الفصل الثالث

روح مجلس العهد

(١) قصة مجلس العهد

وثائق تاريخ مجلس العهد النفسية كثيرة، وهي تثبت لنا أن شهود أحد الأدوار لا تكون أحكامهم صحيحة بما يشاهدونه من الحوادث والناس.

ولم تصدر أحكام بالثورة الفرنسية عليها مسحة من التدقيق إلا بعد مضي قرن كامل على نشوبها، ولم تكن هذه الأحكام سديدة من كل وجه، فالوصول إلى ذلك يتطلب إخراج الوثائق من الخزائن القديمة وكشف غشاوة القصص التي حجبت الحقيقة مع الزمن.

وربما كانت قصة أولئك الذي نعتهم الآباءُ بغيلان العهد أشد تلك القصص فعلًا في النفوس، ومحاربةُ رجال العهد لفرنسة الثائرة ولأوربة المدججة بالسلاح تركت في الناس تأثيرًا جعلهم يظنون أن أبطالها مخلوقون من طينة أسمى من طينة البشر.

يظل وصف أولئك الرجال بالغيلان سائغًا ما دامت حوادث ذلك الدور تظهر كأنها حادثة واحدة، أي ما دامت أعمال الجيوش الجمهورية تختلط بأعمال جيوش العهد، فبهذا الاختلاط يدهش الناس من العزِّ الذي نالته الجيوش الجمهورية فيغضون النظر عما اقترفته جيوش العهد من قسوة وقتل وتخريب، غير أن الحقيقة ظهرت بفضل النقد الحديث، فحافظت الجمهورية على احترام الناس لها وخسِر رجال العهد، الذين لم يبالوا بغير الحروب الأهلية، مقامهم الأدبيَّ.

حقًّا إنه لم يهتم بأمر الجيوش في ذلك الحين سوى عضوين أو ثلاثة أعضاء من لجان مجلس العهد، ولم يتم النصر لهذه الجيوش إلا بفضل عددها ودهاء قوَّادها وما أدخله الإيمان الجديد من الحماسة إلى قلوبهم، وسوف نبين في فصل آخر، نبحث فيه عن الجيوش الثورية، كيف انتصرت تلك الجيوش على أوربة الشاكية السلاح، وسارت مشبعة من مبادئ الحرية والمساواة التي هي إنجيل ذلك الزمن، فوصلت إلى الحدود وأقامت فيها مدة طويلة متمسكة بنفسية خاصة تختلف عن نفسية الحكومة التي جهلت أمرها في البُداءة وازدرتها في النهاية.

ولم يبال رجال مجلس العهد بانتصار الجيوش، وإنما اقتصروا على الاشتراع الفج وفق أهواء زعمائهم الذين أرادوا تجديد فرنسة بالمقصلة، فمن أجل تلك الجيوش المستبسلة صارت قصة العهد تاريخًا مبجلًا، وهذا التبجيل أخذ يزول الآن، فالبحث المفصل عن نفسية غيلان العهد أثبت أنهم كانوا قليلي العقل والذكاء، وقد اعترف بذلك أشد الناس دفاعًا عنهم، كمسيو أولار الذي قال في كتابه الذي سماه (تاريخ الثورة الفرنسية):

من الوهم قولُ الناس إن الجيل الذي قام بين سنة ١٧٨٩ وسنة ١٧٩٩ بأعمال عظيمة هو من الغيلان أي أرفع من الجيل الذي جاء قبله والجيل الذي جاء بعده، فلم يكن مؤسسو الجمعيات البلدية والأحزاب اليعقوبية والوطنية التي قامت بالثورة الفرنسية أسمى ذكاءً ونبوغًا من رجال فرنسة أيام لويس الخامس عشر أو لويس فيليب، وهل كان أولئك الذين حفظ التاريخ أسماءهم، لظهورهم في مسرح باريس، أو لأنهم أخطب خطباء المجالس الثورية، ذوي مزايا وطبائع نادرة؟ نعم، قد يستحق ميرابو أن يلقب بالخطيب العبقري، ولكن هل كان روبسپير ودانتون وفرنيو أفصح من خطبائنا في الوقت الحاضر مثلًا؟ كلا.

وإذا بحثنا عن رجال مجلس العهد وهم مجتمعون رأينا أنهم لم يتصفوا بشيء من الذكاء والفضيلة والشجاعة، وأن الخوف لم يبدُ على جماعة كما بدا عليهم، وأن عملهم انحصر في الخطب.

كان هذا المجلس المختال، الذي كان يتوعد الملوك، أجبن المجالس السياسية التي عَرفها العالم وأشدها خضوعًا، فقد كان كالعبد ينقاد للأندية والجمعية الثورية، ويرتجف فرَقًا أمام الوفود الشعبية التي كانت تستولي عليه كل يوم، ويعمل بوصايا مثيري الفتن، وقد سلم إليهم أنبل أعضائه وعمل بوصاياهم فسنَّ قوانين عقيمة اضطر إلى إلغائها بعد أن تركوا ردهة الاجتماع.

والمجالس التي هي ضعيفة مثل ذلك المجلس قليلة، ومن يود أن يعلم الدرك الذي تهبِط إليه الحكومات الشعبية فليذكر قصة مجلس العهد.

(٢) تأثير انتصار الديانة اليعقوبية

تعد الديانة الثورية من أهم الأسباب التي منحت دور العهد صبغته الخاصة، وقد كمل في هذا الدور صوغ العقيدة التي كانت في طور التكوين.

وتتألف هذه العقيدة من عناصر مختلفة، وهذه العناصر — أي الفطرة وحقوق الإنسان والحرية والمساواة والعقد الاجتماعي والسلطة الشعبية — فصول إنجيل لا يجادل المؤمنون فيه، ولها رسلٌ راسخو الإيمان بسلطتهم، وقد حاولوا أن يسخروا العالم لها بالقوة غير مبالين بأحد، شأن المعتقدين في كل جيل.

والحقد على الخوارج هو — كما بيَّنَّا في بحثنا عن ثورة الإصلاح الديني — من صفات أتباع المعتقدات الكبيرة، وقد أثبتت لنا ثورة الإصلاح الديني أن الصراع بين المعتقدات القريبة يكون عنيفًا، ولذلك لا يُعجَب من قتال اليعاقبة الشديد لمن خالفهم في العقيدة من الجمهوريين الآخرين.

والدعوة التي قام بها الرسل الجُدد صارمة، فقد أرسلوا، لوعظ سكان الولايات، أنصارًا أشداء ترافقهم المقصلات، ولم يتساهل هؤلاء القضاة في الخطأ وإن صغُر، وكانوا يفعلون كما يرى روبسپير القائل «إن الجمهورية لا تقوم إلا بإبادة مخالفيها»، ولم يبالوا بامتناع البلاد عن التجدد، فأرادوا تجديدها على رغم أنفها. قال كاريه: «أجدر بفرنسة أن تصبح مقبرة من أن لا تتجدد على منهجنا».

والسياسة اليعقوبية التي صدرت عن الإيمان الجديد كانت بسيطة كالاشتراكية المسوِّية التي يديرها سلطان مطلق غير متسامح، فلم تكن أفكار أنصارها الذين ساسوا فرنسة ملائمة لمقتضيات الاقتصاد ولطبيعة الإنسان، بل كانت المقصلة والخطب — ولو صبيانية — كافية لبلوغ الأرب في نظرهم، قال تاين:

كانت خطبهم مشبعة من الأقوال المجردة ومن الآراء المختلة في الطبيعة والعقل والأمة والجبابرة والحرية وغير ذلك من الأمور المشابهة لكُرات منفوخة متصادمة، ولو لم يؤد جميعها إلى نتائج عملية مخيفة لاعتقدنا أنها لهو منطقي وتمرينات مدرسية وأقوال وتراكيب خيالية.

نشأ عن آراء اليعاقبة استبداد مطلق فكانوا يرون أن على المواطنين الذين تساوَوا مقامًا ومالًا أن يطيعوا الحكومة إطاعة عمياء، وكانت السلطة التي انتحلوها أعظم من سلطة الملوك السابقين، فقد سعروا السلع وادعوا أنه يحق لهم أن يتصرفوا في حياة الموطنين وأملاكهم، ثم بلغت ثقتهم بفضيلة المعتقد الثوري مبلغًا جعلهم يشهرون الحرب على الآلهة بعد أن شهروها على الملوك فوضعوا تقويمًا حذفوا منه أسماء القديسين، وأوجدوا آلهة للعقل، وصاروا يعبدونها في كنيسة نوتردام بطقوس تعدل طقوس المذهب الكاثوليكي، وقد استمرت هذه الديانة حتى أقام روبسپير ديانة شخصية في مكانها جاعلًا نفسه حبرها الأعظم.

واليعاقبة وأنصارهم، الذين لم تكن الأكثرية بجانبهم بعدما سادوا فرنسة، خربوها، ولا يسهل تعيين عددهم، ولكنه كان قليلًا على كل حال، وقد قدَّره تاين بخمسة آلاف في باريس التي كان يسكنها سبعمئة ألف نفس، وبثلاثمئة في بيزانسون التي كان يسكنها ثلاثون ألف نفس، وبثلاثمئة ألف في فرنسة جميعِها.

ولسيادة اليعاقبة فرنسةَ — على رغم عددهم القليل — أسباب كثيرة؛ منها منح الإيمان إياهم قوة عظيمة، ومنها قبضهم على زمام الحكومة بعد أن تعوَّد الفرنسيون إطاعة أولياء الأمور منذ قرون كثيرة، ومنها اعتقاد الناس أن إسقاطهم يؤدي إلى رجوع العهد السابق الذي كان يخافه مشترو الأملاك الوطنية، ولو لم يشتد استبدادهم ما أقدمت مديريات كثيرة على العصيان.

والسببُ الأول عظيمُ الأهمية، فالنصر في الصراع بين المعتقدات القوية والمعتقدات الضعيفة لا يكون في جانب المعتقدات الضعيفة، وأما علة اندثار اليعاقبة في نهاية الأمر: فهي أن شدة اضطهاداتهم أدت إلى تجمع ألوف العزائم الضعيفة تجمعًا تغلبت به على عزمهم القويِّ، وإن قُلت إن الجيرونديين الذين طاردهم اليعاقبة كانوا ذوي عقائد راسخة فاعلم أنه اعترضهم في الصراع الذي حدث ما لم يعترض خصومهم من تربية واحترام لبعض التقاليد والحقوق، قال إميل أوليڤيه:

إن أكثر مشاعر الجيرونديين رقيقة كريمة وأكثر مشاعر اليعاقبة قاسية شرسة طاغية، ولو قابلنا فرنيو بمارا لرأينا البونَ بينهما شاسعًا، ولم يكن ما يُدني أحدهما من الآخر.

لم يلبث الجيرنديون الذين تغلبوا في البداءة بأهليتهم وفصاحتهم على مجلس العهد أن استحوذ عليهم المونتانيار الهائجون العاطلون من كل رأي صائب والذين كانوا لا يعرفون غير إثارة عواطف السوقة.

(٣) صفات مجلس العهد النفسية

للمجالس — عدا صفاتها العامة — صفات تحدث بتأثير البيئة والأحوال، وتمنح كل اجتماع شكلًا خاصًّا، وما عزوناه إلى المجلس التأسيسي والمجلس الاشتراعي من هذه الصفات شوهد أشد منه في مجلس العهد.

اشتمل مجلس العهد على خمسين وسبعمئة نائب، وكان ثلث هؤلاء النواب أعضاء في المجلس التأسيسي والمجلس الاشتراعي، وقد نجح اليعاقبة — بما أتوا من ضروب الإرهاب — في انتخاباته التي قاطعها ثلاثة أرباع الناخبين، وإذا بحثنا عن مهن نواب مجلس العهد رأينا أكثريتهم العظمى من رجال القانون، أي كانت مؤلفة من المحامين وكتاب العدل والقضاة.

ولم تكن نفسية هذا المجلس متجانسة، وبما أن المجلس الذي يتألف من رجال ذوي صفات مختلفة يكون معرضًا لسرعة الانقسام إلى عدة أحزاب، فإن مجلس العهد لم يلبث أن ظهر فيه ثلاثة أحزاب: أي حزب الجيرونديين وحزب المونتانيار (الجبليين) وحزب الپلين (السهليين)، وكان ينتسب إلى كل من حزب الجيرونديين وحزب المونتانيار مئة عضو، وكان في حزب المونتانيار أشد الأعضاء تطرفًا، ونذكر منهم: كوتون وإيرول دسيشل ودانتون وكاميل ديمولان ومارا وكولوديربو وبيوفارين وباراس وسان جوست وفوشيه وناليان وكاريه وروبسپير، ونذكر من أعضاء حزب الجيرونديين: بريسو وبيسيون وكوندرسيه وفيرنيو، وتألف من الأعضاء الباقين — أي من أكثرية المجلس العظمى — ما يسمونه حزب الپلين (السهليين)، وكان هذا الحزب مترددًا صامتًا مذبذبًا خائفًا يتبع كل ناعق ويتقلب مع الزمن وينضم إلى أقوى ذينك الحزبين، فبعد أن أطاع الجيرونديين اتبع المونتانيار عندما تغلبوا على خصومهم، وهذه هي نتيجة السُّنة القاضية على العزائم الضعيفة بالخضوع للعزائم القوية.

وتجلى تأثير النواب النافذين تجليًّا ساطعًا في مجلس العهد، فقد سَيَّرَته أقلية ضعيفة الذكاء أكسبتها عقائدها الراسخة قوة عظيمة.

وتَقُودُ أقلية متصفة بالشجاعة والإقدام أكثرية خائفة مذبذبة، وبهذا نوضِّحُ سِرَّ تطرف المجالس الثورية.

وانتقل رجالُ العهد بالتدريج من طور الاعتدال إلى طور القهر والاستبداد، ثم أخذوا يقتتلون، فقُتل وهرب ١٤٠ من ١٨٠ جيرونديًّا كانوا يديرون مجلس العهد في البُداءة، ثم ساد روبسپير — الذي كان أشدَّ رجال الهول تعصبًا — فريقَ النواب الذي استحوذ عليه الخوف، فَرضِيَ بالذُّل والاستكانة.

كان الأذكياء في ذلك المجلس من حزب الپلين (السهليين) أي من خمسمئة العضو المترددين المذبذبين، وتألفت اللِّجان الفنية التي تُعْزَى إليها أعمال مجلس العهد النافعة من هذا الحزب، ولم يبالِ أعضاء هذا الحزب بالسياسة، وأوجب انهماكُهم بأمور اللِّجان عدَم ملازمتهم مجلس العهد، ولذا كانت جَلَسات هذا المجلس لا تحتوي أكثر من ثلث النواب، ومن دواعي الأسف عدم اتصاف هؤلاء الأذكياء الصالحين بُخُلق الثبات والحزم، شأن من هو مِثْلهم في الغالب، فالخوف دفعهم إلى استصواب ما كان يُمليه عليهم الزعماء المتغلبون من الأوامر السيئة.

واستصوب حزب الپلين (السهليين) كلَّ ما أُمِرَ به، فاستحسن إحداث محكمة ثورية نظام الهول، ومَحَقَ المونتانيارُ الجيرونديين بمعونته، وأباد روبسپير الإيبريين والدانتونيين، وساعد جُبْنُ أعضائه على اقتراف مظالم العهد الهائلة.

وكان الخوف الشديد صفة مجلس العهد الظاهرة، والخوف هو الذي دَفَعَ كل فريق إلى ضرب رقاب الفريق الآخر لكيلا يسبقه هذا الفريق فيضْربَ رقابه، ويَسْهُلُ إدراك هذا الخوف؛ فقد كان أولئك الأعضاءُ المناكيد يتشاورون بين ضجيج الحُضُور، وكثيرًا ما كان يستولي على مجلس العهد وحوشٌ مسلحة بالحِراَب فكانوا يَجْعَلُون أكثر أعضائه يَفِرُّون من الجَلَسات، وهؤلاء الأعضاء، وإن كانوا يحضُرون الجَلَسات اتفاقًا، كانوا يستصوبون صامتين ما يأمرهم به المونتانيارُ الذين كانوا أقلية صغيرة في مجلس العهد.

والخوف الذي استولى على المونتانيار كان كذلك عظيمًا، فليس التعصب وحده هو الذي كان يدفعهم إلى إبادة خصومهم، بل إن اعتقادهم وجود خطر محدقٍ بهم كان يدعوهم إلى اقتراف ذلك أيضًا، ولم يكن قضاة المحكمة الثورية أقل فَرَقًا، فقد حكموا — مكرهين — على دانتون وأرملة كاميل ديمولان وآخرين بالموت، وما استولى طَيْفُ الخوف على مجلس العهد في وقت استيلائه عليه حينما أصبح روبسپيرُ سيدَ البلاد الأوحدَ، فقد كانت نظرة منه تُشَنِّجُ زملاءه فزعًا، فيقرأ على وجوههم «شحوب القلق واليأس».

وكان روبسپيرُ يخاف الجميعَ والجميعُ يخافون روبسپير، فقد ضرب الرقاب خوفًا من الائتمار به، والخوف هو الذي دَفَعَ الناس إلى تسليمه رقابَهم.

ويَدُلُّنا ما تركه رجال العهد لنا من الخواطر على شدة فظائع ذلك الدور القاتم، قال تاين:

عندما سُئل بارير، بعد عشرين سنة، عن غاية لجنة السلامة العامة وسريرتها أجاب: (كان همُّنا الوحيد أن نَحْفَظ حياتنا التي كان كل واحد منا يعتقد أنها في خطر، فكان كل واحد منا يَقْطَعُ رأس جاره خوفًا من أن يَسْبِقَه جارُه فيقطع رأسه).

والخلاصة: أن تاريخ مجلس العهد من أظهر الأمثلة التي يُسْتَدَلُّ بها على شأن الزعماء والخوف في المجالس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤