الخاتمة

كثيرًا ما يُقال إن العلاقة بين الفيلسوف والمرأة كانت على مَرِّ العصور علاقةً سيئةً مضطربة، على خلاف علاقتها بالشاعر، مثلًا، أو الفنان بصفةٍ عامة. وقد يُقال في تفسير هذه العلاقة السيئة: إن الفيلسوف يعمل في حقل المجرَّدات، ويحلِّق في سماء المُثل، في حين أن المرأة تميل إلى الاهتمام بالمحسوسات والارتباط بأرض الواقع.

إلا أنَّ هذا التبرير كان يمكن أن يصدُق لو كنا نتحدث عن علاقته بزوجته. أما أن يكون رأيه في «المرأة» بصفةٍ عامة سيئًا؛ بحيث لا يرى فيها سوى موجودٍ أدنى من الرجل، مهمتُه في هذه الدنيا خدمته ورعاية أولاده، وربما تخليده عن طريق الإنجاب — كما يذهب أرسطو — فلا بد لذلك من تفسيرٍ آخر هو، في ظني، خضوع الفيلسوف، في الأعم الأغلب، خضوعًا يكاد يكون تامًّا لوضع المرأة الاجتماعي في عصره. وربما كان جانبٌ من تفسير هذا الخضوع أنه يشعُر بما لهذه الفكرة المتدنية عن المرأة من نفع، شأنه شأن الرجل بصفةٍ عامة؛ فوضع المرأة في زاوية من زوايا المنزل يُمكِّنه من التفرُّغ لبحوثه المجرَّدة، وتحليقه في السماء كما يشاء!

ولقد سبق أن رأينا طَوالَ هذا البحث، كيف كان أرسطو «يُنَظِّر» وضع المرأة المتدني في عصره، رغم وجود سيدات، في هذا الجو الخانق، على درجةٍ كبيرة من الذكاء، ورجاحة العقل، وقوة البصيرة، في مجتمعٍ كان يقتل مواهبَ النساء جميعًا، ولا يعترف بهن إلا خادماتٍ للأب أو الزوج، لأنهن قاصراتٌ لا يجدن سوى أعمال المنزل! ومع ذلك فقد عرف أرسطو نساءً لم يكنَّ من هذا الطراز؛ عرف في بيلَّا Pella عاصمة مقدونيا امرأةً على درجةٍ كبيرةٍ من الذكاء، ورجاحة العقل وقوة الشخصية، هي أوليمبياس Olympias والدة الإسكندر، التي اتُّهِمَتْ بأنها كانت وراء المؤامرة التي أطاحت بزوجها الملك فيليب لتُمكِّن ابنها من العرش. ولقد كانت هذه المرأة الحديدية تقف وراء ابنها تبثُّ فيه رُوحَ العظمة، والقوة، والمجد، وتؤنِّبه كلما وجدَت فيه ضعفًا أو ترددًا، وتحتضنُه في الوقت الذي كان فيه أبوه «فيليب» مشغولًا عنهما بخمره ونسائه؛ فها هنا نجد مَثَلًا حيًّا لسيطرة الانفعالات وغلبة الشهوات على الرجل، ورجاحة العقل، والفكر المتزن عند المرأة! ولقد عرف أرسطو هذه المرأة عن كثَب؛ إذ كانت تزوره لتطَّلِع على أحوال المدرسة التي يُعلِّم فيها الإسكندر وبعض أمراء البلاط، وكان المعلم الأول يُهروِل مسرعًا للقائها عندما تصل عربتُها الملكية! ومع ذلك لم يُراجع أفكاره عن المرأة قط. ومن المفارقات الطريفة أنه لم يُعجِب «أوليمبياس» ولم تقتنع به، فقالت «ليس عنده ما يقوله من أفكار خلاقة، وهو نحيل ألثغ».
عرف أرسطو أيضًا الشاعرة سافو Sappho التي سمَّاها سقراط بالجميلة، وكان بذلك يعبِّر عن عبقريتها، وقال عنها أفلاطون: إنها الربة العاشرة للفنون! كما عرف المرأة الذكية البارعة، التي كانت حديث أثينا «أسباسيا» Aspasia رفيقة بركليز حاكم أثينا الشهير — التي يروي المؤرخون أن بيتها كان منتدًى للشخصيات الكبيرة في أثينا؛ فقد كان يحضر صالونها الأدبي: سقراط، وأفلاطون، وفيدياس، وأنكساجوراس، وسوفكليس، ويوربيدس — حتى ليندُر أن تجد طوال التاريخ امرأةً كان لها «صالون» أدبي على هذا المستوى الرفيع، بل إن بعض الشعراء كانوا يُسمُّونها «هيرا» أو الإلهة الملكة!
عاصر أرسطو هذه الشخصيات النسائية اللامعة، كما استمع بالقطع، إلى حديث أفلاطون عن ديوتيما Diotima ونظريتها في الحب التي رواها في محاورة «المأدبة» … إلخ. لكن أرسطو غضَّ الطرف عن هذه النماذج المضيئة اللامعة في عصره، ليأخذ بفكرة رجل الشارع، وراح يبحث لها عن تبريرات وأسانيد ليُقيم نظريةً فلسفيةً متكاملة يستمد جوانبها الأساسية من أفكاره الميتافيزيقية، التي اعتقد أنها حقٌّ لا ريب فيه، ثم أخذ يطبِّقُها في ميدان البيولوجيا، والسياسة، والأخلاق، ليجعل من المرأة «رجلًا ناقصًا» ليس لها دورٌ في هذه الدنيا سوى الإنجاب وتربية الأولاد. وأخطر ما في نظرية أرسطو أنه يذهبُ فيها إلى أن الطبيعة — التي لا تفعل شيئًا باطلًا — هي التي جعلَت المرأة على هذا القَدْر من الدونية، وليس للعادات أو التقاليد أو أفعال المجتمع، ولا سيما المجتمع الذكوري، دخلٌ في تحديد هذه الدونية.

قد يُقال: وماذا في ذلك؟ وهل يمكن للفيلسوف أن يخرج عن إطار عصره؟ ألسنا نطالب أرسطو بأكثر مما في قدرته عندما نريده أن يرتفع فوق أفكار العصر ليُنقِذَ المرأة مما هي فيه من أوضاعٍ مشينة؟ ألم يقُل هيجل: إن كلًّا منا هو ابنُ عصره، وربيبُ زمانه؟ ألم تعبِّر نظريته عن أفكار جميع المثقَّفين، والمفكِّرين والشعراء، والفنانين في عصره؟ ونحن بدَورنا نردُّ على ذلك كله بما يلي:

إذا كانت الآراء والأفكار والعادات والتقاليد … إلخ، في المجتمع الأثيني تحط من شأن «المرأة» فقد ذهب «السوفسطائيون» إلى أن هذه الآراء مكتسبة لا فطرية ولا طبيعية؛ ومن ثَم فهي تتغيَّر بتغيُّر المجتمع، وذهب زعيمهم «بروتاجوراس» إلى أن الإنسان، لا الطبيعة، هو مقياس الأشياء جميعًا. ومعنى ذلك كله أنه إذا كان هناك صراع في الفلسفة اليونانية بين أنصار «الطبيعة» — أي الفطرة — وبين أنصار العرف أو المكتسَب، فقد انتصر السوفسطائيون للفريق الأخير، وكانوا من أعلامه، فإذن كان في عصر أرسطو من يردُّ الأفكار إلى العادات والتقاليد، ولا يجعل فيها شيئًا من عمل «الطبيعة» التي أتعبَها أرسطو وأثقَل كاهلها بأفكاره، ورأى أنها لا تفعل شيئًا باطلًا لأنها تؤيد فلسفته. ومع ذلك فقد رفض أرسطو الأفكار السوفسطائية وسخر منها، وحاربها بعنف، بل ذهب إلى أنهم غير جديرين بحمل لقب الفلاسفة!

وأخطر ما في نظرية أرسطو أيضًا تأثيرُها الهائل وسيادتُها على الفكر البشري طوال العصور الوسطى، مسيحيةً وإسلاميةً معًا، وغلبتُها على عقول المفكرين، أو قل: إنها لاءمَت هواهم، وسايرَت عاداتهم وتقاليدهم وأعطتهم الأساس الفلسفي الذي يُبقي وضع المرأة مترديًا، فلم تتغير هذه الأفكار إلا بعد أن تغيَّر المجتمع الأوروبي ولا سيما في إنجلترا في القرنِ التاسعَ عشر، وكان أول من حمل لواء الأفكار الليبرالية الجديدة هو الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مل J. S. Mill (١٨٠٦–١٨٧٣م)، فدعا بقوة إلى تحرير المرأة وإعطائها حقوقَها السياسية، عندما كان نائبًا في البرلمان.

أما قبل ذلك فقد ظلت النظرية الأرسطية مسيطرةً وإن اصطبغَت في العصور الوسطى بصبغةٍ دينية؛ فربط الفلاسفة المسيحيون بين المرأة، ولا سيما جسدها، وبين الخطيئة الدينية، وأصبحَت المرأة رمزًا للجنس، ودعوة للشهوة، و«رسول الشيطان» أو «بوابة جهنم» وأساس الرذيلة، والمنزلق الخطر الذي ينبغي أن يتجنَّب الوقوع فيه!

وفي استطاعتك أن تتلفَّت حولك لتجد معظم الأفكار الأرسطية وقد اصطبغَت بصبغةٍ دينية تارة أو اجتماعية وأخلاقية تارة، وهي في الأعم الأغلب تدور حول «الجنس»؛ فنحن لا يشغَلنا في حياتنا شيءٌ قَدْر ما تشغلنا المسائل الجنسية التي جعلنا المرأة تجسيدًا لها، وكأنها تمارسها منفردة، وربما يعود ذلك إلى ما نعانيه من كبتٍ جنسي، أو قصورٍ في فهمنا لهذه الغريزة، أو الممارسات السيئة لإشباعها.

إذا كانت «البيولوجيا» عند أرسطو تذهب إلى أن العنصر اللاعقلي في النفس هو الذي يسيطر على العنصر العقلي عند المرأة؛ ولهذا يغلب عليها سيادة المشاعر والانفعالات والشهوات … إلخ، فإننا لا نزال نردِّد هذه الأفكار بغير وعيٍ دون أن نُدخِلَ في حسابنا العامل الحاسم للتربية، الذي يضع المرأة في مجتمعنا وفي غيره من المجتمعات، في قالبٍ خاص. ولقد أثبتَت «مارجريت ميد M. Mead» عالمة الأنثروبولوجيا الشهيرة — فيما أجرَتْه من بحوث على المجتمعات البدائية — أنه لا تُوجَد فوارقُ طبيعية على الإطلاق بين الرجل والمرأة، أو ما يُسمَّى «بطبيعة الأنثى والذكَر» سوى الفروق البيولوجية بالطبع — في ثلاثة مجتمعات بدائية قامت بدراستها — وأن المسألة تُرد بكاملها إلى التربية الاجتماعية، فضلًا عما نشاهده في بعض الرجال من سيطرة للانفعالات، وغلبة للشهوات، قد لا نجدها عند بعض النساء.

وإذا كانت «السياسة» عند أرسطو تذهب إلى أن المرأة لا تصلح للقيادة، أو الرئاسة، ولا «الحكم» أو الاشتراك في إدارة الدولة، أو القضاء … إلخ، فإننا كثيرًا ما نردِّد هذه الأفكار، وننتهي إلى أن كل ما تصلُح له المرأة، إن كانت فاضلةً وصاحبةَ امتياز، أن تكون «ربَّة منزل»، بل كثيرًا ما نقول ذلك باسم الإسلام العظيم الذي أشاد برجاحة عقلها وقدرتها على القيادة. انظر مثلًا إلى ما يرويه القرآن الكريم عن «بلقيس» تجد أنه يقول لنا: إنها كانت ملكة، لكنها لا تحكُم منفردة عندما تُقْدِم على اتخاذ قرار، بل تدعو عِلْية القوم للتشاور معها وتبادل الرأي، وتضع مبدأ سياسيًّا مهمًّا للحكم، هو أنه لا يجوز اتخاذ قرارٍ خطير إلا بعد روِيَّة وتدبُّر وإمعان: قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (النمل: ٣٢) بل إن الآيات الكريمة تبيِّن لنا بعد ذلك مباشرةً أن مَنْ دعَتْهم من القوم كانوا أشدَّ منها اندفاعًا، وأسرع انفعالًا وتهورًا، عندما راحوا يلوِّحون، في الحال، باستخدام القوة: قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ، لكنها كانت أعظم تعقلًا وأكثر تريثًا، وتروِّيًا، فرأت أن تجرِّب أمرًا آخر هو الالتجاء إلى الهدايا … إلخ. هذا ما يقوله الدين لمن شاء أن يقرأ ويعقل، وهو نفسه ما يقوله الواقع المرئي أمام عيوننا؛ فها هي «مارجريت تاتشر» في إنجلترا الملقَّبة «بالمرأة الحديدية» لشدة عزمها وصلابتها، ولم يقُل أحدٌ إن انفعالاتها وشهواتها أفسدَتها، وجعلَتها غير صالحة للحكم! وها هي «بي نظير بوتو» في باكستان، التي كان يلجأ إليها الرجال لحل منازعاتهم في قريتها، حتى قبل أن تصل إلى منصة الحكم، وغيرها كثيرات؛ أكينو في الفلبين، وأنديرا غاندي في الهند، وجولدا مائير التي ذقنا المُر على يدَيها، في إسرائيل، وقُل مثل ذلك في فرنسا وتركيا … إلخ، ألا يجعلنا ذلك كله نفكِّر مرتَين قبل أن نصدر أحكامنا تلك؟ ألا نشعُر بشيءٍ من التناقض بين ما نراه في الواقع وما نحمله في رءوسنا؟ والأخلاق عند أرسطو تجعل للمرأة أخلاقًا خاصة، وفضائلَ مختلفة عن فضائل الرجل وأخلاقه — ونحن بدورنا نفعل ذلك؛ فأخلاقنا وفضائلنا تدور، في الأعم الأغلب، لا سيما بالنسبة للمرأة، حول السلوك الجنسي، وكلمة «الشرف» عند المرأة لا نعني بها سوى العلاقات الجنسية؛ فهي تفقد «شرفها» إذا مارسَت الجنس بطريقةٍ غير مشروعة؛ فمن تسرق، أو تتاجر في المخدرات، أو تغشُّ يُمكِن أن تفعلَ ذلك وهي تحافظ على شرفها، أما الرجل فيظل «شرفه» مصونًا مهما يكن له من سلوكٍ جنسيٍّ مشين، ما دامت زوجته أو أخته … إلخ مستقيمة السلوك … أيُّ تخلُّف!

نحن، في الأعم الأغلب، نغضُّ الطرف عن كثيرٍ جدًّا من الرذائل الإنسانية؛ كالكذب، والغش، والجبن، والأنانية، والخداع … إلخ؛ لأن الفضائل الإنسانية التي تكون للإنسان بما هو إنسان لا أهمية لها عندنا، أنخطئ، إذن، عندما نقول: إن هيراركية الأخلاق الأرسطية ما زالت مسيطرة علينا؟ غير أننا لا بد أن نقول في النهاية: إن ذلك كله لا يعني أننا نقول إننا قمنا بنقل «نظرية أرسطو عن المرأة» بل نريد أن ننتبه جيدًا إلى أن كل ما نقوله عنها يشبه تمامًا ما كان يقول فلاسفة اليونان، ولا سيما المعلم الأول، واحتمال التأثُّر واردٌ بالطبع، لكن الأرجح أن موقف الرجل في المجتمعات الذكورية واحد، وأنه يستفيد كثيرًا من الوضع المتدني للمرأة، تمامًا كما كان الأحرار يستفيدون من وجود نظام الرقيق في مجتمعهم، ولا يهمُّ المرء بعدئذٍ إن كان بذلك يعمل على وجود رئةٍ معطلة، ومعوقة للتقدم، كان يمكن للمجتمع بأَسْره أن يستفيد منها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥