الفصل الأول

تقلبات الخلق أيام الثورات

(١) تحول الشخصية

فصَّلتُ في مؤلف آخر نظرية الأخلاق التي يستحيل إدراك تحول الإنسان بغيرها أيام الثورات، وإليك عناصرها الأساسية:

لكل امرئٍ — ما عدا نفسيته الثانية — شؤون خلقية متقلبة تُظهرها الحوادث.

وتتألف شخصية الإنسان الخاصة من اجتماع شخصيات وراثية كثيرة تبقى متوازنة ما دامت البيئة ثابتة لا تتقلب، فمتى تقلبت هذه البيئة كثيرًا، وذلك كما يقع أيام الفتن، اختل هذا التوازن وتألف من تكتل العناصر المنحلة شخصية جديدة ذات أفكار وعواطف ومناهج تختلف جدًّا عن الشخصية العادية، ومن ذلك أن كثيرًا من رجال الصلاح والقضاء، الذين كانوا موصوفين بالحلم، انقلبوا أيام الهول إلى أناس متعصبين سفاكين للدماء.

حقًّا قد يصير المرء بتأثير البيئة الجديدة أمرأً آخر، وحقًّا إن القائمين بالأزمات الدينية والسياسية العظيمة مثلنا، وإن لاح لنا أنهم من جوهر يختلف عن جوهرنا، فمن تكرار الحوادث نفسها يظهر الأشخاص أنفسهم.

وكيف تتألف شخصية جديدة عندما تنحل الشخصية العادية بفعل بعض الحوادث؟ إنها تتألف بوسائل كثيرة أهمها: حيازة معتقد قوي.

فبالمعتقد تألفت الشخصيات التي شوهدت في الأزمات العظيمة كالحروب الصليبية والإصلاح الديني والثورة الفرنسة، وإننا، لعدم تحول البيئة في الأوقات العادية، لا نشاهد سوى شخصيات متماثلة في الناس.

وقد تصبح هذه الشخصيات متناقضة متشاكسة، ولكن ذلك يحدث قليلًا في الأزمنة العادية، ويكون بارزًا أيام الاضطرابات.

وليس الذكاء هو الذي يتغير عند تحول الشخصيات، بل المشاعر التي يتألف الخلق منها.

(٢) عناصر الخلق السائد للثورات

نشاهد في أيام الثورات أن المشاعر المزدجرة عادة تسير حرة عند رفع الزواجر الاجتماعية، ولا ترفع هذه الزواجر المستندة إلى القوانين والتهذيب والتقاليد رفعًا كليًّا، بل يبقى بعضها على الرغم من الانقلابات، وينفع هذا البعض في وقف ثوران المشاعر الخطرة.

وروح العنصر أقوى هذه الزواجر، فهي تحدد تقلبات الأمة وتسيرها على الرغم من ظواهر الأمور، فلو نظرنا إلى ما قصَّه التاريخ لظهر لنا مثلًا أن النفسية الفرنسية تبدلت كثيرًا في قرن واحد، أي انتقلت في سنين قليلة من نظام الثورة إلى النظام الإمبراطوري فإلى النظام الملكي فإلى نظام الثورة فإلى النظام الإمبراطوري، والواقع أن ظواهر الأمور وحدها هي التي تغيرت.

ولا نوضح حدود تقلب الأمة بأكثر مما فعلنا، وسنبحث الآن في العناصر العاطفية التي يساعد انتشارُها أيام الثورات على تغيير شخصيات الأفراد والجماعات، وسأذكر من هذه العناصر: الحقد والخوف والحرص والحسد والزهو والحماسة، فقد لوحظ تأثير هذه العناصر في انقلابات التاريخ كلها، ولا سيما في الثورة الفرنسية الكبرى.

(٣) الحقد

حِقدُ رجال الثورة الفرنسية على الناس والنظم وكل شيء هو أحد مظاهرهم العاطفية التي تبدو عند البحث في نفسيتهم، فلم يكتفِ هؤلاء الرجال بمقت أعدائهم بل مقتوا أيضًا أعضاء حزبهم الخاص، قال أحد الكُتَّاب حديثًا: «إذا نظرنا إلى ما كانوا يصفون به بعضهم بعضًا لم نرَ فيهم سوى الخونة والكاذبين وبائعي الضمائر والقتلة والظالمين»، وما كان مجهولًا ذلك الحقد الذي غلى في صدور الجيرونديين والدانتونيين والإيبريين والروبسپيريين أيام كانوا يتطاردون، فلم يهدأ هذا الحقد إلَّا بقتل كل امرئ من يخالفه.

وسبب ذلك هو أن هؤلاء الهائجين لمَّا اعتقدوا أنهم على الحق صاروا، كالمؤمنين في كل زمن، لا يطيقون مسامحة من لم يكن على مذهبهم، فصاحب الإيمان الديني أو العاطفي يميل إلى حمل الناس على إيمانه دائمًا، وهو لا يتأخر عن القتل في سبيله إذا استطاع ذلك.

ولو كان العقل مصدر الأحقاد التي فرقت بين رجال الثورة الفرنسية لم تدم هذه الأحقاد طويلًا، ولكن صدورها عن خُلُق التدين والعاطفة جعل أصحابها عاجزين عن الصفح، وبما أن مصدرها واحد عند الأحزاب كلها ظهرت بشدة واحدة عند الجميع، ولقد أثبتت الوثائق الصحيحة أن الجيرونديين لم يكونوا أقل من حزب المونتانيار سفكًا للدماء، فكانوا أول من صرح مع بيسيون بأنه يجب على الأحزاب المغلوبة أن تبيد، وقد بيَّن مسيو أولار أنهم حاولوا تسويغ مذابح سپتمبر، وعليه وجب ألَّا تعدَّ طريقة الهول من طرق الدفاع، بل من طرق الإبادة التي يتخذها المؤمنون الغالبون نحو أعدائهم المقهورين، فالإنسان — وإن تحمل ما يباين أفكاره — لا يطيق معتقدًا مخالفًا لمعتقده أبدًا.

لا سلام للمغلوب في المنازعات السياسية والدينية، هذه سنةٌ لم تتبدل منذ قطع سيلَّا رقاب مئتي عضو من أعضاء مجلس الشيوخ ورقاب زهاء ستة آلاف روماني حتى رجال الكومون الغالبين الذين قَتَلوا بالرصاص أكثر من عشرين ألف مغلوب، ولا ريب في أن هذه السُّنَّة ستجري حكمها في المستقبل كما فعلت في الماضي.

ولم يكن اختلاف المعتقدات وحده سبب الأحقاد التي ظهرت أيام الثورة الفرنسية، بل صدرت تلك الأحقاد أيضًا عن المشاعر الأخرى كالحسد والحرص والعجب، ومما أوجبته هذه المشاعر مغالاة رجال الأحزاب المختلفة في الحقد، فما كان يقع بين الأشخاص من المزاحمة للقبض على زمام الأمور كان يسوق رؤساءَ الأحزاب إلى المقصلة واحدًا بعد الآخر.

ونرى أن من عناصر الروح اللاتينية الميل إلى الانقسام وما ينشأ عنه من الأحقاد، فبه أضاع أجدادنا الغوليون استقلالهم، وقد انتبه إلى ذلك يوليوس قيصر فقال: «ليس في بلاد الغول مدينة غير منقسمة إلى حزبين كما أنه ليس فيها كورة أو قرية أو دار خالية من روح التحزب، وقلما تمضي سنة من غير أن تهاجم مدينة جاراتها بالسلاح».

وبما أن الإنسان لم يدخل في دور المعرفة إلا منذ زمن قليل، وكان مسيَّرًا بالمشاعر والمعتقدات، تجلى لنا شأن الحقد في التاريخ، ولقد أشار أحد أساتذة المدرسة الحربية القائد كولان إلى أهمية عاطفة الحقد في بعض الحروب حيث قال: «لا داعي إلى الشجاعة في الحرب أكثر مما إلى الحقد، فهو الذي نصر بلوخر على ناپليون، وإذا بحثنا عن أحسن الحركات العسكرية وأحزمها رأيناها قد صدرت عن البغض والنفور أكثر مما عن العدد، وماذا كانت نتيجة حرب سنة ١٨٧٠ لولا الحقد الذي كان يحمله الألمان في صدورهم ضدَّنا؟»

ويمكن هذا المؤلف أن يقول أيضًا إن حقد اليابان الشديد على الروس الذين كانوا يزدرونهم هو أحد الأسباب التي نصرت أولئك على هؤلاء، وأما الروس فبما أنهم كانوا لا يعلمون غير شيء يسير عن اليابان فإنهم لم يحملوا شيئًا من الضغينة نحوهم فزاد ذلك ضعفهم.

نعم، لاكت الأفواه كلمة الإخاء أيام الثورة الفرنسية، ولا يزال الناس يرددونها، وصارت كلمة السلم والإنسانية والتضامن قواعد للأحزاب، ولكن شدة الأحقاد المستترة تحت هذه الكلمات والأخطار المحدقة بالمجتمع الحاضر ليست بالشيء الخفي.

(٤) الخوف

للخوف في أيام الثورات شأن عظيم يقرب من شأن الحقد، فرجال العهد الذين كانوا كثيري الشجاعة أمام المقصلة كانوا شديدي الجبن أمام وعيد مثيري الفتن الذين كانوا متسلطين على مجلس النواب، وسنرى ذلك عندما نلخص تاريخ مجالسنا الثورية.

حقًّا شوهد الخوف بمظاهره كلها في ذلك الزمن، وكان الظهور بمظهر العاقل المعتدل أخوف ما يخافه الناس، فقد سابق أعضاء المجالس وموظفو الاتهام وقضاة المحاكم خصومهم في التطرف، أي في اقتراف الجرائم، ولو أن معجزة أزالت الخوف من المجالس الثورية لكان لها سير آخر وكان للثورة الفرنسية وجهة أخرى.

(٥) الحرص والحسد والزهو

تتبع هذه العناصر العاطفية في الأوقات العادية مقتضيات الاجتماع فيكون الحرص محدودًا بحكم الضرورة في مجتمع قائم على نظام المراتب، فإذا صار فيه جنديٌّ قائدًا فذلك لا يقع إلا بعد انقضاء زمن طويل، وأما في أيام الثورات فبما أنه جاز لكل امرئ أن يصعد في أعلى المراتب فإن خلق الحرص يهيج عند الناس فيظن أحقرهم أنه أهل لها فيبلغ الزهو فيه غايته.

وللحسد شأن عظيم في الأدوار الثورية، فكان حسد الناس للأشراف سببًا من أسباب الثورة الفرنسية، ولما زادت الطبقة الوسطى فيها مالًا وسطوة وكثر اختلاطها بالأشراف شعرت — على الرغم من ذلك — ببعدها منهم فأحست في نفسها ألمًا شديدًا، وهذه الحالة الروحية جعلتها تميل غير شاعرة إلى المذاهب الفلسفية القائلة بالمساواة.

إذن، كانت عزة النفس المجروحة والحسد سببين لما لم ندرك مغزاه اليوم من الأحقاد، فكان كثير من رجال العهد مثل كاريه ومارا وغيرهما يتذكرون — والغضب آخذ منهم مأخذه — أنهم تقلدوا وظائف ثانوية لدى الأمراء الإقطاعيين، وما استطاعت مدام رولان أن تنسى أنها عندما دُعِيت في الدور السابق مع والدتها للعشاء عند سيدة كبيرة تناولتاه مع خدم المائدة.

قال الفيلسوف ريفارول: «لم تكن الضرائب وأوامر الملك وتصرف السلطة السيئُ وجَوْر الولاة وتقاعس القضاة أمورًا أثارت وحدها ساكن الأمة، بل إن الأمة أظهرت من الحقد على طبقة الأشراف ما لم تظهره على شيء آخر».

قال ناپليون: «إن الزهو كان سببًا للثورة الفرنسية، ولم يكن السعي إلى الحرية سوى حجة باطلة».

(٦) الحماسة

حماسة مؤسسي الثورة الفرنسية تعدل حماسة ناشري دين محمد، فقد كانت تلك الثورة ديانة اعتقد رجال الطبقة الوسطى في المجلس الاشتراعي الأولَّ أنهم أسسوها وقضَوا بها على المجتمع القديم، وأقاموا بها حضارة أخرى على أنقاضه، وما وجد خيال فاتن شغل قلب الإنسان أكثر من ذلك الخيال، فكان أولئك الرجال يقولون إن مبدأ الإخاء ومبدأ المساواة اللذين أعلنوهما يمنحان الأمم سعادة أبدية، وإنه لما قُطعت العلائق بالماضي المظلم المتوحش أصبح المجتمع الجديد سائرًا على نور العقل المطلق.

وإذا كان العنف قد قام حالًا مقام هذه الحماسة فذلك لأن انتباه الناس كان سريعًا، ويسهُل علينا إدراك السر في أن رسل الثورة الفرنسية وقفوا أشداء غاضبين في وجه العوائق اليومية المانعة من تحقيق أحلامهم، فهم لما أرادوا نبذ الماضي ونسيان التقاليد وتجديد البشر، وكان الماضي يظهر من غير انقطاع، والبشر يأبي أن يتغير، اضطروا إلى التوقف عن سيرهم غير مريدين الخضوع، فأخذوا يكرِهون الناس على الانقياد لأوامرهم بضغط أعادوا به — في النهاية — النظام السابق المقضيَّ عليه، والذي لم يلبث أن أسِف الناس عليه.

ومما يستحق الذكر أن حماسة الأيام الأولى التي لم تدم كثيرًا في المجالس الثورية بقيت في الجيوش، فكانت سرَّ قوتها، فجيوش الثورة الفرنسية، التي كانت تميل إلى الجمهورية قبل أن تصبح فرنسة جمهورية، استمرت على نزعتها زمنًا طويلًا بعد أن صارت فرنسة غير جمهورية.

تتبع تقلبات الخلق، التي بحثنا فيها آنفًا، بعض الأماني وتحولات البيئة، وهي ترد إلى أربع نفسيات: النفسية اليعقوبية، والنفسية الدينية، والنفسية الثورية، والنفسية المجرمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤