الفصل التاسع

المؤرخ : وتتركون بيزنطة يا حكمائي السبعة، وترجعون مرة أخرى إلى الشرق، وتلتقون في بلاط ملك شرقي. إن قصَّتكم لا تزال منتشرة في الغرب والشرق على السواء، وهي تجري الآن على ألسنة الناس في بلاد العرب والفُرس، وتُوغل في البعد حتى تصِل إلى بلاد الهند. وتبلغ الحكاية في القرن العاشر آذانَ الغرب المبهور بسِحر الشرق وأساطيره، وحكاياته التي تفوح منها عطور المسك والعنبر والقصور والحريم … ويطلع عليها رجل ألماني أطلق على نفسه اسم يوحنا السكسوني، فينقلها باللاتينية سنة ألف وأربعمائة وسبعة عن نصٍّ فارسي أو عربي، نُقل بدوره عن أصل هندي أن حكايتكم تتلفَّح الآن في ثوب شرقي، وتروى بأسلوب شرقي يهيِّئ الأنس والسَّمَر في مجالس الشرب والرقص والخدر، وليالٍ من ألف ليلة يهمس فيها ضوء القمر. لكن لا تنسَوا أنكم قد أصبحتم في آخر المطافِ شرقيين تواجهون الغرب المذهول بسِحركم، واطلاعكم على الغيب المسطور من خيوط الكواكب والنجوم، بعد أن كنتم إغريقًا تتحدَّوْن ملوك الشرق، بحكمتكم وكبريائكم. إن هذه الحكاية …
الحكماء : حكاية أخرى؟ … ألا تنوي أن تعيدنا إلى قبورنا؟
المؤرخ : حكمتكم لا تسكن قبرًا، بل تُحيي قلبًا أو فكرًا … إنها آخر حكايةٍ طافت بكم في جهات الأرض الأربع.
الحكماء : آخر حكاية؟
المؤرخ : نعم. فقد جاء عصر النهضة، فرجع للأصول القديمة، وارتوى من المنابع الأصلية. وبذلك لم يترك فرصة لخيال راوية يضيف من عنده ما يشاء، ولا لمؤرخ ضعُفت ذاكرته وأصابها الوهن والانطفاء.
صولون : آه! تعبت من الرحيل والتجوال.
طالیس : وأريد أن أستريح في التراب، أو حتى في الماء.
بیتاكوس : وأنا أريد أن أرجع لقبري … فلكم تجرَّعت المرارة في الحياة وبعد الحياة.
خيلون : أما أنا؛ فشبعت من النسيان.
برياندر : وأنا ممن صبَّ على اسمي اللعنة وعلى الطغيان.
الحكماء : من تقصد؟
المؤرخ : ومن غير سندباد الحكيم؟ إن الملك والوزراء السبعة، وابن الملك الذي سيربِّيه سندباد ويُعلِّمه الحكمة، والجارية التي ستحاول إغواء الأمير، والحكايات التي سترويها الجارية لتتعجَّل قتل الأمير الذي رفض أن يستجيب لغوايتها، ثم الحكايات التي يرويها الوزراء السبعة؛ لكي ينْقُضوا ما أبرمت الجارية، ويؤجِّلوا قرار الملك بقتل ابنه. وأخيرًا حكايات الأمير نفسه بعد أن انفكَّت عُقدة لسانه، فتساقطت الدُّرر من عقد حكمته، وتناثرت اللآلئ من حبات سنبلته.
الحكماء : حكاية غريبة كأحلام الشرقيِّين.
المؤرخ : بل حكايات وحكايات، ممتدَّة كليالي أسمارهم، بطيئة وطويلة مثل صبرهم ونومهم … ولكنني سأكتفي بحكاية السندباد الحكيم.١
الحكماء : وبقية الحكماء؟ ألم نتكلم عن سبعة؟
المؤرخ : نعم نعم. إنهم الوزراء السبعة. وكل واحد منهم يدخل على الملك؛ ليروي عليه حكاية تُبَصِّرهُ بعاقبة التعجيل بالقرار الرهيب … ثم تأتي الجارية في صباح اليوم التالي لتستحثَّه على اتخاذ القرار، وتروي له حكاية أو حكايتين … ويدخل عليه وزير آخر.
صولون : قل لنا إذن ماذا فعل طاليس، بعد أن ركب سفينته، وطاف ببلاد الهند والعجَم.
طالیس : أو الرحَّالة صولون الذي أخفى عنَّا أخبارَ رحلاته.
المؤرخ : اسمعوا بداية الحكاية وكل حكاية.
الحكماء : وعدتنا بحكاية واحدة.
المؤرخ : وكل حكاية تبدأ هذه البداية … كان في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، ملك اسمه «كورديس» هو الملك المتوَّج على عرش هندوستان … بالغ رواة الحديث وأصحاب التاريخ في بيان فضله وكماله، والثَّناء على عقله وعلمه، والإشادة بعدله ورحمته ورعايته للرعية، بحيث تسامح الصقر مع الحمامة، وتصالح الذئب مع الشاة، ورعَت السوائم مع الأسود في أطراف الممالك وأكناف المسالك … لكنه على الرغم من سَعْده وعظمة مملكته، كان يقضي الساعات في الفِكرة والحيرة … كان يقول لنفسه في غرفة خلوته: طائر الملك بلا فرخ، ودَوحَتُه بلا غصن، وأصله بلا فرع.
ودخلت عليه جارية جمعت بين جمال الكياسة وكمال الفراسة، ولما رأته على هذه الحال قالت:
الجارية : ما هذا التغير؟ وما موجب هذا التفكر؟
الملك : ألم تخبرك عين فراستك عن ثلوج الشَّيب في شعري؟ ألم ترَيْ يد الأجل توشك أن تطوي بساط عمري، وتجرِّعني كأس قدري، وتدفع بي إلى ليل قبري؟
الجارية : وماذا في هذا يا مولاي؟
الملك : ماذا فيه؟!
الجارية : لا بد من سماع نداء الأجل؛ لأنه لا ربيع بغير خريف، ولا اجتماع بغير وداع.
الملك : وأودِّع، وليس لي ولد يجلس على سرير ملكي، ويحفَظه من حسَد الأصدقاء وغدر الأعداء، ويُشرق في سمائه حين تأفُل شمسي.
الجارية : الأمَل في فضل الخالق أن يكون وارث أعمارنا وأعمالنا. ورغبة الملك في خلق لائق وأمنية في عقِبٍ رشيد تتيسَّر بصفاء الطَّوية، وتتهيَّأ بخُلوص النية وعرض الحاجة في حضرة أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. ألم يأمرنا عز وجل: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ؟٢
المؤرخ : وتصدَّق الملك على الفقراء والزهاد والعباد، وأدی نذور الخيرات، وأقام الصلوات ونوافل الطاعات. وخلا بالجارية المحبوبة، فولد البدر والشمس كوكبًا في جمال يوسف، وكمال المسيح، على جبينه أنوار الكرم والعظمة، ومخايِل النجابة والشَّهامة. ولما خرجت هذه الثمرة من زهرة الوجود، صرف الملك نعمًا فاخرة، وأموالًا وافرة في الخيرات وفاء بالنذور، وإتمامًا للسرور، وأمر الحكماء والمنجمين.
الحكماء : آه! أصبح الحكماء مرة أخرى منجمين!
المؤرخ (مستمرًّا) : أمرهم أن يقرءُوا طالِع الأمير، فنظروا وحسبوا وقابلوا، وقالوا للملك العظيم: اهنأ وعش مخلدًا! إن ولدك سيفوق ملوك الأرض في العِلم والحكمة، والسخاء والمكرمة. ولم يطمئن الملك فأمرَهم بمعاودة النظر والحساب والمقابلة، فنظروا وقالوا: بعد انقضاء سنين من عمره، سيعرض له خطر على حياته، ولكن الخالق سيسهِّل تلك المعضلة، فلا يرى بعدها أي مكروه، ولا يحط غبار على صفحات كماله … ولما بلغت سنه الثانية عشرة، أرسله الملك إلى المؤدِّب ليتعلم آداب الملوك، ومرَّت عشر سنين، فلم يتعلم الصبي أي شيء من مدارك العلوم.
الملك : كل هذه السنين ولم يظهر عليه أثر. آه! لقد اغتمَّ فؤادي وتولاه اليأس والضجر. هيا أحضروا الفلاسفة والحكماء! … ولما مثَلوا في حضرته، صاح فيهم: من منكم يعلمه دقائق العلم ويلقِّنه أسرار الحكمة؟ من منكم يجعله خليقًا بتِيجان الملوك؟ أيها الحكماء السبعة، اختاروا واحدًا منكم، وأسلموه زمام هذه المهمة.
المؤرخ : وتدبر الحكماء السبعة ذلك الأمر ثلاثةَ أيام بلياليها. تناقشوا طويلًا ونظروا في طالع الأمير، وأدلى كل واحد برأي. وأحجم الجميع عن تعليم الصبي الذي لم يتعلم شيئًا في عشر سنين.
حكيم : إن العود نبتٌ أعوج، إذا زاد التكلف في تقويمه ينكسر ويتلَف.
حكيم آخر : والحديد الذي صدئ في الأرض الملحة، لن تنفع النار ولا العقار في إصلاحه وخلاصه.
حكيم ثالث : إذا كان لم يتقبل التعليم في بدء نشوئه ونموه، فالآن مستحيل أن يقبل التعليم.
حكيم رابع : كان النَّحس متصلًا بطالع هذا الصبي.
المؤرخ : ولكن سندباد الذي حضر هذا الاجتماع فتح فمه وقال:
سندباد : الآن يزول هذا النحس. أنا أقبَله وأعلِّمه.
المؤرخ : نظر الحكماء إلى بعضهم، وخافوا على أنفسهم. لاذوا بالصمت مليًّا، قبل أن يقول واحد منهم:
حكيم : إن كلمات السندباد تشبه البرقَ والرعد والسحاب الذي جفَّت منه قطرات المطر.
المؤرخ : وابتسم سندباد حين لمح ضبابَ الحِقد يغشى نظراتهم، وقال:
سندباد : ألا تعلمون أن الحكمة في الإنسان مثل المسك والعنبر، كلما ابتلَّ عوده بالماء ذاع شذاه وانتشر عبيره؟ ألم يستطع الإنسان بالعقل والحيلة أن يستنزل الطائر من الهواء، ويستخرج السمكة من قاع البحر، ويروض الأسد والنمر والوحش الجامح؟
أحد الحكماء : إن هي إلا كلمات لا يعرف حقيقتَها إلا من يری ثمرتها. وشأنها يا سندباد شأن حبَّات القمح قبل أن يُطحن ويخبز ويؤكل، والسُّفن الطافية على ظهر البحر قبل بلوغ الميناء، والشجعان قبل رجوعهم إلى ديارهم ظافرين، والمرضى حتى يُشفَوا من الأسقام، والحوامل حتى يضعن حملهن.
حكيم آخر : ولهذا لا نستطيع أن نمتدح كلامك حتى نتبيَّن نتيجتَه.
سندباد : ولكنني أعِد الملك أن أتولَّى تربية ابنه، حتى تفوق حكمته حكمتكم أجمعين، وإذا لم أنجِزْ وعدي، سأقدِّم رأسي لتَقضي فيها بحكمة وعدل قضاءَها.
الحكماء : مهلًا يا سندباد مهلًا! لقد استغرقتَ في تحصيل المعارف والعلوم حتى كاد بحر حكمتك أن يغرقنا. كل طائر أعطيتَه حبة تربيتك جعلته ندًّا للعنقاء والطاووس، وكل من زينته بحُلِي فضلك وعقلك يستطيع مساواةَ الشمس ومناظرة القمر.
سندباد : إني لا أغترُّ بمقالكم، ولا يخفى عليَّ خوفكم وترددكم.
الحكماء : إن كان ثمة خوفٌ فهو عليك.
سندباد : حقًّا؟ سأذهب للملك، وأعلن استعدادي لتربية الأمير.
الحكماء : وسنذهب معك، ونعلن أنك ستجعله أحكم الحكماء.
سندباد : حقًّا؟ وسأنجز وعدي في أقصر وقت ممكن (يذهب).
حكيم (همسًا) : وبعدها تسقط رأسك في حجرك.
الحكماء (همسًا) : أو تسقط رءُوسنا في سلَّة الجلاد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤