«لبِنات من الإبستمولوجيا»
«البداية هي المبادئ التي يحدِّدها العقل؛ فهو الأساس الأول للعلم … وتقودُنا هذه المبادئ إلى العِلَل التي هي المقدِّمات والوقائع التي نلاحظها هي النتائج؛ فمبادئ الإبستمولوجيا تتحدَّد طبقًا للنظام العقلي للعالم …»
-
ليندا لانج، المرأة ليست حيوانًا عاقلًا، ص٧.
-
هرمان راندال، أرسطو، ص٤٦.
أولًا: الرغبة في المعرفة
ومعنى ذلك أن الخبرة تجميعٌ لإدراكات الحواسِّ التي لا تستطيع أن تُدرِكَ سوى الجزئي (النار تحرق – هذا الدواء يشفي المريض من الصُّداع … إلخ)، وهذه الخبرات العملية مفيدة للحياة العملية، لكنها لا ترقى إلى مستوى المعرفة الفلسفية.
أما المعرفة الحقيقية، فهي المعرفة الفلسفية التي تحاول معرفة العلَّة التي تفسِّر هذه الظواهر؛ لِمَ كانت النار تحرق، ولِمَ كانت ساخنةً دائمًا؟ أو لِمَ كان الدواء الفلاني شافيًا من الصُّداع؟ إننا نريد الأساس الكامن وراء الظواهر، والفلسفة هي العلم الذي يصل إلى معرفة الكلي الذي يفسِّر لنا الجزئيَّات.
ثانيًا: المعرفة الفلسفية
مهمة الفلسفة عند أرسطو هي إذن، أن نفهم العالَم الذي نعيش فيه؛ بحيث نصل إلى العلل الأولى، والمبادئ الأساسية التي يقوم عليها، والمقصود بالعالَم هنا العالَم الطبيعي بشقَّيه؛ العضوي، وغير العضوي من ناحية، ثم العالَم الذي صنَعناه نحن بأنفسنا؛ أعني العالَم الاجتماعي والسياسي والأخلاقي … إلخ، من ناحيةٍ أخرى. ومعرفة الشيء كما سبق أن ذكَرنا تعني معرفة «العلَّة» التي جعلَته على ما هو عليه: كيف وُجد؟ ولِمَ وُجد؟ وما هي الطريقة التي وُجد عليها؟ … إلخ.
لقد ذهب الإيليُّون إلى أن الحقيقة لا يمكن أن تتغيَّر؛ فالوجود موجود، ولا يُمكِن أن يكون غير موجود؛ ومن ثَم فإن ما يتغيَّر هو مجرد ظاهرٍ لا يرقى إلى مرتبة الحقيقة. وواصَل أفلاطون تأكيد الفكرة التي استمدَّها منهم، وانتهى إلى أن عالم الحس ما دام يتغيَّر فهو غير حقيقي؛ لأن الحقيقة تكمُن في عالم المُثل الأزلي الذي لا يطرأ عليه كونٌ ولا فساد، والمعرفة الحقيقية هي معرفة هذا العالم؛ ومن ثَم فهي المعرفة بالأزلي، وبالضروري، وبالدائم الذي لا يُمكِن أن يكون خلافَ ما هو عليه.
فالمعرفة الحقيقية إذن هي أن نبرهن على وجود الأشياء، وعلى وجود العالَم ككل، والأجزاء التي يتألَّف منها، باحثين عن العلَّة التي تجعله على هذا النحو، وليس على أي نحوٍ آخر.
وهكذا كانت فكرة الوظيفة على جانبٍ كبيرٍ من الأهمية في فلسفة أرسطو لفهم العالمَين؛ الطبيعي، والاجتماعي، وسوف نعود إليها بعد قليل.
ويهمُّنا الآن أن نوضِّح أن هناك مجموعة متطلباتٍ سابقة وضرورية حتى يُمكِن إدراك الموجودات على ضوء وظائفها؛ فنحن لا نستطيع أن تقول عن شيءٍ ما إن له علاقة بغيره إلا من خلال وظيفته، وهذا هو السبب في أن الأدوات وأجزاء البدن أمثلةٌ نموذجية للأشياء التي نفكِّر فيها وظيفيًّا، وإذا افترضنا أن وظيفة الموجودات الحيَّة توازي — بطريقةٍ ما — وظائفَ الموجودات الصناعية، فلا بد من النظر إليها من حيث علاقتها بعضها ببعض وعلاقتها بالعالم ككل، ويزوِّدنا أرسطو بمثل هذه النظرة إلى العالَم.
وهكذا نستخلصُ من نظرية المعرفة الأرسطية مجموعةً من الأفكار الهامة:
-
(١)
المعرفة تبدأ بالحس، لكنه لا يشكِّل علمًا لأنه يصلُنا بالجزئي، في حين أن العلم علمٌ بالكلي!
-
(٢)
المعرفة الحقيقية هي المعرفة الفلسفية التي تفترقُ عن الخبرة بأنها لا تكتفي بتحصيل معلوماتٍ سريعة عن ظواهرَ معيَّنة، وإنما نراها تسأل لِمَ كان الشيء على هذا النحو ولم يكن خلاف ذلك؟!
-
(٣)
معنى ذلك أن المعرفة الفلسفية تبحث عن العلَّة أو السبب؛ بحيث يبدو وجود الشيء ضروريًّا؛ فهذه العلَّة هي المبدأ العقلي الكامن وراء الشيء، وهكذا تصبح المعرفة الحقيقية معرفة الضروري الذي هو ثابتٌ لا يتغير.
-
(٤)
هذا المنظور المعرفي ينطبق على العالم الطبيعي، فيفسِّر الموجودات الطبيعية، كما ينطبق على العالم الإنساني، فيفسِّر الظواهر الاجتماعية سواء بسواء.
-
(٥)
لكي نصل إلى هذه المعرفة لا بد أن يكون لدينا عدة أفكارٍ أساسية هي أشبه «بالمفاتيح» لهذا المذهب، وهي:
-
(أ)
هيراركية الكون.
-
(ب)
فكرة الوظيفة.
-
(جـ)
الهيولى والصورة.
-
(أ)
وهو ما سوف نعرضُ له بشيءٍ من التفصيل في الفصل القادم لنعرفَ كيف طبَّق أرسطو هذه المفاتيح أو الأفكار الأساسية على عالَم المرأة؛ فهو منذ البداية يسعى إلى الوصول إلى معرفة «فلسفية» عن المرأة، يعني أن يعرف لِمَ كان من الضروري أن يكون وضعُها الاجتماعي على هذا النحو؟ وما هو المبرِّر العقلي الذي يحتِّم أن تكون المرأة تابعة للرجل؟ ولنرى أيضًا كيف طبَّق الهيراركية في عالم الأسرة، فكان الرجل هو الأعلى والمرأة هي الأدنى: «وما هو أدنى موجود لصالحِ ما هو أعلى»، ثم كيف أصبحَت المرأة هي الهيولى، والرجل هو الصورة، والمرأة هي المادة والرجل هو المبدأ العقلي.