الفصل الأول

«لبِنات من الإبستمولوجيا»

«البداية هي المبادئ التي يحدِّدها العقل؛ فهو الأساس الأول للعلم … وتقودُنا هذه المبادئ إلى العِلَل التي هي المقدِّمات والوقائع التي نلاحظها هي النتائج؛ فمبادئ الإبستمولوجيا تتحدَّد طبقًا للنظام العقلي للعالم …»

  • ليندا لانج، المرأة ليست حيوانًا عاقلًا، ص٧.

  • هرمان راندال، أرسطو، ص٤٦.

أولًا: الرغبة في المعرفة

يفتتح أرسطو كتابه «الميتافيزيقا» بقوله:
«إن الناس جميعًا يرغبون بطبيعتهم في المعرفة، والدليل على ذلك ما يشعرون به من متعة عندما يستخدمون حواسَّهم؛ فنحن نُحب عمل الحواس — حتى بغَض النظر عن نفعها — خصوصًا حاسة البصر، ونحن نُفضِّل الرؤية على أي شيءٍ آخر، لا فقط من زاوية الفعل بل حتى إذا لم نُقدِم على فعلٍ ما، وسببُ ذلك أن معظم حواسِّنا تمكِّننا من المعرفة، وتُلقي الضوء على اختلافاتٍ كثيرة بين الأشياء …»١
فكيف عرف أرسطو أن لدينا مثل هذه الرغبة …؟! الجواب: يكمُن فيما يقوله عن المتعة التي نُحسُّها في حواسِّنا؛ فلو كانت المعرفة التي نبحث عنها مجرد وسيلةٍ لغاية أكبر كالسيطرة على الآخرين مثلًا، فلن تكون رغبتُنا الفطرية في هذه الحالة رغبةً في المعرفة، وإنما ستكون إرادة القوة، أو دافعًا للسيطرة؛ ومن ثَم فإن شعورنا بالمتعة من مجرد ممارسة حواسِّنا هو في حد ذاته دليلٌ على أن لدينا رغبةً في المعرفة؛ إذ على الرغم من أننا نستخدم معرفتَنا الحسية في تنظيم أنفسنا في العالم وإنجاز غاياتٍ عملية، فإننا نسعى مع ذلك وراء هذه المعرفة لذاتها.٢
غير أن الإحساس، وإن كان أساسًا لمعرفة الجزئي، فإنه لا يقدِّم العلم الحقيقي، (لأن العلم علمٌ بالكلي كما يقول أرسطو) فما تقدِّمه الحواس من خبرة لا يرقى إلى مستوى المعرفة العلمية أو الفلسفية؛ لأن الحواسَّ تؤدي إلى تكوين الخبرة، وهي تقدِّم لنا معرفة الجزئيات، والظواهر المختلفة، كأن نعرف أن النار ساخنة، وأن دواءً معينًا قد شفَى سقراط من مرضٍ معيَّن، وهذه كلها معرفةٌ مفيدة للحياة العملية، أما إذا حاولنا الارتفاع إلى المعرفة الفلسفية فإننا لا نكتفي بذلك، وإنما نحاول معرفة العلَّة التي تفسِّر ارتباط الظواهر المشاهَدة في الخبرة الحسية، إننا نحاول البحث عن السبب أو العلة بقصد الوصول إلى الضرورة؛ فلماذا تكون النار دائمًا ساخنة؟ ولماذا يشفي هذا الدواء بعينه من هذا المرض أو ذاك؟ فأصحاب الخبرة قد يعلمون أن شيئًا ما موجود، لكنهم يجهلون السبب في وجوده، أما العلم المسمَّى بالحكمة أو الفلسفة، فهو الذي يصل إلى معرفة العلَّة الأولى للوجود؛ أي إنه العلم الذي يصل إلى إدراك الكلي الذي يفسِّر لنا الجزئيات.٣

ومعنى ذلك أن الخبرة تجميعٌ لإدراكات الحواسِّ التي لا تستطيع أن تُدرِكَ سوى الجزئي (النار تحرق – هذا الدواء يشفي المريض من الصُّداع … إلخ)، وهذه الخبرات العملية مفيدة للحياة العملية، لكنها لا ترقى إلى مستوى المعرفة الفلسفية.

أما المعرفة الحقيقية، فهي المعرفة الفلسفية التي تحاول معرفة العلَّة التي تفسِّر هذه الظواهر؛ لِمَ كانت النار تحرق، ولِمَ كانت ساخنةً دائمًا؟ أو لِمَ كان الدواء الفلاني شافيًا من الصُّداع؟ إننا نريد الأساس الكامن وراء الظواهر، والفلسفة هي العلم الذي يصل إلى معرفة الكلي الذي يفسِّر لنا الجزئيَّات.

ثانيًا: المعرفة الفلسفية

مهمة الفلسفة عند أرسطو هي إذن، أن نفهم العالَم الذي نعيش فيه؛ بحيث نصل إلى العلل الأولى، والمبادئ الأساسية التي يقوم عليها، والمقصود بالعالَم هنا العالَم الطبيعي بشقَّيه؛ العضوي، وغير العضوي من ناحية، ثم العالَم الذي صنَعناه نحن بأنفسنا؛ أعني العالَم الاجتماعي والسياسي والأخلاقي … إلخ، من ناحيةٍ أخرى. ومعرفة الشيء كما سبق أن ذكَرنا تعني معرفة «العلَّة» التي جعلَته على ما هو عليه: كيف وُجد؟ ولِمَ وُجد؟ وما هي الطريقة التي وُجد عليها؟ … إلخ.

لقد ذهب الإيليُّون إلى أن الحقيقة لا يمكن أن تتغيَّر؛ فالوجود موجود، ولا يُمكِن أن يكون غير موجود؛ ومن ثَم فإن ما يتغيَّر هو مجرد ظاهرٍ لا يرقى إلى مرتبة الحقيقة. وواصَل أفلاطون تأكيد الفكرة التي استمدَّها منهم، وانتهى إلى أن عالم الحس ما دام يتغيَّر فهو غير حقيقي؛ لأن الحقيقة تكمُن في عالم المُثل الأزلي الذي لا يطرأ عليه كونٌ ولا فساد، والمعرفة الحقيقية هي معرفة هذا العالم؛ ومن ثَم فهي المعرفة بالأزلي، وبالضروري، وبالدائم الذي لا يُمكِن أن يكون خلافَ ما هو عليه.

ثم جاء أرسطو ليواصل دعم الفكرة ذاتها، وليتساءل في كتابه «الأخلاق إلى نيقوماخوس»: ما المعرفة؟ «ثم يُجيب أن الشرط الأساسي للمعرفة بمعناها الدقيق … أن ما نعرفه لا يمكن أن يكون على خلاف ما هو عليه … ومن ثَم كان لموضوع المعرفة صفة الضرورة؛ ولذلك فهو أزليٌّ أبدي Eternal؛ لأن كل ما يحمل صفة الضرورة هو بمعنًى ما أزلي، وما هو أزلي لا يمكن أن يطرأ عليه كون ولا فساد.»٤

فالمعرفة الحقيقية إذن هي أن نبرهن على وجود الأشياء، وعلى وجود العالَم ككل، والأجزاء التي يتألَّف منها، باحثين عن العلَّة التي تجعله على هذا النحو، وليس على أي نحوٍ آخر.

غير أن هذا المنظور الأرسطي للمعرفة لا يقتصر على معرفة العالم الطبيعي، وإنما نراه يُطبِّقه كذلك على العالم الإنساني؛ ولهذا نراه يتغلغل بعمقٍ في كتاباته السياسية والأخلاقية؛ فلا فارق في المنهج بين فهمنا لهذَين العالمَين؛ فهو مثلًا يقول في الأخلاق النيقوماخية وهو يناقش الدور الذي يقوم به فيلسوفٌ أخلاقي: «إن علينا هنا — كما هي الحال في جميع الموضوعات الأخرى — أن نبدأ بالظواهر أو الوقائع على نحوِ ما تظهر، وبعد أن نُناقشَ المشكلات أو الصعوبات، نستطرد لكي نُبرهنَ على حقيقة الآراء الشائعة، إن كان ذلك ممكنًا.»٥
ومعنى ذلك أن أرسطو يتصوَّر أن مهمة فيلسوف الأخلاق هي: تخليص الآراء والمعايير الأخلاقية القائمة مما يشوبُها من تناقُضٍ أو غموضٍ قد يُفسِدها أو يُشوِّهها، وهو يعتقد أن الصواب فيها أرجح من الخطأ، ومعنى ذلك أن الأخلاق الأرسطية تقليدية إلى حدٍّ كبير؛ لأنها تقوم بتوضيح المفاهيم السائدة، وتقديم مبرِّراتها العقلية؛ فأرسطو لا يعتقد أن العالم ينبغي أن يكون على خلاف ما هو عليه، بل يبدأ بإيمانٍ راسخ بأن الوضع القائم هو في آنٍ معًا أفضل طريقة لوجود الأشياء، سواء أكان ذلك وضع الأشياء في العالَم الطبيعي أم العالَم الاجتماعي،٦ وسوف نرى فيما بعدُ تطبيقاته في عالم البيولوجيا أيضًا!
غير أن هذا المنظور المحافظ لم يأخذ به أرسطو بطريقةٍ دجماطية، بل كان له مبرِّره الخاص، وهو الوظيفة التي يؤدِّيها الشيء — وهي فكرةٌ استمدَّها من أستاذه أفلاطون٧ — إذ يرى أرسطو أن الأشياء دائمًا تكون على ما هي عليه، بسبب قيامها بتأدية وظيفتها، وإذا فقَد الشيء وظيفته فقدَ مبرِّر وجوده، وكل شيءٍ يقوم بوظيفةٍ معيَّنة، وبقاؤه دليلٌ على أنه يقوم بوظيفته خيرَ قيام، يقول في بداية كتابه السياسة: «كل شيء يستمد تعريفَه من وظيفته، وقدرته على تأديتها، وينتج عن ذلك أنه ما لم تكُن الأشياء قادرةً على تأدية وظيفتها، فلا ينبغي علينا أن نقول إنها لا تزال هي نفس الأشياء، وإن كانت تحمل الأسماء ذاتها.»٨

وهكذا كانت فكرة الوظيفة على جانبٍ كبيرٍ من الأهمية في فلسفة أرسطو لفهم العالمَين؛ الطبيعي، والاجتماعي، وسوف نعود إليها بعد قليل.

ويهمُّنا الآن أن نوضِّح أن هناك مجموعة متطلباتٍ سابقة وضرورية حتى يُمكِن إدراك الموجودات على ضوء وظائفها؛ فنحن لا نستطيع أن تقول عن شيءٍ ما إن له علاقة بغيره إلا من خلال وظيفته، وهذا هو السبب في أن الأدوات وأجزاء البدن أمثلةٌ نموذجية للأشياء التي نفكِّر فيها وظيفيًّا، وإذا افترضنا أن وظيفة الموجودات الحيَّة توازي — بطريقةٍ ما — وظائفَ الموجودات الصناعية، فلا بد من النظر إليها من حيث علاقتها بعضها ببعض وعلاقتها بالعالم ككل، ويزوِّدنا أرسطو بمثل هذه النظرة إلى العالَم.

وعلى الرغم من أن أرسطو يعترف بأن ديمُقريطس، الفيلسوف الطبيعي المبكِّر، كان يعرف أن الظواهر الطبيعية ضرورية، فإنه ينتقده؛ لأنه أغفل مفهوم العلة الغائية، أو الغرض، يقول: «رغم أن ديمقريطس تجاهل العلَّة الغائية Final Cause، فقد ردَّ كل عمليات الطبيعة إلى الضرورة، وهي بالفعل ضرورية، لكنها تكون على هذا النحو من أجل تحقيق غرضٍ معيَّن، أو علةٍ غائية، أو من أجل تحقيق ما هو أفضل في كل حالة؛ فلا شيء يمنع الأشياء أن تتشكل أو أن تكون على ما هي عليه.»٩
والعبارة الأخيرة تلفِت النظر إلى حقيقةٍ بالغة الأهمية في مذهب أرسطو، وهي أن نظرته إلى الكون «هيراركية» أو تصاعدية؛ فالكون عند أرسطو مرتَّب من الجماد إلى النبات إلى الحيوان إلى الإنسان، ثم فيما بعد الإنسان من الأجرام السماوية إلى الآلهة، وهو مُنظَّم بطريقةٍ تصاعديةٍ دقيقة؛ ولهذا استطاع أن يقول إنه في العالمَين؛ «عالم الطبيعة وعالم الفن»،١٠ نجد باستمرارٍ أن ما هو أدنى موجودٌ لصالح ما هو أعلى! بل حتى النفس تنقسم إلى ما هو أدنى وما هو أعلى، وما هو أعلى فيها، هو كذلك لما لديه من مبدأ عقلي، وهذا المبدأ نفسه يمكن أن ينقسم إلى قسمَين؛ إذ يُوجد فيه جانبٌ نظري، وجانبٌ عملي … وإذا كانت جوانبُ النفسِ لها هيراركيةٌ تصاعدية، فلا بد أن تكون للأنشطة التي تصدُر عنها نفسُ الهيراركية التصاعدية …»١١ ولقد مكَّنه ذلك من أن يصل إلى قاعدته الشهيرة «إن الطبيعة لا تفعل شيئًا باطلًا!»

وهكذا نستخلصُ من نظرية المعرفة الأرسطية مجموعةً من الأفكار الهامة:

  • (١)

    المعرفة تبدأ بالحس، لكنه لا يشكِّل علمًا لأنه يصلُنا بالجزئي، في حين أن العلم علمٌ بالكلي!

  • (٢)

    المعرفة الحقيقية هي المعرفة الفلسفية التي تفترقُ عن الخبرة بأنها لا تكتفي بتحصيل معلوماتٍ سريعة عن ظواهرَ معيَّنة، وإنما نراها تسأل لِمَ كان الشيء على هذا النحو ولم يكن خلاف ذلك؟!

  • (٣)

    معنى ذلك أن المعرفة الفلسفية تبحث عن العلَّة أو السبب؛ بحيث يبدو وجود الشيء ضروريًّا؛ فهذه العلَّة هي المبدأ العقلي الكامن وراء الشيء، وهكذا تصبح المعرفة الحقيقية معرفة الضروري الذي هو ثابتٌ لا يتغير.

  • (٤)

    هذا المنظور المعرفي ينطبق على العالم الطبيعي، فيفسِّر الموجودات الطبيعية، كما ينطبق على العالم الإنساني، فيفسِّر الظواهر الاجتماعية سواء بسواء.

  • (٥)

    لكي نصل إلى هذه المعرفة لا بد أن يكون لدينا عدة أفكارٍ أساسية هي أشبه «بالمفاتيح» لهذا المذهب، وهي:

    • (أ)

      هيراركية الكون.

    • (ب)

      فكرة الوظيفة.

    • (جـ)

      الهيولى والصورة.

وهو ما سوف نعرضُ له بشيءٍ من التفصيل في الفصل القادم لنعرفَ كيف طبَّق أرسطو هذه المفاتيح أو الأفكار الأساسية على عالَم المرأة؛ فهو منذ البداية يسعى إلى الوصول إلى معرفة «فلسفية» عن المرأة، يعني أن يعرف لِمَ كان من الضروري أن يكون وضعُها الاجتماعي على هذا النحو؟ وما هو المبرِّر العقلي الذي يحتِّم أن تكون المرأة تابعة للرجل؟ ولنرى أيضًا كيف طبَّق الهيراركية في عالم الأسرة، فكان الرجل هو الأعلى والمرأة هي الأدنى: «وما هو أدنى موجود لصالحِ ما هو أعلى»، ثم كيف أصبحَت المرأة هي الهيولى، والرجل هو الصورة، والمرأة هي المادة والرجل هو المبدأ العقلي.

وعلى هذا النحو تتحدَّد وظيفة المرأة، باختصارٍ لنرى كيف نقل أرسطو ميتافيزيقاه، وطبَّقها على عالَم المرأة، وهي نفسُ ملاحظاتِ فرنسيس بيكون «حول العلاقة بين المنطق وفلسفة الطبيعة»؛ حيث جعل أرسطو فلسفة الطبيعة مجرد خادمٍ تابع للمنطق فأحالها بذلك إلى «دراسةٍ مثيرة للجدل، لا نفع فيها على وجه التقريب …».١٢
١  Aristotle: Metaphysics 980-A—The complete works, vol. 2, p. 1552.
٢  J. Lear, Aristotle: The Desire to Understand, p. I. Cambridge 1988.
٣  Aristotle: Metaphysics, 980-A (vol. 2. p. 1553).
٤  Aristotle: Ethics, 1139-B (vol. II, p. 1799).
٥  Aristotle: Ethics, 1125-B (vol. 11, p. 1809).
٦  Susan M. Okin: Women in Western Political Thought, p. 73.
٧  قارن بحثنا «أفلاطون … والمرأة»، ص٦٦، وما بعدها.
٨  Aristotle: Politics, 1253-A (vol. 11, p. 1988).
٩  Aristotle: Ibid..
١٠  لا بد أن نلاحظ أن تعبير «عالم الفن» هنا يعني معنًى أوسع مما يدل عليه اللفظ بكثير؛ فهو يعني العالم الذي يخلُقه الإنسان أو يصنَعُه لنفسه؛ فالفن يعني «الصنعة»! والإنسان في هذا العالم يخلق ما هو أدنى ليُنجِز ويحقِّق ما هو أعلى، والطبيعة في مسارها تخلُق ما هو أدنى كمرحلةٍ في التطوُّر الذي يهدفُ بلوغَ ما هو أعلى! قارن مثلًا تعليق إرنست باركر في ترجمته لكتاب السياسة لأرسطو، ص٣١٧، حاشية ١.
١١  Aristotle: Politics, 1333-A (vol. 2, p. 2115).
١٢  F. Bacon: The New Organon, p. 54, ed. by Fulton H. Anderson, The Bobbs-Merrill, N.Y. 1960.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥