الفصل الأول

تقلص الفوضى — حكومة الديركتوار

(١) نفسية الديركتوار

كانت حكومة الديركتوار تتألف من ثلاثة مجالس، منها مجلسان اشتملا على كثير من النواب، وأما المجلس الثالث فقد كان صغيرًا مؤلفًا من خمسة مديرين، وكان المجلسان الكبيران يشبهان مجلس العهد بضعفهما، نعم، إنهما لم يسيرا مثله مع الفتن الشعبية التي قاومها مجلس المديرين بيد حديدية، ولكنهما كانا يذعنان لأوامر هؤلاء المديرين المطلقة إذعانًا تامًّا.

ولما أعيا الاستبداد اليعقوبي جميع الناس رأى ذانك المجلسان الكبيران أن يعمرا فرنسة التي عمها الخراب وأن يقيما حكومة دستورية غير مستبدة، غير أن الأقدار الثورية التي كانت فوق عزيمة الرجال جعلت أعضاءهما — مع ما فيهم من صدق نية — يفعلون خلاف ما يريدون، فقد رجوا أن يكونوا معتدلين فظهروا بمظهر الأشداء، ورغبوا أن يقضوا على نفوذ اليعاقبة فاقتدوا بهم، وحلموا أن يصلحوا ما خرب فزادوه ضغثًا على إبالة، وتمنوا أن يعم السلم الدينية فاضطهدوا الكهنة، وأعملوا السيف في رقابهم بأشد مما وقع أيام الهول.

وبعكس ذلك كانت نفسية المجلس الصغير المؤلف من خمسة مديرين، لقد كانت مواجهته للمصاعب اليومية تدفعه إلى حلها مع أن ذينك المجلسين النيابيين اقتصرا على إبداء الرغائب لبعدهما من الحقائق.

وكان المديرون — وهم الذين لم يكترثوا للمبادئ — يحبون أن يبقوا سادة، وكانوا يأتون، لهذا الغرض، أقسى الأعمال وأكثرها مخالفة للقانون، ولكنهم، وإن استطاعوا بظلمهم أن يتسلطوا على البلاد، لم يحسنوا سياستها، وحسن السياسة هو أشد ما كانت تحتاج إليه.

اشتهرت حكومة العهد في التاريخ بشدتها، وحكومة الديركتوار بضعفها مع أن من الثابت أن الثانية كانت أقوى من الأولى، ويتضح ما بين حكومة الديركتوار وحكومة المجالس السابقة من الفروق، ما يأتي:

من الممكن أن تشتد الحماسة في مجلس يضم ستمئة عضو أو سبعمئة عضو كما حدث في ليلة ٤ من أغسطس، وأن تدفعه شدة العزيمة إلى شهر الحرب على الملوك كلهم، ولكن هذه الاندفاعات لا تكون قوية لعدم استمرارها، وأما المجلس المؤلف من خمسة أعضاء وبالمتغلب عليه أحد أعضائه فيكون ذا عزيمة مستمرة، أي ذا ثبات في سيره، ومن هذا النوع مجلس المديرين الخمسة الذي كان ذا إرادة قوية، فلم يبال بالقانون ولا بأبناء الوطن ولا بالمصلحة العامة، والذي أثقل كاهل فرنسة باستبداد لم تأت مثله حكومة ظهرت منذ بدء الثورة الفرنسية.

وحكومة الديركتوار كحكومة العهد، لم تستطع أن تكون سيدة فرنسة مع ما التجأت إليه من أساليب استبداديه، وهذا الأمر، الذي أشرنا إليه سابقًا، يثبت لنا ما في الضغط المادي من العجز عن قهر القوى الأدبية الموروثة عن الأجداد، ويصعب أن يقال إننا عاطلون من مثل هذه القوى التي هي قوام المجتمع، فالمجتمع لا يقوم إلَّا ببعض الروادع، أي بالقوانين والعادات والتقاليد الوازعة لغرائز الإنسان الهمجية التي لا تزول منه زوالًا تامًّا.

(٢) حكومة الديركتوار المستبدة، مظالمها

استأنف المديرون حروب الفتح؛ لتحويل الأنظار، وإلهاء الجند، ونهب الأموال من البلدان المجاورة، فاستغرقت هذه الحروب أيامهم كلها، وقد رجعت الجيوش منها، ولا سيما من إيطالية، ظافرة ذات مغانم كثيرة.

وظهر بعض سكان البلاد المفتتحة بمظهر الساذج البسيط فظنوا أن فرنسة لم تقم بالفتح إلا لمنفعتهم، ولكنهم لم يلبثوا أن رأوا أن الفتح أعقبته ضرائب ثقيلة ونهب للكنائس وسلب لبيوت المال، وأدت هذه السياسة إلى تحالف دولي جديد ضد فرنسة دام حتى سنة ١٨٠١.

قضى المديرون، الذين لم يبالوا بأمر البلاد، ولم يكونوا أهلًا لتنظيمها، أوقاتهم في مكافحة المؤامرات واتخاذ الطرق التي يظلون بها قابضين على زمام السلطة، ولما اشتدت الفوضى وصار الناس يتطلبون يدًا قوية قادرة على توطيد أركان النظام أحست الأمة — ومنها المديرون أنفسهم — أن النظام الجمهوري قَربَ أجله.

ورأى بعض الناس إعادة الملكية، ورأى غيرهم إعادة نظام الهول، ورأي آخرون تفويض الأمر إلى قائد، ولم يخش تبديل النظام سوى المستولين على الأموال الوطنية.

أخذ استياءُ الشعب من حكومة الديركتوار يزيد، ولما جُدد انتخاب ثلث المجلس النيابي في شهر مارس سنة ١٧٩٧ خرج أكثر النواب الجدد من المعارضين لها، فأقلق ذلك المديرين؛ فأبطلوا انتخابات تسع وأربعين مديرية، وطردوا من النواب الجدد بعد نقض انتخابهم ١٥٤ نائبًا، وحكموا على ٥٣ منهم بالنفي، ومن بين هؤلاء المنفيين أشهر رجال الثورة الفرنسية كبورتاليس وكارنو وترونسون وكودراي.

وحكمت بعض المجالس الحربية — من غير روية — على ١٦٠ رجلًا بالقتل، ونفت ٢٣٠ رجلًا إلى الكويان فمات نصفهم في وقت قصير، ولم تلبث أن طردت المهاجرين والكهنة الذين عادوا إلى فرنسة، ولم يكتف المديرون بهذا الاستبداد الذي دهش منه المعتدلون، بل أتوا بعده عملًا آخر، وهو أنهم لما رأوا زيادة عدد نواب اليعاقبة في الانتخابات الجديدة نقضوا انتخاب ستين عضوًا يعقوبيًّا.

وما تقدم يدلنا على مزاج أعضاء حكومة الديركتوار الاستبدادي، ويظهر هذا المزاج بأجلى من ذلك عند الاطلاع على تفاصيل تدابيرهم:

لم يكن هؤلاء السادة في حبهم سفك الدماء أقل من وحوش دور الهول، وهم، وإن لم ينصبوا المقصلة نصبًا مستمرًّا مثلهم، استبدلوا بها نفيًا قل أن يبقى من يكون عرضة له على قيد الحياة، فكان المنفيون يساقون إلى روشفور في أقفاص من حديد معرضين لتقلبات الجو ثم يكدَّسون في السفن.

ولما اطلع المديرون على النهضة الكاثوليكية، وخيل إليهم أن الكهنة يأتمرون بهم نفوا في سنة واحدة ١٤٤٨ قسيسًا، وقتلوا عددًا كبيرًا منهم رميًا بالرصاص؛ فأحيوا بذلك دور الهول.

وقد أصاب ظلم حكومة الديركتوار فروع الإدارة، ولا سيما المالية، فلما احتاجت هذه الحكومة إلى ستمئة مليون فرنك حملت النواب على الموافقة على ضريبة زائدة لم ترجع عليها إلا باثني عشر مليون فرنك، ثم أعادة الكرة فأمرت بعقد قرض إجباري قدره مئة مليون فرنك، فنشأ عن ذلك إغلاق المصانع ووقف الأشغال وتسريح العمال، ولم تنل من هذا القرض، الذي أثقل كاهل الناس، سوى أربعين مليون فرنك، ثم جعلت المجلس يوافق على قانون الرهائن الذي يأمر باعتبار بعض الرجال في كل كورة مسؤولين عما يقع فيها من الجرائم.

ولا يخفى ما ينشأ عن مثل ذلك النِّظام من الغيظ والأحقاد، ففي سنة ١٧٩٩ رفعت أربع عشرة مديرية راية العصيان، واستعدت ست وأربعون مديرية للتمرد، ولو طال عمر حكومة الديركتوار لانفرط عقد المجتمع الفرنسي انفراطًا تامًّا.

وهكذا تدرجت فرنسة إلى الانحلال، فتداعت فيها أركان الإدارة والمالية، وأصبح دخل بيت مالها تافهًا، وصار ضباطها ودائنوها لا يصلون إلى حقوقهم.

وكان منظر فرنسة، عند السائحين في ذلك الحين، منظر بلاد خربتها الحرب وهجرها سكانها، وكان الجولان فيها متعذرًا؛ لكثرة ما انهار من جسورها وأبنيتها، وأصبح اللصوص يقطعون طرقها المقفرة فصار جوب مديرياتها لا يخلو من خطر إلا باشتراء تذاكر السلامة من رؤسائهم، وعم الخراب الصناعة والتجارة أيضًا؛ فأُغلقت في ليون وحدها أبواب ١٣٠٠٠ مصنع من ١٥٠٠٠ مصنع، وأضحت ليل وهاڤر وبوردو ومرسيلية مدنًا مقفرة، ولم يخل مكان في فرنسة من البؤس والجوع.

ولم يكن فساد الأخلاق في فرنسة أقل من ذلك، فكان حب النفائس والترف والولائم والزينة والرياش سمة المجتمع الفرنسي الجديد المؤلف من الفلاحين وملتزمي الميرة والماليين الذين اغتنوا من النهب والسلب، وخدعت مظاهر الترف في باريس كثيرًا من المؤرخين فنسوا أن البؤس والترف سارا في ذلك الدور معًا.

توضح قصة الديركتوار لنا قلة ما في كتب التاريخ من الصحة، وها هي ذي دار التمثيل تحيي ذكرى ذلك العهد الذي لا يزال الناس يقلدون أزياءه؛ لاعتقادهم أن الحياة رجعت فيه إلى كل شيء بعد أن انتزعت في دور الهول، والواقع أن نظام الديركتوار لم يكن أصلح من نظام الهول، فكلاهما أدَّى إلى سفك الدماء، وكانت عاقبة نظام الديركتوار أن ألقى في النفوس غيظًا ساق المديرين إلى البحث عن سيد مطلق قادر على الحلول في مكانهم وعلى حمايتهم.

(٣) ارتقاء بوناپارت

ظهر مما تقدم أن أمر الفوضى والانحلال استفحل في آخر عهد الديركتوار حتى صار الناس ينتظرون ظهور رجل قادر على إعادة النظام، وفكر كثير من النواب، منذ سنة ١٧٩٥، في إعادة الملكية، إلا أن تصريح لويس الثامن عشر الذي قال فيه إنه سيعيد النظام القديم بأجمعه، وسيرد الأملاك إلى أصحابها السابقين، وسيجازي أنصار الثورة الفرنسية، حوَّل الأنظار عنه.

وبحث الناس عن قائد بعد أن تعذر إرجاع الملكية، فوجدوا بوناپارت، وقد اشتهر بوناپارت في معارك إيطالية، فبعد أن جاوز جبال الألب، ودخل ميلان والبندقية ظافرًا، وجمع غنائم عظيمة زحف على ڤينة، ولما أصبح على بعد خمسة وعشرين فرسخًا منها طلب إمبراطور النمسة منه الصلح.

ولم يكتف هذا الشاب بما ناله من شهرة فطمع في زيادته، فأقنع حكومة الديركتوار بأن الاستيلاء على مصر يخضد شوكة إنكلترة؛ فأبحر من طولون إلى مصر في شهر مايو سنة ١٧٩٨، ولم تطل إقامة بوناپارت في مصر، فقد رجع إلى فرنسة حين استدعاه أصدقاؤه، وعمَّ الابتهاج أنحاء فرنسة عندما بلغ الناس خبر عودته.

وقد ساعدته فرنسة على إتمام المؤامرة التي دبرها سيابس ومديران وبعض الوزراء؛ لإسقاط مجلس النواب، ونشأ فرح كبير عن تخلص فرنسة من ربقة العصابات المشؤومة التي قهرت البلاد منذ زمن بعيد، نعم، عانت فرنسة بعد ذلك نظامًا استبداديًّا، ولكنه لم يكن شديد الوطأة كالنظام السابق.

ويؤيد تاريخ إسقاط مجلس النواب هذا ما قلناه في مكان آخر عن صعوبة الحكم الصحيح في الحوادث المعلومة التي شاهد وقوعها أناس كثيرون، فقد كان الناس منذ ثلاثين سنة يعدِّون ذلك الإسقاط جناية أوجب اقترافها طمع رجل يعضده الجيش، مع أن الواقع أن الجماعة التي طردت مَن عاند من النواب لم تكن من الجند، بل من حرس المجلس الذي فعل ما أمرته به الحكومة المستعينة بفرنسة.

(٤) علل استمرار الثورة الفرنسية طويلًا

لو اقتصر دوام الثورة الفرنسية على الوقت اللازم لنيل ما سعت إليه من المبادئ، كالمساواة أمام القانون والسلطة الشعبية ومراقبة النفقات، لم يزد وقتها على بضعة أشهر؛ لأن هذا حصل سنة ١٧٨٩ ولم يضف إليه مبدأ آخر، والواقع أن الثورة الفرنسية استمرت طويلًا، فإذا نظرنا إلى المدة التي عيَّنها المؤرخون الرسميون رأينا أنها انتهت يوم ارتقاء بوناپارت، أي بعد انقضاء عشر سنين.

ولماذا دام دور الهرج والاضطهاد أكثر من الزمن الضروري لإقامة المبادئ الجديدة؟ يجب ألَّا يُبحث عن ذلك في الحروب مع الدول الأجنبية، وقد كانت هذه الحروب تنتهي بسرعة؛ لانقسام الحلفاء وانتصار فرنسة عليها، كما أنه يجب ألَّا يبحث عنها في محبة أبناء فرنسة للحكومة الثورية، ولم يوجد نظام مقته الناس وكرهوه مثل نظام المجالس، وأعرب فريق كبير من الأمة عن سخطه عليه بما قام به من العصيان، وأتى به من انتخابات كثيرة مخالفة له.

أوضح المتأخرون من المؤرخين كره فرنسة للنظام الثوري بعد أن ظلَّ أمر هذا الكره مجهولًا زمنًا طويلًا، وقد لُخِّصت آراؤهم في العبارة الآتية التي نقتطفها من مؤلف جديد لمسيو مادلن بحث فيه عن الثورة الفرنسية:

قبضت على زمام فرنسة والجمهورية فئة قليلة مكروهة فصارت ثلاثة أرباع البلاد ترجو أن تنتهي الثورة أو أن تنقذ من أيدي هذه الفئة المكروهة التي بقيت مدة طويلة على رأس الأمة التعسة بما تذرعت به من ألوف الحيل والوسائل، ولما أصبح بقاؤها حاكمة لا يتمُّ إلَّا بالإرهاب أخذت تقضي على من كانت تظنُّ أنه مخالفٌ لها ولو كان من أشدِّ خَدَم الثورة الفرنسية إخلاصًا.

واليعاقبةُ هم الذين قاموا بالحكم حتى أواخر عهد الديركتوار، وقد كانت غايتهم، في نهاية الأمر، أن يحافظوا — مع السلطة — على ما جَمَعُوه من المال عن طريق النهب وسفك الدماء، والذي جعلهم يفاوضون ناپليون على إسقاط مجلس النواب هو إقراره إياهم على تلك الغاية التي لم يعترف لويس الثامن عشر لهم بها.

ولكن كيف استطاعت حكومة شديدة الاستبداد ثقيلة الوطأة، مثل تلك الحكومة، أن تبقى سنين كثيرة؟ لم يتم لها هذا البقاء بتأثير الديانة الثورية في النفوس وإلزام الناس ذلك الحكم ظلمًا وعدوانًا فقط، بل تم لها البقاءُ أيضًا لانتفاع جزء غير يسير من الشعب بذلك الاستمرار، فبعد أن جردت تلك الثورة الملك والأشراف والإكليروس من سلطتهم منحت أبناء الطبقة الوسطى والفلاحين ما كانت الطبقات الممتازة السابقة مستولية عليه من الوظائف والأموال، وجعلتهم بذلك من أعظم أنصارها، وصار هؤلاء يخشون استرجاعها منهم إذا أُعيدت الملكية.

لهذه الأسباب استطاعت تلك الحكومة أن تدوم إلى أن ظهر قائد قادر على إرجاع النظام وَعَدها بإقرار ما نشأ عن الثورة الفرنسية من المكاسب الأدبية والمادية.

استقبل بوناپارت الذي حقق هذه الأماني بحماسة، وأقر تلك المكاسب المادية والأدبية في نظم وقوانين، ولذلك أخطأ من قال إن الثورة الفرنسية انتهت بارتقاء بوناپارت، فهو لم يقضِ عيها، بل وطد أمرها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤