الفصل الثالثُ

المشهد الأول

غرفة في القصر. «الملك» وحاشيته
الملك : بعثت في طلبه، وفي استحضار الجثة، قَتَلَهُ ونحن مضطرون إلى تحمُّل هذه التبعه التي كنا في غنى عنها، ولكن لا بد لنا من المداورة في المسألة دَفعًا لسوء النتائج، ما أشدَّ هذا الفتى خطرًا إذا استمر طليقًا! الشعب المختل يُحبُّه، وإنما الشعب يحب ببصره لا ببصيرته، فلا بد من إبعاده بلا ضوضاء، خوفًا من سوء العُقْبى، الأَدْواء النهائية إنما تُداوى بالأدوية النهائية (يدخل «روزنكرنس») ما وراءك؟
روزنكرنس : أبى أن يخبرنا بموضع الجثة يا مولاي.
الملك : أين هو؟
روزنكرنس : بالباب يا مولاي، رهينًا بأَمرك.
الملك : ليؤتَ به إلى حضرتنا.
روزنكرنس : هيا «جيلد تشترن» أدخل مولاي.

(يدخل «هملت» و«جيلد تشترن»)

الملك : «هملت»، أين «بولونيوس»؟
هملت : في وليمة عشاء.
الملك : أيتعشى، أين يتعشى؟
هملت : عفوًا، إنه في وليمة يُتعشى به ولا يتعشَّى. بينه وبين مؤتمرٍ من الديدان السياسية مسألةٌ تُفضُّ الآن. وإنما هي الملكة التي تَرْأَسُ مجلس النائبات. نحن نغذي الخلائق الأخر لنتغذى، ومتى سَمِنَّا فإنما نُسَمِّنُ الهوام والحشرات. الملك البطين، والأجير الغث الهزيل إِنما هما خادمان لمخدوم واحدٍ إليه مصيرُ كلِّ شيء.
الملك : أي ويا للأسف.
هملت : المرء قد يُتَصَيَّد بدودة من الديدان التي أكلت ملكًا حوتا من الحيتان. إني آكل تلك الدودة.
الملك : ما تعني بهذا؟
هملت : لا شيء سوى أن أريك كيف يستطيع الملك أن يرحلَ رحلةً مستكملة في أحشاء شحاذ.
الملك : أين «بولونيوس»؟
هملت : في الجنة … أرسل إليها من يتفقَّدهُ وإن لم يجده رسولك في السماء فتفقَّدهُ بنفسك في مكان الآخر. أما إذا لم تجدوه في شهر ينصرم فسوف تشمون ريحه من السُّلم المجاور للرُّواق.
الملك (مخاطبًا أحد حاشيته) : اذهب فجئ به.
هملت : لا تطيروا. سيتَّئد ريثما تصلون.

(يخرج بعض الرجال.)

الملك : قد بدا لنا يا «هملت» دفعًا لكل محذورٍ نخشاهُ عليك، بسبب هذه الجناية، أن يَحتِمُ سفرك إلى «إنجلترا» كخطف البرق فَتَأَهَّبْ، السفينة معدَّة، والهواء ملائم، ورفيقاك في الانتظار.
هملت : إلى «إنجلترا»؟
الملك : أجل يا «هملت».
هملت : حسن.
الملك : أصادق أنت بقولك «حسن» لو كنت تعلم نياتِنا في شأنك؟
هملت : أرى ملكًا يرى النيات. لنذهب إلى «إنجلترا»، وداعًا يا أمي العزيزة.
الملك : أولا تودع أباك الذي يحبك!
هملت : أبي وأمي زوجان، والزوجان إنما هما شَفْعٌ في وتر. فيا والدتي لنذهب إلى «إنجلترا».

(يخرج.)

الملك : اصحباه خُطوة خُطوة، ومن فوركم أَقلعوا، أريد أن يبرح المكان الليلة. وكل ما يرتبط بهذه المسألة قد هُيِّئ وخُتم (يخرج «روزنكرنس» و«جيلد تشترن»). وأنتِ يا «إنجلترا» حذارِ أن تلبي دعائي، وتعجلي بقتله، فإن دمي لا تهدأ نارُه إِلَّا بسفك دمه (يخرج من جهة ويعود «هملت» و«روزنكرنس» و«جيلد تشترن» من جهة أخرى).
روزنكرنس : السفينة مملوءة الشراع، مؤذِنة بالإقلاع.
هملت : انتظراني قليلًا … سأسيرُ إليها (منفردًا) شَدَّ ما تجتمعُ الحوادثُ على إثارة غضبي، واستفزازي للأخذ بثأري، علمت الآن أن «فورتنبراس» مارٌّ ببلادنا يصحَبُهُ عِشرون ألفًا من النرويجيين، لغزو «بولونيا»، أجل لم يُخلق الإنسان للطعام والمنام، وإنما مُنح الذكاء الذي به ينظر ما وراء وما أمام، ليستخدمه في أبعد من هذه الغاية الزرية، وأسنى من ذلك المرام، هذا الفتى الناحل الضئيل «فورتنبراس» يسير في عشرين ألفًا من الرجال، مُتَعرِّضُا لصنوف المنايا، في سبيل مطمع وإن قلَّ، هو غزو أرض لا تقوَّمُ بأكثر من قشرة بيضة، وأولئك الجنود يترامون بالألوف، في مدارج الحتوف لصغير من القصد، ويسير من المجد، حقًّا إن النفس الكبيرة لا ينبغي أن تحفِلَ إلا بعظائم الأمور، ولكنها جديرةٌ وأية جدارةٍ بأن تستعظم كلَّ صغيرة تَمسُّ الشرف فأحْر بي أن أُعَجِّلَ في الانتقام، وإلَّا فلأكن أنا وأفكاري ومآربي عَدمًا والسلام. هلما أيها الرفيقان (يخرج ويتبعانه)(تدخل «الملكة» و«هوراشيو»، وأحد رجال الحاشية يستأذن ﻟ «أوفيليا»).
الملكة : قد سافر نجلي الآن وقلبي مفْعمٌ بالأحزان، فلا أريد أن أكلمها.
هوراشيو : هي ملحةٌ بالالتماس، وبها سَوْرَةُ خَبَالٍ، وكل ما يُرى من شكلها، أو يُسْمعُ من قولها يدعو للشفقة.
الملكة : ما مرادها؟
هوراشيو : لا تفتأ تذكُرُ أباها، ثم تبكي، ثم تضحك، تهذي في كل معنى بلا معنى، وتَخْلِجُ بعينيها وتهز رأسَها وكتفيها، والذين تقع أبصارُهم عليها، أو تَرِنُّ في مسامعهم كلماتها، يؤولون تلك الإشارات والألفاظ بما تشاء الأهواء والأغراض.
الملكة : خير لنا أن أكلمها لئلا تُلْقي أبذرةَ الفتنة في قلوب الذين لا يخلصون لنا الحب، أدخلها (يخرج «هوراشيو») هكذا النفوس التي أمرضتها الخطيئةُ، ترى كلَّ قليلٍ كثيرًا، وتخشى من كل طيفٍ حسابًا، وتظنُّ في كل حسابٍ عقابًا، تتولى هي كشف خطاياها من حيث تتغالى في سترِ خبَايَاها.

(يدخل «هوراشيو» و«أوفيليا».)

أوفيليا : أين المليكة الجميلة صاحبةُ اﻟ «دانمرك»؟
الملكة : ما تبغين يا «أوفيليا»؟
أوفيليا (منشدة) : كيف أتبين صديقك الصادِقَ من الآخر الماذِق، قد زان قُبَّعَتَهُ بأصدافِ البحر وعلَّق نعليه بعصاه.
الملكة : وا حزنا … أيتها السيدة الرقيقة، ما معنى هذا الكلام؟
أوفيليا : أصغي متفضلةً وتبيني: مات وانصرف، مات وانصرف.
على رأسه عُشبٌ أخضر ورجلاه مشدودتان بحجر.

آها. آها
الملكة : لكن يا «أوفيليا».
أوفيليا : أصغي متفضلة وتبيني (منشدة): كفنُهُ أبيضُ كَثلْجِ الجبال (يدخل الملك).
الملكة : وا أسفاه، انظر يا مولاي.
أوفيليا (منشدة ومتممة) : مدبج بالأزهار الرقيقة، النَّديةِ بالدموع، التي ذهبت معه إلى القبر، خالصةً كَنَدى الحب.
الملك : كيف أنتِ أيتُها الآنسة الجميلة؟
أوفيليا : بخير حماك الله، نعرف ما نحن ولكن لا نعرف ما إليه نصير، كان الله على مائدتك.
الملك : إنها تفكر في أبيها … منذ متى وهي هكذا؟
أوفيليا : أرجو أن يتحسن كلُّ شيء. الصبر واجب، لكنني لا أستطيع الامتناع عن البكاء، حين أذكر أنَّهم غيبوه في وَحْشةِ الأرض، سيعلم أخي هذا. وإني لأشكر لكم حسن العزاء. إليَّ مركبتي. مُسِّيتُمْ بخير، أسعدتم مساءً (تخرج).
الملك : أدْرِكْهَا عن كثَب. وَأَحْسِنْ حراستها. (يخرج هوراشيو) هذا ما جرَّه عليها موت أبيها. أي «جرترود»، إذا جاءت المصائب لم تجئ فُرَادى كالطلائع، بل جماعاتٍ كالجيوش، أَبُوها توفي، وابنك سافر، بل أقول انتفى بإرادته، والشعب أخذ يُبْدي ما خامَرَهُ من الظنون السيئة بسبب مقتل «بولونيوس»، وأَحْسَبُنا لم نُصِبْ بدفننا إيَّاه سرًّا، و«أوفيليا» فقدت تلك الجوهرة العقلية التي لا يكون الإنسان بدونها إلَّا شخصًا آليًّا أو بهيمة، و«لايرتس» أخوها قد عاد من «فرنسا». مُسْتَخْفِيًا، فأَثَارَ الناس علينا، وطَفِقَ يهيِّئ لنا أمرًا نُكرًا (يدخل إلى «الملك» رسول ويدفع إلى «الملك» خطابًا يقرؤه). وهذا كتابٌ من «هملت»، يقول فيه إن مركبه غَرِق، وإنه راجع عاريًا ولا يذكر شيئًا عن رفيقيه، فيا لله ما أَكْثَر هذه الرزايا (يُسمع ضجيج).
الملكة : ما هذه الجَلَبَة؟
الملك : أين الحرس ليمنعوا الباب (يدخل رجل آخر مسرعًا) ما الخبر؟
الداخل : مولاي اخْتَبِئ مسرعًا. ليس البحرُ بِأَشدَّ طغيانًا من الجمهور الهاجمين على قصرك تابعين «لايرتس». منادين به ملكًا.
الملكة : هم ينبحون سرورًا. ولكنكم أَخْطَأتم شَمَّ الفريسة يا كلاب اﻟ «دانمرك».

(ضجيج وراء المسرح.)

الملك : قد حُطِّمَت الأبواب.

(يدخل «لايرتس» مسلحًا» ووراءه جمع.)

لايرتس : أين الملك؟ أيها السادة، وراءً، انتظروا خارجًا.
الشعب : بل ندخل.
لايرتس : أرجو أن تدعوا لِيَ التصرف.
الشعب : ذلك إليك. ذلك إليك.

(يرجعون.)

لايرتس : شكرًا لكم … احرسوا الباب. أيها الملكُ الغاشم. أَرْجِعْ إليَّ أبي.
الملك : هدِّئ من روعك يا «لايرتس» الشجاع.
لايرتس : لو هدأت قطرةٌ من دمي لآذنتُ بأنني لقيط، وأَن أبي ذو قرنين، وأن أمي الوفية الطاهرة جديرة بِأن توسم جبْهتُها النقية باسم العاهرة.
الملك : ما السبب الذي يحملك على هذه المُجَاهَرَة الكبيرة بالعصيان …؟ دعيه يا «جرترود» ولا تخشَيْ علينا بأسًا. إن من السحر السماوي ما يُحيِطُ بالملوك إحاطة السياج المتين، فلا تتخطاه الخيانة، ولا تقوى عليه عزيمة الغَدْر … قل يا «لايرتس» لماذا أنت حَنِقٌ إلى هذه الدرجة؟! دعيه يا «جرترود» … انطِق يا رجل.
لايرتس : أين أبي؟
الملك : مات.
الملكة : ولم يكن للملك ذنب.
الملك : دعيه يسأل ما يشاء.
لايرتس : ومم تأتَّى موتُه؟ لا أريد حديثًا مُفْتَرَى، إلى النار الأمانة، وإلى الزبانية صدق الإيمان، إلى الهاوية الضمير والنجاة، زال مني خوفُ الهلاكِ السَّرمد. وعَدَانِي الاكتراثُ لهذه الدنيا، وللدار الأخرى، ليكُنْ ما هو كائن، ولآخذن بِوتْرِ أبي.
الملك : من يستطيع أن يُثَبِّطَ من عزمك هذا؟
لايرتس : لا أحد سوى أنني لا أستطيع بأعواني وإن قلُّوا، أن أفعل كثيرًا، وأمضي في شأني بعيدًا.
الملك : أي «لايرتس» الباسل، إذا كنت راغبًا في معرفة من أمات أباك، أفأنت كاتبٌ على نفسك فيما نَوَيْتَ من الانتقام له، أَنْ تُصِيبَ بسهم واحدٍ المحبينَ، والأعداء، والمغتالين، والأبرياء؟
لايرتس : إنما أبغي أعداءَه فحسب.
الملك : إذن تريد معرفتهم.
لايرتس : أَمَّا محبوهُ فَأَقصى أمانيَّ أن أفتَحَ ذراعي هكذا، وأن أَغْذُوَهُمْ من دمي، كما يفعل ذلك الطائر «البليكان» الذي إذا جاعت أفراخُهُ، أَطَعمها أحشاءَه وهو حي.
الملك : الآن أَنت تتكلم بلسان الولدِ البار، وقَلْبِ الرجل الشريف، وستعلم أَنَّهُ لا يد لي في مقتل أَبيك، بل إنني عليه حزينٌ جِدَّ الحزن، وسأريك بيناتِ ذلك، فَتَقَعُ من نفسك مَوقعَ النورِ من عينيك.
الشعب (وراء المسرح) : دعوها. دعوها تدخل.
لايرتس : ما هذا الصَّخَبُ؟ (تدخل «أوفيليا» بملابس الجنون، عليها زهور وأعشاب) يا أَيَّتُها الحرارة، أَجِفِّي دماغي، ويا أيتُها الدموعُ السخينةُ، ليذهب مِلحُكِ ببصري، تالله لأجعلَنَّ لجنونك ثمنًا يميل بوِقْرِه ميزانُ القضاء، أَيْ وردة «نيسان». أَيْ بنيتي الحبيبة، أَيْ أُختي الشفيقة. أي «أوفيليا» الوديعة، أفي الإمكان يا رباه أن يصاب عقل فتاةٍ كما يُصاب عقل الشيخ الطاعن في السِّن؟ هكذا تشهدُ الطبيعة للحبيب بخلوص مُحِبِّهِ، وترسلُ من خُلاصَتِهَا المجتمعة نفحةً إلى قلبه.
أوفيليا (منشدة) : حملوه مكشوف الوجه في نعش. ترالا. ترالا. لا. لا وعلى ضَريحه سالت دموع غِزار. ليلتك زاهرةٌ يا عُصْفوري.
لايرتس : لو سلم عقلك ودعوتني إلى الانتقام تحريضًا، أو تحضيضًا، لما أَثَّرْتِ فيَّ بعض هذا التأثير.
أوفيليا (منشدة) : إلى الأرض، إلى الأرض أَلقوا به إلى الأرض.
لايرتس : في هذا الجنون ما يرجح على العقل.
أوفيليا (إلى «لايرتس») : هذا إكليل الجبل، ومعناه: تفكر. ثم هذه زهرة الثالوث ومعناها: تذكر.
لايرتس : إن في جنتها لعظات.
أوفيليا (مخاطبة الملك) : هذا ثمارٌ لك، وقليل من كف مريم (مخاطبة الملكة) وهذه زهرة اللؤلؤ لكِ، كان بودي أن أعطيكِ طاقةً من البنفسَج، ولكنها ذبلَتْ كلها حين تُوفي أبي، يقولون: إنه مات ميتةً صالحةً، (منشدة): لأن ذلك الفتى سَرور لقلبي.
لايرتس : الوسوسة، والكآبة، والألم، واليأس، كل إحساسٍ فيها يكتسبُ منها رِقَّةً وجمالًا.
أوفيليا (منشدة) : لن يعود. لن يعود. لا. لا. قد مات. اذهب إلى فراش موتك. لن يعود. لن يعود. لحيته كانت بيضاء كالثلج، ورأسُهُ أشقر إلى بياض. مضى. مضى. ونحن نبكي سُدًى. ليَرْحَم الله نَفْسَه. إلى الله أُصَلي. ليكن الله معكم.

(تخرج «أوفيليا» ومعها «الملكة».)

لايرتس : أرأيتم مثل هذا، يا راباه!
الملك : أما الآن وقد خَلَوْنَا، فاعلم يا «لايرتس» أن قاتل أبيك هو «هملت»، قتله لإساءَته الظن به، وللتوصل منه إلى من بعده، وإلحاقي به.
لايرتس : تبينت شيئًا من هذا الفعل، ولكن أنت مخبري. لماذا لم تعاقبه على ذلك الجُرْمِ العظيم، كما كانت تقتضي ذلك حكمتك، وكرامتُك، بل عظمتك، وسلامتك؟
الملك : أحجمت عن عقابه لِسببين: السبب الأول هو أن أمه لا ترى إلَّا بعينيه، وأنا من الحب لها بمنزلةِ الكوكب من دائرتِه، فلا منْصَرَفَ لي عنها، ولا بد لي منها. أما السبب الثاني فهو العامَّة تهواه هوى شديدًا، وتغفرُ له خطاياه، بل تحولُهَا إلى بواعثَ للرضا عنه، والكَلَفِ به، فلو رميت بسهامي، لرَدَّها ذلك الهوى العاصفُ في وجه راميها (يدخل رسول الملك) ما خطبُ هذا الرسول؟ ما النبأ؟
الرسول : كتابان من «هملت» هذا إلى جلالتك، وهذا إلى الملكة.
الملك : من جاء بهما؟
الرسول : نُوتِيَّةٌ لم أرهم، ولكن رآهم «كلوديو».
الملك : «لايرتس»، سنسمع ما فيهما … دعنا (يخرج الرسول ويقرأ الملك):

أيُّها السيدُ العظيمُ القدير، ستعلم أين ألقيت إلى شاطئ من شواطئ مملكتك عاريًا، وسأستأذن غدًا بالمثول بين يديك، وبعد الاستغفار منك عما كان، سأقص عليك غَرَائِب هذه العَوُدَةِ الوشيكةِ، غيرِ المظنونة.

هملت
ما معنى هذا؟ أعاد وحده؟ أم عاد الآخرون معه؟ أم هي خُدْعَةٌ ولا صحة لهذا البلاغ؟
لايرتس : أعرفت الخط؟
الملك : خط «هملت»، بلغَ البرَّ عاريًا، وفي التذييل يقول: «وحدي». أترى لي في ذلك رأيًا؟
لايرتس : تاه فكري في الأمر، ولكن دعه يأتِ فإن النارَ تتأجج بين جوانحي، وإني لأَستبطئ غدًا على ظَفَري به، وهشْمي رَأْسَهُ، قائلًا له: «هذا جزاء ما فعلت».
الملك : إن كان هذا عَزْمَك، وما ينبغي أن يكونَ لك عزمٌ سواه، فَأَرجو أن تدع لي تصريفك في انتقامك.
لايرتس : طوعًا يا سيدي، على شريطة ألا تكلفَني عَنَتًا، كأن تقضي عليَّ بالصلح مثلًا.
الملك : حاشا لي. إنما أبتغي الصُّلحَ بينك وبين نفسك، إذا صحَّ أن «هملت» عائدُ، وأنه مصرٌّ على الإقامة، فَإني لموردُهُ موردًا فيه هَلَكَتُهُ لا محالة، ولقد أحكمتُ لِذلك تدبيري بحيث إن مصرَعَهُ لا يجرُّ علينَا ملامًا من الجمهور، ولا يُثِيرُ شبهةً في قلب والدته، فتحسبه مات مغلوبًا، لا مَجْنيًّا عليه.
لايرتس : مولاي، سأمتثل راجيًا أن تتخذني وسيلةً لقضاء ما أوحى إليك قلبك.
الملك : عرضٌ وافق طلبًا. سمعتُ غير مرة في أثناء غيابك أنك فقْتَ سواك بضرب من البراعات، ورأيت «هملت» لا تأخذُه الغَيُرَةُ منك، إلَّا حين تُذْكَرُ عنك تلك الفضيلة مع أنَّها في نظري ليست أعلى رتبةٍ من رُتَبِ الفَضَائل.
لايرتس : ما تلك يا مولاي؟
الملك : حلية ولكنها مع ذلك نافعة، تتفق مع الْخِفَّة ومع الوقار. زارنا فرنسويُّ من نبلاء «نورماندي» يُجيدُ ركوبَ الخيل حتى ليأتي بآياتٍ من الفروسية، فهو في صَهْوَةِ الجواد كأنَّهُ سَنَام للجواد. يقلب طرْفَهُ ما شاء، سَبْحًا، وقفزًا، وطيرانًا، ولا تكادُ المبالغة تَفِي ببعضِ ما يُبْدي من المهارة.
لايرتس : أكان نورمانديًّا؟
الملك : نعم.
لايرتس : لعمري هو «لامور».
الملك : إياه سميت.
لايرتس : أعرفه حق المعرفة، فهو فخر أمته في هذا الباب.
الملك : شَهِدَ لكَ ببلوغ الدرجة في الثِّقَاف، ولا سيما بالنَّصْلِ القويم، وقال: إن أَبرع الأساتذة في قومه إذا واقفوك بالسيف، خانتهُم الرشاقة، وأخطأهم بجانبك صدقُ النظر. فهذا المديحُ مَشَى مشْيَ السُّمِّ في نفس «هملت»، وأصبح لا يتمنى إلَّا رُجُوعَك ليبارزك. فبعد هذا؟
لايرتس : بعد هذا يا مولاي.
الملك : «لايرتس»، أكان أبوكَ إليك حبيبًا؟ أم أنت وجهٌ يتراءى فيه الحُزن، وما وراءَه قلب؟
لايرتس : لِمَ هذا السؤال؟
الملك : لا لأنني أرتابُ في حبك لأبيك، ولكن الذي علمته هو أَن الزمنَ يُوَلِّدُ الحبَّ، ثم الذي شهدته أن الزمَنَ بعد حين يُلَطِّفُ من حرارته، ويكبحُ من جماحه … قد توجد في محور الاتقادِ من الحب ذُبَالة، هي التي في النهاية تُطْفِئُ ضِرامه، ولا شيءَ يبلغُ التمام، فيدومُ له، وإنما يُتَوَقعُ الزوالُ متى قيل تمَّ. إن الذي تريده يجبُ فعلُه حين الإرادة، وإلَّا أحاط بالمشيئة من آثار الأَيْدِي، والألسِنَةِ، والحوادثِ، ما يُحَوِّلُ قولنا «نريد» إلى قولنا «ما كان أحرانا» وضررُ هذه العبارة، لا يقلُّ عن ضرر التَّنَهُّدِ الذي يُرِفِّهُ عن صاحبه، ويُقْعِدُهُ عما نوىَ راضيًا بعجزه، فإن شئت النُّجْح، فافعل حين الجرح مهتاج، والألم مشتد، هذا «هملت» راجعًا، ماذا أنت صانع لنرى بالفعل لا القول، أَنك ابنُ أبيك؟
لايرتس : سَأَجِزُّ عنقَهُ حتى في داخل الكنيسة.
الملك : لا يجدر مكان بأَنْ يكون حَرَمًا يَتَّقَي فيه مرتكب القتل عقاب جِنَايَتِهِ. ولا ينبغي أن يكون للثأر حد، أَفتُطَاوعُني يا «لايرتس» الشجاع؟ فافعل ما أوصيك به: الْزَمْ غرفتك، ومتى حَضَرَ «هملت» دَسَسْنَا إليه من يصف له براعتك، ويجدِّدُ في نفسِه حزَازَةَ الشهرة التي جعلها لك ذلك الفرنسويُّ، فهو عندئذ سيتحداك للمبارزة، وسينقسم الناسُ: فريقين، متراهنين على رأس المغلوب منكما، ولما كان هو مشتت الذهن، سَمْح النفس للغاية، خَلِيَّ القلب من كل غش، فهو لن يظنَّ سوءًا بالسيفين المعَدَّيْن للمبارزة، فَيَنْسى بلا حيلةٍ أَوْ ببعض الحيلة أَن يتخيَّر النصل الذي لم يُفَل، وأن تَضْربَه بحذقٍ خفي تلك الضربةَ التي تستوفي بها ثَأْرَ أبيك.
لايرتس : سأفعل، وسأزيد على ذلك أَن أدهن سيفي بدهانٍ قاتلٍ باعه لي أحدُ المشعوذين فإذا خُدِشَ به جسمٌ سرى فيه السم، ولم يدفع عنه القضاء بعلاج ولو عولج بأَنْدَر العقاقير التي ضوعفَتْ قوتُها بتأثير ضَوْء القمر، بهذا الطاعون سَأُلوِّنُ شَفرَتي حتى إِذا وَخَزْتُهُ بها، ذَهَبَتْ بحياته.
الملك : ولا تنسَ أمرًا آخر. قد يتفق أَلَّا ينفذ ما قصدناه، كما أَردناه فَيُفْتَضَحُ إِذَنْ سرنا، ويُنهتكُ سِتْرُنا، فلا بد لنا على ذلك من استعداد ترتيب متمم، يكونُ موضعه من خُطَّتنا، موضعَ السَّاقَةِ من الجيش، فإذا لم تُفلح التجربةُ الأولى، أفلحت بِلَا ريبٍ الثانية. مهلا لِنَتَدَبَّرْ حلَّ هذا المعْضل. نراهن على كفاءَةِ كل منكما … وجدت. وجدت. إذا امتد القتال، وحُررْتُمَا «أطِل العراك ما استطعت لِتُظْمِئَهُ» سآمر بكأس، مهيئةٍ من قبل. فإن رَشفَ منها رَشْفَةً كفانا السُّمُّ الزعافُ بقيةَ القتَال، لكن صهٍ. ماذا أسمع؟ (تدخل الملكة) أى شيء جرى يا مليكتي؟
الملكة : لا تأتي المصائب إلَّا تِباعًا، أختك غَرِقَت يا «لايرتس».
لايرتس : ويلاه غَرقتْ، وأين غَرقتْ؟
الملكة : على ضِفَّةِ النهر صفصافَةٌ تتراءَى في الماء، مرت بها «أوفيليا» بعد أَن جمعَتْ من النبات على اختلافِ صُنُوفه وأَلوانه أَسْبابًا مستطيلةً أرادت أن تُحلِيَ بها الأغصان المتدلية من الصفصَافَةِ، فلما تعلَّقَتْ بأحدِ تلك الغصون وهي تنوط به تلك الزِّينة انْقَصفَ بها، فسقطتْ في النهر، وَطَفَتْ حِينًا لانتفاخ ثِيَابِهَا بفعلِ الهواء، كأنها مَلَكٌ محمولٌ على وجه الماء، ثم غَرِقَتْ. يا لَهْفي عليها! انقطع ذلك الصوتُ العذب، وانقطعَتْ في الصلصال تلك الأنَاشيدُ، وتلك الألفاظ الشجيةُ التي كانت تُطْربُ بها الأسماع.
لايرتس : يا لَلأَسى! ماتت غريقة.
الملك : غريقة! غريقة!
لايرتس : يا دموعي انْطَلقِي من محاجِرِي، ولا تَحْبِسكْ الكبرياء بعد هذه الكارثة الدَّهْماَء، أستودعكَ الله يا مولاي، أَشعُرُ بالنار تَشُب في كبِدِي، وأَخْشى إن بَثَثتُها أن تُطفِئَها دُمُعي.

(يخرج.)

الملك : لنتبعه يا «جرترود». لقد كابدتُ ما كابدتُ في تسكينِ ثائِرهِ وأَخشى أَن يجدَّ ما يستفزه، فلنتعقَّبه ذلك أَحزمُ، وإِنَّ الحذر أمثلُ بنا وأحكم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤