أولًا: هيراركية الكون
الطبيعة عند أرسطو «لا تفعل شيئًا باطلًا» كما سبق أن أشرنا، فقد رتَّبَت الكونَ
ترتيبًا دقيقًا، ونظَّمَت الموجودات تنظيمًا تصاعديًّا لا نقص فيه ولا فطور: «ولهذا
فإننا لا نستطيع أن نقول إننا نجد أنفسنا باستمرار — في العالمَين معًا؛ عالم
الطبيعة، وعالم الفن — أمام ترتيبٍ نجد فيه أن ما هو أدنى موجودٌ لصالح ما هو أعلى،
وما هو أعلى إنما يكون كذلك لسبب ما فيه من مبدأ عقلي …»
١ وفي استطاعتنا أن نتبيَّن بوضوحٍ هذا المبدأ لو نظرنا في الموجودات من
أدناها إلى أعلاها؛ فالجماد — أدنى مراتب الموجودات — يقومُ على خدمة النبات؛ فمن
موادِّه يتغذى ويرتوي ويتنفس! وكلما صَعِدنا درجة، وجدنا المبدأ نفسه، يقول أرسطو:
«في استطاعتنا أن نقول: إن النبات موجود لصالح الحيوان، لكن الحيوان أيضًا موجود
لصالح الإنسان؛ فالحيوانات المستأنَسة موجودةٌ لتأمين غذائه، أما الحيوانات البرية
فهي موجودةٌ من أجل كسائه، أو لكي يستخدمها كأدواتٍ متنوعة، فإذا كانت الطبيعة لا
تفعل شيئًا باطلًا ولا شيئًا ناقصًا، فلا بد أن نستدلَّ من ذلك أنها أوجدَت كل شيءٍ
لصالح الإنسان.»
٢ وإذن فجميع الموجودات في خدمة الإنسان؛ لأنه أعلاها، إنه يتربع على قمة
التسلسُل الهرمي للموجودات، أو هو أعلى موجودٍ تحت فلَك القمر في هيراركية
الكون!
لكن إذا كانت هناك هيراركية في الكون، وإذا كان ما ينطبق على الموجودات المادية
ينطبق على الموجودات البشرية، فلا بد أن يكون هناك هيراركيةٌ اجتماعية أيضًا؛ أعني
داخل عالم الإنسان نفسه؛ أي أن تكون هناك درجاتٌ ومراتبُ من البشر يعلو بعضها
بعضًا، على نحوِ ما هو قائم في الكون تمامًا؛ فهناك هيراركية بين الشعوب؛ ذلك لأن
الطبيعة تميل إلى إيجاد مثل هذا التمايُز بين البشر بأن تجعلَ بعضهم قليل الذكاء،
أقوياء البنية، وبعضَهم أَكْفاء للحياة السياسية؛ وعلى ذلك فمِن الناس مَنْ هم
أحرارٌ بالطبع، ومنهم مَنْ هم عبيدٌ بالطبع: «فشعوب الشمال الجليدي، وأوروبا، شجعان؛
٣ لهذا لا يكدِّر عليهم أحدٌ صفوة حُريَّتهم، ولكنهم عاطلون عن الذكاء
والمهارة، والأنظمة السياسية الجيدة؛ لهذا نراهم عاجزين عن التسلُّط على جيرانهم!
أما الشرقيُّون فيمتازون بالذكاء والمهارة، ولكنهم خِلْوٌ من الشجاعة؛ ولهذا نراهم
مغلوبين على أمرهم، مستعبَدين إلى الأبد، وأما الشعب اليوناني فيجمع بين الميزتَين؛
الشجاعة والذكاء، كما أن بلده متوسِّط الموقع؛ ولهذا نراه يحتفظ بالحرية، ولو
أُتيحَت له الوحدة لتسلَّط على الجميع»؛
٤ وإذن فاليوناني سيدٌ حر، والأجنبي (البربري) عبدٌ له، ولا يستعبد
اليونانيُّ أخاه بحالٍ، وهي فكرة الشعب المختار، ظنَّها أرسطو أوليةً كُليةً
ضرورية، ولم يستطع أن يسموَ فوق عُرف عصره.
٥
هناك إذن هيراركية بين الشعوب، أعني داخل الجنس البشري نفسه؛ فمنها ما هو أعلى
(كالإغريق) ومنها ما هو أدنى (كالبرابرة) الذين هم غير اليونانيين بصفةٍ عامة؛
ولهذا نجد أرسطو يكتب للإسكندر الأكبر عندما غزا الشرق
٦ رسالةً ينصحُه فيها أن يُفرِّق في معاملته بين اليونانيين والبرابرة:
«عامِل اليونانيين بوصفك قائدًا لهم، وعامِل البرابرة بوصفك سيدًا عليهم؛ لأن
البرابرة يخضعون بالطبيعة للإغريق …»
٧ لأنهم الشعب الذي يجمع، كما سبق أن رأينا، بين ميزات الجنسَين؛ الذكاء
والشجاعة، أو المهارة والروح العالية، وهي صفاتٌ جعلَته حرًّا على الدوام،
ومكَّنَته من تطوير نظامٍ سياسيٍّ ممتاز
٨ وجعلَته قادرًا على حُكم الشعوب الأخرى لو أنه حقَّق وحدته السياسية،
إلا أن نفسَ هذه الفروقِ الموجودة بين اليونانيين وغيرهم من الشعوب موجودةٌ داخل
الشعب اليوناني نفسه؛ فإذا كان هناك مَن يظُن أن الناس سواسية،
٩ وأنه يتساوى في ذلك رجل الدولة والملك ورب المنزل، والسيد والعبد،
والمرأة والرجل، فهم في ذلك واهمون! ذلك لأنه يتصور أن كلًّا من هؤلاء الأشخاص
يختلف عن الآخر لا في النوع، وإنما في عدد الأشخاص الذين يتعامل معهم، فإذا تعامل
مع شخصٍ واحد أو قلة من الأفراد فهو سيد، أما مَنْ يتعامل مع عددٍ أكبر فهو ربُّ
أسرة، أما الذي يتعامل مع عددٍ غفير من الناس فهو سياسي أو رجل دولة أو ملك، وتلك
نظرية لا يمكن أن تكون صحيحة؛ إذ إن بين هؤلاء الأشخاص فروقًا جوهرية.
١٠
وهكذا يعلن أرسطو منذ البداية، بصراحة ووضوح، أن هناك هيراركيةً اجتماعية وسياسية
داخل المجتمع اليوناني نفسه؛ فقد أقامت الطبيعة تعارُضًا في كل مكانٍ بين الأعلى
والأدنى، بين النفس والبدن، بين العقل والشهوة، بين الإنسان والحيوان، بين الذكر
والأنثى … وحيثما وُجد هذا الاختلاف بين موجودَين، فإن ذلك يكون لمصلحتَيهما معًا،
أن يحكُم أحدهما، ويُطيع الآخر. وتتجه الطبيعة إلى إقامة مثل هذه التفرقة بين البشر
فتجعل أحدَها أقوى وأقدر على العمل، والآخر أصلَح للحياة السياسية؛ ومن هنا كان بعض
الناس بالطبيعة أحرارًا وبعضهم عبيدًا.
١١
ومن الأهمية أن نتذكر دائمًا أن «مبدأ اللامساواة» هذا، أو مبدأ الأدنى والأعلى،
أو الحاكم والمحكوم، ليس من اختراع البشر، وإنما هو مبدأٌ طبيعي؛ ولذلك فأنت تجده
مسيطرًا بين الموجودات جميعًا؛ فالموجودات الجامدة هي الأدنى، ولهذا تُسيطِر عليها
وتحكُمها الكائنات الحية؛ ولهذا كانت هي الأولى في سُلَّم الطبيعة المساعدة؛ لأنها
تتألف من عنصرَين هما: «النفس، والجسد» الأول هو — بطبيعته — حاكم، والثاني هو —
بطبيعته — محكوم،
١٢ حتى بين هذه الموجودات الطبيعية جامدة وحية، عضوية وغير عضوية، يمكن أن
نلاحظ فيما «يشبه اليقين» وجود سلطةٍ حاكمةٍ من النوع الذي يمارسه السيد على عبيده،
ومن النوع الذي يمارسه رجل السياسة على المواطنين في آنٍ واحد؛ فالنفس تحكُم الجسد
بالسلطة التي للسيد، والعقل يحكُم الشهوة بسلطة السياسي أو الملك،
١٣ وفي هذا المجال يُبرِز أرسطو «مبدأ اللامساواة» بوصفه مبدأً نافعًا
ومفيدًا «فمن المفيد للجسد أن تتحكَّم فيه النفس، وكذلك من الطبيعي والمفيد للجانب
الانفعالي في النفس أن يتحكَّم فيه الجانب العقلي، في حين أن مبدأ المساواة أو
علاقتها العكسية (أي أن يحكُم الأدنى) يعودُ عليهما معًا بالضرر بصفةٍ
مستمرة.
ويصدق المبدأ نفسه على علاقة الإنسان بالحيوان، كما يصدُق على علاقة النفس
بالجسد؛ فالحيوانات الأليفة هي بطبيعتها أفضل من الحيوانات البرية، ومن الأفضل لهذه
الحيوانات جميعًا أن يحكُمها الإنسان؛ لأنها في هذه الحالة تحصُل على منافع البقاء.
ومن ناحيةٍ أخرى فإن علاقةَ الذكر بالأنثى هي بالطبيعة علاقةُ سيطرة الأسمى
والمتفوق على الأدنى والمنحَط، سيطرة كاملة على المحكوم، وهذا المبدأ العام يصلُح
لجميع الموجودات بصفةٍ عامة.»
١٤
وإذا كانت فكرة هيراركية الكون تُفيد في إلقاء الضوء على المرأة، ففي استطاعتنا
أن نقول: إن بقية الأفكار في ميتافيزيقا أرسطو تفعل ذلك: «إذ الواقع أن المفاهيم
الفلسفية الأرسطية عن الحركة والمتحرِّك، أو الوجود بالقوة، أو الوجود بالفعل،
مثلها مثل فكرة الهيولى والصورة، وفكرة الوظيفة، قد استخدَمها أرسطو كلها في
التمييز بين الذكر والأنثى، ونظريتُه في الاختلاف بين الجنسين مغزولةٌ بطريقة
تجعلها متسقةً مع نسيج فلسفته، وليس من اليسير فصلها عن بقية المذهب»،
١٥ لكِنَّا سوف نكتفي بعرض فكرتَين أساسيتَين تخدمان ما نُريد أن ننتهيَ
إليه وهما: فكرة الوظيفة، وفكرة الهيولى والصورة.
ثانيًا: فكرة الوظيفة
يقول أرسطو في بداية كتاب «السياسة» وهو يحدِّد تعريف الأشياء: «كل شيء يستمد
تعريفه من وظيفته، وقدرته على تأديتها، وينتج عن ذلك أنه ما لم تكُن الأشياء قادرة
على تأدية وظيفتها، فلا ينبغي علينا أن نقول إنها لا تزال هي نفسها الأشياء، حتى
وإن كانت لا تزال تحمل الأسماء ذاتها …»
١٦ فلكل موجودٍ في هذه الدنيا وظيفةٌ يؤديها ويستمد خاصيَّته الجوهرية من
تأديته لهذه الوظيفة؛ الفأس وظيفتُها التقطيع، والعين وظيفتُها الإبصار، واليد
مهنتُها الأخذ والعطاء، وصانع الأحذية وظيفتُه صنع الأحذية، والطبيب مهمتُه معالجة
المرضى … إلخ، لكل موجودٍ وظيفةٌ خاصة يقوم بها، ونحن نقول إنه طبيبٌ ماهر، وفأسٌ
جيدة، أو حسنة … إلخ إذا ما قام بوظيفته خير قيام؛ فالعازف الجيد هو الذي يعزف على
آلته الموسيقية بمهارة، والمثَّال الماهر هو الذي يُجيد صناعة التماثيل. وتتصف
الفأس بالجودة إذا كانت تقطع على نحوٍ فعَّال، والعيون تكون سليمةً أو جيدةً إذا
أبصرَت جيدًا … وهكذا في بقية الأشياء؛ فلكل شيءٍ وظيفتُه التي يؤديها، وهو قد
يُحسِن القيام بها أو يسيء، لكن إذا كان الأمر كذلك فهل يمكن أن تكون هناك وظيفةٌ
خاصة للإنسان بما هو إنسان (لا من حيث هو طبيب أو نجار أو مثَّال، بل من حيث هو
إنسانٌ فحسب)؟ هل يمكن أن تكون هناك وظيفة للإنسان يُمكِن أن يؤدِّيَها بوصفه
إنسانًا فحسب؟ إذا ما قام بتأديتها من ناحيةٍ أخرى يكون قد قام بعملٍ خاص كإنسان؟
للإجابة على هذا السؤال علينا أن نُحلِّل جوانبَ الإنسان المختلفة لنرى أيها أقدَرُ
من غيرها على تمييزه كإنسان.
هناك جانبٌ في تكوين الإنسان يمكن أن نطلق عليه اسم «النشاط الحر»، وهو الجانب
الذي تتمثل فيه الحياة، مجرد الحياة فحسب، كما تبدو في عمليات التنفس والتغذية،
والهضم والإخراج … إلخ، لكن هذه الحياة ليست خاصةً بالإنسان؛ لأن النبات والحيوان
يشتركان معه فيها، فإذا ما قام الإنسان بهذا النشاط الحي، فإن ذلك لا يعني أنه قام
بوظيفةٍ خاصةٍ به هو.
١٧
وهناك جانبٌ آخر في الإنسان يتمثل في الإحساس أو الحواس المختلفة؛ كالسمع والبصر
والتذوُّق، والشَّم … إلخ، وهي خصائصُ لا تُوجَد في النبات، ولكنها مع ذلك ليست
جوانبَ إنسانيةً خالصة؛ لأن الحصان والثور وغيرهما من أنواع الحيوانات تشارك في هذا
الجانب، وقيامه بهذه الوظيفة لا يعني أنه يقوم بشيءٍ خاصٍّ به هو.
وهناك جانبٌ ثالث وأخير يتمثَّل في النشاط العقلي أو الحياة العقلية بصفةٍ عامة،
وهو جانبٌ يتميز به الإنسان حقًّا، فلا يشترك مع النبات ولا الحيوان بحيث نستطيع أن
نقول: إنه لو أدَّى أي إنسانٍ هذا الجانب على أحسن وجه يكون قد قام بوظيفته خيرَ
قيام؛ وبالتالي يكون هو الإنسان في سُمُوه؛ لأن حيازة الإنسان للعقل لا تتجلَّى في
قدرته على التفكير فحسب، بل تتجلَّى أيضًا في قدرته على التحكُّم بعقله ومبادئه
العقلية في رغباته وسلوكه، وعلى ذلك لا تكون فضائل الإنسان عقلية فحسب، بل أخلاقية
أيضًا.
ويذهَب أرسطو في بداية «الأخلاق النيقوماخية» إلى أن السعادة هي الغاية النهائية
لنشاط الإنسان، ثم يشرَع في بيان ما هي هذه السعادة «ربما أمكَن تعريفُها لو أننا
حددنا أولًا وظيفة الإنسان» (الأخلاق ١٠٩٧ب، المجلد الثاني، ص١٧٣٥)، ومما له مغزًى
أن نجد هنا أنه على خلاف الموجودات الأخرى ذات الدرجات الدنيا في سُلم الموجودات،
فإن الوظيفة الخاصة التي تناسب الإنسان ليست تحقيقَ غرضٍ يخدم به موجودًا أعلى؛
فعلى حين أن الإنسان يشارك الحيوانات الدنيا في بعض الخصائص؛ كالتغذية، والنمو،
والإحساس فإنه يتميَّز عنها بالعقل، وما دامت هذه هي السمة المميزة، فإن الخير
الأقصى للإنسان هو الحياة النشطة للمبدأ العقلي عنده (الأخلاق ١٠٩٨-أ، المجلد
الثاني، ص١٧٣٥)، فعلاقة الإنسان بالموجودات فوق سُلَّم الهيراركية ليست علاقةً من
أجل أن يقوم الإنسان بخدمة هذه الكائنات لتحقيق غرضٍ معيَّن؛ فعلى الرغم من أن
قدرته العقلية تجعله شبيهًا بالآلهة التي تصرف حياتها كلها في التأمل العقلي، فإنه
يُحاكي الآلهة من أجل تحقيق غرضه هو لا غرضها، فهدفه هو تحقيقُ سعادته، لا تحقيقُ
حاجات الآخرين.
١٨
والكلمة اليونانية التي يستخدمها أرسطو طَوالَ حياته عن الإنسان من حيث طبيعته
ووظيفته هي
Anthropos وهي كلمةٌ يونانية تعني
«الموجود البشري»، لكن سرعان ما يتضح لنا أن قلةً ضئيلةً للغاية من نوعٍ واحدٍ من
الجنس البشري هي التي يعنيها أرسطو بهذا اللفظ، وهي «الرجل اليوناني الحر»؛ لهذا
كانت فئة قليلة هي التي تشارك فيما يسمِّيه بالفضائل البشرية؛ لأن الفضائل في
الواقع ليست واحدة؛ لأن الإنسان ليس واحدًا، بل هناك هيراركية في الفضائل تقابل
هيراركية البشر، التي رتَّبها أرسطو على غرار البِنية الاجتماعية القائمة في
المجتمع اليوناني.
١٩
هذه القلة هي «خُلاصة البشر»، وهي قمة الإنسان، ووظيفتُها هي التأمل العقلي
الخالص، أو التشبُّه بالآلهة، وهؤلاء يحتاجون إلى ثروة وأصدقاء، ووقت فراغ، ونَبالة
في المَولِد. ومن الواضح أن بعض هذه الأمور تحتاج إلى خدمة الآخرين؛ ومن هنا فإن
أرسطو يرى — طبقًا لمبدأ الغائية — أن الغالبية العظمى من البشر، وليس مملكة
الحيوان فحسب، تتجه بطبيعتها، إلى أن تكون أدواتٍ تُمد القلَّة بالضرورات والراحة
التي تمكِّنها من أن تقوم بوظيفتها وهي سعيدة، فتمارس نشاطها التأمُّلي، وهكذا نجد
أن النساء والعبيد، والحِرْفيين والتجار … ومن هم على شاكلتهم ليسوا سوى آلاتٍ
إضافيةٍ تساعد «الإنسان» — بالمعنى الضيق جدًّا للكلمة — على القيام بوظيفته خير
قيام، لتحقيق سعادته القصوى.
وهكذا تتضح فكرة «الوظيفة» عند أرسطو شيئًا فشيئًا، كما تظهر بوضوحٍ العلاقات بين
أولئك الذين يتصوَّر أنهم بحكم الطبيعة حكام ومحكومون؛ كالزوج والزوجة، السيد
والعبد … إلخ، وتظهر وظيفة كلٍّ منهم، والدور الذي يتناسب مع كل فرد وقدراته
وإمكاناته التي تختلفُ أتمَّ الاختلاف عن غيره من الأفراد: «ويشكِّل هذا الضرب من
الاستدلال جانبًا جوهريًّا في حُجَّته عن الرق»؛ فعلى الرغم من أن الرقيقَ يُوصَف
بأنه آلة، أو أداةٌ حية فإن أرسطو يعتقد أن هذا الوضع للرقيق مفيدٌ وعادل تمامًا،
سواء بالنسبة له، أو بالنسبة لسيده؛ فالعلاقة بينهما تستهدف في أساسها المحافظة
عليهما؛ إذ إن منفعتَهما واحدة ومصلحتَهما مشتركة (السياسة ١٢٥٥-أ، ب)،
٢٠ والواقع أننا لو سِرْنا قليلًا مع أرسطو لوجدنا أن الفائدة تعود
بالدرجة الأولى على الموجود الأعلى؛ ولهذا نراه يقول: «إن العلاقة بين السيد والعبد
هي من حيث الجوهر منفعةٌ للسيد، ومن حيث العرَض منفعةٌ للعبد … الذي ينبغي أن
نُحافظَ على وجوده إذا أردنا لسيطرة السيد أن تبقى» (السياسة ١٢٧٨-ب). وعلى هذا
النحو يتحدث أرسطو باستمرار عن كل زوج من هذه العلاقة التي يرى أن الخير فيها لا
يُمكِن أن ينقسم بين الطرفَين؛ ذلك لأن الخير ينتمي إلى الوجود الأعلى، أو ما من
أجله وُجد الآخر. وفي سياق حديثٍ صريحٍ عن النساء وسيطرة الرجال على النساء يقول:
«يُمكِن أن نشبِّه المحكوم بصانع الناي، والحاكم بالعازف الذي يستعمل الناي»
(السياسة ١٢٧٧-ب).
والخطير في الأمر أن أرسطو يعتبر ذلك أمرًا طبيعيًّا؛ فالطبيعة — التي لا تفعل
شيئًا باطلًا أو عبثًا — هي التي رتَّبَت الموجودات على هذا النحو، وهي التي
حدَّدَت لكل موجودٍ وظيفتَه التي يخدم بها الموجود الأعلى، وهكذا كان النساء
«بالطبيعة» أدنى من الرجال، وكانت وظيفتهم خدمة الرجال؛ ولهذا كان من الطبيعي أن
يحكُمهن الرجال، وكل هذه «الوظائف، والأوضاع، والمراتب» بالطبيعة لا بالعرف، ولا
بالعادات، ولا بالتقاليد؛ ومن هنا كانت معارضتُه العنيفة للسوفسطائية التي ذهبَت
إلى أن جميع هذه الأوضاع الاجتماعية، ومعها القيم الأخلاقية، وليدة العرف والعادات،
بل إن هذه الأوضاع عند أرسطو، حتى لو كانت ناتجةً من العادة فإنها مع تكرارها
تتحوَّل إلى طبيعة.
٢١ فإذا ما اضطُرِرنا اضطرارًا إلى اكتساب العادات الطبيعية، فسيجيء يوم
في رأي أرسطو، يصبح فيه أداؤنا للأفعال الخيِّرة مصدرًا لمتعتنا، وذلك يذكِّرنا بما
يقوله هاملت مخاطبًا أمه:
«ادَّعي الفضيلة إن كنتِ منها عاطلة؛ فالعادة ماردٌ جبَّار يلتهم العقل
التهامًا …!»
ولهذا فإننا نجد أرسطو نفسه يقول: «الأمر كذلك بالنسبة للعادات؛ لأن ما صار عادة
يصير طبيعيًّا بوجهٍ ما، والواقع أن العادة شيءٌ شبيه بالطبيعة؛ لأن المسافة
«غالبًا، ودائمًا» ليست كبيرة، والطبيعة تُنسب إلى فكرة «دائمًا»، والعادة إلى فكرة
«غالبًا» …» (١٣٧٠–٣).
٢٢
وهكذا ينتقل أرسطو بحريةٍ تامة من العادات والتقاليد القائمة في مجتمعه إلى ما هو
فطري، وطبيعي، ومضاد للخصائص المكتسبة (قارن: الأخلاق، ١١٠٣-أ).
ثالثًا: الهيولى … والصورة
كل شيءٍ في هذه الدنيا يتألف عند أرسطو من مادة وصورة، ولا نعني بالمادة ما يُفهم
عادةً من هذا اللفظ؛ هذا الخشب أو النحاس أو الحجر … إلخ؛ فهذه الموجودات نفسها
تتألف من مادة وصورة، وإنما نعني بالمادة «الهيولى»، أو «العجينة»، أو المادة الخام
التي يمكن أن تتشكَّل في قالبٍ خاص، هو الصورة، وهذه العجينة هي التي يسمِّيها
أرسطو «الهيولى
Hyle» هذا الشيء المسمَّى بالخشب
يمكن أن يكون سبورة، أو منضدة أو رفًّا للكتب … إلخ، وتلك هي الصورة
Form (
Eidos).
٢٣
ومن الواضح هنا أن الصورة هي الأكثر أهمية؛ لأنها العنصر الجوهري أو الماهوي الذي
يحدِّد ماهية الشيء ويجعله يختلف عن سواه، وأنها هي التي تحدِّد «جوهر» الموجود؛
فالخشب في الأمثلة السابقة كان واحدًا، وهو هو نفسه، أما ما يجعل الموجودات تختلف
وتتنوع؛ فهي الصورة، إذا ما تغيَّرت تغيَّر الموجود. أما المادة أو الهيولى فلا
قيمة لها إلى جانب الصورة، خذ مثلًا المنضدة، تجد أن باستطاعتك أن تغيِّر في مادتها
كما تشاء فتجعلها منضدةً من نحاس، أو خشب، أو زجاج، أو رخام … إلخ، ومع ذلك تظل
المنضدة كما هي؛ أعني «منضدة»؛ لأن الصورة ظلت في جميع الحالات واحدة، لكن افعل
العكس؛ أعني غيِّر الصورة مع بقاء المادة، تجد نفسك أمام شيئَين مختلفَين، حتى ولو
كانت الهيولى واحدة هي الخشب مثلًا؛ فهذه منضدة، وهذا باب، أو نافذة، أو مقعد وكلها
من خشبٍ أو مادةٍ واحدة لكنها أشياءُ مختلفة لاختلاف الصورة.
الصورة هي الأهم، وهي الجوهر الأساسي والماهية، وهي العنصر العقلي في مقابل
العنصر المادي الذي هو الهيولى، وإذا استرجعنا عبارة أرسطو السابقة: «إن ما هو أعلى
في سُلَّم الموجودات إنما يكون كذلك بسبب ما فيه من مبدأ.» استطعنا الآن أن نقول:
إن الموجود يعلو في سُلَّم الموجودات بمقدار ما تعلو فيه الصورة على الهيولى، أما
إذا حدث العكس، وطغت المادة على الصورة، هبط الموجود إلى أسفل السُّلَّم؛ فهذه
القطعة الصمَّاء من الحَجَر فيها المادةُ واضحةٌ وغالبة، في حين أن الصورة مطموسة؛
فهي لا شكل لها، أو قل: إنها قابلة لأن تتشكَّل في أية «صورة»، أو في مجموعةٍ
منوَّعة من الصور، فيمكن أن تكون تمثالًا في يد النحَّات، أو تُقطع إلى أجزاءٍ
صغيرة لتكون لبناتٍ في بناء جدار، أو جزءًا من جسر، أو جانبًا من رصيف … وهكذا. وهي
لهذا السبب تُوضع من حيث الترتيب في أسفل الموجودات، وقُل مثل ذلك في بقية الأشياء
الجامدة التي تُطمَس فيها الصورة فيختفي المبدأ العقلي.
ولو أنك ارتفعتَ درجةً لوجدت الصورة أكثر وضوحًا في مملكة النبات؛ فنحن هنا نصل
إلى الكائنات الحية، صحيحٌ أنها موجوداتٌ طبيعية أيضًا، لكنها تمتاز بالحياة:
«ونعني بالحياة: أن يتغذى الكائن، وينمو، ويفكِّر بذاته …»
٢٤ والنفس هي التي تقوم بهذه العمليات المختلفة، والنفس جوهر، بمعنى أنها
صورةُ الجسم الطبيعي في هذه الحالة، ويُسمِّيها أرسطو «بالنفس الغازية» يقول: «هي
أول قوى النفس وأعمها، وبها تُوجَد الحياة لجميع الكائنات، ولها وظيفتان؛ التوليد،
والتغذي …» وهكذا يكونُ النباتُ في مرتبةٍ أعلى من الموجوداتِ الجامدة أو غير
الحية.
ولو ارتفعنا مرةً أخرى لوصلنا إلى مملكة الحيوان؛ حيث تُوجَد النفس الغازية، ما
دامت هي التي تجلب الحياة للكائن الحي، بالإضافة إلى النفس الحاسَّة؛ لأن الحيوان
لا يتغذى ويتناسل فقط، بل يُبصِر ويشم، ويتذوَّق … إلخ؛ أي يستخدم حواسَّه، فضلًا
عن أنه يتحرك، وهي خصائصُ يتميز بها عن النبات لوجود النفس الحاسَّة عنده.
وعلى قمة البناء الهرمي عند أرسطو يتربَّع الإنسان في عالم الطبيعة، أو عالم ما
تحت فلَك القمر — الذي تتجلى فيه الصورة بوضوحٍ كامل — لوجود «العقل» أو «النفس
العاقلة»؛ فالإنسان هو الموجود الوحيد الذي هو موجودٌ عاقل، ذلك لأن المبدأ العقلي
هو الذي يميِّزه عن غيره من الموجودات؛ فهو على الرغم من مشاركته في النفس الغازية
الخاصة بالنبات، والنفس الحاسَّة الخاصة بالحيوان، فإنه ينفرد عن سائر الموجودات
بخاصية النفس العاقلة.
٢٥
ومن هنا جاز لنا أن نقول: إنه الموجود الأعلى في الطبيعة — لحيازته على أعلى صورة
— وإن بقية الموجودات إنما وُجدَت لخدمته: «فالطبيعة أوجدَت كل شيء لصالح الإنسان»
كما سبق أن ذكرنا، وهكذا نتبيَّن بوضوحٍ مدى تغلغل الهيراركية في ميتافيزيقا أرسطو،
وارتباطها الوثيق بفكرة الهيولى والصورة.
٢٦