الفصل الرابع

الأوهام النفسية أيام الثورة الفرنسية

(١) الروح الشعبية وأوهام الناس في الإنسان الفطري وفي الرجوع إلى الحالة الفطرية

قلنا سابقًا، ونعود فنقول: بما أن خطأ المذهب غير ضارٍّ بانتشاره فإن تأثيره هو الذي يجب البحث فيه، وعلى الفيلسوف الذي يود أن يكتشف كيفية تأثيره في الناس أن يبحث في الأوهام المحيطة بهم، وربما لم تكن الأوهام كثيرة كما كانت أيام الثورة الفرنسية.

ونعُد من أشد الأوهام ظهورًا التصوير الغريب الذي تَصوَّر الناس به طبيعة أجدادنا الأولين وطبيعة المجتمعات الأولى، فقد اعتقد الناس في ذلك الحين — كما جاء في الإسرائيليات — أن الله خلق الإنسان كاملًا، وأن المجتمعات كانت مُثُلًا عالية، وأن الحضارة أفسدتها، وأنه يجب العود إليها، ولم يلبث مبدأ الرجوع إلى الحالة الفطرية أن أصبح عامًّا، قال روسو: «إن مبدأ الأخلاق الأساسي الذي بحثت عنه في مؤلفاتي يدل على أن الإنسان طيب بفطرته محب للعدل والنظام».

غير أن العلم الحديث بحث عن طرق الحياة عند أجدادنا الأولين فأثبت فساد ذلك المذهب دالًّا على أن الرجل الفطري كان وحشًا شرسًا بعيدًا من خلق الرفق والأدب والرحمة، وأن اندفاعاته الغريزية كانت تسوده فكان يثب على فريسته عند الجوع وكان يقتل عدوه عندما يثيرُه الحقد.

ولا تعيد الحضارة الإنسان إلى الحالة الفطرية، بل تساعده على الخروج منها، فقد حول اليعاقبة المجتمع المتمدن إلى قوم متوحشين عندما رجعوهم، بكسرهم زواجر المجتمع التي لا تقوم حضارة بدونها، إلى الحالة الفطرية.

ونعذر من أخطأ في تصور الحال التي كان عليها أجدادنُا الأولون، وذلك أن طرق حياتهم كانت مجهولة قبل الاكتشافات الحديثة، ولكن لا نرى ما يسوِّغ جهل فلاسفة القرن الثامن عشر ومشترعي الثورة الفرنسية نفسية معاصريهم، فقد عاشوا بين معاصريهم من غير أن يدركوا حقيقة أمرهم أو أن تخطر الروح الشعبية ببالهم، فكانوا يظنون أن العامِّي رجل طيب ودود شاكر مستعد للإصغاء إلى العقل، وقد دلت خطب أعضاء المجلس التأسيسي على تمكن هذه الأوهام منهم، فلما أخذ الفلاحون يُحرقون القصور دهشوا من ذلك كثيرًا فخاطبوهم بكلام رقيق سألوهم فيه أن يكُفوا عن عملهم لكيلا يحزنوا مليكهم المحبوب وناشدوهم أن يدهشوه بفضائلهم.

(٢) أوهام الناس في قوة القوانين وفي إمكان فصل الإنسان عن ماضيه

نَعُد من المبادئ التي اتخذت أساسًا لأنظمة الثورة الفرنسية مبدأ فصل الإنسان عن ماضيه ومبدأ إمكان تجديد المجتمع بالأنظمة، فقد اعتقد المشترعون في ذلك الحين أن الماضي — ما عدا القرون الخالية البعيدة — مشبع من الخرافات والأضاليل فعزموا على قطع كل صلة به، ودوَّنوا — لإظهار مقصِدهِم — تاريخًا جديدًا وتقويمًا جديدًا مبدِّلين أسماء الشهور والفصول، وأوجب توهمهم أن الناس أكفاء ظنهم أنهم قادرون على الاشتراع للبشر كلِّهم، قال كوندرسي: «إن القانون الحسن نافع لكل الناس».

وما علم مشترعو الثورة الفرنسية أن وراء ظواهر الأمور عوامل خفية تسيرها، وأن الإنسان مرتبط بماضيه كثيرًا، وهم — لجهلهم فعل الماضي — أرادوا القضاء عليه فقضى عليهم.

كان إيمان المشترعين بقوة النظم والقوانين تامًّا أيام الثورة الفرنسية، قال غريغوار في المجلس التأسيسي: «إننا لقادرون على تغيير الدين، ولكننا لا نريد ذلك»، والواقع أنهم أرادوا ذلك، ولكن من غير توفيق، فهم لم يلبثوا أن انكشف عجزهم، بعد كل ما أتوا به في عشر سنين، من اضطهاد وتخريب وتحريق ومذابح، في سبيل إلزام الناس بعض القوانين، انكشافًا حوَّل وجوه الناس عنهم فاضطُر ناپليون إلى ترميم أكبر جانب مما هدموه.

وللتجربة العظيمة، التي قام بها هؤلاء اليعاقبة في سبيل تجديد المجتمع باسم العقل، فائدة كبيرة قد لا تسمح الأحوال للإنسان أن يعيدها مرة أخرى، ويظهر أنها — على رغم قسوتها — غير كافية لتحذير كثير من الناس، فها نحن أولاء نرى الاشتراكيين يقترحون تجديد المجتمع بأجمعه على حسب خططهم الوهمية.

(٣) أوهام الناس في قيمة المبادئ الثورية

إن مبادئ الحقوق الأساسية التي قامت عليها الثورة الفرنسية مذكورة في بيانات حقوق الإنسان الثلاثة التي نُشرت بالتتابع في سنة ١٧٨٩، وسنة ١٧٩٣، وسنة ١٧٩٥، وقد صرحت كلها: «بأن السلطة للأمة».

وهذه البيانات الثلاثة تختلف في كثير من الأمور، ولا سيما في المساواة، فقد جاء في المادة الأولى من بيان سنة ١٧٨٩: «أن الناس يولدون أحرارًا ويعيشون أحرارًا، وهم متساوون حقوقًا»، وجاء في المادة الثالثة من بيان سنة ١٧٩٣: «أن الناس متساوون طبيعة»، وجاء في المادة الثالثة من بيان سنة ١٧٩٥، وهو أكثر اعتدالًا من سابقيه: «إن المساواة هي كون القانون واحدًا للجميع»، وبعد أن تكلم واضعو هذا البيان الأخير عن الحقوق رأَوا أن النص فيه على بعض الواجبات مفيد فشابه الإنجيل في مواعظه، جاء في المادة الثانية منه: «أن واجبات الإنسان والمواطن كلها تنشأ عن مبدأين طبعتهما الطبيعة على القلوب وهما: «لا تعامل الناس بما لا تُحِب أن يعاملوك به، وعاملهم بما تُحب أن يعاملوك به»، والذي بقي من تلك البيانات هو مبدأ المساواة ومبدأ السلطة الشعبية».

للشعار الجمهوري — أي «الحرية والمساواة والإخاء» — شأن كبير مع ضعف قيمته العقلية، ولهذا الشعار الساحر الذي نقش على جدُرنا قدرة عظيمة تعدل القدرة التي يعزوها السحرة إلى بعض الألفاظ، وما ألقاه من الآمال في القلوب سَهَّل انتشاره، وقد ضحَّى ألوف الناس بأنفسهم في سبيله، والآن إذا اضطرمت ثورة في العالم فإن رجالها يستنجدون به.

حقًّا إنهم يجيدون الاختيار، فذلك الشعار من الأمثال المبهمة الساحرة للنفوس، والتي يفسرها كل امرئ على حسب ذوقه وحقده وخياله، ففي أمر الإيمان لا شأن لمعنى الألفاظ الحقيقي، وما سر قوة هذه الألفاظ إلا بما يُعزى إليها من القدرة.

ومبدأُ المساواة هو أكثر مبادئ الشعار الثوري دوامًا، فسنرى في مكان آخر أن هذا المبدأ وحده هو الذي ظل باقيًا على وجه التقريب، وأن نتائجه لم تزل بادية للعيان.

ولم تكن الثورة الفرنسية هي التي علَّمت العالم مبدأ المساواة، ولا نحتاج، لإثبات ذلك، إلى التنقيب في الجمهوريات اليونانية القديمة، فالنصرانية والإسلام قد أرشدا الناس إلى هذا المبدأ، وبيان ذلك: أن الناس متساوون في هاتين الديانتين، وهم عباد إله واحد، ولا فضل لأحدهم على الآخر إلَّا بالتقوى.

ولكن إعلان المبدأ لا يكفي لمحافظة الناس عليه، فالكنيسة النصرانية لم تلبث أن عدَلت عن مبدأ المساواة النظري، ولم يعبأ به زعماء الثورة الفرنسية إلَّا في خُطَبهم.

ويختلف معنى المساواة باختلاف الناس، فمبدأ المساواة عند بعضهم يدل على رغبة الإنسان في ألَّا يرى فوقه أحدًا، وأن يكون كل امرئ دونه، وهو عند يعاقبة الثورة الفرنسية ويعاقبة الوقت الحاضر ينم على مقت كل أفضلية، والسعي إلى إبطال الأفضليات بإنكار التفاوت الطبيعي وتوحيد العادات والأوضاع والأزياء والمراتب.

وهذا لا يمنع من القول إنه كان ينطوي تحت تعطش زعماء الثورة الفرنسية إلى المساواة رغبة في التفاوت، وقد أدرك ناپليون ذلك فأحدث ألقاب شرف وأوسمة لهم، قال تاين:

اكتشف ناپوليون تحت كلمة الحرية وكلمة المساواة اللتين كانت أفواههم تلوكُهما ميلهم إلى السيادة ورغبتهم في الأمر والنهي والتفوق، وقد رأى أن أكثرهم يطمع في المال والترف، وأنه لا فرق في ذلك بين النائب في لجنة السلامة العامة والوزير، وبين الوالي ونائبه.

والرغبة في مبدأ المساواة هي تُراث الثورة الفرنسية الدائم، وأما مبدأ الحرية ومبدأ الإخاء اللذان اكتنفا مبدأ المساواة في الشعار الجمهوري فتأثيرُهما ضعيف، ولم ينفعا أيام الثورة الفرنسية وفي العهد الإمبراطوري إلا في تزويق الخُطب، وما زاد تأثيرُهما بعد ذلك قط، فالأمم لا عهد لها بمبدأ الإخاء في زمن، ولم تبال بمبدأ الحرية إلا قليلًا، وقد تركه العمال في الوقت الحاضر لنقاباتهم، والخلاصة: أن تأثير الشعار الجمهوري لم يكن في غير الظاهر، وأنه لم يبقَ من الثورة الفرنسية في نفوس الشعب سوى تلك الألفاظ الثلاثة المشهورة المجملة لإنجيلها، وقد نَشَرت هذه الألفاظ في أنحاء أوربة بجيوشها كما هو معلوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤