الفصل الثالث

المرأة … والأخلاق

«شرُّ خصال الرجال خيرُ خصال النساء؛ البخل، والزهو، والجبن.»

الإمام الغزالي، إحياء علوم الدين، ج٢، ص٤٤.

«ليس من المناسب أن تتحلى المرأة بفضائل الرجل.»

أرسطو، فن الشعر، ١٤٥٤-أ

«ما يصدُر عن الرجال أنبل مما يصدُر عن النساء.»

أرسطو، الخطابة، ١٣٦٧-أ

أولًا: هيراركية الأخلاق

هذا ميدان ثالث يُطَبِّق فيه أرسطو أفكاره الميتافيزيقية السابقة، وهي الأفكار التي شكَّل منها نظريةً كاملة عن المرأة، وها هنا سنجد من جديدٍ فكرة الهيراركية، وفكرة الوظيفة، والهيولى والصورة … إلخ. ولقد سبق أن رأينا أرسطو يذهب مسايرًا تراثَ المجتمع اليوناني إلى أنه يمكن تعريف المرأة بوظيفتها في الإنجاب وتربية الأطفال، أو قُل بدقَّة أكثر: تربية الأبناء؛ لأن الأب لم يكن يهتم بالبنات. وباختصارٍ «كان وضع المرأة في المجتمع الأثيني يشبه كثيرًا وضع العبيد؛ فلفظ الزوجة كان يعني دامار Damar وجذور هذا اللفظ تعني التابعة. وعندما كانت العروس تصل إلى بيت العريس كان يفرغ فوق رأسها سلة مملوءة بالبندق لجلب الحظ، وهو تقليد كان يمتد إلى العبيد الذين اشتراهم الرجل حديثًا. ولم تكن المرأة، كالعبد، تتمتع بأية حماية في ظل القانون ما لم يملكها رجل؛ إذ الواقع أنها لم تكن شخصًا في نظر القانون …١

وهكذا اقتصر دور المرأة على الإنجاب — الذي يخلو من المتعة الجنسية التي تقوم بها العاهرات والغواني — وتربية الأطفال ورعايتهم، ولا سيما الذكور منهم، والإشراف على الأعمال المنزلية، وأداء الواجبات نحو الزوج أولًا، وسوف نعرض لها بعد قليل. ثم تجاه الأبناء والعبيد؛ وبالتالي لم يكن لها دورٌ خارج المنزل، وخارج الإنجاب للمحافظة على النسل وتحقيق الخلود للذكر؛ فهي وسيلةٌ يستخدمها الذكر لتحقيق غاياته في حياته، وبعد مماته على حدٍّ سواء.

ولو تأملنا النظرية الأرسطية، قليلًا، لوجدنا أنها «تُنظِّر» العادات والتقاليد الموجودة في المجتمع بالفعل؛ فأفكار أرسطو الميتافيزيقية الأساسية تساعد على إعطاء المبرِّرات «العقلية» للوضع المتدني للمرأة في المجتمع الأثيني؛ فالمرأة تبعًا للهيراركية الأرسطية أدنى من الرجل، وأقلُّ من حيث القدرة العقلية؛ إذ يطغى عليها الجانب الجسدي أو جانب الانفعالات والشهوات … إلخ؛ فهي أقرب إلى العبد كما ذكرنا منذ قليل. كما أنها أضعفُ من الرجل في قدراتها العامة نظرًا لقلة الحرارة عندها كما تكشف البيولوجيا، وهي الهيولى في حين أن الرجل هو الصورة، وهي «الجسد» في حين أن الرجل هو «الروح»، وهي «المادة الخام» والرجل هو «المبدأ العقلي»؛ ولهذا كان الرجل هو الأعلى، والأسمى، والأرقى، وهو الذي يحكم في المنزل أولًا وعلى المرأة السمع والطاعة، وهو الذي يحكُم في الدولة ثانيًا، وعلى المرأة أن تظل بعيدةً عن ضجيج السياسة، وأن تلوذَ بالصمت الذي هو «زينتُها وتاجُها».

فإذا تساءلنا عن وضع المرأة في ميدان الأخلاق؛ أعني عن علاقتها بالفضائل البشرية، كان الجواب يسير في نفس الخط السابق «فنظرية أرسطو الأخلاقية بكاملها متأثرة، على نحوٍ واضحٍ جدًّا، بنظريته الهيراركية التي اعتبَرها طبيعية؛ لأنها ضروريةٌ في تحقيق الأهداف الخاصة بالحياة البشرية.»٢

ويمكن أن نقول بصفةٍ عامة:

  • (١)

    إن جميع الفضائل البشرية الأساسية التي ناقشها أرسطو في كتابه «الأخلاق» كالصداقة، والحب، والعدالة … إلخ ليست على مستوًى واحد بالنسبة لجميع الأشخاص، وإنما هي تختلف اختلافًا جذريًّا في طبيعتها، وتعتمد في ذلك على الوضع النسبي للأشخاص الأعضاء في المجتمع، وعلى مرتبة كلٍّ منهم ومركزهم الاجتماعي والأسري … إلخ.

  • (٢)

    لا ينظر أرسطو إلى أي مفهومٍ أساسي من مفاهيم الأخلاق؛ كالأمانة، أو الشرف أو الإخلاص، أو العفة، أو الشجاعة … إلخ، على أنه يمكن أن ينطبق على نحوٍ عام وكلي على جميع أفراد البشر، بل لا بد من مراعاة وضع الشخص في سُلَّم الهيراركية البشرية؛ وبالتالي رتبته ومركزه ووظيفته؛ فتلك هي الأمور الحاسمة التي تحدِّد نوع الفضيلة أو العفة أو الشجاعة المطلوبة لهذا الشخص أو ذاك. قُل لي أين يقع وضعُك الاجتماعي، أقُل لك ما هي الفضائل المناسبة التي ينبغي عليك أن تتحلى بها.

لهذا السبب نجد أرسطو يطرح منذ البداية مجموعة من التساؤلات عن الفضائل التي ينبغي أن يتحلى بها أفراد الأسرة، وعما إذا كانت واحدةً عند الجميع، وهو يبدأ بالعبيد، فيرى أنه من المسلَّم به أن لهم قيمة بوصفهم أدواتٍ حية وخدمًا (لاحظ أنهم يقومون مقام الثور في الأعمال الشاقة التي ذكرها هزيود في شعره) لكن أيمكن أن تكون لهم فضائلُ أخرى؟ هل هناك فضائلُ أعلى؟ أيمكن لهم أن يكتسبوا احترام الذات، والشجاعة والعدالة، وغير ذلك من فضائل؟ ثم يقول: إننا نستطيع أن نُجيب عن هذه الأسئلة بإحدى طريقتَين تمثل كلٌّ منهما مشكلة؛ فلو أننا قلنا: نعم، لهم فضائل من هذا القبيل لثار سؤالٌ جديد: وما الفرق بينهم، في هذه الحالة، وبين الأحرار من البشر؟ ولو كانت الإجابة بالنفي؛ أعني أنه ليس لهم فضائلُ من هذا النوع، لكان الوضع غريبًا أيضًا ما داموا موجوداتٍ بشرية لديها قدراتٌ عقلية.٣

ويمكن أن يطرح هذا السؤال نفسه بالنسبة للزوجة والأطفال: ألهما فضائلُ أخرى؟ أينبغي للمرأة أن تكتسب احترام الذات، والشجاعة، والعدالة؟

أينبغي أن تكون الزوجة خيِّرة، كريمة، فاضلة، بمعنى أن تتحلى بفضيلة العفة وضبط النفس، وغيرهما من فضائل الزوج أم أن لها فضائلها الخاصة؟ وهل يُمكِن أن نصف الطفل بأنه فاسق أو عفيف؟٤
ويستمر أرسطو فيقول: إن علينا قبل أن نُجيب عن هذه الأسئلة أن نسير بالبرهان أبعد من ذلك؛ فلا بد أن نطرح السؤال لا بالنسبة لحالاتٍ جزئية خاصة بل بصفةٍ عامة، فهل فضيلة الذين يحكُمون بالطبيعة هي نفسها فضيلة المحكومين بالطبيعة؟ لو قلنا إنهم يشتركون في فضيلةٍ واحدة، فلماذا يكون أحدهما دائمًا حاكمًا والآخر دائمًا محكومًا؟ لا يمكن أن يكون الفارق بينهما فارقًا في الدرجة؛ فإن ذلك يسمح بمشاركتهما في نفس الفضيلة، لكن بقدرٍ متفاوت، وإنما لا بد أن يكون الفارق بين الحكام والمحكومين فارقًا في النوع؛ فالدرجة — أعني: الكم — لا علاقة لها بالموضوع هنا. ومن ناحيةٍ أخرى لو أننا قلنا: إن أحدهما ينبغي عليه أن يشارك في الفضيلة في حين أن الآخر لا ينبغي عليه المشاركة فيها، لوضعنا أنفسنا في وضع قد يبدو بالغ الغرابة؛ إذ كيف يمكن للرئيس أن يجيد فن الحكم إذا لم يكن عفيفًا؟ وكيف يمكن للحاكم أن يحكم حكمًا سليمًا ما لم يتحلَّ بفضيلة العدالة؟ وإذا لم يكن لدى المحكومين فضيلة العفة والعدالة فكيف يتسنى لهم أن يُحسنوا الخضوع والطاعة؟٥ فلو أننا تصوَّرناهم مجموعةً من السفلة والجبناء لصعُب عليهم أداء واجباتهم. والنتيجة التي ينتهي إليها أرسطو من هذه المناقشة هي أن الطرفَين، الحكام والمحكومين، يتحتَّم عليهما أن يشتركا في الفضيلة، وإن اختلف نوعُ الفضيلة عند كلٍّ منهما بحيث يكون للحكام فضيلتهم الخاصة، ويكون للمحكومين فضيلةٌ أخرى خاصة بهم. وهذا المبدأ نفسه ينطبق على العبيد والنساء والأطفال؛ فليس ثمَّة معيارٌ أخلاقيٌّ واحد ينطبق على الجميع، وليس ثمَّة فضائلُ أخلاقيةٌ واحدة للإنسان بما هو إنسان؛ أعني لا بد أن يتحلى بها أفراد البشر جميعًا، وإنما هناك هيراركيةٌ أخلاقية، هناك سُلَّم من الفضائل يرتبط أوثقَ ارتباط بوضع كل فرد ومكانته في المجتمع.

ثانيًا: أخلاقيات الأسرة

يذهب أرسطو إلى أن جميع أعضاء الأسرة يشاركون في الفضائل، لكنهم لا يشاركون فيها بنصيبٍ واحد، وبطريقةٍ واحدة، بل هم يتفاوتون في ذلك كلٌّ بقدْر وظيفته وموقعه من الأسرة؛ فرب الأسرة يجب أن يُحرز أعلى الفضائل مثله مثل الحاكم أو الرئيس لا بد أن تكون لديه الفضائل كاملةً بقَدْر المستطاع؛ لأن وظيفته هي وظيفة المهندس أو العقل المهندس. أما بقية أعضاء الأسرة فإنه يكفيهم أن ينالوا من الخير الأخلاقي بالقَدْر الذي تتطلبه مراكزهم؛ فعفة الزوجة غير عفة الزوج، وشجاعة المرأة غير شجاعة الرجل. كما أن العدل يختلف بينهما أيضًا؛ فهناك شجاعة الرئيس أو الحاكم، وهناك شجاعة العبد أو الخادم، وهناك شجاعة المرأة … إلخ. ولا بد أن يُعَدَّ الرجل جبانًا إذا لم يكن لديه من الشجاعة إلا ما لدى المرأة، كما أن المرأة تُعتبر ثرثارةً إذا لم يكن لديها من التحفظ إلا بمقدار ما يجب أن يكون عليه الرجل الذي يعرف السلوك في الحياة، وعلى ذلك ففي الأسرة تختلف وظائف الرجل أشد الاختلاف؛ وبالتالي تختلف فضائله عن المرأة وفضائلها.

وإذا كان العبد يُولد عبدًا بالطبيعة التي ميَّزته بقوة الجسد والقدرة على الأعمال الوضيعة الشاقة، وجعلَت الجانب العقلي عنده ضحلًا لمجرد أن يفهَم أوامر سيده، فإن فضائله لا بد أن تكون مختلفة، عليه السمع، والطاعة، وتفهُّم إرشادات سيده وتنفيذها؛ لأن في ذلك صالحه هو، ونفعه هو الخاص. والواقع أن فضائل العبد غايتُها تسهيل مهمة السيد تمامًا، مثلما أن فضائل الطفل غايتُها تسهيل عمل الناضجين الذين يسهرون على تربيته وتهذيبه، وفي هذه النظرية نجد في الواقع تجاهُلًا واضحًا للقيم الروحية سواء عند الطفل أو عند العبد على حدٍّ سواء، بل إنك ستجد هذه النظرية تنطبق أيضًا على الطبقة المنتجة في المجتمع، كالصُّناع والزُّراع والتُّجار … إلخ.

أما بخصوص الواجبات المفروضة على كلٍّ من الزوجة وزوجها في علاقتهما الأسرية، فإن أرسطو يلخِّصها على النحو التالي:٦

واجبات الزوجة

يعتقدُ أرسطو أن المرأةَ «الفاضلة» صاحبةَ الامتياز الحقيقي والجدارة الحقيقية هي التي تكون ربَّةَ منزل من الطراز الأول، تسهَر على تربية الأطفال، وتسير على قواعدَ محدَّدة منها:٧
  • (١)
    ينبغي ألا تسمح لأحد بدخول المنزل بدون علم زوجها.٨
  • (٢)
    أن تبتعد عن القيل والقال، وما تمارسه النسوة المتسكِّعات اللائي ينتقلن من منزل إلى آخر، ويعملن على تسميم النفوس.٩
  • (٣)
    ينبغي ألا تُطلِعَ أحدًا على ما يدور بداخل منزلها، بل تكون هي وحدها العليمة بما يحدث فيه، فإذا ما وقع أمرٌ من خارج البيت كان الزوج هو المَلوم.١٠
  • (٤)
    لا بد أن تكون مدبِّرة، فتضبط نفقات البيت،١١ والحفلات التي يفضِّلها زوجها، وأن تجعل حدودًا معيَّنة من الإنفاق على اللباس والزينة، واضعةً في اعتبارها أن الجمال لا يعتمد على الملابس الغالية الثمن، ولا على كثرة المجوهرات.١٢
  • (٥)

    امتياز المرأة لا يعود إلى الذهب بقَدْر ما يرجع إلى سلوكها وتصرُّفاتها في كل ما تفعل، ومَيْلها إلى حياةٍ شريفةٍ منظَّمة تنظيمًا جيدًا، تلك هي الزينة التي ترفع من قَدْر المرأة، وتظل قائمةً في شيخوختها، باقيةً لأولادها من بعدها.

تلك هي مملكة المرأة التي ينبغي عليها أن تضع في اعتبارها كيف تحكُمها بنظامٍ وتدبُّر، وليس من اللائق للرجل أن يعرف كل ما يدور داخل المنزل، أما في جميع المسائل الأخرى فليكن هدفها أن تطيع زوجها دون أن تلقي بالًا للمسائل العامة، بل حتى عندما يبلُغ أولادها مبلغ الزواج، فلا ينبغي أن تتدخل في هذا الموضوع، وإنما عليها أن تتنحَّى تمامًا، وأن تُصغيَ إلى زوجها بكل احترامٍ فتوافقه، وتطيع أمره، وأن تكون على بينةٍ تامة من أنه إذا كان من غير اللائق أن يتدخل هو في الشئون الداخلية للمنزل، فإنه لا يليق لها أن تتطفل على الأمور التي تقع خارج البيت «إن على المرأة صاحبة الحياة المنظَّمة، أن تنظر إلى مطالب زوجها كما لو كانت قوانينَ فرضَتها عليها الإرادة الإلهية»،١٣ ما دامت تشاركه حياته، فإذا ما تحمَّلَت هذه الحياة بجلَد، وصبر، وجدَت نفسها تحكُم بيتها في سهولة ويسر، وإلا فسوف تجد صعوبةً بالغة في إدارة المنزل.١٤ ثم يسوق أرسطو بعض النصائح للزوجة «الفاضلة» و«الصالحة» الممتازة، التي هي جديرةٌ بالثناء؛ منها:
أن تكون وفية لزوجها في السراء والضراء؛ فلا تكون مطيعةً له ما دام في حالة رخاء، ثم لا تكون كذلك أيام المحنة والشدة: «فإذا ذهبت ثروتُه بسبب مرضه أو أخطائه، فينبغي عليها أن تُظهر أن معدنها أصيل؛ ومن ثَم عليها أن تشجِّعه بكلماتٍ رفيعة، وأن تخضع له بكل الطرق المناسبة، وألا تفعل شيئًا وضيعًا أو غير جدير بالاحترام، وألا تذكر له أمرًا سيئًا كان قد ارتكبه وهو في حالة ضيقٍ نفسي، كذلك عليها أن تكُف عن الشكوى أو التذمُّر، أو اتهامه بارتكاب الأخطاء، وإنما عليها، على العكس، أن تعزوَ كل شيء إلى المرض أو السهو، أو الأخطاء العابرة؛ لأنه بقَدْر صمودها في خدمته في هذه الأوقات يكون امتنانه وعرفانه لها عندما يسترد عافيته، أو يسترجع ثروته.»١٥
ويعتقد أرسطو أن الزوجة التي تعيش مع رجلٍ ثري، أو زوجٍ صاحب جاه، لن تواتيها الفرصة لتكشفَ عن معدنها الأصيل، في حين أن القدرة على تحمُّل الشدائد هي التي تستحق عظيم الاحترام؛ لأن الروح العظيمة هي وحدها القادرة على الحياة وسط المصاعب دون أن تأتي ما يشين: «إنها تصلي لكي تجنِّب زوجها المحنة، وعندما يقع الزوج بالفعل في محن، فإنها تدرك أنه ها هنا تظهر المرأة الممتازة الجديرة بأعظم ثناء.»١٦ ويضرب أرسطو للزوجة «الفاضلة» صاحبة الامتياز أمثلةً شهيرة؛ يقول:
«إن على الزوجة الممتازة أن تتذكَّر أن ألكستيس Alcestis١٧ لم تكن لتنال كل هذه الشهرة، ولم تكن بنلوب Penelope،١٨ تستحق كل هذا الثناء والإطراء ما لم يكن قد تعرض زوج كلٍّ منهما لمحنةٍ كما هو معروف، وهكذا حقَّقَت متاعب أدميتوس Admetus وأوليس Ulysses سمعةً طيبة لهاتَين الزوجتين لن تموت أبدًا؛ لأنهما برهنَتا في ظروفٍ صعبة وعصيبة على الإخلاص لزوجَيهما فأسبغَت عليهما الآلهة الاحترام الواجب. والسبب هو أنه سهلٌ جدًّا أن تجد شريكةً وقتَ الرخاء، لكن المرأة الفاضلة هي وحدها التي تُشارِك في الضراء والمحن؛ ولهذا فإنه ينبغي على الزوجة ألَّا تخجل من زوجها حتى إذا ما ذهب عنه ثراؤه، أو ضعفَت صحته.١٩

واجبات الزوج

إذا كانت هناك واجباتٌ ينبغي أن تُراعيَها الزوجة الفاضلة أو الصالحة، فإن هناك واجباتٍ أخرى ينبغي على الزوج الفاضل أو الصالح مراعاتها؛٢٠ إذ يجب عليه أن يعامل زوجته بالطريقة نفسها، ما دامت قد دخلَت بيته كشريكة لحياته وحياة أطفاله؛ فالنسل سوف يحمل اسمَيهما معًا. وما الذي يمكن أن يكون مقدسًا أكثر من أن ينجب المرء من زوجةٍ نبيلةٍ محترمة، أطفالًا يكونون قرَّةَ عينٍ لهما، ورعاةً لهما في شيخوختهما وحراسًا مخلصين لوالدَيهما؟ إن رعاية الوالدَين لأطفالهم في حياتهم، سوف تعمل على نمُو هؤلاء الأطفال نموًّا حسنًا على أسسٍ من الفضيلة، وبغير هذه التربية سوف يختل سلوكهم، وما لم يكن الوالدان قدوةً لأطفالهم في حياتهم فسوف يكون أمامهم «المثَل السيئ» والعذر للسلوك الشائن، وقد يجلبون على أنفسهم العار والدمار؛٢١ ومن ثَم فإن تدريب الزوجة ينبغي أن يكون موضع عناية لا حدَّ له من جانب الزوج، حتى ينمو الأبناء نموًّا حسنًا متفرِّعين من أنبل جذع؛ فالفلاح لا يألو جهدًا، عندما يحرث التربة، عن الاهتمام ببذر البذور في أصلح أرض، وأكثرها خصوبة، أملًا بذلك أن يجني أفضل الثمرات. وهو على استعدادٍ كي يجنِّبَها الخراب أن يدخُلَ في صراعٍ مع خصومه حتى الموت الذي يكلِّله الناس بأعلى ثناء!
لا بد للزوج أن يعتنيَ بزوجته كما يُعنى الفلاح بأرضه التي تنتج له المحاصيل. وعندما يشير أرسطو إلى ضرورة إطعام الجسد نراه يقول صراحة: «لا بد أن نوجه كل عناية إلى أم أطفالنا التي نزرع فيها البذور لتخرج لنا منها الروح الحي؛ فبهذه الطريقة وحدها يشارك كل فانٍ في الخلود، ويتواصل تقديم الصلوات إلى الآلهة الأسلاف، ومن لا يفعل ذلك فهو يستخفُّ بالآلهة.»٢٢

والزوجة الفاضلة يحترمها الناس أكثر عندما يشاهدون إخلاصَ الزوج لها، وأنه لا يفضِّل عليها امرأةً أخرى، لأنه يحبُّها ويثقُ فيها؛ ولهذا فعلى المرأة أن تسعى أن تكون كما يريد لها الزوج أن تكون.

غير أن أرسطو يريد من الزوج أيضًا أن يكون محترمًا؛ فليس من العقل السليم فيما يقول، أن يهبَ الرجلُ اسمَه لأبناءٍ غيرِ شرعيين، أو أن يُضاجعَ كل من هبَّ ودبَّ من النساء، وإلا فإن «الطفل الوضيع» الذي يَنسُلُه في هذه الحالة، سوف يُشارِك الأطفال الشرعيين حقوقَهم، كما يشارك الزوجة أيضًا.٢٣
لكن على الزوج أيضًا أن يُراعيَ مجموعةً من الأمور الهامة في معاملة الزوجة:
  • (١)

    عند تأنيب الزوجة عليه أن ينتقي كلماتٍ محترمة، وأن يستخدم عباراتٍ لائقة، وأن يختار ألفاظًا مهذَّبة؛ فلا يجوز أن يلجأ إلى الألفاظ السوقية.

  • (٢)

    عليه أن يتغاضى عن الأخطاء غير المتعمدة، وما قد ترتكبه الزوجة من أمورٍ تافهة، وإذا ما ارتكبَت خطأً عن جهل، فإن عليه أن ينصحَها بغير تهديدٍ وبطريقةٍ مهذَّبة.

  • (٣)

    عليه أن يسيطر على نفسه، وأن يكون سيد أفعاله، وبذلك يكون خيرَ مرشدٍ لزوجته في كل أمور الحياة.

  • (٤)
    عليه أن يربط ضبط النفس بالخجل، والحب، والخوف، والتواضع. وهذا ما فعله «هوميروس» الذي امتدح هيلين Helen لأنها خاطبَت بريام Priam بقولها: «حماي العزيز، أنت رجلٌ أحترمه وأخشاه.» وهو يعني بذلك أن حبها له يختلط بالخوف والاحتشام.٢٤
ومن ناحية أخرى تحدَّث أوليس Ulysses إلى ناوسكا Nausicaa٢٥ بهذه الطريقة: «سيدتي لقد تملَّكَتني الدهشة والرهبة»؛ لأن هوميروس كان يعتقد أن هذا هو شعور الزوج والزوجة كلٌّ منهما تجاه الآخر. وسيكون في ذلك كل الخير لهما معًا؛ فلا أحد يخشى بهذه الطريقة الخجولة، من شخصيةٍ وضيعة، وإنما تلك مشاعر الأرواح النبيلة تجاه بعضها بعضًا؛ فلقد كانت تلك هي مشاعر أوليس Ulysses تجاه زوجته بنلوب Penelope لهذا ظل مخلصًا لها طوال مغامراته أثناء العودة٢٦ في الوقت الذي أخطأ في حق زوجته من أجل كريسيس٢٧ عندما أعلن في اجتماع وضيعة من السبايا، ومن جنس أجنبي، لا تقل عن زوجته كليوتمنسترا في امتيازها الأنثوي، فهذا أسلوب غير لائق تجاه أم أولاده وكيف يمكن له؟ قبل أن يعرف سلوكها تجاهه؟!٢٨
أما «أوليس» فهو، من ناحيةٍ أخرى، عندما تضرَّعَت إليه ابنة أطلس Atlas أن يشاركَها الفِراش ووعدَته بالخلود، لم يقبل أن يجلب لنفسه صفة الخلود في مقابل أن يخون الرقة، والحب، والولاء، الذي تقدِّمه إليه زوجته، واعتبر الخلود الذي يُشترى بالخيانة أسوأ أنواع العقاب٢٩ أما استسلامه ﻟ «كيركي Circe»٣٠ فلم يكن إلا لإنقاذ رفاقه؛ فقد أعلن عندما استجاب لها أنْ لا شيء يعدل في عينه جزيرته المحبوبة، حتى وإن كانت وَعْرة، وأنه لا يريد شيئًا سوى أن يرى زوجته وابنه، وهكذا حافظ بحزمٍ على إخلاصه لزوجته، فلقي منها بدوره إخلاصًا مماثلًا.٣١
ويعتقد أرسطو أن «هوميروس» لخص الشرف العظيم، الذي تُضْفيه رابطة الزواج على العلاقة بين الرجل والمرأة، عندما قال على لسان أوليس مخاطبًا ناوسكا: «إني لأتوسل إلى الآلهة أن تمنحك زوجًا وبيتًا، ووحدة في القلب؛ فتلك هديةٌ عظيمة، وما من شيءٍ أعظم من أن يعيش الرجل وزوجته في منزلٍ واحد متحدَين متحابَّين، فتكون هذه الحياة كمدًا لأعدائهما، وفرحًا لأصدقائهما، أما هما فيعرف كلٌّ منهما صاحبه حق المعرفة.»٣٢
١  Eva C. Keuls: The Reign of Phallus, p. 6.
٢  Susan M. Okin: Women in Western Political Thought, p. 86.
٣  Aristotle: Politics, 1259-B.
٤  Ibid..
٥  Ibid..
٦  Aristotle: Economics, 1353-B (vol. 2, p. 2146).
٧  قارن ما يقوله الإمام الغزالي: «القول الجامع في آداب المرأة من غير تطويل؛ أن تكون قاعدةً في قَعْر بيتها، لازمةً لمغزلها، لا يكثُر صعودها وطلوعها … وأن تقوم بكلِّ ما تقدر عليه … وأن تحفظ بعلَها في غيبته، وتطلُب مسرَّته في جميع أمورها … إلخ.» (إحياء علوم الدين، المجلد الثاني، ص٦٦، دار الريان للتراث، القاهرة، ١٩٨٧م).
٨  «وإذا استأذن صديقٌ لبعلها على الباب، وليس البعل حاضرًا، لم تستفهم ولم تعاوده الكلام غَيْرةً على نفسها وبعلها» (المرجع السابق، ص٦٦).
٩  «قليلة الكلام لجيرانها، لا تدخل عليهم إلا في حالٍ يوجب الدخول» (المرجع السابق).
١٠  «حقوق الزوج على الزوجة كثيرة أهمها أمران؛ الصيانة، والستر، والآخر ترك المطالبة بما وراء الحاجة» (المرجع السابق، ص٦٥).
١١  «من الواجبات عليها ألا تُفرِّط في ماله وتحفظه عليه»، المرجع، السابق ص٦٥.
١٢  «ومن آدابها ألا تفاخر على الزوج بجمالها، ولا تزدري زوجها لقبحه» (المرجع السابق، ص٦٧).
١٣  «لا بد للمرأة أن تعرف أن طاعة الزوج من مبادئ الإسلام» (المرجع السابق، ص٦٤).
١٤  Aristotle: Economics, 1353-A (vol. 2, p. 2147).
١٥  Ibid..
١٦  Aristotle, Ibid..
١٧  ألكستيس Alcestis زوجة أدميتوس Admetus ملك تساليا الذي أصيب بمرضٍ عُضال، وتمنى على الآلهة أن تمنَحَه الخلود وتُبعِد عنه شبح الموت، فأجابته الآلهة إلى طلبه بشرط أن يأتي ﺑ «بديل» من أهل بيته يموت نيابةً عنه إذا حضرَته الوفاة. وهنا تقدَّمَت زوجته المخلصة ألكستيس فضحَّت بنفسها لكي ينجو زوجها من الموت، وهكذا ماتت الزوجة الوفية فداءً لزوجها الملك! وعندما مرَّ هرقل بتساليا وجد الملك يبكي زوجته المخلصة، ووجد شعبه من حوله يبكي هذه الزوجة، فهبط البطل إلى ظلمات الدار الآخرة، وصارع حارسها الجبار، وعاد بالمرأة المخلصة إلى زوجها، فسعدَت المملكة بأَسْرها!»
١٨  بنلوب — التي نقضَت غَزْلها — هي زوجة «أوليس» القائد اليوناني الكبير في حرب طروادة، وقد كتب عنه «هوميروس» الأوديسة يصف فيها رحلة العودة إلى بلاده بعد انتهاء الحرب؛ ذلك أن أوليس لم يعُد إلى بلاده مباشرة، وإنما صادفَته عقباتٌ كثيرة في طريق العودة، وقام بالكثير من المغامرات مع رفقة من الجنود، وظل يتخبط في البلاد ما يقرُبُ من عشرين عامًا، ولقد كان الخطَّاب يتوافدون خلال تلك الفترة لخطبة زوجته بنلوب، على اعتبار أن زوجها فُقِدَ أثناء القتال، ولا ينبغي لامرأةٍ جميلةٍ أن تبقى بغير زواج، لكن بنلوب كانت تشعُر أن زوجها لم يمُت، وأنه سيعود إليها آجلًا أو عاجلًا؛ ولهذا لجأَت إلى المماطلة والحيلة في الرد على خطَّابها، فوعدَتهم أنها ستقوم باختيار واحدٍ منهم بعد أن تنتهي من غزل ثوبٍ كانت تنسجه، لكنها كانت تنقض في المساء ما غزلَته طوال النهار، ثم تبدأ في الغَزل من جديد كل صباح إلى أن عاد زوجُها سالمًا.
١٩  Aristotle, op. cit. 1353-B.
٢٠  أما الزوج فعليه مراعاة الاعتدال والأدب في اثنَي عشر أمرًا؛ في الوليمة، والمعاشرة، والدعابة، والسياسة، والغَيرة، والنفقة، والتعليم، والقَسْم، والتأديب في النشوز، والوقاع، والولادة، والمفارقة بالطلاق (إحياء علوم الدين، المجلد الثاني، ص٤٧).
٢١  Aristotle: Economics, 1353-B (vol. 2, p. 2147).
٢٢  Ibid..
٢٣  Aristotle: Economics, 1353-B (vol. 2, p. 2149).
٢٤  Ibid..
٢٥  العذراء ناوسكا Nausicaa أميرة ذات جمالٍ بارعٍ فتَّان، وهي ابنة ألكنيوس الباسل ملك الفياكيين، كانت أول من قابل أوليس بعد أن تحطَّمَت سفينتُه عند الساحل الفياكي (قارن أوديسة هوميروس، ترجمة أمين سلامة، ص١٦٦، بنك الأدباء، القاهرة، عام ١٩٦٠م).
٢٦  سوف يتضح بعد قليلٍ أن هذه العبارة ليست دقيقة!
٢٧  العذراء كريسيس ابنة كاهن أبولُّو التي أسَرَها أجاممنون، وضمَّها إلى «خيمته الملكية» حبًّا، وتضرَّع والدها كاهن الإله أبولُّو أن ينتقم هذا الإله من أجاممنون، فاستجاب؟ عن الأسطول حتى يردَّ أجاممنون ابنة الكاهن إليه، كما اشترط لعودة الريح أن يضحِّيَ بابنتِه أفيجينيا. أما كليوتمنسترا فهي زوجة هذا الملك، ولم تكن مخلصة له.
٢٨  Aristotle: Economics, 1353-B.
٢٩  هي الربة الخالدة كالبسو — ابنة أطلس — التي احتجزَت «أوليس» في جزيرتها، وطارحَتْه الغرام قبل أن تفرج عنه، ومن هنا كانت عبارة أرسطو غير دقيقة، فهو «لم يرفض أن يُشارِكَها الفراش» كما يقول، وإنما رفضَ البقاءَ معها نهائيًّا، والتخلِّيَ عن البحث عن طريق العودة إلى زوجته ووطنه؛ فقد كان مطلبها كما قالت له: «أن تبقى معي هنا، وأن تصبح من الخالدين»، ولكنه رفض مع أنه «عندما حلَّ الظلام اعتزل معها في مغارة، ورقد بجوارها متعانقَين، وقضيا ليلةً مترعة ﺑالحب» (قارن أوديسة هوميروس، ترجمة أمين سلامة، ص١٥٣)؛ وأيضًا The Odyssey, Book, N, 4. Penguin Books, pp. 93-4. Trans. by E. V. Rieu.
٣٠  «كيركي» هي الربة الفاتنة، ذات الغدائر الجميلة، التي التقى بها أوليس في مغامراته، وبارزها بسيفه البتار فقهرَها، فدعته إلى وقف المبارزة والذهاب معها إلى بيتها: «خلِّ عنك، وضع سيفك في غمده، وهيا بنا نذهب إلى فِراشي، حتى إذا ما ضمَّنا الفراش معًا في عشق، استطاع كلٌّ منا أن يثق في الآخر»! لكنه أجابها بقوله: «وما الذي يضمَن لي ألا تجعليني ضعيفًا مخنثًا إذا تجرَّدتُ من سلاحي وملابسي؟ لن أذهب معك إلى الفِراش إلا إذا أقسمتِ يمينًا لا حنث فيه ألَّا تغدري بي، وألَّا تكونَ لديكِ نوايا خبيثة»، وعندما أقسمَت الربة ذهب معها إلى فراشها الجميل (أوديسة هوميروس، الترجمة العربية، ص٢٤٨، والإنجليزية، ص١٦٤، ١٩٦٥م).
٣١  Aristotle: Economics, vol. 2, p. 2149.
٣٢  أوديسة هوميروس، ترجمة أمين سلامة، ص١٧١، وقارن أرسطو، «الاقتصاد أو تدبير المنزل»، المجموعة الكاملة لمؤلفاته، المجلد الثاني، ص٢١٥٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥