الفصل الرابع

المشهد الأول

مقبرة

(فلاحان بفأسيهما.)

الفلاح الأول : أَتعْرف من هو أَثبت بنيانًا من الحَجَّارِ، والنجار، وصانِع مُنْشَآت البحارِ؟
الفلاح الثاني : أظُنُّهُ صَانع المشنقة؛ لأن المِشْنَقَةَ تبقى بعد زوالِ آلافٍ من الذين يَأوُونَ إليها.
الفلاح الأول : أحسنت المِشنقة بمجيئها هنا.
الفلاح الثاني : وهل تُحسن المشنقة؟
الفلاح الأول : نعم تُحسن بأنها تضَعُ حدًّا للمسيئين، وإساءَاتِهمْ.
الفلاح الثاني : زهٍ. زهٍ. نكتة بنكتة. سَأَمضي إلى «يُجهان» وأُحضرُ زِقًّا من الشراب. (ينصرف ويظهر «هملت» و«هوراشيو»).
الفلاح الأول (مغنيًا) : في شبابي كنت أهوى، وكان الهوى عذابًا يختصر الوقت «هوب هولا» ويُحَلِّيه، أما الآن فالشيخوخَةُ تنهاني، كفاني.
هملت : أَلَا يشعرُ هذا الفتى بما هو صانع؟ يتغنَّى مع أَنَّهُ مُحْتَفِرٌ قبرًا.
هوراشيو : العادة أولدَتْ عنده عَدَم الاكتراث.
هملت : لا ريب في هذا. اليد التي تعملُ قليلًا تكون أَدَقَّ حسًّا، وأرق لمسًا.
الفلاح الأول (مغنيًا) : السِّنُّ فاجَأَتني من حيث لا أَدْري فأَوْهَنَتْ قواي وقَذَفَتْ بي إلى الأرض.

(يُخرج جمجمة ويقذفها.)

هملت : كان لهذا الرأس قديمًا لسان، وكان يُغني، انظر إلى هذا الممتهن يُلقيه بامتهان، كيف إِذن قذفُه إياه لو كان رأسَ «قابيل»؟! أمَا يُحتمل أَن صاحب هذه الجمجمة كان سياسيًّا عظيمًا؟ أو كان ربَّ صولة، ودولةٍ عليه لمحة من عِزَّة رب العالمين؟
هوراشيو : يحتمل كل ذلك.
هملت : وهذا الحمار يحذف بها كما يحذِفُ اللاعِبُ بالأُكر التي لا قيمةَ لها.
الفلاح الأول (مغنيًا) : فأسٌ للحفر، وكفنٌ للغطاء، وحفرةٌ في التراب. نِعْم المنزل.

(يُخرج جمجمة أخرى.)

هملت : أَلا تكون هذه جمجمةَ رجلٍ من رجال المحاماة؟ أين الآن مُلابساتُهُ ومغالطاتُهُ؟ أين مسائله الواقعية؟ ونقَطُهُ القانونية؟ لماذا يَصْبِرُ على إهاناتِ هذا الوغد ولا يقاضِيه على اعتدائه عليه ضَرْبًا أو جرحًا؟ بل ربما كانت هذه جمجمة واحد من الجَمَّاعينَ للدنيا، الشَّرَّائين للعقار. أين الآن عقودُهُ، وإقراراتُهُ، وضماناتُهُ. أَهذا آخرُ حقٍّ أَفْضَتْ إليه حقوقه؟ أهذا تحصيلُ كلِّ حاصلٍ سلفًا له؟ ونهاية الدِّقَة في دماغه أن يُحْشَى رأسه ترابًا بهذه الدِّقة؟ أَلم تُعْفِهُ ضماناته المفردة، أو المزْدَوَجَة من هذا الضمان الخِتَامي الهائل؟ أَيَسَعُهُ هذا المكان وهو يُوشِكُ أَلَّا يَسَعَ حججَ مملوكاتِه؟ أَمَا من مزيدِ فيعطاه؟
هوراشيو : ما من مزيد.
هملت : سأُكَلِّمُ هذا الرفيق، أَنْتَ يا رجل. لمن هذا الضريح؟
الفلاح الأول : لإنسان.
هملت : أرجل هو؟
الفلاح : لا
هملت : امرأة هو؟
الفلاح : لا
هملت : إذن لمن؟
الفلاح : لمخلوقة كانت امرأة … هي الآن مَيِّتَة. يرحمها الله.
هملت : كم يبقى الجسمُ في الأرض قبل التَّعَفُّن؟
الفلاح : إذا لم يتعفن قبل الوفاة بمرضٍ من تلك الأمراض الزُّهْرِيَّةِ، أَو نحوها، يجوز أن ينحفظَ ثمانِي سنين، فإن كان من الذين احترفوا الدِّباغة، فقد يَنْحَفظُ عشرَ سنين.
هملت : وما فضلُ الدَّبَّاغ على غيره؟
الفلاح : الصبغُ يقوِّي جلدَه، إليك يا سيدي: هذه جثة، أَقَامَتْ ثلاثًا وعشرين سنة.
هملت : لمن كانت هذه الجمجمة؟
الفلاح : أتعرف من كان هذا اللقيط ابن الفاعلة؟
هملت : لعمري لا.
الفلاح : هذا «يورك» الذي كان مُضْحِك الملك.
هملت : أهذا؟
الفلاح : أجل. أجل.
هملت : أرنيه (يأخذ الجمجمة) وا أسفاه «يورك» المسكين، كان وَارِيَ البادِرة داني النَّادرة، حملني على ظهره آلافًا من المرار، والآن آنفُ أن أدنو منه. أين مِزاحك الآن؟ ومهاتراتُك، وأناشيدك، ومباسطاتك؟ قل يا «هوراشيو».
هوراشيو : ما أمْرُ مولاي؟
هملت : أهكذا وجهُ «الإسكندر» بظنك؟
هوراشيو : لا شك.
هملت : وهكذا ريحه.

(يضع الجمجمة.)

هوراشيو : بلا شك.
هملت : يجوز لو تتبعنا التحوُّلَ بنظر الفكر أن نرى «الإسكندر» على جلالته أو «قيصر» على عظمته، حَفْنَةً من تراب سُدَّت بها ثَغْرَةٌ في حائط، أو قِطعَةً من خشب رُئبَ بها صَدْعٌ في بِرميل جِعَة، ولكن رويدًا، رويدًا، هذا الملك وهذه الملكة، وهذا «لايرتس»، إنه لشاب شريف يا «هوراشيو» جِنَازَةُ مَن هذه؟

(يمر من المسرح الملك والملكة و«لايرتس» و«قسيس».)

لايرتس (مخاطبًا القسيس) : أهذا كل ما سمحتم به من رسم الاحتفال؟
القسيس : هذا آخرُ ما يُستطاعُ في دفن فتاةٍ هي قاتلةُ نفسِهَا.
لايرتس : اعلم أيها الرجل أنها مَلَكٌ عاد إلى السماء، وما به حاجةٌ إلى تَكْرِمَاتِ الأرض. لِتُودَعْ في قبرها، ولتنبُتْ على ترابها آلافٌ من زَهرِ البنفسَجِ، طاهرةَ الطِّيبِ، نقيةً من العيب مثلها، أسفي يا «أوفيليا»!
هملت : ويلي! أ «أوفيليا»؟
الملكة : كنتُ أرجو أن تكوني عروسًا لابني «هملت»، لا أن تتبدلي من مَهْدِ السرور بهذا القرارِ المهجور. (تُلقي أزهارًا) الجميلات للجميلة، والعفيفات للعفيفة.
لايرتس (جاثيًا) : أَي أختي، لئن لقيتُ الذي جَنَى عليكِ هذه الجناية، لأُؤَدِّبَنَّهُ — وهَوَاكِ — إلى أَن تزدجر الأَحياءُ، ويُراعَ سكانُ القبور.
هملت (هاجمًا اليد) : من ذا الذي يُسمِعُ أنينهُ السماء، وتوشك الكَواكِبُ أَنْ تَقِفَ مذعورةً لوعيدِه، أنا «هملت» الدانمركي.

(يقفز إلى القبر.)

لايرتس (قابضًا عليه) : إلى الشيطان روحُك الشريرة.
هملت : إنك لا تحسن الصلاةَ هكذا عن رُوح أختك. أُرْدُد أَصابعَك عن عُنُقِي، واحذَرْ شيئًا خطرًا يفاجئُك مني.
الملك : فَرِّقوا بينهما.
الملكة : «هملت» «هملت».
هملت : إني مقاتِلُهُ من أَجل هذا السبب، حتى تَأْبى جفوني أَنْ تتحرك.
الملكة : يا ولدي، ما هو ذلك السبب؟
هملت : هو أنني كنت أحِبُّ «أوفيليا» حبًّا لا يبلغه مجموع الحبِّ في أربعين ألفًا من الإخوة.
الملك : دعه يا «لايرتس». هو مجنون.
الملكة : أسألك بالله أن تدعه.
هملت : أرِني ما تريد. أتبتغي البكاءَ فأَبْكِي معك، أمِ القتالَ فأقاتلك، أم تجوع فَأُجَاوعك، أم تشربُ الخل أم تأكل تِمساحًا، إني لفاعل كل ذلك، يا لَلْفتى! كنت أحبه وما أدري لماذا يعاملني هكذا؟ لكن الهر سَيَمُوءُ، والكلب سينالُ أيضًا نصيبَه.

(يخرج.)

الملك : أَرجو يا «هوراشيو» أَلَّا تفارقه (يخرج «هوراشيو»). (مخاطبًا «لايرتس») تجلَّدْ واثبُت على ما دبَّرْناهُ في الليلة البارحة، إني منذ الساعة لشارعٌ في الأمر، يا حبيبتي «جرترود» مُري بمراقبةِ ولدك، ستأتي ساعة الراحة وإن الصبرَ لكفيل بالظفر.

(يخرجون.)

المشهد الثاني

ردهة في القصر

«هملت» و«هوراشيو» … يدخلان.

هملت : لم أَكدْ أبلغُ السفينة، حتى شغلت الرقيبين ببعض الضرورات التي خلقْتُها لساعتها، وتسللت إلى موضع سرهما، فتلمَّستُ طريقي حتى اهتديت إلى مَثْوَاهُمْ، فاحتملت مِلَف الورق من مخبئهُ، وعدتُ أدْراجي فإذا … ويا لبراعة الملوكِ متى أمسوا مجرمين!! فإذا أمرٌ في الملف صادرٌ إلى ولي الأمر في «إنجلترا» بقتلي، بقطع رأسي بالفأس منذ وصولي، ثم توكيدَ ذلك باستخلاف، ووعد، ووعيد، ثم تأييدٌ لذلك.
هوراشيو : أهو كما تصف؟
هملت : إليك الرسالة، اقرأها حين يتسع وقتك لها، ثم، أتعلم ما صنعت؟
هوراشيو : يشوقني أن أعلم.
هملت : جلست من فوري مُحَبِّرًا ومحرِّرًا فكتبت بِأَحْسَنِ خطي رسالةً أخرى، مشيرًا إلى الرغبة في دوام السلام، واستمرار الوئام، مُسْهِبًا في بيان المنافع التي تنجُمُ عن ذلك للدولتين، وتشمل ببركاتها الأمتينِ، بألفاظٍ تكاد لكثرتها تُوقرُ الحمار، ذكرتُ في نهايتها الغرضَ المرمي إليه: وهو الحْتمُ والتشديد على وليِّ الأمر حين وصولِ الرسولين الحاملين إليه رسالتُنَا أن يقطع رَأسيْهما بلا إبطاء، ولا يمنحَهُما وقتًا لاستغفار ربهما عن عظيم ذنبهما.
هوراشيو : وكيف وجدت الطابَعَ لختم الرسالة به؟
هملت : لكل حالة حيلة، لا يُفارقني خِتمُ «أبي» وهو على مثال الطابَعِ الدانمركي الكبير فإيَّاه استعملت، ثم لففتُ الدرجَ الجديدَ في المِلَف القديم، وتركته لهما يحملانه إلى حيث، ولما أقْلَعَتْ بنا السفينة غيرَ بعيد فاجأنا القراصنة الذين عادوا بي آمنًا إلى موطني كما علمت.
هوراشيو : وماذا عن «روزنكرنس» و«جيلد تشترن»؟
هملت : أوصيت رجال السفينة — وهم رجالي — بحملهما إلى «إنجلترا» مكْرَهَينَ أو مغلُولَيْن إن خالفا ذلك ليقوما بالسِّفارة التي تَفَانَيَا نفاقًا وإثمًا في سبيلها.
هوراشيو : وا حرّ قلباه من ذلك الملك المملَّك علينا!
هملت : ألست الآن مطَّلِعًا على أخفى سرائره؟ ما قولك في ذلك الذي قتل أبي؟ وأَفْسَدَ أمي؟ وحال بالانتخاب بيني وبين تحقيق آمالي، وألقى أشراكه ليودي بي بخبث، ناهيك به من خُبث؟ ألا يوجبُ عليَّ العدل والضميرُ أنْ أقتُلهُ بيدي هذه، فَأُنْقِذ البلاد من علة صائرةٍ بها إلى الدَّمار؟
هوراشيو : عما قليل سينمى إليه من «إنجلترا» مآل صاحبيك.
هملت : أنا وليُّ الوقت ريثما يعلم، وإنما حياته بي عدِّ واحدٍ فواحدٍ، لكنني آسف كل الأسف يا صديقي «هوراشيو» على ما فَرَطَ مني في حق «لايرتس»، وإنما شأنُهُ أشبَهُ بشأني، وقد ظلمته فلا بدَّ لي من ملاينته واستعطافِهِ، وما استفزني عليه إلا تبجُّحُهُ في حزنه.
هوراشيو : صه. أسمع قادمًا.

(يدخل «أوزريك».)

أوزريك : أرفع إلى سيادتكم تَجلَّتي، وتهنئتي بعَوْدِكم إلى اﻟ «دانمرك»
هملت : شكرًا لك يا سيد، أتعرفُ هذا اليعسوب؟
هوراشيو : لا يا مولاي الكريم.
هملت : أنت في نعمةٍ من جهلك به، يملك أرضين واسعةً خِصْبة، ولو كان سيد البهائم بهيمةً كسائر رعيته لوُجد فكُّ هذا الآكل على مائدته كل يوم، يتكلم كالبَبغاءِ بلا عقل، ولكنه يَمْشي في طِيَّتهِ بعيدًا
أوزريك : مولاي المتفضل، إن سمح لي جودكم بالكلام أبلغتكم شيئًا من قِبَلِ الملك.
هملت : سأمتثل الأمر وشيكًا يا سنيور. أنزلْ قبعتك في منزلها من رأسك.
أوزريك : حمدًا لسيادتكم، ولكن الحرَّ شديد.
هملت : بل الهواء بارد، والريح هابَّة شمالًا.
أوزريك : أجل يا مولاي الهواء بارد.
هملت : وكأنني أشعرُ بالحرِّ. أفيكون هذا من اختلاف بنْيتي؟
أوزريك : الحرُّ يا مولاي غايةٌ في الاشتداد، أمرني الملك بإبلاغ سيادتكم أنَّهُ خاطَرَ على رأسكم بِرِهان كبير … وهو …
هملت (ملحًّا عليه بلبس القبعة) : أسألك ذلك. لا تنس أن الرأس منزلُ القبعة.
أوزريك : لن أفعل يا مولاي … أرْوَحُ لي أن أبقى حاسرًا بحضرتكم أقسم بذلك. تعلمون يا مولاي أن السيد «لايرتس» قد قَدِم إلى البلاط، وهو شاب رشيق، شجاع، مكمل، يعد عُنوانًا في صحيفة المجد.
هملت : خلِّ عنك إيفاءَه بعضَ حقه من المدح، فليس هذا يا سيدي بمستطاع. أتُعَدِّدُ صفاتِهِ؟ ذلك ما لا تحيط به الأرقام التي تسعها الذاكرة؟ إنه بلا مغالاة نَسيج وحده، ولا نظيرُ له إلَّا في مرآتِهِ.
أوزريك : مولاي يصفه حقَّ وصفه.
هملت : ولكن ما الشأن الذي جئتَ له يا سنيور؟
أوزريك : فأما وسيادتكم لستم جاهلين.
هملت : أشكر لك هذا الرأي، وإن كان لا يَزِيدُنِي كَرَامَةً.
أوزريك : ما تقول يا مولاي؟
هوراشيو : نَفِذَ كلامُ التَّمليق، فهو لا يحسنُ كلامًا.
أوزريك : فأما وسيادتكم لستُم جاهلين قَدْرَ «لايرتس».
هملت : أخشى أن أجهل عظيمَ قدرهِ؛ لأن الإنسان لا يجهل مِنْ سواه إلا ما يجدُه في نفسه.
أوزريك : إنما أتكلم عن بَرَاعَتِهِ في تقليبِ السلاح، دونَ سائِرِ مَحَامِدهِ.
هملت : أي سلاح تعني؟
أوزريك : السيف والبلطة.
هملت : هما إذن سلَاحَانِ من أسلحته، أنْعِمْ وأكْرِمْ.
أوزريك : وقد خاطره الملك على ستةِ جيادٍ مطهمة في مقابلة ست بلطاتِ وخناجر فرنسوية، هي غايةُ الغاياتِ في الإتقان، والرِّهَانُ يا سيدي على أن «لايرتس» لا يكسِبُ منك ثلاث مُثَاقفات في اثنتي عشرة مواقفة تتوالى بينكما، أتتكرم سيادتكم بإجابته عن هذا الاقتراح؟
هملت : حتى لو قلت لا؟
أوزريك : إنما قصدي الإجابة عن الاقتراح بِمَعْنى ما إذا كنت تتنزل للقبول أو لا.
هملت : سأتمشى هاهنا مُهْلَةَ ما يجيء الملك، وإذا ما بقي جلالته مُصِرًّا على مخاطرَتِهِ، فليأمر بالسيوف فيؤتَ بها، وسأجهد أن أُكسِبَه الرهان، لِئلَّا أعود بالعار والضربَات الأليمة.
أوزريك : أأنقل عنك هذا الكلام؟
هملت : في هذا المعنى يا سيد مع ما تَسْتَحِبُّ من التحلياتِ التي يوحيها إليك التفوُّقُ في التزويق.
أوزريك : رهين بالخدمة يا مولاي.

(يخرج.)

هملت : بين يديكم، بين يديكم. هذا متملق مزوِّق أوشك أن يُقرِّظ مُرْضِعَهُ قبل أن يبتدئ الرضاع، وما أكثرَ أمثالهُ من المنافقين في هذا العصر. مظاهر متعارَفَة. وجُمَل محفوظة، جعلت عناوين الأدب، وإن هي إلَّا نفاخات هوائية إذا مرت بها النَّسْمة أنفقت تِبَاعًا. (يدخل رجل من البطانة).
القادم : مولاي، قد أبلغ «أوزريك» الملك أنك تنتظر في هذه الرَّدْهَةِ، فَأَرْسَلَني لأتحققَ مما إذا كنتَ صحيحَ العزم على تلك الموافقة، أو تُؤْثِرُ إِرجاءَهَا.
هملت : أنا ثابتٌ في عزائمي، وهى تَبَعٌ لرضا الملك، ما على مشيئته سوى الإشارة، وما على مشيئتي سوى الامتثال الآن، أو بعد الآن، على أنْ أكُونَ حينئذٍ مستعدًّا كما أَنا في هذا الحين.
القادم : سيحضر الملك والملكة والبِطانَةُ بِأسْرِهَا.
هملت : على الرحبِ جَميعهم.
القادم : الملكة ترغب إليك في مخاطبة «لايرتس» قبل المبارزة بكلمات طيبة، تجبُرُ صَدْعَ قلبه.
هملت : كرامةً لنصيحتها.

(يخرج القادم.)

هوراشيو : ستخسر هذا الرهان يا مولاي.
هملت : لا أظن، ما زلت أروض يدي منذ سافر إلى «فرنسا» وسأكسب، إن بي في هذا الجانب لألمًا شديدًا فوق ما تَتَصور، ولكن ماذا يهم؟
هوراشيو : الوقت لم يَفُتْ.
هملت : هو استشعار لا يجدُرُ بالتأثير إلَّا في نفوس النساءِ وقد زال.
هوراشيو : إن كانت نفسك متأبِّيَةً أمرًا أطِعْها، ويسعُني الابتدار إليهم وإبلاغُهُمْ أنك غير متأهِّب.
هملت : أَقِمْ فلا طيرَةَ ولا شؤم، لا تسقُطُ ريشةٌ من طائر إِلا بإذنٍ من رَبِّ السماواتِ، إن كانت الساعةُ قد دنَتْ، فلا رادَّ لها، وإلا فهي آتية يومًا لا محالة، العبرة بالاستعداد للقاءِ الله، هل على المرء الذي يفارق ما لا يعرف، أَنْ يجزع إِذا عَجَّلَ بالفِراق.

(يدخل الملك والملكة و«لايرتس» والبطانة و«أوزريك» وخدم)

(الملك يضع يد «لايرتس» في يد «هملت».)

هملت : اغفرْ لي يا سيدي إهانتي لك غُفرانَ المسماح، النبيل، هؤلاء الأَشْهَادُ يعرفون — وقد تكون علمت كما علموا — أنني أُصِبْتُ باختلالٍ في قوى العقل، فكل ما فعلته مما يَمَسُّ إحساسَك، أو شرفَك، ويستدعي قسوتَك وجفاءَك، فإنني أُعلن هاهنا أنه من الجنونِ لا مني. أ «هملت» هو الذي خَدشَ كرامة «لايرتس»؟ إن كان «هملت» الذي به خبال. فنعم، وإن كان «هملت» السليمَ العقل فلا، وليس ﻟ «هملت» المسكين من عدو ألدَّ من جنونه، فيا سيدي إني بِمَسْمَع وَمرْأى من هذه الجماعة، أَنْبِذُ كلَّ نية سوءٍ في حقك، وأتقدمُ إلى نفسك الكريمة الطاهرة بطلب الصفح عما لم يرضِك مني، وما أنا إلا رامٍ سهمًا من وراء بيت أخطأ سهمه، فأصاب أَخاه.
لايرتس : لقد أرضاني هذا الإقْرَارُ إِرْضَاءً وافيًا بمرام من قلبي، فلم يبقَ بي أدْنَى نُزُوع إلى الانتقام، غير أنهُ بقي علينا أن نقوم بما يقتضينا الشرف من المبارزة، وأريدُ أن يشهَد الشهُود العدول، أنني لم أفعل ما يُدَنَّسُ به اسمي، فأنا الآن أواقفك وقلبي صافٍ، وودادي كأخْلصِ ما كان.
هملت : أتَلقى بانشراح هذا البلاغ الكاشفَ عما في ضميرك القديم، فهلم نقضِ ما يوجبه علينا هذا الرِّهانُ الأَخَوي. إلينا بالسيوف، (يتناولان السيفين) سَتَسْطع مهارتُك الآن سطوعَ الكوكب في الليلة الدَّهْماء.
لايرتس : تسخر مني يا سيدي؟
هملت : لا ويميني.
الملك : أعطهم السيوف يا «أوزريك». ابن أخينا «هملت»، هل تعرف الرهان؟
هملت (مخاطبًا «الملك») : نعم يا مولاي، قد جعلت الخطر الأكبر منوطًا بالساعد الأضعف.
الملك : لا أخشى بأسًا. أعرف كليكما.
لايرتس : هذا السيف ثقيلٌ على ساعدي. أعطوني غيرَه.
هملت : هذا يلائم يدي … هل طول السيفين واحد؟

(يتأهبان)

أوزريك : أجل يا مولاي الكريم.
الملك : ضعوا قواريرَ الشراب على هذه المائدة، فَإذا فاز «هملت» في الثلاثِ الأول فلتُطْلَق المدافع، سيشرَبُ الملك نخبَ «هملت»، ريثما يستريح «هملت» من تعب المواقفة الأولى وسيجعل الملك في الكوب أنفس لؤلؤة في تاج اﻟ «دانمرك» منذ أربعةِ عهود … قَدِّموا الأكواب، ولْتُقْرَع الدفوف، ولتعزِف كل آلةٍ عَزوف، وليقصف كلُّ رعَّادٍ قصُوف، إيذانًا للسماء والأرض بأن الملك يشرَبُ في صحة «هملت»، أنتما ابتدئا، وأنتم أيها الشهود، راقِبُوا بتدقيق.
هملت : اشرع يا سيدي.
لايرتس : اشرع يا مولاي.

(يبتدئان.)

هملت : واحدة.
لايرتس : لا. لا.
هملت : احكموا.
أوزريك : طعنة ظاهرة.
لايرتس : قَبِلت. لنستأنف المبارزة.
الملك : مهلًا فاشرب، أي «هملت» إليكَ هذه اللؤلؤة. أعطوه الكوب.

(تُقرع الطبول وتُطلق المدافع)

هملت : أريدُ أن أتمم هذه المواقفة أولًا. ضعوا الكأس بجانب … هيا. (يستأنفان) واحدة ثانية.
لايرتس : لمست. لمست. أقِر بذلك.
الملك : سيفوز ابننا.
الملكة : هو بادن وقصير النفس، تعالَ يا «هملت» وخذ مِنديلي، فامْسَحْ به جبينَك، الملكة تشرب في فوزك يا «هملت».
هملت : مولاتي العزيزة.
الملك : «جرْترود» لا تشربي.
الملكة : سأشرب يا مولاي، وَأَرجو المعذرة.
الملك (منفردًا) : كرعتْ من الكأس المسمومة، قُضي الأمر.
هملت : لا أجرؤ أن أشرب إلَّا بعد هنيهة. عفوًا مولاتي.
الملكة : تعالَ … دعني أمسح وجهك.
لايرتس : مولاي الآن سأصيبه.
الملك : ما أظن.
لايرتس : سأفعل على الرغم من ضميري
هملت : دوننا الثالثة. أراك تلاعب ولا تُثَاقف. أرجو أن تبذُلَ جهدك، ولا تعاملني كالطفل. (يستأنفان).
لايرتس : أتظن ذلك؟ هلمَّ.
أوزريك : لم يمسس أحد.
لايرتس : إليك الآن.

(«لايرتس» يجرح«هملت»، ويتبادلان السيف، و«هملت» يجرح «لايرتس».)

الملك : فَرِّقوهما … لقد احتدما.
هملت : لا … بل نستأنف.

(يُغمى على الملكة.)

أوزريك : انظروا إلى الملكة. أوَّه
هوراشيو : كلاهما يقطُرُ دمًا … كيف أنت يا مولاي؟
أوزريك : كيف أنت يا «لايرتس»؟
لايرتس : «أوزريك»، أخذت بفخِّي كدَجَاجة الماء، سأموت بخيانتي.
هملت : كيف الملكة؟
الملك : أغمي عليها لما رأت الجراح والدم.
الملكة : لا. لا. بل الكوب. الكوب. أي حبيبي «هملت». الكأس. الكأس. أموت مسمومة. (تموت).
هملت : يا لَلْجريمة! هيا اقفلوا الباب. خيانة. اكتشفوا الخيانة.

(يقع «لايرتس».)

لايرتس : إليك سرُّها: «هملت» إنك لقتيل، ولن يجديَ معك دواء. ستعيش نصف ساعة، إن طال أجلُك، ثم تقضي نَحْبَك، وإنما الأداةُ القاتلة هي التي لم تزل بيدك، وأنا قد أُخِذْتُ بحيلتي الدنيئة، وإني لهالكٌ بها. لن أُقَالَ من هذه العثرة، أُمُّكَ شربت سُمًّا، خارت قواي، الملك، الملك هو المجرمُ الأثيم.
هملت : أهذا هو النصل المسموم؟ إذن أيها السم الزُّعاف، افعلْ فِعْلَك.

(يطعن الملك)

أوزريك والأعيان : خيانة. خيانة!
الملك : أوه، دافعوا عني يا أصحابي … لست إلَّا جريحًا.
هملت : تناول أيها الملك السفاحُ السفاك الدم، أهنا تلك اللؤلؤة الشائِقَةُ لؤلؤة العهد؟ ابتلعها، اشْرَبْها والحقْ بأُمي.

(يموت الملك)

لايرتس : أصاب ما هو أهلُه، هذا السم مُهَيَّأ بيده، لنتصافح ويغفر كلٌّ منا لأخيه، عفا الله عنك من قتلي وقتل أبي، وعفا عني من جِنَايتِي عليك.

(يموت)

هملت : ليغفر لكَ الله، إني تابعك، دنا أجَلِي يا «هوراشيو»، أيتُها الملكةُ التاعِسَةُ وداعًا، وأنتم أيها الشاهدونَ هذا المشهد، شاحِبي الوجوه، خُرسًا من الكَمَدِ وإنما الموت جلواذٌ مُحْضِرٌ، جافُّ، ودقيق في إنفاذ أحكامه، لكن لندع هذا. «هوراشيو»، أنا مقضي عليَّ وأنت حيٌّ، صحح رأْيَ الجمهور في سيرتي، ودافعْ قولَ المخالفين في قضيتي.
هوراشيو : لا يا سيدي، إن في جنبيَّ قلبَ روماني قديم، لا دانمركي حديث، وفي الكأس بقية.
هملت : إن كنت رجلًا أعطني هذا الكأس. دعها بالله وكن بعدِي يا «هوراشيو»، فإن خالفتَني جَهِلَ الناسُ الحقيقة، وقد يخطئون في محاكمة ذكراي، لئن كان إخلاصُك لي ما عهدتُه، تأَخرْ عن وُرُودِ السعادةِ الخالدةِ حتي تقُصَّ قصتي، وتدرأ الشُّبَهَ عني (يُسمع سلام عسكري وراء المسرح) ما هذه الجلبة العسكرية؟
أوزريك : هذا «فورتنبراس» وقد عاد من «بولونيا» بالغًا ما شاء من الفوز، يحيي بمدافعه سفراء «إنجلترا».
هملت : هأنا مائت يا «هوراشيو»، إن هذا السمَّ بفعله الشديد قد شتَّت أفكاري، لن أُحيَى لأستمعَ الأخبارَ الآتية من «إنجلترا»، لكنني أتنبأ أن «فورتنبراس» سيُنْتَخبُ ملكًا على هذه الديار وأنا أعطيه صوتي قبل وفاتي. أبلغه ذلك وفصِّل له الأحوال، والبواعث التي دعت إلى ما جرى، والباقي قد دخل في ولايةِ السكوتِ السَّرْمَد.

(يموت.)

هوراشيو : هذا قلبٌ شريفٌ قد انفطر، نمْ مَلِيًّا يا أميريَ المحبوب، ولْتَحْمِلْ جِسْمَكَ إلى السماء أسْرِابٌ مترنمة من الملائكة (يُسمع السلام وراء المسرح) ولكن لم يقترب (يدخل «فورتنبراس» وسفراء «إنجلترا» وآخرون).
فورتنبراس : أين ذاك المشهد؟
هوراشيو : ماذا تبتغي. إن كان المُبْكي والمذهلُ هو ما توخيت رؤيته، فلا تَجُزْ هذا المكان.
فورتنبراس : يا لَكِبْرِيَاءِ الموتْ! ما هذه الوليمة التي هيأتها أيها القضاء، بضرْبةٍ واحدة من أشلاءِ الملوك والأمراء في كهفك الخالد.
أحد السفراء : هذا المنظر بَشِعٌ رائع، ونحن الآن لا ندري إلى من نُبلغ ما جئنا من أجْله، فإن أمرَ الملكِ قد أُنفذ في الرسولين «روزنكرنس» و«جيلد تشترن» كما أراد.
هوراشيو : قد هلكا في رسالة مخطأَة، ولكن أبتهلُ أَن تُصْغُوا إليَّ جميعًا، لما كنتم قد اجتمعتم هنا بحكم الاتفاق، أنتم أَيُّها القادمون من «بولونيا» وأَنتم أيها القادمون من «إنجلترا» فجديرٌ بكم أًن تأمرُوا من فوركم بحضور وجوه المملكة، وكبار سَرَاتِها، إلى المدرج المجاور لهذا المكان، لأبسُط لهم ما كان من الحوادِثِ التي أَفْضَتْ إلى هذِهِ النهاية الأليمة، بحيث يُعْطَى كلٌّ حقَّه من مدحٍ أو ذمٍّ ويمتنعُ الجَور في الحكم.
فورتنبراس : هلمَّ نسمعْ بيانه وليُدْعَ عظماء المملكة وشيكًا، أما أنا فإنني أَقْبلُ بأسف ما آل إليَّ من السعد، فإن لي على هذا العرش حقوقًا لا تُجْحَد، وأنا بها مطالب.
هوراشيو : إني مُكَلَّف إعطاءَكَ صوتًا ستتابعه الأصوات إلَّا ما قلَّ منها، ومتى علوت المنبر ذكرت ذلك فيما سأذكُر، وليكن القرار عاجلًا قبل أن تتكون الأحزاب، وتتعدَّدَ بواعثُ الاختلاط والاضطراب.
فورتنبراس : ليتولَّ أربعةٌ من ملازميَّ حملَ جثة «هملت»إلى المدرجة، فهو خليق بهذا الإكرام، وكان به من الصفات ما يَدُلُّ على أنه لو تقلَّدَ التاجَ لكانَ مليكًا عظيمًا. ثم لتعزف الموسيقى في طريقه، وليُشَرَّف التشريف العسكري بكل رُسُومه … احملوه، هذا منظرٌ أَلْيقُ بميادين القتال منه بمثل هذا المكان. وليُؤْمَر الجنود بِإطْلَاقِ النار.

(سلام حدادي. يخرجون حاملين الجثة، ويُسمع طلق المدافع.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤