تمهيد
لا بد أن نضع في أذهاننا أن الفكر السياسي عن أرسطو يعكس كالمعتاد، الأوضاع
الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمعتقدات الدينية التي سادت دولة المدينة
اليونانية في القرن الرابع قبل الميلاد؛ ومن هنا فقد ذهبَت سوزان أوكن
Susan Okin إلى أننا: «لن نجد فيلسوفًا ينطبق
عليه تعريف هيجل للفلسفة بأنها عصرها ملخصًا في الفكر
١ — حتى ولا هيجل نفسه — مثلما تنطبق على فلسفة أرسطو.»
٢ ولذلك يجب ألا نندهشَ عندما يذهبُ المعلم الأول إلى أن الرقَّ نظامٌ
طبيعي، أو عندما يضع نظريةً كاملةً لتبريره.
فقد كانت هذه هي وجهة النظر التي تؤمن بها الغالبية العظمى من المثقَّفين في
عصره. كذلك ينبغي علينا ألا نندهشَ عندما نراه يذهب إلى أن حياة الفلاح، والصانع،
والتاجر، لا تتفق مع حياة المواطنين الأحرار في المدينة؛ فتلك هي الطبقة المنتجة
التي سبق أن استبعدَها أفلاطون من المشاركة في الحياة السياسية في مدينته الفاضلة،
وأطلق عليها اسم مجتمع الشهوة، ووصف الحياة في هذا المجتمع بأنها أقرب ما تكون إلى
حياة الخنازير.
٣ وتلك وجهةُ نظرٍ أخرى تُعبِّر عن معتقدات الغالبية العظمى من
المنظِّرين السياسيين عند اليونان.
كذلك يُبدي أرسطو استعلاء، وميلًا متحيزًا ضد البرابرة «الأجانب»، وهو في ذلك
إنما يُعبِّر عن المعتقد الذي كان سائدًا في المجتمع اليوناني، ويُعبِّر عن احتقاره
لعاداتهم وتقاليدهم، بل إنه يذهب صراحةً إلى أنهم عبيدٌ بالطبيعة!
وأخيرًا فإن أرسطو يستبعد المرأة تمامًا من ميدان الثقافة والسياسة والحياة
الفكرية بصفةٍ عامة ليجعل وظيفتها، كما سبق أن رأينا في السابق، مقتصرة على
الإنجاب. وهو ما عبَّر عنه ديموستين
Demosthenes
بقوله: «إننا نتخذ العاهرات من أجل اللذة … وأما الزوجات فلكي يلدن لنا الأبناء
الشرعيين» … إلخ.
٤
وليس باستطاعة المرء إزاء هذه المعتقدات، أن يقول إن أرسطو قد تجاوَز الرأي
الشائع في عصره. بل يمكن القول: إن مؤلفاته تقدِّم تبريرًا عقليًّا لأحكامٍ فلسفيةٍ
مبتسَرة تغلغلَت في أعماق المجتمع اليوناني؛ ولهذا نراه يؤمن بالتفرقة بين الحاكم
والمحكوم، وبين الأعلى والأدنى، ويصف هذه التفرقة بأنها جزءٌ من النظام الطبيعي
للأشياء. كما أنه يرتِّب الموجودات ترتيبًا تصاعديًّا هيراركيًّا طبقًا لمَلَكات
النفس؛ فالنبات موجودٌ في خدمة الحيوان، والحيوان بدَوره في خدمة الإنسان؛ ومن ثَم
يُمكِن إقامة تمييزٍ مماثل بين الحاكم والمحكوم داخل الجنس البشري ذاته؛ أولًا: بين
الذكر والأنثى. وثانيًا: بين الرجل الراشد والطفل. وثالثًا: بين الحر والعبد.
٥
أولًا: نشأة الدولة
السياسة عند أرسطو هي علم السعادة الاجتماعية، كما أن الأخلاق هي علم السعادة
الفردية. والسعادة الاجتماعية هي أن ينعَم الإنسان بحياةٍ فاضلة، ولا تتحقق هذه
الحياة الفاضلة إلا في ظل القانون، والعدالة، والمساواة،
٦ وهو ما يتطلب وجود الدولة التي هي التجمُّع الأكمل الذي يتضمَّن سائر
التجمُّعات.
يبدأ أرسطو بدراسة أنواع التجمُّع البشري، فيرى أن الأسرة هي التجمُّع الطبيعي
الأول، وهو يستشهد على ذلك بما يقول الشاعر هزيود:
عليك أولًا أن تبدأ بإعداد
المنزل.
ثم بإحضار المرأة.
وأخيرًا الثور الذي يجُرُّ المحراث …
٧
وإذا كان الثور يقوم في خدمة الفقراء مقام العبيد، فإن أرسطو
يستخلص من قول الشاعر عناصر تكوين الأسرة؛ الرجل وعبيده، ثم الزوج والزوجة، وأخيرًا
الأبناء.
ولكل عنصر علاقةٌ خاصة به. ويهمُّنا الآن أن نبيِّن أن الأسرة هي أولى صور
التجمُّع البشري، وهي تجمُّعٌ طبيعي لتحقيق إشباع الحاجات اليومية المتكررة، ومن
مجموعة الأسر يظهر الشكل الثاني للتجمع، وهو القرية التي يرتبط أعضاؤها برباط
الجالية الواحدة، حتى أطلق البعض على أعضائها اسم الذين يرضَعون من لبنٍ واحد،
والأبناء وأبناء الأبناء.
٨
غير أن التجمع النهائي الكامل الذي يتألف من عددٍ من القرى هو المدينة؛ أي الدولة
— وهو تجمُّع يمكن أن يُقال عنه: إنه وصل إلى أعلى درجة من الاكتفاء الذاتي الكامل
— فالدولة هي الغاية أو القمة التي تتحرك نحوها الجماعات السابقة، وطبيعة الأشياء
أن تحقِّق غايتها أو قمتها؛ لأن كل شيءٍ عندما يكتمل نموُّه نسمِّيه طبيعية هذا الشيء؛
٩ فالساق والأوراق، والأفرع في شجرة البرتقال تظهر قبل ظهور الثمرة، لكن
البرتقال هو الغاية وهو القمة، وعندما يكتمل نموُّه تتسمَّى الشجرة باسمه. كذلك
الدولة هي الغاية والهدف النهائي من التجمُّع البشري، وإذا كانت تظهر متأخرةً من
حيث الزمان عن الأسرة والقرية فإن لها الأولوية؛ لأنها غاية التجمُّعات
السابقة.
ولهذا فإن أرسطو يبدأ، في الكتاب الأول من السياسة، بتعريف الدولة بأنها ضربٌ من
التجمُّع البشري، وإذا كان كل تجمُّع يستهدف خيرًا ما، فإننا نستطيع أن نقول: إن
الدولة التي تحوي في جوفها كل تجمُّعٍ آخر، تستهدفُ جميعَ الخيرات.
١٠ وقبل أن يواصل شرح العناصر التي تتألف منها الدولة، يتوقف منذ البداية،
لينبِّهنا إلى أن التسلسل الهرمي الذي صادفناه من قبلُ منطبقًا على موجودات
الطبيعة، ثم رأيناه بشيءٍ من التفصيل في الفصل السابق في ميدان البيولوجيا، هذا
التسلسل يبدو واضحًا في هذا الضرب من التجمع البشري الذي هو الدولة، وكما سبق أن
رأينا فلا مساواة في الطبيعة، بل مراتب دونها مراتب ويعلوها أخرى، وتلك هي الحال
هنا أيضًا، وبالتالي يُخطِئ من يظنُّ أن الناس سواسية
١١ وأنه يتساوى في ذلك رجل الدولة، والمَلِك، ورب البيت، والسيد والعبد
والمرأة والرجل … وهم في ذلك واهمون؛ لأنهم يتصورون أن كلًّا من هؤلاء الأشخاص لا
يختلف الواحد منهم عن الآخر كيفًا، بل في عدد الأشخاص الذين يتعامل معهم، فإذا
تعامل مع رجلٍ واحد أو قلة من الأفراد فهو «سيد»، أما من يتعامل مع عددٍ أكبر فهو
رب أسرة. وأما من يتعامل مع جمعٍ غفير من الناس فهو سياسي أو رجل دولة أو ملك، وتلك
نظرية لا يمكن أن تكون صحيحة؛ إذ إن بين هؤلاء الأشخاص فروقًا جوهرية
١٢ كما سبق أن أشرنا.
معنى هذا أن أرسطو يعلن بصراحة ووضوح منذ البداية أنه
لا
تُوجَد مساواة بل توجد
اختلافاتٌ
جوهرية أو نوعية أو اختلافاتٌ طبيعية كما سنرى بعد قليل؛ فلا يكون
السيد سيدًا لعلاقته بفرد أو عدد قليل من الأفراد، وإنما هو سيد بالطبيعة؛ فهي التي
تحدِّد من هم السادة ومن العبيد، ومن هم الحكام، ومن المحكومون ولا رادَّ لقضائها!
ونفس التسلسل الهرمي، أو الهيراركية الكونية، الذي يسود موجودات الطبيعة قائمٌ
أيضًا بين أفراد المجتمع البشري؛ فهناك درجاتٌ ومراتبُ من البشر يعلو بعضُها بعضًا
على نحو ما هو موجودٌ في ظواهر الطبيعة. وليست هذه المراتب أو الدرجات من صنع البشر
أو العادات أو العرف، وإنما هي من صُنع الطبيعة التي لا تفعل شيئًا باطلًا أو
عبثًا. ولنبدأ من البداية: ليست المراتب أو الدرجات موجودةً في المجتمع البشري
فحسب، وإنما هي قائمةٌ في صميم الجنس البشري نفسه، كما سبق أن أشرنا سريعًا في
الفصل الثاني من الباب الأول — فهناك هيراركية بين الشعوب ذاتها، وليس فقط داخل
الشعب الواحد — لأن الطبيعة تميل إلى إيجاد مثل هذا التمايز بين البشر، بأن تجعل
بعضَهم قليلي الذكاء أقوياء البِنية، وبعضَهم أكْفاء للحياة السياسية، في حين لا
يعرف الآخرون شيئًا عن التنظيمات السياسية، وليس في استطاعتهم أن يعرفوا! ومعنى هذا
أن من الناس من هم أحرار بالطبيعة، ومن هم عبيد بالطبيعة أيضًا؛
١٣ فشعوب الشمال الجليدي وأوروبا شجعان؛ لهذا لا يكدِّر عليهم أحدٌ صفو
حريتهم، لكنهم عاطلون عن الذكاء والمهارة، والأنظمة السياسية الصالحة؛ لهذا كانوا
عاجزين عن التسلُّط على جيرانهم، أما الشرقيون فيمتازون بالذكاء والمهارة، لكنهم
خِلْو من الشجاعة؛ لهذا فهم مغلوبون على أمرهم، مستعبَدون من غيرهم إلى الأبد، وأما
الشعب اليوناني فيجمع بين الميزتَين؛ الشجاعة والذكاء، كما أن بلده متوسِّط الموقع؛
ولهذا فهو يحتفظ بالحرية، ولو أتيحَت له الوحدة لتسلَّط على الجميع.
١٤ ومعنى ذلك كله أن اليوناني بطبيعته سيِّد وحر، وأن الأجنبي (أو
البربري) بالطبيعة أيضًا عبدٌ له، ولكن لا يجوز لليوناني أن يستعبد أخاه اليوناني
بحال. وتلك في الواقع هي نفسها فكرة الشعب المختار، ظنها أرسطو أوليةً كليةً
ضرورية، ولم يستطع أن يسمُوَ فوق عُرف عصره.
١٥
وهكذا ينقل أرسطو أفكاره الميتافيزيقية إلى السياسة، كما نقلَها من قبلُ إلى
البيولوجيا؛ فهو هنا يؤمن بوجود مراتبَ ودرجاتٍ بين الشعوب (أو هيراركية بين
الأجناس)؛ فمنها ما هو أعلى كالإغريق، وما هو أدنى كالبرابرة، الذين هم غير
اليونانيين بصفةٍ عامة؛ ولهذا نراه يكتُب للإسكندر الأكبر عندما غزا الشرق رسالةً
ينصحُه فيها أن يفرِّق في المعاملة بين اليونانيين والشرقيين؛ بحيث يعامل
اليونانيين بوصفه قائدًا لهم، ومع البرابرة (والشرقيين) بوصفه سيدًا عليهم؛ لأن
البرابرة يخضعون للإغريق بالطبيعة.
١٦
لا مساواة إذن بين الأجناس والشعوب؛ فهناك الأعلى والأدنى، وهناك الحاكم
والمحكوم، وهي خصائصُ حدَّدَتها الطبيعة التي لا تفعل شيئًا «باطلًا»؛ فهي التي
جعلَت الجسد في بعض الناس أقوى؛ بحيث يصلُحون للأمور الوضيعة في الحياة، وجعلَت من
بعضهم الآخر مستقيم الجسد، ممشوق القوام، ليس لديه القدرة على الانحناء لحمل
الأثقال؛ ومن ثَم لا يقوى على العمل البدني، وإن كان يصلُح لأغراضٍ أخرى أسمى …
١٧ الأول هو العبد بالطبيعة، والثاني هو الرجل الحر بالطبيعة أيضًا … وإذا
ما اختلف الناسُ بعضُهم عن بعض في شكل الجسد، كما تختلف تماثيل الآلهة (عن أشكال
البشر) فمن الواضح أننا سنتفقُ جميعًا على أن الطبقة الدنيا ينبغي أن تكون عبيدًا
للطبقة العليا. وهكذا يتضح أن بعضَ الناس أحرارٌ بالطبيعة، وأن بعضَهم الآخر عبيد
بالطبيعة — وعمومًا فحالة الرق نافعة وعادلة للاثنَين معًا.
١٨
وإذا كان مبدأ اللامساواة والتسلسل الهرمي يصدُقان على موجودات الطبيعة بأَسْرها
من ناحية، ثم يصدُقان على الجنس البشري كله من ناحيةٍ أخرى، فإنهما يصدُقان كذلك
على المجتمع الواحد من ناحية ثالثة؛ فالمجتمع اليوناني على سبيل المثال — وهو أرقى
المجتمعات كلها في نظر أرسطو — لا يتألَّف من مواطنين متساوين لهم نفسُ الحقوق،
وعليهم نفسُ الواجبات، وإنما يتألَّف من الرجل اليوناني الحر، ثم المرأة اليونانية
… وأخيرًا الرقيق.
أما الرجل اليوناني الحر فهو الإنسان على الأصالة عند أرسطو، وإذا كان المعلم
الأول يستخدم طَوالَ حديثه عن الإنسان وطبيعته، كما سبق أن ذكرنا كلمة
Anthropos وهي يونانية تعني «الموجود البشري»
فإننا سرعان ما نكتشف أنه يطلقها على فئةٍ ضئيلة للغاية من نوعٍ واحد من الجنس
البشري هي «الرجل اليوناني الحر». والتعريف الأرسطي الشهير للإنسان بأنه «حيوانٌ
عاقل» لا يصدُق إلا على هذا الرجل اليوناني الحر. وحديثه عن الفضائل الإنسانية،
والخير الأقصى، وسعادة الإنسان … إلخ ليس سوى حديثٍ عن الرجل اليوناني الحر. كذلك
حديثه عن الديمقراطية، وأنظمة الحكم، والعدالة الاجتماعية، والمساواة، والحاكم
والمحكوم، والصداقة والأنداد أو النظراء … إلخ ذلك كله إنما يرتبط بنظرته إلى
«الرجل اليوناني الحر».
أما المرأة فهي أقلُّ من حيث العقل والذكاء (حيث يغلب عليها الجانب اللاعقلي)،
كما سنرى بعد قليل، وهي أدنى من حيث المرتبة والمكانة، معزولةٌ تمامًا عن ميدان
السياسة ومستبعَدة من الميدان الثقافي بصفةٍ عامة. كما أنها غير قادرة على ممارسة
فضائل الرجل؛ ولهذا كان لها في مجال الأخلاق فضائلها الخاصة، وهي في مرتبةٍ وسط بين
الرجل اليوناني الحر وبين العبد الرقيق.
١٩
أما الرقيق فقد وضع أرسطو نظريةً متكاملةً يُبرهِن فيها على أن وضْعَهم «طبيعي»؛
فقد خُلقوا رقيقًا، بل إن في وضعهم هذا نفعًا لهم وللسادة في آنٍ معًا، غير أن ذلك
كله يحتاج إلى شيءٍ من التفصيل، فلنقف عند الأسرة التي هي التجمع الطبيعي الأول،
والخلية الأولى التي تتألف القرية من عددٍ منها، ثم تتطور بعد ذلك إلى دولة.
ثانيًا: الأسرة … ووضع المرأة
كان أفلاطون يدعو إلى إلغاء الأسرة في طبقة الحراس ليؤكد «الدولة الواحدة»؛ فلا
أب، ولا ابن، ولا زوج، ولا زوجة؛ لأن الجميع يشكِّلون أسرةً واحدةً كبيرة؛ ومن هنا
لم يكن للمرأة في جمهوريته وظيفةٌ محددة، فأحالها إلى رجلٍ يقاتل، ويصارع، ويتلقى
تدريباتٍ عنيفة … إلخ. غير أن أرسطو رفض هذه النظرة التي عرضَها أفلاطون على لسان
سقراط في الجمهورية — جملةً وتفصيلًا — وهو بصفةٍ خاصةٍ يوجه إليها ثلاثةَ
اعتراضاتٍ أساسية:
ومهما يكن من قوة أو ضعف حُجج أرسطو ضد نظرية أفلاطون السياسية، فقد تصوَّر
المعلم الأول أنه أجهَز على فلسفة أستاذه في الدولة، وواصل طرح نظريته الخاصة
بالأسرة؛ فهو يعجَب أشد العجب أن يستمد أفلاطون تشبيهاته من عالم الحيوان (ولا سيما
من إناث الكلاب) لُيبرهِن على أن النساء ينبغي عليهن أن يُكلَّفن بنفس مهام الرجال.
إن أنثى الحيوان ليس لديها كالمرأة واجباتٌ منزلية …
٢٢ وما دامت هناك أسرة فإن أعمال المنزل هي الأساس الطبيعي والضروري
للحياة الاجتماعية، وتلك هي المهمة الرئيسية للمرأة.
وتتألف الأسرة عند أرسطو من الزوج والزوجة والأبناء ثم العبيد الذين يعتبرهم آلة
الحياة، مهمَّتهم القيام بالأعمال التي لا يليق بالرجل الحر القيام بها، والعلاقة
بينهما هي علاقة السيد والعبد. ثم هناك ما يُسمَّى بالرابطة الزوجية. وأخيرًا ما
يُسمَّى بالعلاقة الأبوية.
خامسًا: طبيعة النفس
يعتقد أرسطو أن الدراسة العميقة للفكرة التي تقول: إن هناك من البشر مَنْ يحكُم
«بالطبيعة» ومَن يكون محكومًا بالطبيعة أيضًا، تؤدي بنا مباشرةً إلى دراسة طبيعة
النفس؛ فالنفس بطبيعتها عنصران؛ عنصرٌ حاكم وعنصرٌ محكوم، ولكلٍّ منهما فضائله
المختلفة، واحد ينتمي إلى العنصر العاقل الحاكم، والآخر ينتمي إلى العنصر اللاعاقل
المحكوم. ومن الواضح أن ما يصدُق على النفس البشرية يصدُق على الحالات الأخرى
(كالمنزل والدولة) ويمكن أن ننتهي من ذلك كله إلى القول بأن هناك قانونًا عامًّا
ينص على أنه من الطبيعي أن تكون هناك عناصرُ حاكمة بطبيعتها، وعناصرُ أخرى محكومة بطبيعتها.
٥٠
ولما كان هناك مبدأ أو قانونٌ عام يعمل على مستوياتٍ مختلفة، فإن هناك مجالاتٍ
متعددةً لعمله تبعًا للمستويات التي يعمل منها؛ فحكم الرجل الحر للعبد هو نوعٌ
معيَّن من الحكم، وحكم الذكر للأنثى هو نوعٌ آخرُ من الحكم. وحكم الرجل الناضج أو
الراشد للطفل هو نوعٌ ثالث. ومن الصواب أن نقول: إن هؤلاء الأشخاص جميعًا (الرجل
الحر والعبد — والذكر والأنثى — والرجل الراشد والطفل) يملكون جميعًا جوانبَ
مختلفةً من النفس
٥١ لكنهم يملكونها بطرقٍ مختلفة، وعلى مستوياتٍ مختلفة؛ فالعبد محروم
تمامًا من مَلَكة التروِّي والاختيار، والأنثى، وإن كانت تملكُها، فإن الصورة
الموجودة عندها تظل غيرَ فعالة، والأطفال يملكونها أيضًا، ولكن في صورةٍ غيرِ ناضجة.
٥٢
وهكذا يصل أرسطو إلى ضرورة أن يحكُم الرجال النساء، والسادة العبيد، والآباء
الأبناء، والناضجون أو الراشدون الأطفال. لماذا؟ إن مجرد القول بوجود مبدأ ينص على
أن يحكُم البعض وأن يكون البعضُ الآخر محكومين، لا يخبرنا هو نفسه من الذي
يحكُم.
ومن ناحيةٍ أخرى لم تشغل بال أرسطو فكرة أن تحكُم الموجوداتُ البشرية الحيوانات؛
لأنه كان يعتقد أن الحيوانات ينقُصها العقل، وذلك ما يجعلها في مرتبةٍ دنيا عن
الإنسان، ويؤهِّل البشر للسيطرة عليها. غير أن جميع الموجودات البشرية، من حيث إنهم
بشرٌ يملكون العقل ويشاركون في المبدأ العقلي (١٢٥٩-ب)، إذن فما هي الأسس التي
يعتمد عليها أرسطو ليجعل للمرأة وضعًا دونيًّا وتابعًا للرجل، كما يجعل العبد
تابعًا للسيد وأدنى منه، والطفلَ أقلَّ مرتبةً من الراشد؟!
من حسن الحظ أن أرسطو نفسه يقول: «إن تكوين النفس ذاته يكشف لنا الطريق»
(١٢٦٠-أ)؛ فالنفس تتألف من جانبَين أو عنصرَين؛ العنصر العقلي والعنصر اللاعقلي.
ومن الطبيعي، بل ومن المفيد أن يحكُم العنصر العقلي ويسيطر على الجانب اللاعقلي في
النفس (١٢٥٤-ب) (وقارن الأخلاق، الكتاب الأول، الفصل الثالث عشر). وهكذا نجد أن من
العدل أيضًا أن يحكُم الرجالُ النساء، صحيحٌ أن لديهن مَلَكة التروِّي العقلية،
لكنها بلا فاعلية؛ ولذا فمن السهل أن يسيطر عليهن العنصر اللاعقلي! وبالطريقة نفسها
لا بد أن يحكُم السادة العبيد؛ لأن العبيد ليس لديهم إرادة على الفكر المتروِّي،
والعنصر العقلي الموجود في نفوسهم لا يُمكِّنهم إلا من الاستماع إلى أوامر السادة،
واستيعابها، وفهمها، وطاعتها، والعمل على تنفيذها. والواقع أن كل ما يفرق بين
العبيد والبهائم، هو أنهم — على خلاف البهائم — لديهم الحد الأدنى من القدرة
العقلية التي تمكِّنهم من فَهم نتائج تفكير ساداتهم، وفيما عدا ذلك فإنهم يماثلون
بهائم البرِّية (١٢٥٤-ب). وعلى الآباء والراشدين أن يحكُموا الأطفال والقُصَّر؛ لأن
الأطفال على الرغم من أن لديهم القدرة والإرادة على التفكير المتروِّي المرتبط
بالعنصر العقلي للنفس، فإن هذه الإرادة لم تنضَج بعدُ (١٢٦٠-أ).
وهكذا يحاول أرسطو، بناءً على عنصرَي النفس العقلي واللاعقلي، أن يبرِّر فكرته
التي تقول: إن بعض فئات الموجودات هي بطبيعتها حاكمة، وبعضها الآخر هي بالطبيعة
أيضًا محكومة، تمامًا مثلما أن أحد جوانب النفس «العنصر اللاعقلي» يخضع للجانب
الآخر «العنصر العقلي»؛ وعلى ذلك فالطبيعة التي لا تفعل شيئًا باطلًا ولا عبثًا، هي
التي فرضَت على جنس الإناث أن يخضع لجنس الذكور؛ لأن قواه العقلية أقل، والعنصر
اللاعقلي كالانفعالات، والشهوات، والعواطف … إلخ يطغى عليه. وانخدع الكثيرون بهذا
البرهان الهوائي، فذهبوا إلى أن المرأة بطبيعتها — لا بحكم التربية أو المجتمع أو
العادات أو التقاليد أو التنشئة … إلخ، عاطفية سريعة التأثر.
٥٣
غير أن ما قلناه هو فكرةٌ عامة عن برهان أرسطو، وإذا أردنا أن نفهمه على نحوٍ
أكثر عمقًا، فإن علينا أن نفهم بتفصيل أكثر وصفه لأفعال جانبَي النفس والعلاقة
بينهما.
علينا أن نعود إلى «الأخلاق النيقوماخية» كما نعود إلى أجزاء من كتابه «السياسة»
لنعرف كيف يصفُ أرسطو عنصرَي النفس العاقل وغير العاقل؛ السمة الرئيسية لهذه
العلاقة هي أنها علاقة سلطة وسيطرة؛ فمن المفروض أن يحكُم الجانب العاقل من النفس
ويسيطر على الجانب غير العاقل. وهي سلطة أُعِدَّ لها الجانبان وترسَّخَت فيهما
بالطبيعة (١٢٥٤-ب). ومع ذلك فإن أرسطو يشير إشارةً واضحة أحيانًا، وضمنية أحيانًا
أخرى إلى أن الجانب العقلي لا يتمكَّن دائمًا من ممارسة هذه السلطة. فأرسطو يقول
كما سبق أن رأينا، أنه في حالة العبيد، والنساء، والأطفال، نجد أن الجانب العاقل من
النفس لا يحكُم الجانب غير العاقل، وربما كان علينا أن نتساءل أكان من المفروض أن يحكُم هذا الجانب غير العاقل في حالة النساء
والعبيد والأطفال (؟). وحتى في البالغين من الذكور، فإننا نجد أن الجانب العاقل
أحيانًا لا يتمكَّن من السيطرة على الجانب غير العاقل وإخضاعه له، وما لم يكن الأمر
كذلك، لما وجد أرسطو ضرورةً على نحو ما فعل في كتابَيه «الأخلاق»، و«السياسة» إلى
إعطاء تعليماتٍ عن أهمية سيادة الجانب العاقل في النفس وبقائه مسيطرًا آمرًا؛ ومن
هنا فإن أرسطو عندما يتحدث عن الجانب العقلي في النفس، وضرورة سيطرته على الجانب
اللاعقلي، فلا يمكن أن يكون ذلك فقط إشارةً إلى أن ما يحدث في جانب من النفس يحدِّد
ما يحدث في الجانب الآخر بطريقةٍ آلية. والحق أنه لو أن ذلك هو ما كان أرسطو يقصده
— أن يحكُم الجانب العاقل الجانب غير العاقل — لكان عليه في هذه الحالة أن يضيف أن
الجانب غير العاقل، يمكن في بعض الأحيان أن يحكُم الجانب العاقل. لكن من الواضح أنه
رفَض ذلك عندما ذهب إلى أن الجانب غير العاقل قد «يظهر» أحيانًا أنه يحكُم الجانب
العاقل في حين أنه في الحقيقة لا يفعل (١٢٥٤-ب)؛ ومن ثَم فالحكم أو السلطة أو
السيطرة التي تُنسَب إلى الجانب العاقل ترتبط بميزة أو جدارة أو استحقاق يتمتع بها
هذا الجانب، أو ينبغي أن تكون له مثل هذه الميزة؛ لأنه مؤهَّل بحكم طبيعته لأن
يحكُم الجانب اللاعقلي، حتى ولو لم يحدث ذلك دائمًا (١٢٥٤-ب).
والواقع أن أرسطو عندما يصف العلاقة بين جانبَي النفس — العاقل وغير العاقل —
بأنها علاقة «حاكم ومحكوم» فإنه يتحول إلى لغة الأشخاص والسياسة؛ فهذا حكمٌ
استبدادي أو دستوري أو ملكي (١٢٥٤-ب). وعندما ننظر إلى أجزاء النفس في ترتيبها
المناسب، فإننا نجد عندئذٍ أن الجانب العاقل يُملي ويأمر، في حين أن الجانب غير
العاقل يستمع ويطيع، وبالطريقة نفسها التي يطيع بها الطفل والده (الأخلاق ١١٠٢-ب)
(١١٢٠٣-أ) والواقع أن أرسطو حين يعالج أجزاء النفس في كتابَيْه «الأخلاق»
و«السياسة» فإنه يعالجها كما لو كانت علاقة بين كائناتٍ سياسية لا على أنها علاقةٌ
بين أجزاءٍ شبه عضوية، وغير شخصية.
وهذا هو ما تسمِّيه إليزابيث سبلمان
Elizabeth
Spelman «تسييس النفس عند أرسطو»
٥٤ فهو لا يصف أجزاء النفس بلغةٍ يمكن أن تنطبق على العلاقة بين الأشخاص
فحسب، وإنما يتحدث أحيانًا عن أجزاء هذه النفس مشبهًا إياها بأشخاصٍ معينين:
«كما أن الطفل ينبغي عليه أن يعيش، وفقًا لتعليمات مؤدِّبة، فكذلك الجانب
الشهواني من النفس، ينبغي أن يكون حسبما يوجِّهه المبدأ العقلي.»
٥٥
«طبيعة الشهوة يوضِّحها ما قاله الشعراء عن أفروديت
Aphrodite ابنة قبرص الماكرة.»
٥٦ وتبيِّن لنا العلاقة بين السيد والعبد، أو بين الزوج والزوجة، النسبة
التي يرتبط بها ذلك الجزءُ من النفس ذو المبدأ العاقل بذلك الجزء من النفس غير العاقل.
٥٧
والواقع أن أرسطو يذهب بعيدًا إلى حد التوحيد بين «الشخص»، وذلك الجزء من النفس؛
يقول: الأفعال التي يفعلها الناس على أساس مبدأ عقلي يعتقدون أنه من المناسب أن
تكون أفعالهم هم؛ أي إنهم فعلوها بإرادتهم، وأن كل واحدٍ منهم هو هذا العقل أو ذاك
٥٨ وفضلًا عن ذلك فإن أرسطو يصف «العقل» أحيانًا كما لو كان شخصًا آخر
ينبغي أن ينقاد له كل مَنْ يمتلكه: يقول «العقل عند كلِّ من يملكه، يختار ما هو
أفضل لذاته، والرجل الفاضل هو من يطيع العقل.»
٥٩
ويمكن أن نلخِّص ذلك بقولنا: إن أرسطو عندما يصف أجزاء النفس وما بينها من
علاقات، فإننا نلاحظ أن أوصافه مشخصة أو تشبيهية؛ فأنت تراه يستخدم ألفاظًا سياسية
كما لو كان يبحث عن العلاقات بين الأشخاص في المدينة. وهو بذلك ينسى أو يتجاهل
النصيحة التي ساقها هو نفسه للقارئ في كتابه عن «النفس» بالابتعاد عن تشخيص أجزاء
النفس ووظائفها
٦٠ وتشرح «إليزابث سبلمان» وصف أرسطو لطبيعة النفس واستخدامه لهذا الوصف
في تبرير نظرته إلى النساء على أنهنَّ خاضعاتٌ بطبيعتهنَّ للرجال
٦١ على النحو التالي:
-
(١)
في النفس جانبٌ عاقل بالطبيعة هو الذي يحكُم الجانب غير العاقل
ويسيطر عليه (وإن كان لا يفعل ذلك دائمًا) وإذا فهمنا طبيعة سيطرة
الجانب العاقل على الجانب غير العاقل في النفس استطعنا فهم طبيعة سيطرة
الرجل وسلطانه على المرأة في المدينة. وهكذا يسير أرسطو إلى النتيجة
الثانية:
-
(٢)
في الدولة لا بد للرجال أن يحكُموا النساء بالطبيعة وأن يسيطروا
عليهن؛ فتلك هي طبيعة الرجل أن يكون حاكمًا، وطبيعة المرأة أن تكون
محكومة. لكن لماذا ربط أرسطو بين: الرجال والجانب العاقل في النفس،
وبين النساء والجانب غير العاقل؟ لأنه كان يعتقد:
-
(٣)
أن الجانب العاقل يحكُم الجانب غير العاقل في نفوس الرجال ويسيطر
عليه على حين أن:
-
(٤)
أن الجانب العاقل في نفوس النساء لا يحكُم بطبيعته الجانب غير العاقل
ولا يسيطر عليه أو أن:
-
(٥)
الجانب غير العاقل في نفوس النساء — بحكم طبيعتهن — يحكُم الجانب
العاقل ويسيطر عليه؛ إذ لا شك أن أرسطو يفترض أن القدرة على التروِّي
في حالة النساء تكون بغير سلطان، وأن إرادة النساء بلا فاعلية. وهكذا
يسيطر الجانب اللاعقلي فعلًا ويتغلب على الجانب العقلي. باختصار إذا
كان الجانب العقلي هو الذي يحكُم في الرجل الحر فإنه لا يحكُم في حالة
النساء، وليس هو صاحب السلطة، وهذا يعني أمرًا بالغ الأهمية، وهو أن
النساء توابعُ أو خاضعاتٌ للرجال، لا لأن ذلك مجرد حدث أو تقليد أو
تراث … إلخ، بل لأنهن مخلوقات بالطبيعة ليكنَّ كذلك تمامًا، مثلما أن
الذين يحكُمون هم حكام بالطبيعة وأن المحكومين هم كذلك بالطبيعة. ولا
يُمكِن للطبيعة أن تنجحَ في جعل النساء خاضعاتٍ للرجال، ما لم تكُن قد
نجحَت في جعل الجانب العاقل عندهن بغير سلطان. وهكذا يعتقد أرسطو أن
النساء خاضعاتٌ للرجال بفعل الطبيعة التي تتجه، عن عمد، لتحقيق تلك
الغاية؛ أي إن نقص سلطان الجانب العقلي في النساء، لا بد أن تكون
الطبيعة قد اتجهَت إليه وقصَدَته. وباختصارٍ فإن النساء بالطبيعة «غير طبيعيات».
٦٢
وعلى ضوء هذا يتضح أن أرسطو فيما يتعلق بالعلاقة بين النساء والرجال ليس مجرد
شارحٍ للوضع القائم Status Quo وإنما هو مُنظِّر
لهذا الوضع.
ومن المهم أن نلاحظ أن الجانب العقلي عند النساء لا يكون دائمًا بغير سلطة على
الجانب اللاعقلي، وأنه لا يستمر هكذا بلا فاعلية؛ إذ لو صح ذلك فلن يكون ثمَّة
وسيلة للتفرقة أو التمييز بين الحالة الطبيعية
للنساء (أو الوضع الطبيعي للمرأة) وبين الحالة غير
الطبيعية للرجل الحر الذي يخضع لشهواته وغرائزه عندما يُفرِط في
الانغماس في الملذات؛ ففي حالة هذا الرجل الحر، يتوقف الجانب العقلي في نفس الإنسان
عن ممارسة وظيفته الطبيعية، وهي السيطرة على الجانب غير العاقل؛ فها هنا يحدث ألَّا
يمارسَ الجانب العقلي وظيفتَه وسلطتَه رغم أنه مؤهَّل للقيام بهذه الوظيفة؛ حيث
أعدَّته الطبيعة سلفًا لأن يكبحَ جماحَ هذا الجانب اللاعقلي.
أما في الحالة الأخرى — حالة المرأة — فإننا نجد أن الجانب العاقل لا يمارس هذه
السلطة، ولو أن الطبيعة كانت قد أعدَّته لممارستها لما كان الموجود في هذه الحالة
«امرأة»، غير أن أرسطو يقع هنا في مأزقٍ واضح؛ فهو يقول من ناحية: إن الطبيعة
أعدَّت الجانب العقلي للسيطرة على الجانب غير العقلي، لكنه من ناحيةٍ أخرى عندما
يتحدث عن المرأة يخرج عن هذا المبدأ ليقول: إن الطبيعة أهَّلَت الرجال للسيطرة على
النساء؛ فكأنه يقول إن الطبيعة قد أعدَّت الجانب العقلي من النفس، في حالة النساء،
بحيث لا تكون له الغلبة، ولا السيطرة على الجانب اللاعقلي.
هل يعني ذلك أن أرسطو لكي يصل إلى فكرته التي تقول: إن النساء بطبيعتهن لا بد أن
يخضعن للرجال، كان عليه أن ينكر إحدى مقدِّماته الرئيسية، وهي أن الجانب العاقل في
النفس هو الذي يحكُم بطبيعته الجانب غير العاقل؟
دعنا ننظر في برهانه مرةً أخرى:
إنه يقول: كما أن الجانبَ العقليَّ هو الذي يحكُم الجانبَ غيرَ العقلي، فكذلك
ينبغي للرجال أن يحكُموا النساء. وهذا يعني أن العقلانية مُقتصِرة على الرجال في
حين أن اللاعقلانية صفةٌ ملازمة للنساء. لكن ما هي الأسس التي يُمكِن أن يقيمَ
عليها ارتباط العقلانية بالرجال واللاعقلانية
بالنساء؟ لقد أقامها كما سبق أن رأينا على أساسِ أن الطبيعة تؤهِّل العقلانية لأن
تحكُم في الرجال، كما أنها تتجه إلى جعل هذه العقلانية ذاتها لا تحكُم في النساء، غير أن ذلك مصادرةٌ على
المطلوب.
فكيف عرف أرسطو أن الطبيعة تميل إلى أن تفعل ذلك؟ أعني: كيف عرف أنها تتجه إلى
إعداد الرجال والنساء على هذا النحو؟ إجابته الوحيدة الممكنة هي أن الرجال تسود
فيهم العقلانية في حين أنها لا تسود عند النساء. لكن ذلك لا يُبرِّر القول
بأن الطبيعة تفعل ذلك، فأرسطو نفسه هو الذي
يقول: إن مجرد واقعة غلبة جانب من النفس على جانب آخر وسيطرته عليه «وكذلك غلبة
مجموعة من الناس على مجموعة أخرى» لا تبرهن قَط على أن هذه هي الطريقة التي ينبغي
أن تكون عليها الأشياء لتكون متفقةً مع الطبيعة. وإذن فبرهان أرسطو عن خضوع النساء
الطبيعي لرجال هو برهانٌ ضعيفٌ متداعٍ؛ لأنه يأخذ بنظريةٍ متناقضةٍ عن العلاقة
الطبيعية بين الجانب العقلي وغير العقلي في النفس، ثم يصادر على المطلوب عندما يزعم
أن العنصر العقلي هو بالطبيعة الذي يحكُم في الرجال ولا يحكُم في النساء.
٦٣