مقدمة
إذا كان أفلاطون قد لخَّص — من الناحية الفلسفية — وضع المرأة اليونانية، على نحوِ
ما كان
قائمًا في مجتمعه، فإن أرسطو قد قنَّن هذا الوضع عندما بذل جهدَه ليضع نظريةً فلسفية
عن
المرأة، يستمد دعامتَها الأساسية من الميتافيزيقا، ثم راح يطبِّقها في ميدان البيولوجيا
أولًا، والأخلاق والسياسة بعد ذلك، ليُثبِتَ فلسفيًّا صحة الوضع المتدني للمرأة الذي
وضعَتْها فيه العاداتُ والتقاليد اليونانية.
وتأتي خطورة نظرية أرسطو عن المرأة من أنها
تردَّدَت بعد ذلك بكثرة في تراثنا العربي، ربما لأنها وجدَت أرضًا خصبةً مُهيَّأة
لتقبُّلها، بما تحتوي عليه من آراءٍ مماثلة لا ينقُصها سوى التنظير! تمامًا مثلما حدث
في
التراث الغربي، وفي هذا المعنى تقول سوزان بل
S. Bell: «إن
الصورةَ التي رسمَها أرسطو للمرأة بالغةُ الأهمية، وذاتُ أثرٍ هائل؛ فقد ترسَّبَت في
أعماق
الثقافة الغربية، وأصبحَت هي الهادي والمرشد عن النساء بصفةٍ عامة!»
١ وهي عبارةٌ تصدُق بنصها على التراث العربي؛ فلو أنك أمعنتَ النظر قليلًا لوجدتَ
عبارات أرسطو وأفكاره عن سرعة انفعالات المرأة وعنفها، وعن جنس الإناث الرقيق الحساس
العاطفي، السريع التأثر، الذي ينقاد لعوامل الشعور أكثر مما يسترشد بنور العقل؛ ولهذا
فهو
جنسٌ أقلُّ استعدادًا للرئاسة من جنس الرجل؛ لأن الرئاسةَ قيادةٌ تستوحي العقل لا الشعور.
٢
كذلك سنجد أفكار أرسطو عن المرأة متناثرةً في تراثنا هنا وهناك، حتى لقد أصبحَت جزءًا
لا
يتجزأ من ثقافتنا عمومًا، تجدُها عند المثقَّف، والمفكِّر، والفيلسوف، كما تجدها عند
رجل
الشارع سواءً بسواء! وإن المرء ليعجَب أشد العجب عندما يجد مفكرًا عملاقًا كالإمام الغزالي
يرى «أن النكاح نوعٌ من الرق؛ فهي (أي الزوجة) رقيقة له (للزوج)، وبما أنه نوعٌ من الرق،
فطاعة الزوج عليها مُطلَقة في كل ما طلَب منها في نفسها مما لا معصية فيه!»
٣ ولا يجد فيه مشاركةً وتعاطفًا ومودةً ورحمة كما جاء في نص القرآن الكريم! حتى
وصل الأمر إلى إضافة طاعة الزوج إلى مبادئ الإسلام! وقد «عرَض الإمامُ الغزالي بعضَ الحقائق
الاجتماعية السائدة التي تحطُّ من قيمة المرأة وقَدْرها مستندًا في ذلك إلى أحاديثَ متواترة
يصعُب الأخذ بصحة معظمها!»
٤
كذلك يرى الإمام الغزالي أن الفائدة الأولى من النكاح هي الولد، وهو الأصل، وله وُضع
النكاح؛
٥ فالنكاح لا يُوجَد بسبب الشهوة، وإنما خُلقَت الشهوة كباعثة، مُستحثَّة بالفحل
في إخراج البذور، وبالأنثى في التمكين من الحرث!
٦
وهناك أفكارٌ أخرى كثيرةٌ سوف تتردَّد طَوال هذا البحث يشعر القارئ معها أن ما يقوله
أرسطو ليس غريبًا عنه، بل إن رجل الشارع أصبح يردِّد بعضها في يقين وثقة؛ فمَن منا لم
يسمع
عن تدنِّي ذكاء المرأة، ونقص العقل عندها، وعدم اتزانها في الحكم على الأشياء، وعدم
صلاحيتها للسياسة، أو القيادة، أو إدارة شئون الدولة … إلخ، حتى إذا ما رأى أمامه نماذجَ
لامعةً من الشرق والغرب على السواء، جحدَها عامدًا دون أن يُجهِدَ نفسه في البحث عن تفسيرٍ
لها، أو يسأل: كيف تتسق مع أفكاره؟ «مارجريت تاتشر» تتربع على قمة الحكم في إنجلترا،
وأنديرا غاندي في الهند، حتى في الشرق «بي نظير بوتو» في باكستان، وقبل ذلك وبعده: جولدا
مائير، التي ذقنا المُر على يدَيها في إسرائيل! ذلك كله لا يجعله يسأل نفسه ولو مرةً
واحدة:
أيكون سائقُ سيارة تاتشر أو «بي» أو «أنديرا» أرجحَ منها عقلًا لمجرد أنه رجلٌ وهي امرأة؟
أيكون الساعي أو الحارس — الذي يقف على بابها — أقدَر منها على إدارة الدولة، أو أكثر
اتزانًا في الحكم على الأشياء لمجرد أنها امرأة، وأنه رجل؟ أيُّ تخلُّف …؟!
غير أن أرسطو لا يكتفي بهذا القَدْر من نقائص المرأة، وإنما يُضيفُ إليها عدمَ قدرتها
على
ممارسة الفضائل الأخلاقية المختلفة على نحوِ ما يفعل الرجل، وعدمَ قدرتها على شغل أيِّ
منصبٍ اجتماعي، أو ثقافي، أو حتى قيادة المنزل. إن مهمَّتها تقتصر فقط على الإنجاب، بل
إن
مسئوليتها تكون كاملةً إن هي أنجبَت الإناث! وهي فكرةٌ كانت، وربما ما زالت، شائعةً جدًّا
في مجتمعنا العربي، في حين يكون الرجل هو الذي ينجب الذكور.
٧ والطبيعة لا تُنجِب الإناث إلا إذا انحرفَت عن مسارها الصحيح، إلى آخر تلك
الأفكار الأرسطية التي لا حصر لها، تجدها متناثرةً هنا وهناك، يرتدي بعضها — للأسف —
زيًّا
دينيًّا ليكون أكثر عمقًا ونفاذًا، أقحموه على الإسلام الذي رفَع المرأة العربية من حضيض
الجهل والتخلف، بعد أن كانت تُورَّث مع ممتلكات الرجل، إلى أعلى المراتب الاجتماعية،
عندما
جعلها قيِّمة على نفسها ومالها وزوجها … إلخ.
ومن هنا تأتي أهمية دراسة نظرية أرسطو عن المرأة، ومقارنة آرائه وأفكاره عنها بما
يُقال
في تراثنا العربي، قديمًا وحديثًا!
٨
ولقد سبق أن لاحظنا أن الصفات المختلفة التي تُوصَف بها المرأة الشرقية الآن،
٩ كانت هي صفات المرأة في أثينا، في حين أن المرأة الشرقية في مصر القديمة مثلًا،
أذهلَت المؤرخ اليوناني هيرودوت لنشاطها ومشاركتها الرجل في جميع مناحي الحياة؛ في البيت،
والتجارة، والزراعة، والأسواق، والسياسة، حتى إنها وصلَت إلى أعلى المناصب السياسية عندما
حكمَت البلاد بمفردها، أو مع زوجها.
١٠
ويقول ديودور الصقلي: «إنها كانت تنال من السلطة والتكريم أكثر مما ينال الملك، ويرجع
هذا
إلى الذكرى المجيدة، التي خلَّفَتها في مصر الإلهة إيزيس …»،
١١ وكانت الزوجة جليلة القَدْر، حتى إن الملك لا يكاد يُصوَّر على الآثار إلا مع
زوجته، بل كان أغلى قسَم عند «إخناتون» أن يُقسِم بنفرتيتي — زوجته! — التي لم تُنجِب
له
سوى البنات، ومع ذلك رفض أن يتزوَّج بأخرى ليُنجبَ الولد! غير أن ذلك لم يكن مسألةً تقتصر
على الملوك الفراعنة، أو الطبقة العالية في المجتمع المصري فحسب، بل كان كذلك بالنسبة
لجميع
الطبقات «كانت النساء يحضُرن مع أزواجهن الحفلات العامة، وهذا مظهرٌ لم يعهده العالم
القديم، ولا الشرق الحديث؛ فالمصري كانت امرأته بجانبه أينما وُجد. ولم يكن من الأدب
المرعي
الفصل بين زوجَين؛ فالزوج المصري وزوجته يجتازان الحياة واليدُ في اليد، كما نرى في الصور
التي على القبور.»
١٢
ومعنى ذلك أن بعض المجتمعات الشرقية، قديمًا، كانت أكثر تحضُّرًا من المجتمع اليوناني
الذي وضع المرأة في مركزٍ متدنٍّ غايةَ التدنِّي، وجعل الرجل هو السيد المسيطر الآمر
الناهي،
١٣ وهو وضعٌ عبَّرَت عنه فلسفة أفلاطون، ثم قنَّنَته فلسفة أرسطو! وإذا كانت
المجتمعات الغربية قد تخلَّصَت شيئًا فشيئًا من هذه الأفكار الأرسطية، فإن المجتمعات
الشرقية لا تزال تحافظ عليها، ضنينةً بها، كما لو كانت كنزًا لا يفنى — وهي كذلك بالفعل
بالنسبة لمجتمع الذكور — بل إنها جاهدَت لتُضفيَ على هذه الأفكار شيئًا من القداسة!
ولكي نفهمَ بعمقٍ جذورَ هذه النظرية الأرسطية التي أثَّرَت في تفكيرنا، ولا تزال
رائدةً
في حياتنا الثقافية،
١٤ فإن علينا أن نفهم مجموعةً من أفكاره الفلسفية الأساسية؛ ولهذا جعلنا الباب
الأول عن الخلفية الفلسفية في بناء النظرية، نتحدث فيه عن الرغبة في المعرفة بصفةٍ عامة،
والمعرفة الفلسفية بصفةٍ خاصة، ثم كان لا بد أن نعرضَ بعض الدعائم التي دعَم بها أرسطو
موقفه واستمدَّها من ميتافيزيقاه، كذلك التطبيقات التي قام بها بعد تكوين نظريته عن المرأة،
ولا سيما في ميدان السياسة والأخلاق، ثم لنرى بعد ذلك كيف جعل «البيولوجيا» — وهو أعظم
علمائها قديمًا — تُسانِد موقفه. وهكذا نجد أن أرسطو جعل من فلسفته كلها جوانبَ أو جدرانًا
تدعم هذه النظرية.
•••
وقبل أن نختم هذه المقدمة لا بد أن نقول: إننا لا نعلم من حياة أرسطو الخاصة ما قد
يفسِّر
كراهيتَه للمرأة، فلا يبقى سوى أنه كان يقنِّن — كما سبق أن قلنا — ما كان شائعًا في
التراث
اليوناني من هذه الكراهية! فقد تزوَّج أرسطو مرتَين؛ الأولى من بيثياس
Pythias ابنة أخت صديقه، وزميل دراسته في أكاديمية
أفلاطون، هرمياس
Hermias، ولا نعرف الكثير عن هذا الزواج،
وإن كان البعض ومنهم «تيلور»، يعتقدون أنه كان زواجًا سعيدًا،
١٥ ويبدو أنه كان كذلك فعلًا لسببَين:
-
الأول: أنه أنجب طفلةً من زوجته هذه أطلق عليها نفس اسم الأم «بثياس».
-
والثاني: أنه كتب في وصيَّته يوصي بأن يُنقل رفات هذه الزوجة — وقد كانت تُوفيَت
قبله بفترةٍ طويلة — لتُدفَن معه في قبره: «وحيثما أُدفن فلتُجمع رفات
زوجتي بثياس Pythias وتُوضع معي في قبري
بجوار جثماني؛ فقد كانت تلك رغبتها.»١٦
أما المرة الثانية، فقد تزوَّج أرسطو من سيدة تُدعى هربيليس
Herpyllis أنجبَت له ابنَه نيقوماخوس — الذي أهداه
كتابه عن الأخلاق — وهو يشير إلى طيبتها وحسن معاملتها له أكثر من مرة؛ إذ يطلب من نيكانور
Nicanor — مُنفِّذ الوصية «إكرامًا» لذكراي، ومن أجل
عواطف هربيليس النبيلة نحوي — أن يعتني بها ويرعاها في جميع الأمور، وإذا ما رغبَت في
الزواج بعد وفاتي، فعليه أن يزوِّجها لشخصٍ لا يكون تافهًا، أو غيرَ جديرٍ بها، وإلى
جانب
ما أخذَتْه بالفعل، فعليه أن يُعطيَها وزنةً من الفضة خارج نصيبها، وثلاثَ خادمات تختارهن
بنفسها، بالإضافة إلى الخادمة التي لديها بالفعل، وكذلك إلى جانب الخادم بيرهايس
Pyrrhaeus، وإذا فضَّلَت أن تبقى في مدينة
خالقيس
Chalcis فلها بيتي بالحديقة، وإذا اختارت أن تعيش في
مدينة استاجيرا
Stagira فلها بيتُ أبي هناك! وعلى
المنفِّذين لهذه الوصية أن يقوموا بتأثيث المسكن الذي تختاره من هذَين المسكنين بالأثاث
اللائق الذي يرَونه مناسبًا، والذي تُوافق عليه هربيليس وتستحسنُه بنفسها.
١٧
من هذه الوصية التي نشَرها مؤرِّخ الفلسفة الألماني «فرنر بيجر
Werner
Jaeger» في كتابه «أرسطو: أساسيات تاريخ تطوُّره» عام ١٩٢٣م
١٨ يتضح أنه كان يعيش حياةً أسرية يغمُرها «الجو الإنساني» على حد تعبير بيجر
نفسه!
علينا أن نتوقَّف قليلًا عند هذه الوصية لنَسوقَ بعض الملاحظات الهامة:
الملاحظة الأولى
لا بد أن نشير إلى الرقَّة المتناهية، والوفاء، والإخلاص الواضح لزوجتَيه؛ الأولى،
والثانية …! وتلك مسألةٌ نقدِّرها للمعلم الأول حقَّ التقدير؛ فهو يطلب من منفِّذ
الوصية أن ينقل رفاتَ زوجته الأولى لتُدفنَ إلى جواره، ويُشرِف — بعد موته — على زواج
الثانية، إذا رغبَت في الزواج ويشترط أن يكون زوجُها الجديد رجلًا فاضلًا!
الملاحظة الثانية
أنه لا يتخلى عن عادات وتقاليد المواطن الأثيني العادي — أعني رجل الشارع — بصدد
ابنته بثياس
Pythias التي يقول عنها في الوصية «… فإن
بلغَت ابنتي سنَّ النضوج فعليهم أن يزوِّجوها إلى نيكانور
Nicanor فإن حدث أن ماتت (لا قدَّر الله!) قبل أن
تتزوَّج، أو بعد أن تزوَّجَت، دون أن يكون لها أبناء، فإنني أوصي أن يقوم نيكانور
بتحمُّل المسئولية، وإدارة شئون ابني نيقوماخوس بالطريقة المألوفة.»
١٩
فنحن نجد هنا أن أرسطو لم يتخلَّ قَط عن السلطة الأبوية التي كان يتمتَّع بها الرجل
الأثيني؛ فهو وحده صاحب الحق في تزويج الفتاة (بل أيضًا والأرملة بعد وفاته؛ إذ يضع
مواصفاتٍ خاصةً للرجل الذي ينبغي أن يتزوَّجها!)، وكما قال أفلاطون من قبلُ: «من له
الحق في ممارسة إجراءات خطبة الفتاة وعقد قرانها هو الأب بالدرجة الأولى، فإذا لم يكن
الأب موجودًا فالجد بالدرجة الثانية.»
٢٠
الملاحظة الثالثة
أن أرسطو يوصي بتزويج ابنته شخصًا معينًا هو «نيكانور» الذي كان والده وصيًّا على
أرسطو من قبلُ، كما كانت أمه هي أم أرسطو بالرضاعة، وقد تُوفِّيا قبل فترةٍ طويلة،
فتبنَّى فيلسوفُنا ابنهما نيكانور وأصبح أبًا له، ثم أصبح هذا الابن ضابطًا في جيش
الإسكندر الأكبر ومقربًا منه فيما يبدو.
٢١
الملاحظة الرابعة
أن أرسطو يستمر في وصيته فيقول: «إذا حدث أن تُوفي نيكانور، لا سمح الله، قبل أن
يتزوَّج ابنتي، أو بعد أن يتزوجها، دون أن يُرزقَ منها بأبناء، فإن ما يقترحه من
ترتيباتٍ سيكون مشروعًا وسليمًا، فإذا ما أراد ثاوفراسطس
Theophrastus أن يعيشَ مع الفتاة، فستكون له نفسُ
حقوق نيكانور السالفة.»
الملاحظة الخامسة
لا بد للمرء أن يندهش من خضوع المعلم الأول للعادات والتقاليد اليونانية إلى هذا
الحد؛ فهو لا يُشير ولو مرةً واحدة إلى رغبة الفتاة، أو سؤالها، أو يُضيف عبارة «بعد
موافقتها» … إلخ، ليس لها رأي ولا مشورة في حياتها أو مستقبلها، مما يؤكِّد لك أن أرسطو
في نظريته عن المرأة قد خضَع للتقاليد اليونانية، ودافَع عنها بنفس القوة والحماس
اللذَين دافع بهما عن «الرق» محبذًا فوائده ومزاياه للطرفَين؛ السيد والعبد
معًا!
والمرأة الوحيدة التي عرفَها أرسطو، خارج علاقته بزوجتَيه، هي أوليمبياس
Olympias — والدة الإسكندر — وكانت معرفة عمل، وإن
كانت شخصيةً مختلفة عن نسائه أتم الاختلاف!
في عام ٣٤٣ق.م. دُعي أرسطو إلى بيلَّا Pella عاصمة
مقدونيا ليعمل مؤدِّبًا للأمير الشاب الإسكندر المقدوني، وبقي في بلاط مقدونيا ثمانية
أعوام، عاد بعدها إلى أثينا عام ٣٣٥ق.م.، ليؤسِّس اللوقيون
Lyceun مدرستَه الفلسفية المعروفة.
وفي البلاط الملكي تعرَّف أرسطو على تلك المرأة القوية؛ أوليمبياس
Olympias والدة الإسكندر، وزوجة الملك فيليب، وكانت
— قبل زواجها منه — أميرةَ أبيروس (ألبانيا) وكاهنتَها في الوقت نفسه؛ ولذلك كانت تريد
أن تخلُق في الإسكندر نفسًا مُسيطِرة تتسلط كما تسلَّطَت هي من قبلُ،
٢٢ ويصفها المؤرِّخ الإنجليزي تارن
N. N. Tarn
بأنها «امرأة لم تكن تعرف أي معنًى للاعتدال، صلفة، سريعة الانفعال والغضب بصورةٍ
مريعة، وكان لها جانبٌ عاطفي جعل منها إحدى المتحمِّسات للطقوس والعبادات السرية في
ترقيا … إلخ.»
٢٣ كانت هذه المرأة تقف وراء ابنها تبُث فيه روحَ العظمة، والقوة، والمجد،
وتؤنِّبه كلما وجَدت فيه ضعفًا أو تردُّدًا، وتشدُّه إليها، وتحتضنُه في الوقت الذي كان
فيه أبوه — فيليب — مشغولًا عنهما بخمره ونسائه؛ ولهذا شعَر الإسكندر حقًّا أنه وأمه
يقفان وحدهما، وأن فيليب الذي بقي بعيدًا عنهما بمعاذير مختلفة لا يودُّهما …»
٢٤ وكثيرًا ما كان أبوه يتهمه بالطراوة والرخاوة؛ فقد كانت غرفة نومه قريبةً
من حريم النساء
٢٥ «… لك شعرٌ ذهبي، وعينا فتاة … كيف ستُلاقي الخطر، ها …؟!»
٢٦
وقد حصَّنَت هذه المرأة الحديدية نفسَها قبل أن تلقى أرسطو؛ فقبل أن تغامر
«أوليمبياس» بزيارة المدرسة الجديدة التي أنشأَها أرسطو في ميزا
Mieza لتعليم الإسكندر ورفاقه، قرأَت مآسي
«يوربيدس» بعناية، ولا سيما مسرحيته عن «ميديا» أميرة «كولخيس» وبدا لها أن ميديا
Medea كانت تقفُ مثلها وحيدة، لم يُعِنها أحدٌ على
قوة الرجال سوى السحر! وكانت تبدو وكأنها إلهةٌ حية في معبد الحوريات، نزلَت عن عربتها
الملكية، وقد اصطحبَت معها جاريتَين جميلتَين، وكان جسمُها اللدن يلفُّه الحرير الخالص،
والريح تُلصِقه بجسدها، وكانت قلة من النساء المتزوجات هن اللائي يغامرن بالخروج من
بيوتهن بوجوهٍ سافرة وأجسامٍ مكشوفة، كما كانت تفعل أوليمبياس «نزلَت المرأة الجميلة
من
عربتها الملكية، فهَروَل الفيلسوف لاستقبالها وتحيتها! وقامت بجولةٍ بصحبة المعلم
الأول، وقد تركَت وراءها في «ميزا» ما يشير إلى أنها امرأةٌ ساحرة الجمال! وقد أبدَت
ثقتَها بأرسطو فيما يتعلق بمستقبل ولدها الوحيد! وإن كانت قد أسرَّت إلى أحد العرَّافين
«أرستاندر
Aristander» بعد عودتها بقولها: «إن فيلسوف
العلم الجديد المسمَّى أرسطو يلثغ في كلامه».»،
٢٧ و«ليس عنده ما يقوله من أفكارٍ خلَّاقة! وربما عادت شهرتُه إلى أنه واحدٌ
من تلامذة أفلاطون المفضَّلين!»
٢٨