إله الحرب والشِّقاق أصبح واحدًا منا؟
المؤرخ : نعم نعم. وكذلك هيريس مثلث العظمة، ولكنهم نسُوا اسمه الحقيقي، فسموه «دون» مثلث العظمة.
الحكماء : مع أنا لم نعرف هيرميس هذا ولا … ماذا قلت؟
المؤرخ : بالطبع ولا كليو ميديس.
كليوبوليس : حتى اسمي أخطئُوا فيه؟!
المؤرخ : وأدخلوا فيكم أفلاطون وأرسطو وهوميروس.
الحكماء : حتى شاعرنا الأكبر؟
المؤرخ : أجل أجل … وبعد أن فرَغُوا من حديثهم، وقف ديوجينيس الشيخ، الذي لا نعرف إن كان هو ديوجينيس الأبولوني أم الكلبي … وخطب فيهم قائلًا: «أيها الرجال الأجلَّاء من فلاسفة الإغريق ومعلميهم الأوائل، إني أسألكم: ماذا تهيئ عناية السماء لأجيال الإغريق في أواخر الزمان؟ لأني أعلم أن أبناء الإغريق قد استبدَّ بهم الحُمق، فراحوا يهيمون أذلَّاء بين الأصنام، ويخوضون في كل رِجس، بعد أن تخلَّوا عن خالق كل شيء. اذكروا لي علامة تدل على أنكم أعظم العظماء، وأكبر المنجمين والحكماء. إني أتوسل إليكم أن تخبروني بها. ولم يكد ديوجينيس يُنهي خطبته، حتى فتح بلوتارك فمه وقال:
بلوتارك : ذات يوم سيجيء مَن لا بداية له وابن من لا بداية له، سيجيء الكلمة إلى هذه الأرض الممزَّقة، ويسكن جسد عذراء بريئة اسمها مريم. وسوف يتعرَّض لحسد الشعب الجاحد ويُعلَّق على الصليب. وأخيرًا يقوم من بين الموتى، وينقذ العالم بأسره. أما اسمه فهو يسوع، أي الطبيب.
المؤرخ : ثم تكلم آريس.
الحكماء : إله الحرب؟ وهل لديه ما يقوله؟
المؤرخ : نعم نعم. أليس غريبًا أن يتحدَّث عن الحب والخلاص والسلام فيقول:
آریس : سيأتي الابن من الابن، ويطلب، وهو ابن الابن، أن يسكن رحِم أم، ويولد إلهًا كاملًا في صورة إنسان، وسوف ينقذ جميع الأجيال من آدم إلى شخصه ذاته، ويقدمهم هديةً لأبيه.
المؤرخ : وتكلم دون مثلث العظمة، فقال:
مثلث العظمة : الرب عقل وكلمة وروح، والكلمة الذي تجسَّد بإرادة الأب، سينقذ كل إنسان من الضلال المريع، ويقضي على الشيطان، ويمنح شعبه العماد. طوبى لمن يستجيب له!
المؤرخ : ثم قال كليوميديس الذي يحمل بعض حروف اسمك يا كليوبوليس.
كلیومیدیس : الذي بسط السماء وأقام الأرض على المياه سيُولد بعد ذلك من مريم الطاهرة، وسيأخذ منها الجسد، ويصبح إنسانًا كاملًا وخالق الكون. وسيسحق الموت ويقضي على الشيطان، ويهب للعالم الحياة.
المؤرخ : ثم يأتي دور أفلاطون الشهير، فيرتدي ثيابَ مسیحيٍّ مؤمن، ويقول:
أفلاطون : كان الله على الدوام وهو كائن، وسوف يكون بخير بداية ولا نهاية. أما ابنه المسيح فسوف يولد من مريم العذراء، وأنا مؤمن به. وأنت أيتها الشمس سترينني من جديد تحت ظل ملكٍ تقي. أما معبد أبوللو فسوف يهدمه، وسوف يطلق على هذا الأخير اسم أمه مريم.
المؤرخ : ثم يجيء دور المعلم الأول، فيواصل كلام أستاذه ويقول:
أرسطو : في تلك الأيام سيسطع نور الثالوث الأقدس فوق جميع الخلق، والأصنام التي صنعتها يد الإنسان، تلك الأصنام الخرساء الجامدة التي يؤلهها شعب الإغريق، سيَقضي عليها قضاء مبرمًا. أما اسمه فسوف يعظِّمه ملوك الأرض كلها وسادتها الأقوياء، وسوف يعين اثني عشر قاضيًا وسبعين معلمًا؛ ليحكموا الأرض جميعًا ويهدوها. أما هو فسيُرفع بعدَ عذابه وقيامته، ويجلس إلى يمين الأب، ويعود مرة أخرى ليقاضي الأحياء والأموات، وسيُعطي كل إنسان حسب عمله.
المؤرخ : وأخيرًا يأتي دور الشاعر هوميروس فيقول:
هوميروس : يومًا سيجيء إلينا سيد الأرض والسماء، ويظهر على هيئة جسد بلا خطيئة. وسيأخذ صورته البشرية من عذراء عبرانية، سيسمونه الغفران والفرَح. وسيصلبه شعب العبرانيين الكافر. طوبى لمن يستمعون إليه، وويل لمن لا يستمعون!
المؤرخ : لما سمع ديوجينيس الجليل هذا الكلام، تعجَّب من نبوءات الحكماء السبعة، ثم دوَّنها في كتابه عن الطبيعة، ووضَعها في معبد أبوللو. ومنذ أن سادت بيننا ديانة الخلاص والرحمة حكَمنا قسطنطين العظيم الذي كان أول الملوك المسيحيين. وعندما زار الملك أثينا أبدى رغبته في هدم معبد أبوللو، وبناء معبد آخر لأم الإله. غير أنه عثر على الأوراق التي دُوِّنت عليها نبوءات الحكماء السبعة. وقرأها الملك التقي وتعجَّب تعجبًا شديدًا، لكنه أخذَها معه على طريق عودته إلى ملكة المدن؛ لكي تثبت إيماننا وتمحو الشر وتقضي عليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤