تعقيب: آدم سميث اليوم

كريج سميث1

آدم سميث شخصية شهيرة عند معظم الناس، وخصوصًا في بلده الأم اسكتلندا. وتكريمًا له شُيِّد تمثال له في إدنبرة، وطُبِعت صورته على الأوراق النقدية، وسُمِّي باسمه مسرحٌ وكليةٌ جامعية تيمُّنًا به، كما أنني أكتب هذه السطور في مكتبي الذي يقع في مبنًى يحمل اسمه في جامعة جلاسكو. لكن من المحزن أن يكون سميث معروفًا ويُحتفَى به دون معرفة واحتفاء عدد كافٍ من الناس بفكره وآرائه؛ فقد كان من أهم المفكرين الذين أنجبتهم اسكتلندا، بل في بريطانيا، أو فَلْنقل في أوروبا بأكملها. ومما أرجوه أن يساعد هذا الكتاب في إحراز شيء من التقدم في طريق تصحيح هذا الجهل المنتشر بين الناس.

لقد عرفت سميث لأول مرة من أستاذ اقتصاد مستنير في المرحلة الثانوية، كان يستعين بأمثلة من كتاب «ثروة الأمم» لإضفاء شيء من الحياة على الدروس التي يلقِّنُنا إياها، فكانت الحصة الرابعة في كل أربعاء تمنحنا بهجة فكرية بأمثلة صانعي الدبابيس، ومعاطف العمال الصوفية، والجزارين، وصانعي الخمر، والخبازين. وقد كنت محظوظًا في اكتسابي هذه الخبرة المبكرة بالاطلاع على الحياة العملية لهذا الرجل العظيم، وكم كنتُ أكثر حظًّا لتلقِّيَّ دروسًا عن التنوير الاسكتلندي كجزء من دراستي الجامعية.

ومما يُؤسَف له أن التجربة المبكرة التي اطلعتُ فيها على فكر سميث هي تجربة نادرة بحق؛ فلا نجد اليوم عددًا كافيًا من الطلاب والناس العاديين ممَّن قرءوا أعمال سميث، كما أن سميث لا يَرِدُ في مناهج مدارسنا وجامعاتنا على النحو الذي يليق به، ويا له من عار! بل من المؤسف على وجه التحديد أن الكثير من طلبة الاقتصاد في الجامعات لا يطَّلِعون إلا على مقدمة سطحية إلى الأب المؤسس لاختصاصهم، ولا تتطرق الكثير من مناهج الاقتصاد إلى سميث (ومثال صناعة الدبابيس عمومًا) إلا على نحوٍ موجَزٍ في المحاضرات التمهيدية عن تقسيم العمل، قبل الانتقال لمناقشة المبادئ نفسها التي عيَّنها، لكن بلغة مجردة جافة.

إن هذا الواقع يُرثَى له؛ لأن لغة سميث واضحة وتصل إلى القارئ الحديث بالسهولة نفسها التي كانت تُقرَأ بها قبل مائتين وخمسين عامًا. وتمثل كتابات سميث هيكلًا ثريًّا ومعقَّدًا من الملاحظات التي يمكن أن تلهمنا وتنير أذهاننا وبصيرتنا؛ إذ تجسِّد محاولةً لفهم الآلية الحقيقية التي تعمل المجتمعات المعقَّدة وفقًا لها. وهذا العلم الاجتماعي يحمل في جوهره الوعي بالواقع العصيب الخاص بتفاعل الأفراد والاعتماد المتبادل فيما بينهم، وهذان الأمران يجسدان الواقع الفعلي الذي نعيشه في عالم اليوم.

ففي عالم العولمة، تخترق دراسة سميث للتجارة الدولية والمحلية جوهرَ القوى التي تشكِّل حياة كل فرد منا. ولربما كان سميث يكتب في عصر مختلف، إلا أن تشخيصه لأخطاء المركَنتيلية وتشككه العام في التدخل السياسي الاعتباطي ذو صلةٍ بعالم اليوم على نحوٍ خاصٍّ، حيث تُشيطن التجارة على يد المعارضين لنتائج التجارة المزعومة.

كان لسميث عدد كبير من المناوئين والخصوم في وسط المفكرين، لكن سميث الذي رفضه هؤلاء باعتباره راعيَ الأنانية ليس هو سميث نفسه الذي تعرَّف عليه كلُّ مَن قرأ وفهم أعماله بالفعل؛ فكتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية» يُعَدُّ إنجازًا إنسانيًّا عميقًا نوقش فيه علم النفس الأخلاقي الذي وضع المشاركة الوجدانية في نصابها الصحيح في صلب التجربة الإنسانية. وأمضى سميث حياته في الكِبر في دراسة وشرح تجارب البشر في الحياة اليومية، ولم يكن مولعًا بأفكار صعبة المنال على أرض الواقع عن الفضيلة الكاملة، وإنما استغرق وقته في تحليل كيفية ممارسة الناس الطبيعيين للتفاعل الاجتماعي وكيفية اتخاذ القرارات الأخلاقية بالفعل.

كما أنه ليس هناك تناقض — كما يدَّعِي بعض النقاد السطحيين — بين دراسة التجارة في «ثروة الأمم» وبين تحليل التعاطف في «نظرية المشاعر الأخلاقية»؛ فكلاهما وجهان من أوجه التجربة الإنسانية، ووظَّف سميث الدقة النظرية ذاتها في دراسة تأثيرات كلٍّ منهما على الحياة الاجتماعية.

إنَّ عمل سميث يقوم على الرغبة في فهم الواقع التجريبي للحياة الاجتماعية لدى البشر. فعلى سبيل المثال، تعتمد حججه ضد الإفراط في التدخل السياسي على تحليل مدعَّم بالحقائق حول واقع التبادل التجاري. كما أنه في أحوال كثيرة يغفل البعض عن أن أمثلته التي ضربها عن المنافع الإنتاجية للتبادل بين الأفراد لا تركز على شديدي الثراء — الذين كان يزدريهم عامةً — وإنما على مدقعي الفقر؛ فكان يعتقد أن التجارة تحقِّق المنفعة للجميع، وخصوصًا أولئك الذين يندرجون في أدنى شرائح المجتمع.

وبذلك، يقدِّم لنا عمل سميث تحليلًا واضحًا للمبادئ والمؤسسات الأساسية الضرورية لدعم مجتمع حرٍّ؛ فسيادة القانون والعدل هما إطار المنظومة «البسيطة والواضحة» التي تعمل وفقًا لها الحرية الطبيعية التي تنتفع منها البشرية بأكملها، بينما يؤدي تطور الممارسات الأخلاقية المشتركة إلى دعم حياة المجتمع الإنساني وتعزيزه.

إن فكرة اليد الخفية — أو بشكل أعم فكرة التطور الاجتماعي عن طريق عواقب غير مقصودة — تمثِّل الإرث الأساسي الذي خلَّفه لنا سميث ووصل إلى عالمنا اليوم. فإدراك أن العديد من أهم الإنجازات البشرية — كما لاحظ آدم فيرجسون صديق سميث — هي نتائج للفعل البشري، لا التصميم البشري، إنما هو درس جوهري لنا جميعًا. وهذه الملاحظة هي التي قادت سميث إلى تشككه العميق في «رجال النظام» الذين ينظمون البشرية في سبيل تحقيق غايات نبيلة.

كان سميث رجلًا عمليًّا واعيًا؛ إذ لم يقع فكره بسهولة في فخ تعجرُف الأيديولوجي السياسي، لكن هذا لا يعني أن سميث يجب ألَّا يُعتبَر مفكرًا راديكاليًّا؛ حيث كانت أفكاره ثورية في عصره، أما في أيامنا، فإنها تشير إلى نظرة سياسية، أفضل ما تُوصَف به هو أنها إنسانية وليبرالية، لكنها تبقى ثورية لأنها تتحدى العديد من الفرضيات المستقرة في أوساط الطبقة السياسية. وربما لو كان المزيد من السياسيين في عصرنا قد قرءوا كتابات سميث وفهموها، لانتقل ما يبدو منها ثوريًّا إلى مصافِّ النصائح السديدة المستندة إلى الحقائق، وهكذا هي بحق.

لا يكاد يشك أحد في أن الدراسة الجادة لآدم سميث تمر بمرحلة مثمرة في الوسط الأكاديمي؛ ففي الفترة بين عامَي ٢٠٠٢ و٢٠٠٤، أكمل الطلبة الجامعيون في شتى أنحاء العالم أكثر من أربع عشرة رسالة دكتوراه عنه، لينضم هؤلاء إلى مجتمع دولي مؤلَّف من المختصين بدراسة آدم سميث على امتداد التخصصات الأكاديمية. كما أن نشر «دراسة نقدية عن آدم سميث» سنويًّا من جانب «مؤسسة آدم سميث الدولية» يُعتبَر شهادة أخرى على الاهتمام الأكاديمي الشديد بأعمال سميث.

وإضافةً إلى المختصين بدراسة آدم سميث، هناك أيضًا مجتمع مبشر من الباحثين الذين ألهمهم، وهناك مجال فسيح أمام من ألهمتْهم ملاحظاته ليعملوا على اتساع نطاقها في أعمالهم الخاصة. كما يتزايد حاليًّا الاهتمام بنظرية سميث «المعاصرة على نحوٍ مذهلٍ» الخاصة بالعلوم، كما يشجع علم نفس الأخلاق الاجتماعي الذي ابتكره على البحث في تخصص فرعي جديد هو علم النفس التطوري. أما نظرياته حول اللغة وعلم الجمال، فلا تزال تفتقر إلى البحث والدراسة، على الرغم من أنها تقدِّم أرضية أكثر خصوبة للباحثين. وكما أشار دكتور باتلر باقتدار في هذا الكتاب، فإن سميث ترك لنا تراثًا فكريًّا واسع النطاق، لكنه ترك لنا أيضًا تراثًا غير مكتمل، وباستكشاف ما تنطوي عليه أفكار سميث من معانٍ ضمنية، يتوافر لدينا مشروع بحثي ثري ومثير يمكن أن يظل مدى الحياة.

لقد ترك لنا آدم سميث تراثًا ثريًّا جدًّا من الكتابات، وقد أسهم شخصيًّا في تشكيل العالم الذي نعيش فيه حاليًّا، كما أنه رمز قدَّم لنا الأدوات الفكرية لفهم العالم؛ ولذا يجب أن تُقرَأ كتاباته على نطاق أوسع، وأن تُفهَم فهمًا أوضح. وهذا أمر من شأنه — إن حدث — أن يؤدي إلى مساعدة القوة الملهمة لأفكاره في تنوير عالمنا، تمامًا كما ساعدت أفكاره الكاشفة في تنوير العصر الذي عاش فيه.

هوامش

(1) At the time of writing Craig Smith was British Academy Postdoctoral Fellow in the Department of Politics at the University of Glasgow. By the time of publication he will be lecturer in the Department of Moral Philosophy at the University of St Andrews.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤