الفصل الثاني

المشهد الأول

الملك (مخاطبًا «بولونيوس») : ائذن بادِئَ ذي بَدْءٍ للسفيرين العائدين من «النرويج» وتولَّ بنفسك إِكْرَامَهُمَا. (يخرج «بولونيوس») يقول لي يا حبيبتي «جرترود»إِنَّهُ عَرَفَ السرَّ فيما جرى لابننا «هملت».
الملكة : أنا لا أكادُ أَرتاب في أن سبَبَ اعتلالِهِ موتُ أَبيه واقتراننَا على الأثر.
الملك : سنستطلع طِلْعَه (يدخل «بولونيوس» وبصحبته «فولتيمان» و«كورنيليوس») … مرحبًا بكما أيها الصديقان. أخبرني يا «فولتيمان»، ما أَنْبَاءُ أخِينَا النرويجي؟
فولتيمان : يهدي إليك التحيات ويُخْلِصُ لك الدعوات، ثم إِنه لم يكدْ يعلم بما قَدِمْنَا من أجله حتى أَمر ابنَ أخيهِ بالكفِّ عن ذلك التَّأَهُّبِ الذي كان موجهًا إِلينا، فيما ثَبَتَ لديه، ثم وَبَّخَهُ على ما فَرَطَ منه، واستحلفه ألا يعود إلى شهر سلاحه على جلالتك، فلما امتثل رضي عنه، وأجرى عليه رَاتِبًا سنويًّا يبلغ ثلاث آلاف دوقي، على سبيل العِوَضِ عن أَملاكه، وأَذِنَهُ أَن يُسيِّر جيشه، الذي عُبِّئ لمقاتلة البولونيين. وهذا التماس (يدفع إليه قرطاسًا) من «فورتنبراس» في التماس الإذن بإمرار جيشِهِ في هذا البَلَدِ على الشرائط التي تَفْضِي جلالتُكَ بها تَأمِينًا وتَضْمِينًا.
الملك : هذا يوافقُ مصلحتنا، وسنقرأ هذا الكتاب، ونُبْدِي فيه الرأْي، وإنا لَنَشْكُرُ لكما أَيُّها السفيران ما أَحْسَنْتُما من الخِدْمَة، وسندعوكما إلى وليمةٍ نشرَبُ فيها نخبَكُمَا.

(يخرج «فولتيمان» و«كورنيليوس».)

بولونيوس : هذه مسألةٌ حَسُنَ خِتَامُهَا.
الملك : بقيت الثانية.
بولونيوس : مسألة «هملت» وعندي سرُّها.
الملك : دع كلامك إلى النهاية. وأَنتما أيُّها الصديقان «روزنكرنس» و«جليد تشترن» ماذا تبينتما من أمر «هملت»؟ لعله أَفْضَى إليكما بسره على أَنَّكُمَا صديقاهُ الحميمان، منذ أَيَّام الدراسة الأولى.
روزنكرنس : حاولنا أَنْ نستدرجَهُ إلى ذِكر شيء فلم يَذْكُر شيئًا. ولم يَبْدُ منه ما يُطْمِعُنا في استبطانِ ما عنده ولو بَعدَ حين.
الملكة : أَأَحْسَن لِقَاءَكُما؟
جليد تشترن : أَحْسَن لِقاء.
الملكة : أَدعوتُماه إلى مُفْتَرَج، وَتَنْزيه خَاطِر.
روزنكرنس : اتفق يا مولاتي أننَا وجدْنَا في طريقنا فِرْقَةً من الممثلين فاسْتَصْحَبْنَاهَا على رجاءِ أن تكون له بها تَسْلِيَةٌ، وقد نمى إلينا أَنها ستمثل بين يَدَيْه الليلة شيئًا مما يحب.
بولونيوس : أجل، وقد سألني «هملت» أن أدعوكما لحضور ذلك التمثيل الليلة.
الملك : سأحضره منشرحَ الصدر، ويُثلجُ صدري أن أعلم رغبته في مثل هذه الملاهي وانصرافَهُ إليها، فَزِيدَاهُ شغفًا بها، أوْ بما يشاكلها من المَسَرَّات.
روزنكرنس : هكذا سنفعل يا مولاي.

(يخرج «روزنكرنس» و«جليد تشترن».)

الملك : وما السر الذي تقوله عندك؟
بولونيوس : إن «هملت» يحب ابنتي «أوفيليا»، وهي فتاة جَمَعَتْ إلى جمالها الباهر طَهَارَة القلب أيضًا، فكاشفتني بما يُسِرُّه إليها من حبه؛ ولأنني والدٌ حريص على الكرامة والعِرض نهيتُها عن الاسترسال معه في شأن لا نَتِيجة له؛ لأن «هملت» أعْلَى مَقامًا وأَسْنى منزلة، في أن تكون له أهلًا، فَأَبدت له شيئًا من الإعراض. وإليكما هذه الكلمات المكتوبة التي أَتْحفَهَا بها شِعرًا ونثرًا: «ارتابي في أن النجوم من نار … ارتابي في أن الشمس تدور. ارتابي في أن الحقيقةَ تلابِسُ أَحْيَانًا الكذب، ولكن لا ترتابي أَبَدَ الدهر في حبي. أنا لا أحسن التقييد بالشعرِ وأَعاريضه وتعدادِ أهجيته، ولكن ثقي بأنني أهواكِ هوى يملأ جوارحي، ثقي — ولك الله — بأنني أسير غرامك أيتها السيدة العزيزة ما دام هذا الجسم الفاني في تصرفه». أفبعد هذه الرقعة ريب في أن جنونه من شغفه بها؟
الملكة : جائز ما تقول.
الملك : ولكن كيف تستطيع التحققَ من ذلك؟
بولونيوس : قد توقَّعْتُ أن ترتابا ولو قليلًا في الأمر، فلهذا أحضرت ابنتي. وهي الآن غير بعيدةٍ عنا، حتى إذا رغبتما في شهادَةِ السمع والنظرِ أخرجتها له حين يمر بهذا الرِّواق كعادته في مثل هذه السَّاعَةِ، ومتى وقفتما من خفاءٍ على ما يدور بينهما انتفى كل شك.
الملك : لِنجربْ هذا. أجد «هملت» قادمًا وبيده كتاب ويقرأ. اذهب يا «بولونيوس» فَأَرْسِل فتاتكَ، ولْنَتَوارَ نحن هنيهة يا مليكتي.

(يخرجون جميعًا ويدخل«هملت».)

هملت : ويحي من هُزْأَةٍ بليد، أليس عجيبًا أن ذلك الممثلَ الذي كنت أختبره منذ هنيهةٍ يستطيع على كونه إنما يُصَوِّرُ حادثًا مكذوبًا، ويُهيِّئُ إحساسًا ليس من الحقيقة في شيء، أن يصنَعَ وجهه، ويُشَكِّلِ حركاته، على النحو الذي يوحيه إليه خاطرهُ، فهو يمتقعُ حزنًا، ويستدِرُ جفْنيه دمعًا، ويظهر التَّدلُّةَ ويجهَشُ بصوته في التِّوَلُّه، ويطابِقُ بمهارته بين صُورَتهِ، وتَصَوُّرِهِ، وكل ذلك لغير ما طائلٍ يحلي به كل ذلك في سبيل حسناء لم يرَها ولم يعرفها، فما الذي كان يفعله لو كان مكاني؟ إذن لأَغْرَقَ مسرحَه بعبراته، وصدَّعَ آذان الجمهور بكلماته الرهيبة، وَأجَنَّ المذنب، وَأذْعَرَ البريء، وأذْهَلَ الجاهل، بل لأصمَّ السمع، وسدَرَ البصر، أما أنا وتبًّا لي من أثيم وضيع، وشجاع دَعيٍّ، فغايةُ ما دافعت به عن أبٍ حبيب، وملكٍ عزيز، نُكِبَ أَشدَّ النَّكباتِ: هو أنني أهْذِي هَذَيَانَ الحالم، مع أن شاغل الانتقام مالئٌ نفسي، أجبانٌ أنا؟ من ذا الذي أسمعه يسخَرُ مني؟ ويقول لي: يا ضُحْكَة. من ذا الذي اعترضني الآن في الطريق؟ فَنَتَفَ لِحْيَتي، ونَفَخها في وجهي، من ذا الذي جَذَبَني من أَنْفي؟ من ذا الذي كذبني فردَّ أَقوالي في حَلقي حتى أعادَهَا إلى صميم رِئتي؟ من ذا الذي فعل بي هذا؟ إِني أذن لذو كبد لا تَزِيدَ شيئًا عن كبدِ فرخ من الحمام، فليت لي مرارةً ولا يَضِيمُني ظُلم الظالمين، ولولا ذلك لا شَبِعَتْ منذ حين جوارح الطير من لحم ذلك الوغدِ الخبيث، لك الويلُ كلُّ الويل، من مجرم دَامِي الأَظَافر، ومن فاسقٍ فاسدٍ، ومن خائن مَيِّتِ الضمير، أَيُّ صبور أنا؟! أكذا إقدامُ الولد الذي قُتِل أبوه فاسْتَصرَخَهُ لأخذ الثأر، واستفزَّهُ بعوامل السماء وَجَهَنَم؟! أَفَبي حاجةٌ كحاجة البَغِيِّ المومِس، أو الأجيرةِ القعيدةِ في المطبخ إلى تبديد ما في قلبي من الحقد بالألفاظ والثَّرْثَرات؟! حَراكًا يا دماغي، حَراكًا، أمامًا يا عَزْمي أمامًا، رويدي هنيهة، قد سمعت أَن أناسًا من مرتكبي الجرائر، ومقترفي الجرائم، شهدوا تمثيل وقائع شبيهة بجرائمهم، وجرائرهم، فَأَخَذَتْهُم رَهْبةُ المقام، وفاجأتهم هِبّةُ الضمير، فَأَقروا بما ارتكبوا واقترفوا، وذلك لأن جِنايَةَ القتل على كونها ليست بذات لسان، لا تعدَمُ أداةً عجيبة للإفصاح عن سرها، والدَّلالَةِ على نفسها، ولهذه العلة قد هيأت للممثلين الذين ستشهدهم الآن، جريمة خيالية من نوع الحادثة التي اغتال بها عمي أبي. ومتى مَثلتْ لأَرْقُبَنَّه وأسبُرنَّ غورهُ، فإذا اضطرب فقد تبينت ما عليَّ، وسلكتُ سبيلي، قد يكون الروح الذي رأَيته شيطانًا، وللشيطان أن يبدوَ في كل شيءٍ يختارُهُ، فَأَخشى أن يكونَ قد حاول خديعتي من أجْل ضعفي، واستمرارِ كآبتي وإنَّ أصحابَ الأمزجةِ المجانسة لِمزَاجِي، لَأشَدُّ تَأثرًا بإغراءِ الشيطان، فلا بدَّ لي من الأدِلَّةِ الجليَّة، النَّافِيَةِ لكل ريب، وما تلك الروايةُ إلَّا المرآة الصادقة التي سأستجلي بها سَرِيرةَ المَلِك.

(يخرج «هملت» وتدخل «أوفيليا» و«بولونيوس».)

بولونيوس : تمشَّيْ هاهنا يا «أوفيليا»، وأنتَ يا مولاي، وأنتِ يا مولاتي. مكانكُمَا هاهنا. ثم أنتِ يا بنيتي اجعلي هذا الكتاب في يدك كأنَّكِ تقْرئين، وعلى هذا النحو يكونُ الموقفُ أشوق، أَجِدْهُ عائدًا، لِنَتَوارَ يا مولاي.

(يخرج «بولونيوس» و«الملك» و«الملكة».)

هملت : أكون أو لا أكون؟ تلك هي المسألة، أيُّ الحالتين أمْثَلُ بالنفس؟ أتَحَمُّلُ الرجم بالمقاليع وتَلَّقي سهام الحظِ الأنكد، أم النهوضُ لمكافحةِ المصائب ولو كانت بحرًا عجاجًا وبعد جهد الصراع إقامةُ حدٍّ دونها، الموت، نوم، ثم لا شيء. نوم نستقر به من آلام القلب، وآلاف الخطوب التي وَكَلَتْهَا الفِطْرَةُ بالأجسام، ونخشاهُ على أنه حقيق بأن نَرْجُوَه، الموتُ رقاد، رُقَادٌ وقد تكونُ به أحلام، آها هذه عقدةُ المسألة، إنما الخوفُ من تلك الأحلام التي قد تتخلل رقادَ الموت بعد النجاة من آفات الحياة، وهو الذي يَقِفْ دونه العزم، ثم هو الذي يَسُومُنَا عذاب العيش، وما أَطوَل مداه، إذ لولا هذا الخوفُ، لما صَبَرَ أَحَدٌ على المذَلَّاتِ، والمَشَقَّاتِ الرَّاهنة، ولا على بَغْي الباغي، ولا عَلَى تَطَاوُلِ الرجلِ المُتَكَبِّر، ولا على شَقَاءِ الحب المرذول، ولا على إِبطاءات العدل، ولا على سلاطَةِ السلطة، ووقاحة القدرة، ولا على الكوارث التي يُبتلى بها الْحَسَبُ الصحيح، والمجدُ الصريح، بفعل الْجَهَلةِ، وتهجم السَّفَلَةِ، وفي وُسع المرء أَن يترخصَ في الابتعاد، فيسلمَ من كل هذه الرزايا بطعنةٍ واحدة؟ من خِنْجَرٍ في يده. من الذي كان يرضى بالبقاءِ رازِحًا تحت الحِمْلِ دائمَ الأَنينِ، مستنزِفًا ماءَ الجبهة من الإعياء؟ لولا أنه يتقي أَمرًا ورَاءَ الحياة، البلد المَجْهَل الذي لم يستكشفه باحث، ولم تَتَخَط تُخُومَه قدمُ سائح، يحدونا أن نُؤْثِرَ الصعب بين أَهلنا، على السهل بين قوم لا نعْرفُهم. من ثَمَّ قَوِيَ الضميرُ، وجعلنا كلَّنا جبناء، من ثَمَّ تحولَ الزَّهْو في لونِ العزيمة إِلَى شحوبٍ بفعل التفكير، من ثم صْودِم التصميمُ على كل أَمْرٍ عظيم، فانحرَفَ عن طريقه، ثم بَطُلَ ولم يجدُرْ باسم العمل، مهلًا. مهلًا. الآن. هذه «أوفيليا» الجميلة. يا ابنة الماء، لعلك تذكرينني في أَدْعِيَتِك فَتُمحي خَطَاَيَاي.
أوفيليا : يا مولاي الكريم، لعلَّ سموك بخير بعد الغيابِ أَيَّامًا.
هملت : لكِ الحمد بكل اتضاع. إني بخير. بخير.
أوفيليا : مولاي، لدي منك هدايا أرغب منذ زمنٍ في ردها إليك.
هملت : لا، ليست مني. لم أُعْطِكِ شيئًا قط.
أوفيليا : بل هي منك يا مولاي المعظم ولا ريب في أَنك تتذكرها، وتتذكر الكلمات الطيبات التي أرفَقْتها بها، فكانت منها بِمنزلةِ نَفَحَاتِ العطر، أَما الآن فقد زال عبيرُها، فاسْتَعِدْها. إن العطية مهما تكن غاليةً، تَفْقِدُ نفاسَتَها، وتُبْخَسُ قيمتُها مَتَى ساءت إشارة المعطي، دُونَكهَا. أي مولاي.
هملت : آها. آها. أأنتِ عفيفة؟
أوفيليا : مولاي.
هملت : أأنتِ جميلة؟
أوفيليا : ما تعني يا مولاي؟
هملت : إن كنتِ عفيفةً وجميلة، فحذارِ أَنْ يكون لعفافك أَدْنَى اتصالٍ بجمالك.
أوفيليا : ولكن يا مولاي أَيكون للجمال رفيقٌ أفضل من العفاف؟
هملت : هذا حق، ولكنه يَتَسَنَّى للجمال أن يحول العفةَ إلى قوَّادةٍ سافلة، أكثر مما يتسنى للعفه أن تُصَوِّرَ الجمال على مِثَالهَا. كأن ما تقولين من مغالطاتِ المتقدمين، أما الآن فالزمن على غيرِ ما تظنين، لقد أَحببتك قبلًا.
أوفيليا : أوهمتني ذلك فعلًا يا مولاي.
هملت : كان ينبغي أَلَّا تصدقيني، إن الأرُومَةَ التي نحن منها، وإن لُقِّحَتْ بالفَضِيلَةِ، لم تُفَارِقْهَا طبيعتُها الأصْليِة. لستُ لكِ محبًّا.
أوفيليا : لقد زدتَني خيبَةَ أَمل.
هملت : اذهبي إلى دير، علام تريدين أن تكوني والدةً، ومرضِعًا لخاطئين؟ أَنا على شيء مِنَ الاستقامة، ومع هذا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَذكر لكِ عن نفسي أشياءَ كانَ خيرًا معها أَلَّا تَلِدَني أُمي، تكاد الذنوبُ التي تحفُّ بي تكون أكثرَ عددًا مما عندي من الخواطر لإيوائها. ومن التصوُّر لتصويرها ومن الوقت لارتكابها. ما لأمثالي وللتَّجِرُّرِ طويلًا بين السماء والأَرض؟ نحن جميعًا مجرمون سفلة فلا تصدقي أحدًا منا، سِيري سيرَكِ دِرَاكًا إلى دير، أين أبوكِ؟
أوفيليا : في البيت.
هملت : لنقفلْ عليه الأَبواب حتى لا يُمَثِّلَ دورَ الأَحمقِ في خارج بيته. أستودعكِ الله.
أوفيليا : يا أَيَّتُها القوَى العلويةُ امنحيه الشفاء، لَهْفي على ذلك العقلِ الوطيد أَنْ يَتَهَدَّم هكذا، أَسفي على ذلك الفتى الذي كان رفيقًا شجاعًا وعالمًا. وكان له اللحظُ، واللسانُ، والسيف، وكان رجاءَ المملكة، وزهرةَ هذا البلدِ الجميل، ومرآة الأزياءِ الشائقة، وتِمْثَالَ الحسنِ في الشباب، ومرمُوق المرموقين. أَسفي عليه أن يصيرَ إلى هذا التلف، إني لأتعسُ النساء حظًّا، وأَكبَرُهُن مصابًا، بالأمس أسمع أقواله العِذاب فأرتوي منها شهدًا، واليوم أجد ذلك الذكاء العالي يتبدَّدُ في أَلْفَاظٍ مُخْتلة، كأصوات الأجراسِ التي وصمت، فتنكرت أصواتها بعد الشجْو، والطرب. آهًا على تلك الملامح التي لا تُضَارع، وذلك الشباب النضير الذي تَتَصَعَّدُ منه الآن هذه الزَّفرات، يا ويلتي، وا حرَّ قلباه! أين ما رأيت مما أرى؟

(يدخل «الملك» و«بولونيوس».)

الملك : لئن كان ذا غَرَام فليس ما سمعناهُ بغرام، خير لي أَن أُرسله إلى «إنجلترا» عسى أَن يُفيدَه تبديلُ الهواءِ. أَمَا هذا رَأيك؟
بولونيوس : سينفعه ذلك، قد سمعنا يا «أوفيليا» كلَّ ما دارَ من الحديث، مولاي … أَلَا ترى أَن نُشيرَ على الملكة باستدعائِهِ إلى غُرْفَتها بعدَ التمثيل، وتَبْذُلَ جُهْدَها في اسْتِشفافِ ما به؟ وإنْ حسُنَ لدى جلالتك، وَقَفْتُ أَنا من تلك الخَلْوَةِ، بحيث أسمعُ كلَّ ما يقال، ولا يُشْعَرُ بي، فإن لم يبُح لها بسره، فالخيرُ كلُّ الخير في سفره إلى «إنجلترا»، إلى حيث تشاء.
الملك : سنفعل ما أشرتَ به. لا ينبغي أنْ يُتْرَكَ جنونُ العُظماءِ بلا رقابةٍ ولا رُقَباء.

(يخرجون.)

المشهد الثاني

ردهة القصر نفسها

(«هملت» و«هوراشيو».)

هملت : مَن الداخل؟ هوراشيو؟
هوراشيو : خادمُك الأمين يا مولاي.
هملت : أي «هوراشيو» إِنكَ للصَّديقُ الفذُّ الذي رَأَيْتُهُ في الناس منذ اخْتَبَرْتُ الناس.
هوراشيو : واها مولاي العزيز.
هملت : لا تظن أنِّي أُداجيك، أوْ أُحابيك، أو أيُّ شيءٍ أرجوه منك لكنك على رِقَّةِ حالك تَأبَى الذل، ولا تَعْرِفُ المَلَق، وكل ما تجيء به الحياةُ خيرًا كان أم شرًّا، تلقاهُ بصدر رَحْب، لكن دعنا من الإطالةِ في هذا الشأن، ولنتكلم في شأن ذي بال، الملك سيحضُرُ الآن الرِّوَايَةَ التي دعوتُهُ إلَيْها. وقد دسَسْتُ فيها ما جَعَل أحَدَ فُصُولِهَا مُطَابقًا من كلِّ الوجوه لما جَرَى حين مَقْتَلِ والدي، فأرجو منك أنْ تَرْقُبَ عمي، مُعْمِلًا جميعَ قُوَى ذهنك لتتبيَّنَ أمجرمٌ هو؟ أمْ أنا مخدوع برؤية طَيْفٍ جَهَنَّمِي؟ وتاللهِ لأرقُبنَّهُ معك بِأَقْصى تَنَبُّهي، ثم نَجْتَمِعُ خَالِيَين ونَقْضِي بِمَا نَرَى.
هوراشيو : عليَّ الضمانُ أن أخْتلِسَ من مُلَاحَظَتي كُلَّ حركةٍ من حَرَكَاته.
هملت : ها هم، يجب أن أكون غير مكترث، خذ لك مجلسًا.

(سلام اﻟ «دانمرك» … موسيقى. الملك. الملكة. و«بولونيوس». و«أوفيليا». و«روزنكرنس». و«جليد تشترن».)

الملك : كيف ابن أخينا «هملت»
هملت : في أحسن حال. أعيشُ من فُضُول الحِرباء. يَقُوتُنِي الهواء. وتُسمِّنُني المواعيد (مخاطبًا الآخرين) هل الممثلونَ على أُهْبَة؟
روزنكرنس : إنما ينتظرون أمر مولاي.
الملكة : اجلس بقربي يا حبيبي «هملت».
هملت : يا أُمي الرؤوم هاهنا مِغْنَاطيسٌ أقْوى.
بولونيوس (للملك) : أتلْمَحُ يا مولاي؟
هملت (وهو يجثم لدى أقدام «أوفيليا») : أأجْعَلُ رأسي على ركبتيكِ يا سيدتي.
أوفيليا : أجدك مسرورًا يا سيدي.
هملت : لمَ لا؟ ألست الضُّحْكَةَ الضُّحْكَةَ. وهل يجدي المرءَ شيء كأَن يكونَ مُغْتبطًا؟ انظري إلى والدتي، أليسَت فَرِحَةً ومع ذلك لم يَمُتْ أَبِي إلَّا منذ ساعتين.
أوفيليا : بل منذ شهرين يا مولاي.
هملت : ما أَطولَ هذا الزَّمَن. أمنذُ شهرين ولم يُنس بعد، إذن يُرجَى أن تبقى ذكرى الرجل العظيم أكْثَر من نصف سنةٍ في هذه الدنيا. (تُقرع الطبول، ويدخل إلى المسرح الداخلي ملك وملكة متعاشقان يتعانقان، ثم تجثو هي على قدميه مقسمة على صدق هواها، فيرفعها ويلقي رأسه على كتفها، ثم يستلقي على نشز من الأرض مغطى بالأزهار، فيغفو، وتنصرف هي، فيطلع رجل آخر فينزع تاج الملك ثم يفرغ قارورة سم في أذن الملك ويتوارى. بعد ذلك تعود الملكة وتجد الملك ميتًا فتُقَبِّله وتُبدي الحزن الشديد، وإنها لكذلك إذ يجيء صاحب السم، ومعه صاحبان صامتان ويشرع يبكي معها مراءاة، وفي هذه الخلال تُنقل الجثة ويأخذ صاحب السم بتقديم هدايا إلى الملكة، فتتظاهر برفضها أولًا ثم تقبلها (ويخرج الممثلون)).
أوفيليا : ما معنى هذا يا مولاي؟
هملت : هذا مكمن الْخُبْث. هذا هو الإجْرام.
أوفيليا : لا جَرَمَ أَنْ يدل هذا المنظرُ الصامتُ على غَرَضِ الرِّوَاية.

(يدخل ممثل هو مقدم الرواية.)

هملت : ستريْن ما وراءه إِن الممثلين لكاشفون للأسرار، هتَّاكونَ للأسرار. افعلوا أنتم بلا خجل ما تريدون، وهم يهيِّئونه لكم، ولا يبخلون بتأويله.
أوفيليا : إنك لبذل اللسان، دعني أَسمع الرواية.
مقدم الرواية : نجثو لدى حلمكم بخضوعٍ، ونلتمس لنا ولمأساتنا تَكَرُّمًا من لدنكم، وصبرًا جميلًا.
أوفيليا : هذه مقدمةٌ لم تكن طويلة.
هملت : وكذاك حُبُّ النساء.

(يدخل ملك الرواية وملكتها.)

ملك الرواية : ثلاثونَ دورةً دارتها الشمس حول المحيط، وتجلت الأقمارُ الاثنا عشر في كل منها، ثم انقضت بِأَعوامها، وشهورها، وأيامها، وما زال قَلْبَانا مرتبطين بالحب. وخِنْصَرَانا معقودين بالزواج، كأَن الساعة الأخيرة منها هي الساعة الأولى.
ملكة الرواية : ليت الشمس والقمر يعودان علينا عِدَادَ السنينَ التي مضت، ولما ينقضِ هذا الحبُّ الذي يجمعُ قلبينا، غير أنني تَاعِسَةُ الحظ للعلة التي دهمتك منذ حين. وهي علة ما زِلْتُ أرجو شفاءَها، وإنما تكبر الخشيةُ حيث يكبر الغرام.
ملك الرواية : جدير بي يا حبيبتي أن أستودعك الله؛ لأَن قُوَاي الحيوية تنحلُّ، وعما قليل تعيشين بعدي مكرَّمةً، عزيزة. وقد تكونينَ بين ذراعي بعلٍ آخر.
ملكة الرواية : … لا تزد … معاذَ اللهِ، إني إذَنْ لغَادرَةٌ خؤون، بعل سواك! لم تَتزوَّج أُنثى بثانٍ إلَّا وقد قَتَلتِ الأول.
هملت (لنفسه) : هذه لوالدتي جُرْعَةٌ من الصبر.
ملك الرواية : أَنتِ لا شكَّ صادِقةٌ ولكن قد يحدُثُ ما يدعو إلى المُخالفة، ليستِ النِّيَّةُ التي تنوينها سِوَى أسيرة مرتَهِنةٍ بذاكرتنا، فَإذا وُلدَتْ غيرَ ناضجةٍ فلن تَطْل سلامتُها. الثمرة الفِجَّةُ تمسك بالشجرة اليوم، ولكن تَسْقُطُ ولما تُهْزَزْ متى نَضِجَتْ، المرء ينسى أو يَتَنَاسَى دوامًا أن يُوَفِّي الديْنَ الذي هو مدين به لنفسه، الشهوةُ تبعثُ العزيمةَ فإذا زالت الشهوة دَالَت العزيمة، اللذة والألم في شدتهما يتنافيان، وحيث تَنْبَسِطُ اللذةُ ينقبض الألم، ليس هذا العالم بِسَرْمَد، فلا غروَ أن ينقضِي فيه غرامُ الإنسان مع انْقِضَاء سعده. أفكارُنَا ملكُنا، ولكنَّ تصريفَها في يدِ الحوادث، وظنَّكِ أنكِ لا تتَّخِذِين قرينًا ثانيًا قد يموت متى مات قرينك الأول.
ملكة الرواية : إذن لا أظلَّتْنِي السماء ولا أقلَّتْني الأرض، ولا كانَ لي سرورٌ، ولا راحةٌ في الليل والنهار، وليتحول أملي وإيماني إلى يأس، ولأجعل قَعيدَةَ سجنٍ، ومحظيَّةَ رجل خلي بقية أيامي، ولتظفر الخطوب التي يعبس بها وجه الأرض بِأَعز آمالي، وأمانيِّ، فتقوِّضُها تَقْويضًا، وليصحبني أَشَدُّ العذاب في الدُّنيا والآخرة إن أصْبَحْتُ أَيِّمًا فتزوجت.
هملت (مخاطبًا «أوفيليا») : ما قولك بعد هذا لو حنِثَتْ؟
ملك الرواية : هذه أقسام محرجةٌ أيتها الحبيبة الرقيقة، دعيني وحدي قليلًا أُرِحْ جُفُوني وأُسَكِّن هواجِسِي بغِرارٍ من النوم.

(ينام.)

ملكة الرواية : نَعِمَ بالُك ولا انْدَسَّ الشقَاءُ بيننا.

(تخرج.)

هملت : أتُعجبك هذه القصةُ يا مولاتي؟
الملكة : الملكة تُغَالي في أيمانها.
هملت : أَجلْ، ولكنها لن تحنَث.
الملك : أتعرف موضوعَ الرواية؟
هملت : لا. لا سوى أنهم يضحكون. يقتلون للإضحاك وما في الرواية من شيءٍ جارح.
الملك : ما اسمها؟
هملت : اسمها «المصيدة» سُميت بها استعارة، وواقعتُها أَن دوقًا يُدعى «جنزاجو» وامرأة له تدعى «باتستا» … سترون أَحطَّ ما يستطيعه الكيدُ والإجرام، سترون. (يدخل «لوسيانوس») هذا ابن أخٍ للملك يقال له: «لوسيانوس». (بمسمع من «أوفيليا») أبدًا أيها القاتل، دعِ تلك الإشارات البغيضة، واشرع في الاغتيال، دونكه. الغراب يَنْعَقُ في طَلَبِ الثَّأر.
لوسيانوس : فكر مُدلَهِمٌّ، ذراع متأهبة. شراب مهيأ، فرصة سانحة، حالة مواتية. لا عين تنظر، أيها المزيج الفعَّال من أَعشاب برية، قُطِعَتْ في انتصاف الليل، واستزيد أَذاها ثلاثَ مرات بِدَعَوَاتِ ربَّة السحر، انْفُذْ عاجلًا في هذه العَافِيَة فأَزِلْهَا، وتولَّ سريعًا هذه الحياةَ فَأَبدْها.

(يُفَرِّغ سمًّا في أذن الملك النائم.)

هملت : يَسُمُّه في الحديقة لِيَغْصِبَ أَملاكه، أما حكاية «جنزاجو» فهي حكاية حالٍ مكتوبة بالإيطالية، ومُحبَّرَةٌ تحبيرًا. ستروْن عما قليل كيف يستميل المغتالُ قلب امرأة «جنزاجو».
أوفيليا : نهض الملك.
هملت : عجبًا! أَخَافَ من نار الحُبَاحِب؟
الملكة : ما خطبُك يا مولاي؟
بولونيوس : حسب ما فات من هذه الرواية.
الملك : أَنيروا سبيلي.
بولونيوس : الأنوار. الأنوار.

(يخرجون إلا «هملت» و«هوراشيو».)

هملت : أي صديقي «هوراشيو» الآن أُخاطِرُك على ألف دينار استرليني أن الطيف قد صدق.
هوراشيو : أجل. أجل يا مولاي.
هملت : ألمَحْتَهُ حين مُثِّلَت واقِعَة السُّم؟
هوراشيو : تفرَّسْتُ فيه.
هملت : موسيقى، أسمعونا شيئًا من الموسيقى.

(يدخل «روزنكرنس» و«جيلد تشترن».)

جيلد تشترن : مولاي الجواد ألتمس الإذنَ بكلمة أقُولُها.
هملت : قُلْ تاريخًا مسهبًا يا سيد.
جيلد تشترن : الملك يا سيدي.
هملت : نعم يا سيدي. ما أنباؤه؟
جيلد تشترن : دخل مسْكنهُ منزعجًا للغاية.
هملت : من الإفراط في الشراب.
جيلد تشترن : بل من الغضبِ.
هملت : كان أَدْنَى إلى الحزمِ أَنْ تُسرِعَ بهذا الخبر إلى الطبيب، أمَّا أنا فلو كلفت حملَ المسهلِ إليه لازدادت عليهِ العِلَّة.
جيلد تشترن : الملكة. والدتك في غمِّ شديدٍ، وقد أرسلتني إليك.
هملت : آنستني.
جيلد تشترن : مولاي، دع السخرية مني وَأَجبني إجابةً سليمة.
هملت : لا أستطيعها يا سيدي.
جيلد تشترن : ماذا يا سيدي؟
هملت : أن أعطيك جوابًا صحيحًا. إن عقلي مريض. ماذا تريد أمِّي؟
روزنكرنس : هي محزونة جدًّا، وتريد أن تزورها في غرفتها قبل انصرافِكَ للرُّقاد.
هملت : سنطيعُ أمرها ولو كانت أُمَّنا عشْرَ مرات. أعندك شيء آخر تخاطبنا فيه؟
روزنكرنس : مولاي، كانت لي منزلة من الْحُظْوَةِ لديك.
هملت : ثم لم تَزلْ، أقْسَمْتُ بهذه الغاصِبَةِ وهذه السَّالِبَةِ.

(يشير إلى يمناه ويسراه.)

روزنكرنس : فما السبب في اضطرابك يا مولاي؟
هملت : لماذا تحومُ حواليَّ، وتتأثرُ أَثَري، كأنك تنصِبُ لي فخًّا وَأَحْكَمُ القولِ: ألا تَجَسَّسُوا.
جيلد تشترن : آها مولاي، إذا كان ما يقتضيني واجبي يُجَرِّئُني عليك، فحبي لك معوانٌ لذلك الواجب.
هملت : لم أفهم هذا المعنى الدقيق، أَتَنْفُخُ في المِزمار؟
جيلد تشترن : لا أُحسِنُ يا مولاي.
هملت : أَبتهل إليك.
جيلد تشترن : صدقني يا مولاي، لا أُحسن.
هملت : اتضرَّع إليك.
جيلد تشترن : لا أعرف كيف أُخرِجُ منه صوتًا واحدًا.
هملت : هو سهلٌ كالكَذِب. اُسْدُدِ الثقوبَ بأصابعك، وانفُخْ بفمك. تَخْرُجْ أَنْغَامٌ شَجِيَّة، دونكَ هذه الثقوب.
جيلد تشترن : لكنني لا أَعرف كيف أُصَرِّفُ أَصَابِعِي، ولا كيف أُلَفِّقُ اللحن.
هملت : إذن فانظرِ الآن سوء ما أنت فاعل، تريد أَن تلعب بي ولا تعرفُ مأخذًا من مآخذي، أَتظن أنَّ اللعب بمثلي أَيسرُ منه بمثلِ ذلك المزمار؟ (يدخل «بولونيوس») بركات الله يا سيدي.
بولونيوس : الملكة تريد لقاءك الساعة.
هملت : أتبصر ذلك السَّحاب؟ ما أشْبَهَهُ بالجَمَل!
بولونيوس : كأنه جمل.
هملت : بل بالعِرْسَة.
بولونيوس : ظهره كظهرها.
هملت : بل بالحوت.
بولونيوس : هو كالحوت.
هملت : سأمضي إليها الساعة، هم يشدون الحبل إلى الجنون وحان أنْ ينقطع.
بولونيوس : سأبلغها ذلك (متفردًا) وسَأَحْضرُ من وراءِ حجاب حديثَهُ معها، فأعيده إلى الملك؛ إذ ربما أخفتِ الوالدة بعض أحوال ابنها.

(يخرج.)

هملت : سأمضي يا قلبُ لا تخرجْ عن إنسانيتك، سَأُخِيفُهَا، وأروعُها بذكر الخناجر، ولكن لن أَمسها، ولن أكونَ «نيرون»، حذارِ يَا نفسي!

(يخرج.)

المشهد الثالث

قسم آخر في القصر

(يدخل الملك، و«روزنكرنس»، و«جيلد تشترن».)

الملك (منفردًا) : قَتْل الأخ ما أشقهُ على النفس. أودُّ لو أصلي وأستغفر ربي لكنني لا أستطيع. غلب إثمي على رغبتي في التوبة، ألا توجدُ في رحمة السماء مياهٌ كافيةٌ لتطهرَ يدي مما عَلِقَ بها من دم أخي؟ ما معنى الرحمة إذا لم تملك الوقوف في وجه الحقيقة، فتردَّنَا عن الشر إن نوينا، وتُقِيلنَا منه إن عَثَرنا؟ … أي الأدْعِيَةِ يتقبله الله في مثل حالتي؟ أيعتد سبحانه بتوبتي وأنا مُصِرٌّ على جريرتي؟ محتفظٌ بتاجي وامرأتي، وهما سَلَبي من أخي؟ في هذا العالم الفاسد قد يُتقى العدلُ بزخْرُفِ القول، ويستخدمُ ما نُهبَ في الكَفَّارة عن ذنب الذي نهب، أمَّا بين يدي الله فلا تُجْدِي الحيلةُ ولا المُغَالطة، ولا يلقى الإنسان إِلا صريح عمله. ويلي من شقي … سأحاول أن أتوب، أيتها الملائكة أعينيني. يا ركبتيَّ العصيَّتَيْنِ، اجْثُوا لَيِّنَتَيْنِ أمام جلال الله، ويا قلبي المقدود من الفولاذ كن طَريًّا كقلب الطفل الوليد، عندئذ تستقيم الحال أو تؤذنُ بالصلاح (يجثو).
هملت : أراه هنا. ما أجْدَرَني بطعنه الآن، لكنه يصلي، أيرسل أبي إلى جهنم باغتياله إيَّاهُ لا مصليًا، ولا مستغفرًا، وأقتلُه أنا حين سجوده لديه، فأرسله إلى النعيم؟ لِأَذرهُ إلى حين أضربهُ فيه وهو مخمورٌ، منهمكٌ في الفسق والفجور (يقف الملك وينصرف، ولدى وقوفه يتوارى «هملت» وتدخل الملكة مع «بولونيوس»).
بولونيوس : هذا موعدُ مجيئه، ولا تدعي أن تُعَنِّفِيهِ على بَدَواتِهِ، وأن تُبْلغيه بأنه لولاكِ لحل به مكروهٌ شديدٌ من غضب الملك. سأتوارى هنا.
الملكة : لا تخف سأفعل ما تشير به. عَجِّل، فإني أسمعه قادمًا وسأفعل ما يجب.

(يدخل هملت.)

هملت : ما خطبك يا والدتي؟
الملكة : لشد ما أهنت أباك يا «هملت»
هملت : أي والدتي، لشدَّ ما أهنتِ أبي.
الملكة : ويك، أتجيبني بكلام فظ؟
هملت : ويكِ، أتسألينني بلسان خبيث؟
الملكة : يا للعجب! أتُدرك ما تفعل يا «هملت»؟
هملت : وماذا فعلت؟
الملكة : أنسيتَ من أنا؟
هملت : لا وربي إن أنتِ إلَّا الملكة … امرأة أخي زوجك وليت هذا لم يكن، ثم أنتِ أمي.
الملكة : إذن سأبعث إليك بمن يحسن مخاطبتك.
هملت : إياكِ أن تتحركي واجلسي في مكانك ريثما أريكِ خبايا نفسكِ بمرآة صادقة.
الملكة : ماذا تبتغي مني. أتريد قتلي؟ إليَّ إليَّ. أنقذوني!
بولونيوس (وراء الحجاب) : ماذا جرى؟ إلينا، المعونة!
هملت (يُخْرج سيفه) : ما هنا؟ أَجُرَذٌ من الجِرذان؟ (يضربه من وراء الحجاب) مات أراهن بدينار.
بولونيوس (من وراء الحجاب) : أوَّه قتلني (يسقط ميتًا).
الملكة : ويحي! ما صنعت؟
هملت : تالله لا أدري. أهو الملك؟ (يرفع الحجاب ويجر جسم «بولونيوس»).
الملكة : وا مصيبتاه لعملك الجنوني الفظيع.
هملت : يكاد بفظاعته يا والدتي يعادِل قتل الملك، والتزوُّج من أخيه.
الملكة : قتل الملك؟
هملت : أجل، هو ما قلت وما عنيت (يرفع الستار ويكشف «بولونيوس» ويخاطبه) وأنت أيها الأجيرُ الحقير، الثرثار الأبله، وداعًا وداعًا، ظننتك من هو خير منك، فخذ ما قُسم كما قُسم، وتبين — ولو بعد حين — أن الإفراط في الزُّلفى قد يجرُّ وبالًا. حسبك ما تبدين من الإشارات بذراعيك ويديك … عودي إلى السكون ثم اجلسي واسمعي، فلئن كان قلبك لم يتحجر، لأُفَطِّرَنَّه تَفْطيرًا.
الملكة : أي ذنب جنيت، فتقسو عليَّ بلسانك هذه القسوة؟
هملت : جنيت ذنبًا يُدنِّس الطهارة، ويُخضِّب بالحياءِ وجه العِفة، ذنبًا ينزَعُ الوردة من جبين الحب، ويضع مكانها قرْحة، ذنبًا يعيد عهود الزواج مكذوبَةً كأقسام المقامرين، ذنبًا يجعل العَقْدَ جسمًا بلا روح، ويجعل الدينَ لفظًا بلا معنى. انظري إلى السماء، وهذا الوجه المكفهر الذي تبدينه، كأنَّ الساعةَ ساعةُ النشور. إنها لمريضة من التفكير في ذلك الذنب.
الملكة : يا ويلتي، ما تلك الخطيئةُ المجاوزةُ لكل حد؟
هملت : حدقي في هذين الرسمين، وقابلي مَليًّا بينهما. أهذا البشعُ يشبَّهُ بذاك الجميل؟ أهذا الصعلوكُ يشبَّه بهذا المليك؟ لو كان البصر بلا سمع، والسمعُ بلا لمس واللمسُ بلا شم، بل لو لم يكن لنفسك إلا أدنى جزءٍ من الحسِّ، لما أجاز لكِ أن تُؤثري هذا الوغدَ الذميم، على ذاك السيد العظيم، ثم إنكِ لستِ في مقتَبَل الصبا، وليس لكِ عذرُ الغرام في شَرْخ الشباب، إن الدم لتخمُدُ حرارته في مثل سنِّك هذه، ويدع الكلمة العليا للعقل، ويحك أيها الخجل أين حمرتك؟ أي جهنم الثائرة، لا عجب بعد الآن أن تذوب الفضيلة ذوبانَ الشمع بنار الشباب، إذا كان في ثَلْج الكهولة من الضِّرام ما يفعل مثلَ فعلها، وإذا كان العقل يتوسط توسط القوَّادِ لحمل الإرادة على السِّفاح.
الملكة : آه يا «هملت» كفى. كفى لقد حوَّلت نظري إلى داخلة نفسي، فإذا أنا أرى مواضع سوداء لن ينصُلَ سوادُها أبد الآبدين.
هملت : وذاك لِتَظلي على فراش الفساد مُمتعةً بمسرات الخَنَا.
الملكة : كلماتك في أذني كطعنات الخناجر. حسبي. حسبي.
هملت : مجرم ذميم، وغد زَنِيم، ملك سخرية، سلَّاب تاج أخيه (يظهر الطيف) أنقذوني استروني بِأَجنحتكم أيها الحراسُ العُلْويون، ماذا يريد طيفكم الرحيم؟
الملكة : ويحي. هو مجنون.
هملت : أجئت لتأنيب نجلكَ على إبطائه في إنفاذ أمرك المطاع؟ تكلم.
الطيف : جئت لأذكرك ما نسيت، ثم لأقول لك تعرَّض بين أمك وبين نفسها التي تُحَاربها، فإن أشدَّ تأثيرًا المخيلَةِ لفي الأجسام الضعيفة. كلمها يا «هملت».
هملت : ما تريدين يا سيدتي؟
الملكة : ويلاه! ماذا تريد أنت؟ علام ترسل نظرَكَ هكذا في الفضاء كأنك تخاطب الهواء؟ ما بال أفكارك هجمت بعينيك إلى خارج وَقْبيْهِما؟ وما بال شعرك النائم قد نهض نهوض الجنود التي نَبَّهَهَا الحراس؟ أي ولدي الحبيب، ليتغلب الجَلَدُ على ثَورة دمك. ما أنتَ ناظرٌ هناك؟
هملت : إياه. إياه أنظر. ذلك الاصفرار وهذا المثال لو اجتمعا لواعظ يَعِظُ الضخورَ لأحدثَ فيها الشعور، لا تُوجه إليَّ هكذا عينيك الحزينتين؛ لئلا يضعُفَ عزمي.
الملكة : من تخاطب؟
هملت : ألا ترين شيئًا؟
الملكة : أرى كل ما هنا، ولا أرى الشيء الذي تقول.
هملت : أوَلَمْ تسمعي؟
الملكة : لم أسمع إلا كلامك وكلامي.
هملت : تفرسي فيه هاهنا. هذا أبي. وهذا كساؤه المألوف. أتُبصرينَهُ يتراجع؟ لقد دنا من الباب.

(يخرج الطيف.)

الملكة : هذا دماغك يشتغل بما هو به يشتعل.
هملت : بل حسبي نبضي، إنه سليمٌ كنبضك، وإني لأدرك وأذكر كل شيء، أي والدتي لا تخادعي نفسَك فتعزي إلى جنوني ما هو إِثْمك الكبير، توبي إلى ربك واغفري لي نصيحتي؛ لأن من مصائب هذه الحياة أن تحتاج أحيانًا الفضيلةُ إلى التماس الغفران من الرذيلة.
الملكة : أي «هملت»، لقد شطَرْتَ قلبي شطرين.
هملت : إذن ألْقي شرَّهما، وأبْقي خيرهما، تعيشي نقيةً سائر عمرك، طاب ليلك. لا تعودي إلى سرير عمي. اخلقِي لكِ فضيلة إنْ لم تكوني ذات فضيلة، امتنعي الليله فهذا يهون عليك بعض الشيء أن تمتنعي مرة أخرى، ثم يجيء الامتناع بعدها أسهل فَأَسهل؛ ذلك لأن التروُّض بالشيء قد يحل التَّطَبُّعَ محل الطبع، وقد يخضع الشيطان، ثم يَطْردهُ ثم يبعده بقوة عجيبة (يسير إلى «بولونيوس») أما هذا السنيور فَأَنَا نادم على ما بَدَر مني في حقه، لقد عوقبت به كما عوقب بي. تلك هي المشيئة. سأجره من هنا، وأتحمل عاقبةَ جريرته، طاب ليلك إنما وجبت عليَّ القسوة لأَكون إنسانًا بالمعنى الحق، بُدِئَ الشرُّ وله بقيةٌ أشدُّ وألدُّ.
الملكة : ماذا أصنع؟
هملت : لا شيء مما قلت، تسللي إلى سرير ذلك المخمور الشَّرِه. وبُوحي له بكل ما رأيتِ الآن وقولي له: إن جنوني مصطنع.
الملكة : كن على يقين بأنه إذا كانت الكلمات نَسَمات تبعثُها الحياة من الفم، فما بي حياة تخرج منها نسمة واحدة بما قلته لي.
هملت : سيحملونني إلى «إنجلترا».
الملكة : ويلي. كنت قد نسيت أمر هذا السفر، أهُمْ عليه مصرون؟
هملت : الأوامر قد خُتِمَتْ، وسيسافر معي رفيقاي في الدراسة، إنهما لثعبانان لدَّاغان، ولكن ما أجمل صراع المكر والمكر متى اتجها متقاتلين، والتقيا متقابلين! سأجر هذا الكرشَ إلى الغرفة المجاورة، مسيتِ بخير يا وَالدتي. تعال يا سنيور، قد أصبحت الآن وقورًا ساكنًا بعد الطيش والثرثة، هلم يا سنيور. نَعِمْتِ مَساءً يا أمي.

(يخرج بالجثة وتخرج أمه.)

ستار

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤