الفصل الأوَّل

المشهد الأول

موقف مرصوف أمام القصر. «مسكن وقلعة» «فرنسيسكو» قائمًا للحراسة، و«برناردو» مقبلًا عليه.

برناردو : من الزَّوْل؟ تَعَرَّفْ.
فرنسيسكو : لا، وإنما عليك الرد، قف، وقل من أنت؟
برناردو : يحيا الملك.
فرنسيسكو : أ «برناردو»؟
برناردو : هو بعينه.
فرنسيسكو : جئت في الميقات بالدقة.
برناردو : سمعت ساعة تُعلن انتصاف الليل. أدركْ سريرك يا «فرنسيسكو».
فرنسيسكو : ألف حمد لك على هذه المِنَّة، البرد قارس، وقلبي في وَحْشَة.
برناردو : أكانت حراستك هادئة؟
فرنسيسكو : لم يتحرك فَأرٌ في جُحْر.
برناردو : اذهب راشدًا طاب لك الليل، وإذا لقيت رَفِيقيَّ في العَسَسِ «هوراشيو» و«مرسلس» فأوصهما بالإسراع في المجيء.
فرنسيسكو : أظنهما بمَسْمَعٍ مني. هيَّا وقوفًا. مَن الرجال؟

(يدخل «هوراشيو» و«مرسلس».)

هوراشيو : أصدقاء لهذا البلد.
مرسلس : ومن بِطَانَةِ ملك اﻟ «دانمرك»
فرنسيسكو : طاب ليلكم.
مرسلس : انصرفْ بسلام أيُّها الجنديُّ الأمين. مَن حلَّ محلَّك؟
فرنسيسكو : «برناردو» حلَّ محلِّي، طاب ليلكم (يخرج فرنسيسكو).
مرسلس : إيه «برناردو».
برناردو : ماذا تريد أ «هوراشيو» مَن أرى هناك؟
هوراشيو : بَضْعَة صغيرةً منه، أو بَعْضَهْ.
برناردو : مرحبًا «هوراشيو» مرحبًا أيُّها الجواد «مرسلس».
مرسلس : وبعد. أفعاد ذلك الطيف في هذه الليلة؟
برناردو : لم أرَ شيئًا.
مرسلس : «هوراشيو» يقول إن ذلك محضُ توهم منا، ولا يُطِيقُ تصديقَ تلك الرؤية الرائعة التي رأيناها نحن مرتين. لذلك أَلْحَحَتُ عليه بمُساهَرَتِنَا الليلةَ، دقيقةً بدقيقة، حتى إذا بدا الطيف كعادته، تحقق منه وكلمه.
هوراشيو : رُويدَكما، رويدكما. لن يُرى ذلك الخيال.
برناردو : اجلس هنيهة، ودعْنَا نُحاَصِرْ أُذنيك المستعصيتين على حديثنا مع أن ما وصفناه لك قد رأَيناه ليلتين متتابعتين.
هوراشيو : فلنجلس ونسمع «برناردو» يُحَدِّثْنا عن ذلك.
برناردو : في الليلة البارحة، بينما كان هذا النجمُ بعينه … النجم الذي مطلعه إلى غَرْب القطب، قد سار سِيرَتَهُ حتى وصل إلى هذه الجهة التي يسطَعُ فيها الآن من السماء، كنت و«مرسلس» في العَسَس، والساعة عندئذٍ نحوٌ من الواحدة.

(يدخل الطيف.)

مرسلس : صهٍ. اقطع كلامك. انظر ها هو ذا عائد.
برناردو : إنما ظاهره ظاهر الملك الذي مات.
مرسلس : أنت فصيحٌ عليم. خاطبه يا «هوراشيو».
برناردو : ألا يشبه الملك؟ تَبَيَّنْهُ يا «هوراشيو».
هوراشيو : أشبهُ شيء به. إني لأقضي عجبًا وأرتعدُ رَهَبًا.
برناردو : كَأَنه يرغب في أن يوجه إليه الخطاب.
مرسلس : كلِّمه يا «هوراشيو».
هوراشيو : من أنت أيها الطارقُ في هذه الساعة من الليل طُرُوقَ الغاصِبِ، مُتَلبِّسًا بشكل ذلك الملك النبيل الشجاعِ، الذي تَمَثَّلَتْ به جلالةُ اﻟ «دانمرك» زمنًا ثم الآن دُفِنَتْ بدفنه، باسم السماء أدعوك إلى التكلم، أجِبْ.
مرسلس : إنه لمُغضَب.
برناردو : يتولى مُتَرَفِّعًا.
هوراشيو : قف. تكلم. تكلم. أعْزِمُ عليك.

(يغيب الطيف.)

مرسلس : مضى ولن يرد.
برناردو : ما بالك يا «هوراشيو» قد أَخَذَتْكَ الرَّعدة، وامْتَقَعَ وجهُك. أليس هذ أكثرَ من الوهم! ما تظن؟
هوراشيو : أَعْتَرف بين يدي ربي أنني لولا شهادَةُ عينيَّ لَما آمنت.
مرسلس : أليس شبيهًا بالملك؟
هوراشيو : بلى. كما أنت شبيهٌ بنفسك. تلك شِكَّةُ سلاحه ودِرْعُهُ التي ادَّرَعها حين قاتل النرويجي الطماع، وكعُبُوسته الليلة، كانت عُبُوسته حين جَرَتْ وَحْشة شديدة بينه وبين البولوني فاقتلعه من زحَّافته وألقى به عَلَى الْجَمَد. يا للغرابة!!
مرسلس : لقد مرَّ بموقفنا مرتين قبل هذه بمثل الهيئة الجريئةِ التي رأيتها، في مثل هذه الساعةِ الرهيبةِ كساعَةِ المَوْتِ.
هوراشيو : في أي مَدَار يجب أن أدير فكري لأَعْلَمَ شيئًا مُحقَّقًا في هذا المعنى؟ لست أدري ولَكنني أميلُ بجملةِ رأيي إلى أَنَّ في الأمر ما يُنْذِرُ بانفجار غريب يُوشِكُ أن يحدُثَ في مملكتنا.
مرسلس : كلام معقول. لنجلس وقل لي إن كنت تعرف سبب هذه الحِرَاساتُ المتوالية المُرْهِقَةُ التي يُسامُها في كل ليلة سكانُ هذه المملكة، ولماذا تُصَبُّ تلك المدافِعُ النُّحَاسيةُ كلَّ يوم، وتُجلبُ الذخائرُ الحربيةُ من الخارجِ، ولماذا يكلَّف النجارون بصنع المراكب، ذلك العَنَت الذي لم يَدَعْ فرقا بين «الأحد» وسائِرِ الأسبوع ما تُرى هنالك من الشؤون التي يُسْتَنْزَفُ دونها عَرَقُ الْجِباهِ بمثل هذه السرعة، وتُنَاط من أجلها بالعملِ المكررِ أَنْوارُ البُكرات بظلُمات العَشيِّ. أيقدرُ أحدٌ على مُكَاشَفَتي بهذا السر؟
هوراشيو : أقدِرُ على ذلك إن صَدَقَتِ الإشاعات. إن ملكَنَا السابقَ الذي بدا لنا مثالُهُ الآن كان كما علمت قد دُعيَ إلى المبارزة. دعاه «فورتنبراس» النرويجي مُتحديًا إياه عن غَيرةٍ وكبرياء. فلما التقيا لم يلبثْ ملكنا السابق «هملت» (هكذا كان اسمه في العالم المعروف يومئذ) أن ظَهَرَ عليه فقتله، فراح «فورتنبراس» بموجب ذلك العَقْدِ المحرَّرِ بين المتنازلين وَفقًا للقوانين، وللعلم، مهدورَ الدم خارجًا لمليكنا عن جميع أملاكه، كما أن مليكنا من جهته كان قد عاهد بموجب ذلك الاتفاق المسجل على أن يترك ﻟ «فورتنبراس» — لو بقي هو الفائز — ما يعادل أملاك خَصْمه. والآن يا صديقي قد قام نجل «فورتنبراس» وهو في مُقْتَبَل الشباب، ومليء حماسَةً وغرورًا، فجمع من تخوم اﻟ «نرويج» جيشًا من الأفاقين الشُّراد، يكفُلُهم طعامًا وملبسًا، مُزمِعًا أن يخوضَ بهم غمارًا كريهة، فيها الظفرُ معقودٌ بالشجاعةِ، وما تلك الكريهة (فيما تعتقده حكومتنا) سوى عَزْمِ ذلك الفتى على أن يستعيد بالسلاح، والإكراه، ما فقده أبوه من الأملاك. وذلك فيما أظن مبعثُ تلك الأهُب، وسببُ ما نقوم به من العَسَس، وما يذهب ويجيءُ من البُرُدِ العَاجِلَة في كل مذْهَبٍ ومجيءٍ من البلاد.
برناردو : يدور في خَلَدي أن العلة هي ما ذكرت، ولا سيما وأَنَّ تلك الأمور تتوافقُ مع الهيئة الغريبة، التي يظهر بها ذلك الخيالُ جائسًا خِلال المدينة، مُدَجَّجًا بسلاحه، شبيهًا كلَّ الشَّبَهِ بالملك الفقيد، الذي كان السبب في شُبُوبِ هذه الحروب.
هوراشيو : إنَّ الذَّرةَ من العِثْيَرِ تقع في عين العقل فتُقلْقلها، وتُزْعجها، حينما كانت «روما» في بَسْطَةِ دولتها، وأوْجِ صولتها، وذلك قبيل أن يسقط «يوليوس قيصر» من سماء جبروته، خلت القُبُورُ من سُكانها، وتمشَّي موتاها في أكْفَانِهم، يصخبُون، ويئنُّون خلال الطرُقَات ﺑ «روما»، وقد شوهدت نجومٌ بأذناب نارية، وأنداء تَقْطُرُ دمًا، وانشَقَّتِ الشمس، وخُسِفَ سلطانُ الليل، كأن اليومَ يومُ النشور، تلك الآيات التي هي نُذُر الكوارثِ الكبرى، وطلائعُ المقادير المُجْتاحة، ومُقَدِّمَاتُ الخطوب التي سيلقيها الدهر، قد أتتْ بأنبائها السماء والأرض في إقليمنا، وأَرَتها مواطنينا، إيذانًا بالويل والثُّبور، ولكن صهٍ، صهٍ. انظر. ها هو قد عاد ثانية (يدخل الشبح) سأتعرض له ولو مَحَقَني، وَقْفةً أيها الوهم، إن تكن ذا صوتٍ أو لفظٍ تنطق به. تكلم وإن لم تكن على علم بشيء قى إتمامه رَاحَةٌ لك، أو رحمةٌ لي، تكلم، (يرتفع صياح الديك) وإن تكن مستطلعًا طِلَع الغيب، عارفًا بما يكنُّه لوطنك من خيرٍ فاستنزله، أو شرٍّ فادفعه بما سبق إليه العلم. ويك! تكلم، إن تكن في حياتك قد خبَأْتَ كنزًا سُحْتًا، ويقولون: إن المال الحرام يُقِلقُ أرواحَ الموتى فتهبُّ من مراقِدِها هائمةً، تكلم. قف وتكلم. اعترضه يا «مرسلس».
مرسلس : أأضربه بسيفي؟
هوراشيو : افعل إذا أبَى الوقوف.
برناردو : ها هو.
هوراشيو : ها هو.
مرسلس : لقد توارى (يتوارى الطيف) أخطأنا إليه وهو على تلك الجلالة بِمُظَاهَرَاتِ العنف والإكراه. إنه غيرُ ملموس كالهواء، ولو مددْنا إليه بسوء أيْدينَا لعادت ضرباتُنا التي لا تُصيبُ إلَّا الفراغ من السخريات الباردة.
برناردو : كان موشكًا أن يتكلم حين صاح الديك.
هوراشيو : عندئد وَجَفَ كوجيف المجرم، إذا أخذته صيحة شديدة، فيتوارى. طرَقَ سمعي قديمًا أن الديك وهو صدَّاح الصباح، يوقظ بصوته الحاد الرنان ربَّة النهار، وأن الأرواح الهائمة، أفي الماء كانت، أم في النار، متى سمعت صياحَه نَفَرت سِراعًا، عائدةً إلى محابِسِهَا، وليس ما رأيناه الساعة إلا مصداقًا لذلك الزعم.
مرسلس : نعم. أجل لقد تلاشى مع صياح الديك.
هوارشيو : نعم. قد سمعت هذا، وإني أُؤمِنُ ببعضه. ولكن انظر إلى الصباح وقد توشَّح بوشاحِهِ الأحمر، وتقدم بين قِطَارِ الندى على ذلك اليَفَاعِ البادِي من الشرق. لننصرفْ من حراستنا، ولعلك توافقني على المسير إلى «هملت» الصغير فنخبِرهُ بما شاهدناه الليلة. فلعمري إن الشبح الذي أبى مخاطبتنا، لن يأبى مخاطبته، ألا تريان أنه يَحْسُنُ بنا إبلاغُهُ الأمر فإن ذلك يُرضي مودَّتَنَا له، ولا يخالفُ واجبناُ؟
برناردو : لِنَفْعَلْ بإذن منكما، واعلم أين يتاح لنا لقاؤه، في فرصة سانحة منذ الآن.

المشهد الثاني

مزارة في القصر

يدخل الملك. «هملت». «بولونيوس». «لايرتس» «فولتيمان». «كورنيليوس». سادة وحشم يدخلون.

الملك : نعم، إن ذكرى وفاة شقيقنا الملك السابق «هملت» لا تزال متقدة الْجَذْوة في صدورنا، فجدير بنا أن ندع قلوبنا مسترسلةً في حزنها الأَليم، بل خليق بالأمة جمعاءَ، أن تكون ذاتَ جبين واحد، بادٍ عليه تقطيبُ الأسف، غير أنَّ العقل قد غالب الطبيعة فَلَطَّفَ من شجاها، وأجاز لنا خلال اشتغالنا بالأسى عليه، أن نفكر قليلًا في شأننا، فمن ذلك: أننا اخترنا هذه السيدة التي هي أختنا بالأمس حليلة لنا اليوم، وشريكةً في السلطان على هذه المملكة، المتعددة الأقطار، الباسلة الشعوب، مُخَالِسينَ الفرح من جانب التَّرَح، بعين تدمع سخينة، وعين تدمع بجانبها قريرة. مازجينَ المَسَّراتِ بالأحزان، والأعراسَ بالمآتمِ، معايرين بمعيار متعادل، كَآبَتَنَا وابتهاجَنا. أمَّا بعد، فالأمر الذي جمعتكم من أجله هو ما علمتم من أمر «فورتنبراس» فإن هذا الفتى لم يقدُرْ كفايتنا قدرَهَا، ولعله توهم أن وفاة أخينا المحبوب قد ضعضعت هذا الملك، وقَوَّضَتْ فيه كل نظام، فاتخذ من وهمه حليفًا لا حليف له سواه، وبعث إلينا ببلاغ مهين، يسترد به الأملاكَ التي فقدها أبوه، والتي كسبها أخونا الشجاع محللة بأَمتن المحللات المشروعة، إلَّا أننا قد أطَلْنا الكلام في شأنه، فلنذكر ما دعانا لعقد هذا الاجتماع. ذلك أننا كتبنا إلى ملك «النرويج» عم «فورتنبراس»، ولما كنا على ثقة بأن ذلك الملك الذي بلغ من العمر عِتِيًّا، وأصبح مُقْعَدًا لا يُفارق الفراش، لم يعلم بما أزمعه ابن أخيه، وبما هو شارعٌ فيه بين أبناء «النرويج» من اتخاذ الأهبة، وتجهيز الجيوش، بدا لنا أن نقفه على ماهو جارٍ بين رعاياه، وأن نوفدك يا «كورنيليوس» المقدام، ونوفد معك «فولتيمان» هذا لتحملا سلامنا إلى ذلك الملك الشيخ، غيرَ مجيزين لكما الخروج عن الحدود المبينة لكما في هذه الكلمات، فسلام عليكما ولْيَدْلُلْنا إسراعُكما على اهتمامكما بامتثال أمرنا.
كورنيليوس وفولتيمان : في هذا الشأن وفي كل شأن سواه إنا لمخلصان.
الملك : لا يخامرنا ريب فيكما، فتوجها بسلام، وبرضًا منا. (يخرجان) والآن يا «لايرتس» ما جدَّ لديك، أنت لا تلتمس من لدن ملك اﻟ «دانمرك» إلَّا ما يكون معقولًا، ولا تضيع فيه الأقوال سُدًى، فأيّما سُؤلٍ كان لك فإنه لعرض منا عليك، لا طلبٌ مرفوع منك إلينا، ليس الرأس أشدَّ ارتباطًا بالقلب من «أبيك» بعرش اﻟ «دانمرك»، ولا الذراعُ بأَخْدَمَ للشفة الآمرة من أبيك لصاحب هذا العرش، فما بُغْيتك يا «لايرتس»؟
لايرتس : يا مولاي المهيب، ألتمس إذنًا بالرجوع إلى «فرنسا» فقد فارقتها مسرعًا لأداء واجب التهنئة بارتقائك كرسي الملك، والآن قد شاقني العودُ إليها، فَأَنَا جاثٍ بين يدي كرمك للترخص في السفر.
الملك : أفاستأذنت أَباك. ما يقول «بولونيوس»؟
بولونيوس : قد ألح بالاستئذان يا مولاي. وألحف، وما زال بي حتى أَذِنْته بكل إبطاء، فأضرع أن تمنحه الإجازة بالسفر.
الملك : تخير الساعة التي فيها رضاك، فإن وقتك منذ الآن لك، وأمانِينا الطيبة تصحبك، والآن أي «هملت» أي ابن أخي بل ابني.
هملت (منفردًا) : شيئًا أكثر من ابن الأخ، وشيئًا أقل من الابن.
الملك : من أين يتأتَّى أن سماءَك لا تزال عابسة الغيوم؟
هملت : عفوًا مولاي، إنْ أَنا إلا في الشمس الساطعة.
الملكة : حبيبي «هملت»، دع هذه الألوان العاتمة، القاتمة، واتجه بنظر الوداد إلى ملك اﻟ «دانمرك». لا تلبث آخر الدهر مُنْطَبِقَ الحاجب على الحاجب، باحثًا في الثرى عن أبيك النبيل، أنت تدري أن الموت نهايةُ كل حي، وأن الدنيا إنما هي مجاز إلى الخلود.
هملت : أَجَلْ يا سيدتي. الموت نهاية كل حي.
الملكة : إن كان الأمر كذلك فَلِمَ تَخَالُهُ غريبًا؟
هملت : أخاله؟! كلا يا سيدتي، ليس الأمر غريبًا بالمخيِّلة، ولكن بالواقع، وما من معرفة بيني وبين المخيِّلة، يا أيتها الأم الشفيقة، ليس دثاري الأسوَدُ كالمداد، ولا سائرُ ما يعتد من آلات الحداد، ولا التصعيدُ، أو التصويبُ للزفرات، ولا شحوبُ الوجه واكفهراره من الحسرات، ولا انهمالُ المدامع بمثل فيض المنابع، ولا علائمُ الحزن كافة، أو ضروبُه قاطبة، أو شكولُهُ جميعًا بوافيةٍ في الشهادة لي بصدق حزني، أو بكافيةٍ في الدَّلالة على فَرْط شَجَني، ذلك مما يَصِحُّ أن تقال فيه لفظة «يخال» ولكن في هذا الداخل من اللاعِج والضِّرَام، ما لا تستطيع بيانَه المظاهر.
الملك : إن في اشتداد جزعكَ لدليلًا على جودة عنصرك يا «هملت»، ولكن أباك فَقَدَ أباه من قبل، كما أن جدك فَقَدَ كذلك جده، وهذه سُنَّةُ الله فالتَّشَدُّدُ في الحزن والإصرارُ على استمراره إلى ما وراء الزمن الجائز، أَشبهُ بالثورة في وجه القدر، والمعصيةِ لأمر الله، وإنك لأقربُ الناس إلينا، وأَحبُّهم لدينا فليعلم ذلك الناس وليكن لك فيه سلوان، ثم إنا لنرغب إليك في العدول عن العودة إلى مدارس«ويتنبرج»، بل نضرع إليك أن تبقى بيننا قُرَّةً لأعيننا.
الملكة : لعلك لا تُخَيِّب رجاء أمك، وابتهالَها إليك: أن تقيم معنا وتَصدِف عن الدراسة في «ويتنبرج».
هملت : سأطيعك يا سيدتي بما في وسعي.
الملك : حسن. هذا جواب حُنُوٍّ وكِياسة، ليكن مُقامك في اﻟ «دانمرك» كمُقامنا بلا مِراء. هلمي يا سيدتي. إن هذه الرقة من «هملت» قد ولجت قلبي باسمةً، ومن أجلها سأشرب كؤوسًا اليوم. على قصف المدافع، حتى تتجاوبَ السماوات برجع الأصوات الصاعدة إليها من الأرَضِين. هلمي (يخرج الجميع ما عدا «هملت»).
هملت : أوَّه، ليت هذا الجثمان، وما أصلبَهُ على الرزايا والكوارث، ليته يذوب، ويسيل، وينحلُّ إلى ندى، بل ليت بارئَ الإنسان لم يُحَرِّمْ عليه قتلَ نفسه. أي إلهي. أي إلهي. ما أَثْقلَ جميعَ مصطلحات هذا العالم، وما أسفلَها، وما أقدمَها، وما أقلَّها جدوى. قبحًا لهذه الدنيا وتبًّا لها، إنها لحديقة غيرُ مهذبة، ينمو فيها النبات فِطْرِيًّا، وتستولي عليه الأعشاب السَّمِجَة، أَإلى هذا الحد وصلت الأمور؟ مات منذ شهرين أو أقل، ملك، وأي ملك! جواد لا يدانيه هذا إلا دانى الهرُّ الأسد، وما كان أرَقَّهُ لوالدتي، وأعطَفَه يا لَلسماء! يالَلأرض! بئست الذكرى، إذا تذكرت كان يعلَقُ بها علاقة من لا يَزِيدُهُ تمثيل الطعام سوى تمادٍ في الغرامِ، وهذا ما انتهى إليه وفاؤه في شهر، لندع التفكير في ذلك، يا سرعَةَ التحول! لو سُمِّيتِ لسُميتِ امرأة. في شهر قصير قبل أن يُعتَق الحذاء الذي مشت به وراء الجِنازة باكية، وأي بكاء غزير! يا عجبا! أتلك هي هذه؟ تالله لو أصيب وحشٌ ضارٍ لم يوهب أدْنى تعقل بما أصابها لكان إعوالُه أطول مدًى من إعوالها، تزوجت من عمي وأين هو من أبي؟ أين «هرقل» القدير من ضعيفٍ مثلي؟ تزوجت ولم ينقضِ الشهر، ولم تَنْصُلْ حمرةُ جُفُونِهَا من مِلْح دموعها. ويْلَها من عجلة عَجِلَتها إلى مهد الحرام، ساءَ ما عَمِلَتْ وساءت عقباه، ولكن تَفَطَّرْ يا قلب، ولا تنطق يا لسان.

(يدخل «هوراشيو». و«مرسلس». و«برناردو».)

هوراشيو : التَّجِلة لسموِّكم.
هملت : يسرني أن أراكم في عافية، أما أنت يا «هوراشيو»؟
هوراشيو : أنا هو يا مولاي. وإني لخادمك الأمين أبَدَ الدهر.
هملت : قل يا … أَعْفِني من قول يا سيدي، ولأَدْعُكَ بياصديقي. ماذا جاء بك وﺑ «مرسلس»
مرسلس : يا مولاي الجواد.
هملت : أنا مبتهج برؤيتك، مُسِّيت بخير يا سيدي، ولكن ماذا حملكما على ترك «ويتنبرج»؟
هوراشيو : فطرَةُ البداوة يا مولاي الكريم.
هملت : لا أجيز لألد أعدائك أن يتكلم عنك هكذا، فلا تحمل أدنى وِقْرِ هذه الشهادة منك فيك، أنا أعرف أنك لست شَرُودًا، ولا أفَّاقِيًّا، فما الذي أتى بك إلى «إلْسنُور»؟ سنعلمك الشرب بالأكواب المترعة قبل أن تفارقنا.
هوراشيو : كان قدومي لأحضر مشهد أبيك.
هملت : أرجو يا رفيق ألا تهزأ مني، أحسبك قدمت لتحضر زفاف أمي.
هوراشيو : حقًّا يا مولاي إن العرس والمأتم قد تعاقبا عن كَثَب.
هملت : حكمة واقتصاد. يا «هوراشيو»، محض اقتصاد. اللحوم التي قُدِّمَتْ حنِيذَةً في المناحة، قُدمت باردةً في الفرح، ليتني لقيت في المساء أَعْدَى أَعْدائي، ولم أَرَ ذلك اليوم يا «هوراشيو». أبي. كأنني أرى أبي.
هوراشيو : أين يا مولاي؟
هملت : بعينَيْ قلبي يا «هوراشيو».
هوراشيو : رأيته قديمًا وكان هو الكمالَ بعينه.
هملت : كان رجلًا لن أرى له مثيلًا.
هوراشيو : مولاي كأنني رأيته في الليلة البارحة.
هملت : رأيت من؟
هوراشيو : أباك يا مولاي.
هملت : الملك أبي.
هوراشيو : هَدِّئْ من رَوعِك ريثما أَقص عليك الأعجوبة، التي شهدها هذان السيدان، وشهدتها معهما الليلة.
هملت : ناشدتك الله تكلم.
هوراشيو : توالت ليلتان على هذين السيدين، «مرسلس» و«برناردو»، كانا فيهما يسهران للعَسَسِ، ورأيا في الساعة الهادئةِ الهامدةِ، ساعة انتصاف الليل، ما ستسمعه: رأيا مثالًا شبيهًا بأبيك في شِكَّةٍ تامةٍ من السلاح، ماشيًا مِشْيَةَ وقارٍ، مارًّا بهما على مَهَلٍ. ثلاث مرار خطر إزاءهما قيدَ هذه العصا، وجُفُونُهمَا معقودةٌ من الرعب، فَكَأَنَّ جسميهما قد تحولا إلى شحم مذابٍ من الخوف، وقد لبثا صامتيْن لا ينطقان، ثم كاشفاني بهذا السر الرهيب، فتوليت الحراسة معهما في الليلة الثالثة، وهناك رأيت مِصْدَاقَ ما وصفاه لي، ظهر الطيفُ في الميقاتِ الذي عَيَّنَاه بالهيئةِ التي مَثَّلاها، فعرفتُ أباك وما يدي أشبهُ بيدي من ذلك الطيفِ به.
هملت : أين، أين جرى ذلك؟
مرسلس : في هذا الموقف الذي نتولى منه الحراسة.
هملت : ألم تخاطباه؟
هوراشيو : خاطبته يا مولاي فلم يُجبْ، غير أنه رفع رأسه مرة وبَدَأ يتحرك كأنه سيتكلم. فما هي إلا اللحظة التي بدا منه هذا العزم حتى صاحَ ديك الصباح صَيْحَةً عاليةً فاهتز لها، وتَوارى على إثرها.
هملت : عجبٌ عجاب.
هوراشيو : وحق كحقيقة وجودي، فلهذا اعتقدنا أن الواجب يقضي علينا باطلاعك على ما كان.
هملت : إني لمضطرب أيها السيدان، أفأنتما في العَسَسِ الليلة؟
برناردو ومرسلس : أجل يا مولانا.
هملت : في شِكَّةٍ تامة من السلاح قلتما؟
برناردو ومرسلس : نعم.
هملت : إذن لما تريا وجهه.
هوراشيو : بل رأيناه؛ لأن الخُوذَةَ كانت مرفوعةً عن وجهه يا مولاي.
هملت : أكان باديًا عليه الغضب؟
هوراشيو : كان ملمحه أدنى مَلْمَحِ الكآبة منه إلى الغضب.
هملت : أبه اصفرار أم احمرار؟
هوراشيو : كان لونه أصفرَ شاحبًا.
هملت : وكان مُحَدِقًا بكما.
هوراشيو : تحديقًا. بلا تَحَوُّل.
هملت : ليتني كنت معكم.
هوراشيو : لو كنت لدَهِشْتَ شديدًا.
هملت : لا شك. لا شك. أأقامَ مديدًا؟
هوراشيو : عِدَّة المائة ببعض التَّأَني.
مرسلس وبرناردو : أو تزيد قليلًا.
هملت : كانت لحيته مَوْخُوطَةً بالشيب.
هوراشيو : كما رأيتها وهو حي: لُحْمَةٌ من عنبر وَسَدًى من فضة.
هملت : سأسهر الليلة معكم لعله يجيء.
هوراشيو : سيعود وأنا الضمين.
هملت : إذا لاحَ لي وعليه ملامحُ والدي العظيم، سأخاطبه ولو نَهَتْني جَهَنم عن أن أتكلم، أرجو منكم جميعًا إذا كنتم لم تُفْشوا سرَّ هذه الرؤية أن تستمروا في الكتمان، ومهما يحدث في هذه الليلة، فَلْيجُل في أذهانكم، ولكن إياكم أن تُجْرُوهُ على ألسنتكم، سأشكر لكم خلوص وُدِّكُمْ، وسلام عليكم. إلى الملتقى على الموقِفِ المرصوفِ بين الحادية عشرة ومنتصف الليل.
كلهم : التَّجِلَّةُ لسموكم.
هملت : إنْ أُريد إلَّا محبتكم كما منحتكم محبتي، أَستودعكم الله (يخرج «مرسلس» و«هوراشيو» و«برناردو») روح أبي مُسَلَّحَةٌ بالسلاح التام، ليست الأمورُ جَاريَةً في أَعِنَّتَهَا، وإني لَمُجسٌ كيدًا خفيًّا، ما أبطأ الليلَ على الناظر، اهدأ يا رُوعي حتى يجيء الليل، واسْكُني يا نفسي إن مساوئَ الأعمال لو دُفِنَتْ تحتَ طِبَاق الأرض، لَخَرَجتْ من مخابِئِها، وبرزت للعيون (يخرج).

المشهد الثالث

سكن في بيت «بولونيوس»

(يدخل «لايرتس» و«أوفيليا».)

لايرتس : قد جعلتُ أَمتعتي في المركب، وبقي عليَّ أن أستودعك الله يا شقيقتي، وأن أوصِيكِ متى وجدتِ ريحًا موافقة أن تَبْعَثي إليَّ بِأَنبائك.
أوفيليا : أترتاب في ذلك؟
لايرتس : أما «هملت» فلا تحملي مطارحاتِه إلَّا على بَدَوَاتِ المِزاج، ومُدَاعبَاتِ الصبي، أما رأيت البَنَفْسَجَة. كيف تنمو، وكيف تَشِبُّ متى حَرَّكَها شَبابُ الطبيعة، إنها لتترعرع وشيكةً، ولكنها سريعة الزوال، ثم إنها لتتضوعُ عبيرًا، وتَجْمُلُ حِلْيَةً، ولكنها لا تمكُثُ في الأرض، وما العبيرُ الفائح والكلماتُ الغزليةُ سوى دقيقةٍ وتنقضي.
أوفيليا : عجبًا. أًلَا شيءَ سوى ما تقول؟
لايرتس : لا شيء أكثر مما أقول صدقيني. لعله يحبك كزعمه ولعله منزهُ الرغبة عن الرجس حتى الساعة، ولكنه يجب عليكِ أن تخشَيْ عُلُوَّ قدرِه؛ لأن إرادتَه ليست مِلكًا له، بل هو أسيرُ مولده، ومحتدِهِ، فلا يستطيعُ التخيُّرَ لنفسه؛ لأن سلامة الملك مرتبطة بخيرته، وَخِيرَته ينبغي أن يقرها الجسم الذي هو رأسه، فاحذري يا «أوفيليا» أن تُطلقي لهواه العنان في فؤادك، وأن تُنوليه من ودك أكثر من أدب التحية، إنَّ العذراء الحريصةَ على عرضها لَتُسْرِفُ في الجواد به إذا سمحت للقمر بمطالعة جمالها، والفضيلة أَبينُ ما تكون لا تنجو من سهام النميمة، أغلب ما يقرِض الدودُ مواليدَ الربيع قبل أن تنعقدَ براعمُها، وإن أَشدَّ الأنفاس عَدْوى وخَطَرًا لأَنفاس النَّسمات الندِيةِ في بُكْرَةِ الشباب، فكوني على حَذَرٍ، وأكثر ما تكون النجاةُ فبالخوف والاجتناب.
أوفيليا : سأحفظ هذه العظة، وأُنزلها من ضميري منزلةَ الخفير الأمين، لكنني أرجو لك ألَّا تكون كبعض أولئك النُّصَّاح الذين يَدُلُّون غيرَهم على الطريق الوَعْرَة التي يُفضِي منها إلى الجنة، وَأما هم فَيَضلونَ عنها، وينطلقُون مع أهوائهم.
لايرتس : لا تخشيْ عليَّ بأسًا. لقد طال وقوفي. هذا أبي قادم (يدخل «بولونيوس») سأغنم فرصة إبْطَائي لأفوزَ بوداعٍ ثانٍ وبَرَكةٍ مجددة.
بولونيوس : أَما زلت ها هنا يا «لايرتس»؟ الريحُ تضرب في ظهر شراعك لتدفعه إلى الأمام. وأنت متأخر في هذا الكلام، سِرْ تصْحبُكَ بركتي (يضع يده على رأسه).
لايرتس : أَسْتَأْذِنُ مولاي ووالدي في خضوع واحتشام.
بولونيوس : الساعة تدعوك، وَحَشَمُك في انتظارك، سِرْ مُوفَّقًا
لايرتس : أستودعكِ الله يا «أوفيليا»، لا تَنْسي وصيتي.
أوفيليا : لقد صُنْتُها في ذاكرتي، وبيدك مفتاحُ الصِّوَان.
لايرتس : أستودعكما الله.
أوفيليا وبولونيوس : على الطائر الميمون.

(يخرج.)

بولونيوس : ماذا قال لكِ يا «أوفيليا».
أوفيليا : فال لي شيئًا عن «هملت».
بولونيوس : يقينًا إنه أصاب، ولقد قيل لي إن «هملت» يمنحك طويلًا من وقت فراغهِ، وإنكِ أَسرفتِ في الإذن له بالزيارة (على ما أبلغتني العيون التي ترصدك حذرًا عليكِ) أَنْتِ لا تدركين إلى الآن حَقَّ الإدراك، ما يجب عليكِ لنفسك باعتبار أنكِ ابنتي، وما يجب عليكِ لكرامتي، كاشفيني بما بينك وبينه، واصْدُقيني.
أوفيليا : لقد أَكثر لي من أحاديث وداده في هذه الأيام.
بولونيوس : وداده! تتكلمين عن هذا الوداد تكلُّمَ الفتاة الغِرَّة، أفظننتِ خيرًا بتلك الأقاويل؟
أوفيليا : لا أعلم يا مولاي ما ينبغي أن أظن.
بولونيوس : أَلا فاعلمي أَنكِ طفلة، وأنكِ وجدتِ الزائفَ من النقد فحسِبْتِهِ صحيحًا، أعْليِ قدرَ نفسِك عن هذه الدرجة، وإلا عددتك على الكره مني حمقاء.
أوفيليا : إنه ملأ مسمعي بشُجُون غرامه ولكن بأَدبٍ وحشمة.
بولونيوس : أَجل بأَدبٍ وحشمة. هكذا يسميان.
أوفيليا : وكان يُؤكِّد كلَّ قولٍ يقولُهُ بيمين مُحْرَجَة.
بولونيوس : آها. إنْ تلكَ الأيمان إلا أشراك تُصاد بها دَجَاجات الماء، أعرف الأقسام الكثيرة التي يُمليها القلبُ على اللسان، متى أوحاها الدمُ الثائرُ، غير أنها يا بنيتي إيماضاتُ برقٍ تضيء، ولا تُدفئ. ثم ينطفئ نورُها، وتَخْمدُ على الأثر، فلا تصطلي على تلك النار، اعزمي منذ الساعة على الضَّنَانة بمحاضرتك نَفَاسةً بشرف عرضك، ولا تنظري إلى السيد «هملت» سوى نظرك إلى شاب يجوز له من التَّمادي ما لا يجوز لكِ، فلا تُصَدِّقي أَيْمانه؛ لأن على ظواهِرها من الزينة ما ليس في بواطنها؛ ولأنها أشبهُ بِوُسَطَاءِ السَّوْءِ، الذين لا يبدو منهم للعين إلا التَّقى والصلاح. ومحصلُ الكلام: لا أريدُ بعد الآن أن تستخدمي وقتكِ بمصاحبة السيد «هملت». أو بالإصغاء إلى مواعيده، فحذارِ ذلك. أَتسمعين؟ حذارِ، وانصرفي إِلى شأنكِ.
أوفيليا : سمعًا وطوعًا يا مولاي.

(يخرجان.)

المشهد الرابع

(«هملت»، ثم يدخل «هوراشيو» و«مرسلس»)

هملت : الهواء لذَّاعٌ من البرد.
هوراشيو : أجده قارسًا عَضُوضًا.
هملت : ما الساعة الآن؟
هوراشيو : ساعة انتصاف الليل في ظني.
مرسلس : قد سمعت الواقتة ومال الليل.
هوراشيو : لم أسمعها أنا، وإذن هذا موعدُ الطَّيف (يسمع معزف من القصر وقصف مدافع) ما معنى هذا يا مولاي؟
هملت : الملك في مجلس شرابه، فمتى ثَمِلَ عَرْبَدَ، ومتى ازداد نَشْوَةً رقص متهتكًا مُتَدَاعِيًا من جانبيه، وكلما ابتلع نَخْبًا من شراب الرين في صحة أَحدٍ، طَفِقَ الدُّفُّ والمِزْمَارُ يَهِرَّانِ، وينبَحان اشتراكًا في النخب مع الملك.
هوراشيو : أعادةٌ هذه؟
هملت : عادة ويا للأسف! وما من شيء يُعَاب على هذا البلد أَكثر من هذه الخَلَّةِ، خلَّةِ التعاطي والإدمان، فإنها تُوقِرُ الرؤوس، وتجعلنا عِبرةَ المعتبرين، شرقًا وغربًا، بل تجلب لنا استهزاءَ الناس، وتُمَثِّلْنَا لديهم كالحيوانات المنغمسةِ في حَمْأَتِهَا، ومهما يكن من شرفِ عنصرنا، فإن امتزاجَهُ بهذه العادَةِ لكامتزاجِ النُّطفَةِ القذرة بالمعدنِ النفيس، فإن قيمتَهُ تنحط بانحطاطِها، والاحتقار الذي كان خصيصًا بها يشمَلُهُ بسببها.
هوراشيو : انظر يا مولاي، ها هو.

(يدخل الطيف.)

هملت : يا ملائكة الرحمة لطفًا بنا. إن تكن روحًا ميمونًا، أو روحًا هالكًا ملعونًا، آتيًا بنفحة من النعيم، أو بلَفْحَةٍ من الجحيم، بالشر نذيرًا، أَو بالخير بشيرًا، إن مثالك ليحتم عليَّ أن أخاطبك، أناديك يَا «هملت»، يا ملكي، يا أبتي، يا صاحب اﻟ «دانمرك» فَأَجبني، لا تذَرْني في جهلي، أَفْنَى زَفَراتٍ وحسَرات، لماذا بَرزَتْ من كفنِهَا عِظامُك التي طهرت، وحجبها الموت؟ لماذا فتح الضريح — الذي رأيناك مُغَيَّبًا فيه — أنيابهُ الرخامية الثقيلة، وألقى بك إلى الخارج؟ ما معنى هذا؟ نهوضك وأنت جسم هامد، مرتديًا شِكَّتَكَ الكاملة، وعَوْدُك إلى حيث ترى ضوء القمر، وتَزيِد الليل وحشة ورَهبًا، ثم وقوفُنا منك بأفكارنا المضطربة، على ما بَدَا بنا من ضعف موقف الارتعاد الذي يزعزع أركان الجسوم، ويجاوزُ طاقَةَ النفوسِ، قل ما وراءك؟ لِمَ هذا؟ ما ينبغي أن تعمل؟

(يشير الشبح إلى «هملت» ويدعوه.)

هوراشيو : يشير إليك أن تنحو نحوه كأنه يروم الإفضاء إليك بأمرٍ على حدة.
مرسلس : انظر بأيةِ إشارة لطيفة يومئ إليك بأن تتبعَه إلى مكان منعزل ولكن لا تفعل.
هوراشيو : يقينًا لا ومهما يكن الباعث.
هملت : يأبَى التكلم هاهنا فحتْمٌ أن أَتْبَعَه.
هوراشيو : إياك إياك يا مولاي.
هملت : سألحق به، وما أُثَمِّنُ حياتي إلا بثمن إبرة، أمَّا نفسي الخالدة فلا يمْلِكُ لها نفعًا ولا ضرًّا. يومئ إليَّ، سأتبعه.
هوراشيو : عجبًا عجبًا. أتتبعه يا مولاي؟ وقد يستدرجك إِلى مُضْطَرَبِ ذاك اللُّج العميق، أو مهبط ذلك الجبل الشاهق المطل على البحر، ثم يتخذ شكَلًا يُفْقِدُكَ الرشد فتسقط في الْيَمِّ، على أن مثل هذا الموضع الباذخ ربما حمل المرءَ على القذفِ بنفسه، متى نَظَرَ من حالِق، فوجد بينه وبين البحر مَهْواةً بعيدةَ، وسمع الأمواج تُزَمْجِرُ تحت قدمَيه.
هملت : ما زال يدعوني بالإشارة. اسبق إني بك لاحق.
مرسلس : لن تذهب يا مولاي.
هملت : دعني.
هوراشيو : شاور هُداك ولا تذهب.
هملت : القضاء يدعوني وقد جعل أصغر شُريان من شرايين هذا الجسم أَصلَب من عصب الأسدِ الضِّرْغَام (يومئ الطيف) تالله يَفْتأُ يدعوني، دعانِي يا سيديَّ (ينطلق منهما) إن يعترضني أحَدُكُما رددتُه خيالًا، بهذا أمرت. لنذهب، هلم إني لك تابع.

(يتقدم نحوه متطرفًا قليلًا.)

هوراشيو : لِنَرْقُبْ من هنا بحيث نرى ولا نسمع.
مرسلس : أجل لنحرسه وليفعل الله ما يشاء.

المشهد الخامس

جزء آخر من الرصيف

(يدخل «الطيف» و«هملت»)

هملت (يستوقف الطيف مخاطبًا) : إلى أَين تمضي بي؟ تكلم. لن أسير إلى أبعد.
الطيف : أصغ إلي.
هملت : ناشدتك الله تكلم.
الطيف : قد دنت الساعة التي يجب عليَّ فيها أن أَرجع إِلى النيرانِ الملتهبة المليئة بالعذاب.
هملت : ويحك من نفس.
الطيف : لا ترْثِ لي، بل استمع ما سأبوح به، وأَعِرْهُ حانب الاهتمام.
هملت : تكلم إني لسميع.
الطيف : وإنك أيضًا لآخد بالثَّأر بعد أن تعلم.
هملت : أَيُّ ثأر؟!
الطيف : أنا روح أبيك. قُضِي عليّ أَن أهيم في الليل، وأن أحوم في النهار، مصْطَليًا سعيرَ النار بما اجْتَرَحْتُ من الآثام، ريثما أتطهر من أدرانها. لو لم يكن محظورًا عليّ أن أفْشِي أسرارَ سجني لقصصت عليك ما يُضَعْضِعُ النفس، ويجمدُ الدم، ويخرجُ العينين من الوَقْبَين، ويشتتُ الضفائر، حتى لتقوم كلُّ شعرةٍ من شعرك على ساقها قيامَ الشوك، على جِلد القُنفذِ الخائف، لكن هذه الأسرار الخلودية لم تكن لِتُفْشَى بِمَسْمَع من لحم ودم، فأنصت. لئن كنت صدقت يومًا بحبك لأبيك …
هملت : بالله.
الطيف : انتقم له من قِتْلَةٍ شنيعةٍ قُتِلها.
هملت : أمُتَّ قتيلًا؟
الطيف : قِتْلةٌ مُفَظَّعَةٌ تفظيعًا لم يسمع بمثلها الناس.
هملت : عجِّل في إخباري لأطيرَ بأجنحة سريعة كخطراتِ الفكر، أو سَنَحَاتِ الآمالِ الغراميةِ، إلى انتقامي.
الطيف : أجدك متأهبًا، ولو كنتَ أجمدَ من الكَلإ الدسِم الذي يَتعَفَّنُ متروكًا على ضِفافِ النهرِ المهجور لاستفزكَ ما ستسمعه من نَبَئي، أنصت يا «هملت»: زعموا أنَّ ثعبانًا لدغني، إذ كنْتُ نائمًا في بستاني، فخدعوا الأمة الدانمركية بما أَذاعوه من الكذب، وما لدغني — ابن أرض، اعلم ذلك أيها الشاب النبيلُ — إلا ذلك الثعبان الذي يتَقَلَّدُ الآن تاجي.
هملت : لقد تَنَبَّأتْ بذلك روحي … ويك عمي.
الطيف : أجل، ذلك الوحش الفاسقُ، تصيَّد ببوادِرِ فطنته، وبما أُوتي من مواهب أُخر، بَئِست البوادرُ والمواهب، تصيَّدَ قلبَ مليكتي، وَأَنزلها على حكم شَهوَتِهِ، مع ما كان يبدو عليها من الأمانة والعِفة، واولداه هملت. كَبُرَ إثمًا، وتمادَى انحطَاطًا، أَن تهبطَ تلك المرأَةُ من كَوْنها حليلتي، وأنا ذلك الوفي الذي ارتهن كرامتَهُ على الدوام بالعهود التي عاهدها عليها — إلى كونها حليلةَ ذلك الخؤون، الذي ليست له فضائل تُذْكَرُ بجانب فضائلي. أجد نسيمَ الصباح، فلأقلْ باختصار. إنني كنت نائمًا في بستاني كعادتي بعد الظهر كل يوم، فانْدَسَّ عمك في خَلوَتي، ساعة أمْني، وراحَتي، وبيده قارورة من ذلك العصير الملعون المعروفِ ﺑ «الجيكوَيام»، أَفرَغَ منها سُمًّا زُعَافًا في أذني. ذلك عصير يُدْخِلُ الجذامَ إلى الجسم، ويفعل في المهْجة من الفعل العدائي ما ليس يفعله ماءُ الفضة، فهو يجري في الجسم مُتَخَطِّيًا كلَّ الحواجز الطبيعية، ويمتزجُ بالدم كامتزاجِ النُّطْفَةِ الحمضية في الحليب (اللبن)، فَيُرِيبُه، ويجمد في أَصَحِّ الناس أجسادًا، وأَنقاهم جِسَادًا، هكذا أحسست مجراه مني، وأثره في دمي، ثم بدت على بَشَرتي الناعمة ندوبٌ قَذِرَةٌ جافةٌ، أشبه بقشرة الشجر، فجعلتني كالعاذر وألبستني خِزيًا وعارًا. ذلك ما أصابني في نومي بيد «أخي» فَحُرِمت حياتي، وتاجي، ومليكتي، وقضيتُ نحْبي، ولم أُمهلْ ريثما أُراجع لُبِّي، على ما فَرَطَ من ذنبي، وأتوبُ إلى ربي، نهاية النهايات في الفظاعة. لئن تكنْ فيك بَقِيَّةٌ من سَلَامَةِ الفِطْرَةِ لا تتحملْ هذا. لا تدعْ مهد اﻟ «دانمرك» الملكي مهدًا للشبَقِ، والْخَنَا، وأيًّا يكن السبيلُ الذي تسلكه لهذا الانتقام لا تلوِّث فكرك، ولا تَأْذَنْ في داخِلَتِكَ لأية سانحةِ تمَسُّ والدتك، دع لله عقابَها، وللأَشْوَاكِ التي تنمو في صدرها، يألُوهَا وَخْزًا، وإيلامًا. أودعك لغير مآبٍ، قد أشارت نار الحُبَاحِبِ بِدُنُوِّ الصباح؛ لأن ضوءَها الذي لا جَدْوَى منه قد أخذ بالأصفرار. سلامًا. سلامًا. سلامًا وإيَّاي فاذكر.

(يخرج.)

هملت : يا جيوشَ السماء، يا أَيتها الأرض، وماذا أُنادي بعد؟ أأناديك يا جَهَنم؟ رُوَيْدَك يا قلبي، رويدك، وأنتِ أَيَّتُها الأعصاب لا تَشِيخي بغتةً … بل أسْعديني بكل ما فيكِ من القوى، أتُذكِّرني إياك. أجل يا أيها الروح الحزين، ما دامت لي حافظة تحفظ في مركز هذه الْجُمْجُمَةِ المُتَضَعْضِعَة. أتُذَكِّرني إياك. أجل سأمحو من سِجِلِّ استظهاري كلَّ المعاهد التي كان حديث الضمير بها يُؤنسني، سأمحو كلَّ ما اقتبسته من حِكَم وأسفار، سأمحو كلَّ الصور والآثارِ التي أفادني إياها الشبابُ والاستقراءُ، ولن يبقى في كتاب عقلي كلمةٌ واحدة سوى وصيتك الشريفة. كذا وايْمُ الله. يا لَلْمرأة؛ ما أَفسدَ ما تكون المرأة! يا لَلْمُجْرم الأثيم ذي الوجه البسام! إِليَّ قرطاسي. سأنقُشُ فيه: إنَّ المرء يستطيعُ التبسمَ ما شاء التبسمُ، وهو مجرمٌ أثيم، يقين أن هذا الضرب من الرياء إن لم يُرَ في بلد، فهو يُرى في اﻟ «دانمرك» (يكتب): (كُتِبَ عليك ما كُتِبَ يا عمي، والآن ليكنْ شعاري «وداعًا، تذكرني، أَقْسَمْتُ لآخُذَنَّ بالثَّأر»).
مرسلس (من الخارج) : مولاي مولاي.
هوراشيو (مستشرفًا من الجانب الآخر) : مولاي مولاي.
مرسلس (من الخارج) : مولاي «هملت».
هوراشيو (وراءه) : حماه الله.
هملت : آمين.
هوراشيو (من الخارج) : أَيْنَ أنت يا مولاي؟
هملت : مولاي. مولاي. تقدم أيها العصفور.

(يدخل «هوراشيو» و«مرسلس».)

مرسلس : أين أنت من رؤيتك يا مولاي؟
هوراشيو : ما النبأ؟
هملت : عجيب.
هوراشيو : أتطلعنا عليه يا مولاي؟
هملت : أخشى أن تبوحا به.
هوراشيو : أما أنا فلا وأُقْسِمُ برب العزة.
مرسلس : وأما أنا فلا ولا يا مولاي.
هملت : ألا يوجد في مكان من اﻟ «دانمرك» مجرم ما لم يكنْ خَدَّاعًا غُدَرًا؟
هوراشيو : لا حاجةَ إلى طيف ليَجِيئنا بهذا النبأ يا مولاي.
هملت : صدقت. صدقت. وإذن أستصوب بلا تفصيل، ولا تَطْويل، أَنْ نتصافَح ونتفارق، أنتما تذهبان إلى شؤونكما، ولكل شؤون. وأنا أغدو للنظر في حسابي، ويا لهُ من حسابِ أليم. لا تعجب، سَأَمْضِي وأُصلِّي.
هوراشيو : هذه كلمات دُوارٍ، وتَشَتُّتِ بال.
هملت : يسوؤني أنَّهَا لم تُرضِكما، يسوؤني جدًّا.
هوراشيو : ليس فيها ما يسُوء يا مولاي.
هملت : بلى، وأحلف بالقديس «بطرس». يوجد ما يسوء، ويحوز كلَّ مساءَة. أمَّا ذلك الطيف فهو طيفٌ أمين، بإذنكما أقول هذا، وأمَّا رغبتكما في معرفة ما جرى بيننا، فارغبا عنها إلى شيء سواها. والآن يا رفيقيَّ في السلاح، وفي الدرس، وصديقيَّ، لى عندكما رجاء. أَيُحَقَّقُ؟!
هوراشيو : أيًّا يكن فإنا إليه لمجيبان.
هملت : لا تذيعا ما حييتما خَبَر هذه الرؤية.
مرسلس وهوراشيو : لن نذيعه يا مولانا.
هملت : حسن، ولكن احلفا.
هوراشيو : وأيماني لن أبوح به يا مولاي.
مرسلس : ولا أنا يا مولاي آلَيتُ بِذِمَّتي.
هملت : أقسما على سيفي.
مرسلس : لقد أقسمنا يا مولاي.
هملت : ولا بأس أن تحلفا على سيفي، لا بأس.
الطيف (من تحت الأرض) : أقسما.
هملت : آها. آها. يا والدي نحن على رأي واحد، أأنت على مقْرُبَةٍ منا أَيُّها البَضْعَةُ الصالحة؟ سمعتما ذلك الرفيق يصرخُ من هناك في عمق الأرض، فأقسِما.
هوراشيو : قل صيغة القسم يا مولاي.
هملت : لا تَنْبِسَا قَطُّ بكلمةٍ فيما رأيتماه هنا، احلفا على سيفي.
الطيف (تحت الأرض) : أقسما.
هملت : كذا كذا. لِنُغَيِّر مكاننا، تعاليا وضعا يَدَيْكُما على سيفي هاهنا. احلفا بسيفي إنكما لن تفوها بلفظةٍ عما سمعتماه.
الطيف (تحت الأرض) : أقسما.
هملت : أحسنتُ أيُّها الْخُفَّاشُ القديمُ، أَتَسْتطيعُ الْجَوَازَ بِهَذه السُّرعَةِ في باطن الأرض؟ نعم المُعدِّن أنت، هلم بنا إلى مكان آخر أيُّها الصديقان.
هوراشيو : آليتُ بالليل والنهار إِنه لعجب عجاب!
هملت : يوجد يا «هوراشيو» في السماء والأرض أَكثرُ مما يصل إِليه عِلمُ أُولي العلم. أقبلا، واحلفا إنكما لا تذكران هذه الليلة بشيء، وإن ترياني غَيَّرْتُ من أزيائي أو بَدَّلْت من عاداتي، أو أَغْربْتُ في أَقْوالي، أو أَفْعَالي. لن تُبْدِيَا ما يشعر بأنكُمَا فاهِمَانِ لذلك سرًّا، أو مُدْرِكانِ في الْخَفَاءِ أمرًا، ولتكن رحمة الله عونًا لكما.
الطيف (تحت الأرض) : أقسما.
هملت : سكونًا. سكونًا أيتهَا النفسُ المقلقة (يحلفان). على هذا أَيها السيدان إنني أستشفع إليكما بكل ما أَعْتَدُّهُ من المودة لديكما، ومهما يستطيع رجلُ مِسْكِينُ ﮐ «هملت» — ليثبتَ لكما بعد ذلك معرفته للجميل — فَلَنْ يخْطِئَكُما شكرُهُ بإذن الله. لننصرف جميعًا، ولكن أبدًا أصابعنَا على شفاهنا هكذا، أَرجو ذلك منكما، إن الزمن لفي اعتلالٍ واختلال. ومن نَكَدِ طالِعِي أن أكونَ أنا المنوط به علاجُهُ، والعَوْدُ به إلى النظام، هيا بنا. (يخرجون).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤