الفصل الثالث

كتاب «ثروة الأمم»

(١) الخطوط العريضة للكتاب

كتب آدم سميث «ثروة الأمم» مدفوعًا بعدة أسباب، منها أنه كان يرغب في تشجيع السياسيين على التخلِّي عن سياسة تقييد التجارة وإبعادها عن المسار الصحيح عوضًا عن السماح لها بالازدهار؛ لذلك استخدم لغةً صريحةً لا تزال سهلة الفهم حتى يومنا هذا.

لكن سميث كان يحاول أيضًا ابتكار علم اقتصاد جديد؛ فجاء عمله رياديًّا، وحفل بمصطلحات ومفاهيم قد يصعب التوفيق بينها وبين مصطلحات ومفاهيم أيامنا هذه. فنَصُّ كتاب «ثروة الأمم» يتصف بالانتقال من موضوع لآخر، فيعجُّ بالاستطرادات الطويلة وتزدحم فيه الحقائق — من سعر الفضة في الصين، إلى غذاء المومسات الأيرلنديات في لندن — مما يجعل سبر أغوار الكتاب أمرًا صعبًا؛ لذلك علينا أولًا أن نسلِّط الضوء على بعض موضوعاته الرئيسية.

ليس هناك في الكتاب أوضح من الموضوع الذي جاء بصدده أن «ضوابط التجارة غير قائمة على أساس سليم وتأتي بنتائج عكسية». كانت النظرة السائدة في أيامه هي الفكرة «المركَنتيلية» التي ترى أن ثروة الأمة هي مقدار ما تمتلكه من مال، وهذا يعني ضمنًا أن الأمة إذا أرادت أن تكون أكثر ثراءً، فهي تحتاج إلى بيع أكبر قدر ممكن مما تملكه للآخرين، حتى تحصل على أكبر قدر ممكن من المال في المقابل، وأن تشتري أقل قدر ممكن من الآخرين، وذلك كي تَحُول دون تسرُّب احتياطها النقدي إلى الخارج. وقد أدت هذه النظرة التجارية إلى تأسيس شبكة هائلة من تعريفات الاستيراد وإعانات التصدير والضرائب وتفضيلات الصناعات المحلية؛ حيث كانت جميعها مصمَّمة بهدف الحد من الواردات وتعزيز الصادرات.

أما نظرة سميث الثورية، فكانت تتمثل في أن الثروة لا تتعلق بكمية الذهب والفضة في خزائن الأمة، «فالمقياس الحقيقي لثروة الأمة هو ما تخلقه من تيار السلع والخدمات». وهكذا ابتكر سميث الفكرة الأساسية الشائعة في علم الاقتصاد حاليًّا، وهي إجمالي الناتج المحلي.1 وكان يرى بأن السبيل لزيادة هذا الناتج إلى حده الأقصى لا يتمثل في تقييد القدرة الإنتاجية للأمة، وإنما في تحريرها.

ومن الموضوعات المحورية في الكتاب أن هذه «القدرة الإنتاجية تستند إلى تقسيم العمل»، وإلى ما يتيحه من «تراكم رأس المال». ويمكن تحقيق مردود هائل عبر تقسيم الإنتاج إلى العديد من المهام الصغيرة، حيث تتولى كلًّا منها أيدٍ متخصِّصة، وهذا يتيح للمنتج فائضًا يمكن تبادله مع الآخرين، أو استخدامه للاستثمار في آلات موفِّرة للعمل، أحدث وأكثر كفاءة.

أما الموضوع الثالث، فيتمثل في أن ما للبلاد من «دَخْل مستقبلي يعتمد على تراكم رأس المال»؛ فكلما استثمرت في عمليات إنتاجية أفضل، كبر حجم الثروة التي ستتكون في المستقبل. لكن إذا كان الناس سيزيدون رأسمالهم، فلا بد أن يضمنوا حمايته من السرقة؛ فالدول التي تحقق الازدهار هي تلك الدول التي تنمي رأسمالها، وتديره إدارة فعَّالة، وتوفِّر له الحماية.

والموضوع الرابع مفاده أن «المنظومة تعمل آليًّا»؛ فعندما تندر سلعة ما، يُبدِي الناس استعدادهم لدفع المزيد في سبيل الحصول عليها، ويكون هناك المزيد من الربح في تزويدها؛ ولهذا يستثمر المنتِج المزيد من رأسماله في سبيل إنتاج المزيد. أما إذا أُغرق السوق بهذه السلعة، فستنخفض الأسعار والأرباح، وينتقل المنتِج برأسماله ومشاريعه إلى مجال آخر. وهكذا تبقى الصناعة في حالة من التركيز على الاحتياجات الأكثر أهميةً للأمة دون الحاجة إلى توجيه مركزي.

لكن «المنظومة لا تعمل آليًّا إلا في جوٍّ من التجارة الحرة والتنافس»؛ فعندما تمنح الحكومة إعانات أو حقوق احتكار لمنتِجين مفضلين على غيرهم، أو تحميهم خلف جدران التعريفات، يمكنهم أن يفرضوا أسعارًا أعلى، والنتيجة أن يكون الفقراء هم أكثر مَن يعاني من ذلك؛ لأنهم يواجهون تكاليف أعلى مقابل الضروريات التي يعتمدون عليها.

يُضاف إلى تلك الموضوعات أن «ثروة الأمم» تكمن في كيفية «تمخُّض المراحل المختلفة للتقدم الاقتصادي عن مؤسسات حكومية مختلفة». فمجتمعات الصيد والجمع البدائية لم يكن لديها إلا القليل مما تشعر بقيمته، لكن عندما أصبح البشر مزارعين، أضحت أراضيهم ومحاصيلهم ومواشيهم ملكياتٍ مهمَّةً، فأسسوا الحكومات ومنظومات العدل من أجل حمايتها.

وفي عصر التجارة، ومع مراكمة الناس لرأس المال، أصبحت الملكية ذات أهمية أكبر، لكن هذا العصر عاش فيه تجار أُتِيح لهم تحقيقُ مكاسب أكثر عبر تشويه الأسواق لمصلحتهم، وكان لديهم من المكر ما يكفي لاستخدام العملية السياسية لخدمة هذه الغاية. «إن التنافس والتبادل الحر يتعرَّضان إلى الخطر من جانب الاحتكارات والتفضيلات الضريبية والضوابط، وغيرها من الامتيازات التي يمكن للمنتجين أن يحصلوا عليها من السلطات الحكومية.»

ولهذه الأسباب جميعها، آمن سميث بأن «الحكومة يجب أن تكون محدودة»؛ فمهمتها الأساسية تتمثل في القيام بشئون الدفاع، والحفاظ على النظام، وإنشاء البِنَى التحتية، وتعزيز التعليم. ويجب عليها أن تحافظ على انفتاح السوق وحريته، لا أن تعمل على تشويهه بأي شكل من الأشكال.

(٢) الإنتاج والتبادل

في المجلد الأول من مجلدات الكتاب الخمسة، نجد شرحًا لآليات الإنتاج والتبادل، وما تساهم به في الدخل الوطني.

(٢-١) منافع التخصص

استخدم سميث مثال مصنع الدبابيس ليبيِّن أن «تقسيم العمل» — أي التخصص في العمل — يؤدي إلى زيادات هائلة في المخرَجات. وتبدو صناعة الدبابيس «صناعة تافهة»، لكنها في الحقيقة صناعة شديدة التعقيد؛ إذ يجب سحب السلك، وجعله مستقيمًا، وقَطْعه، وتدبيبه، ويجب أن تكون قمة الدبوس مسطَّحة؛ ولذا تُصنَّع بشكل مستقِلٍّ ثم تُثبَّت به لاحقًا، ويلي ذلك تبييض الدبابيس ولفها في أوراق. ففي الحقيقة، هناك قرابة ١٨ عملية مختلفة تدخل في صناعة الدبابيس.

ويرى سميث أن العامل الواحد إذا أنجز كل هذه العمليات بمفرده، فربما لن يتمكن من صناعة أكثر من عشرين دبوسًا في اليوم (وإذا كان عمله يتضمن أيضًا التنقيب عن الحديد وصهره، فربما لن يتمكن من إنتاج حتى دبوس واحد كل عام). أما في المصنع، فيُقسَّم العمل بين أشخاص مختلفين، يقتصر عمل كلٍّ منهم على واحدة أو اثنتين من العمليات المنفصلة، وهكذا فإن فريقًا من عشرة أشخاص أقوياء يمكنه صناعة ٤٨٠٠٠ دبوس في اليوم، أي ما يعادل ٤٨٠٠ دبوس لكل عامل، وهذا يساوي ٢٤٠ ضعف ما ينجزه العامل الذي يصنع الدبابيس بمفرده يوميًّا.

التخصُّص أمر شديد الفعالية، حتى إنه لا يقتصر فقط على الشركات، وإنما تجده بين الصناعات أيضًا، بل حتى بين الدول. إن المُزارع الذي يتخصَّص في زراعة محصول أو في تربية المواشي، ستحظى أرضه برعاية أفضل وستكون أكثر إنتاجًا مما لو كان يتوجب عليه قضاء وقته في صناعة احتياجات المنزل أيضًا. كما أن المصنِّعين يسعدهم جدًّا توفير السلع المنزلية وترك مسئولية إنتاج غذائهم على عاتق هذا المزارع، وعلى النحو نفسه، يأتي تخصُّص الدول في صورة تصدير السلع التي تنتجها على أفضل نحوٍ ممكنٍ، واستيراد السلع التي ينتجها الآخرون على نحوٍ أفضل.

يرى سميث أن ازدياد الكفاءة لا ينتج عن مجرد المهارة المكتسَبة من أداء المهمة نفسها لمرات كثيرة؛ فالتخصص ومقدار الوقت الأقل المستغرَق في الانتقال من عملية إلى أخرى يتيحان للناس استخدام آلات متخصِّصة موفرة في العمل من أجل زيادة مخرَجات العمل؛ ومن ثَمَّ «تتمثل تأثيرات تقسيم العمل فيما يبدو في تحسُّن القوى الإنتاجية للعمل على نحوٍ أفضلَ، واتساع نطاق المهارة والبراعة والتقييم الذي يُوجَّه به هذا التحسن أو يُنفَّذ على أساسه».2
يسخِّر تقسيم العمل تعاون الآلاف المؤلَّفة من البشر حتى في إنتاج أساسيات الحياة اليومية. يقول سميث:
لنأخذ المعطف الصوفي الذي يرتديه العامل العادي كمثال، فمهما كان هذا المعطف يبدو خشنًا ورديئًا، فإنه يمثِّل حصيلة العمل المشترَك لعددٍ هائل من العمال: الراعي، وفارِز الصوف، وممشِّطه ومنظِّفه، والصبَّاغ، والغزَّال، والنسَّاج، والقصَّار، والخيَّاط، وغيرهم الكثيرين ممَّن تتضافر اختصاصاتهم بهدف اكتمال إنتاج حتى هذه السلعة المتواضعة.3
إضافةً إلى ذلك، فإن نقل الصوف من شأنه أن يتطلب أيضًا عمل البحَّارة وصانعي السفن وصانعي الأشرعة، حتى إن المقصَّات التي يُقَصُّ بها الصوف تحتاج صناعتها إلى عمال مناجم ومصاهر. إن القائمة تبدو لا نهائية، لكن هذا التعاون بين آلاف العمال المتخصصين الأكْفاء هو مصدر الثروة العظيمة التي تتمتع بها الدول المتقدمة، وهو الذي يجعل بعض السلع كالمعاطف الصوفية متاحة حتى لأفقر الناس، وهو ما يعبِّر عنه سميث بأنه: «ثروة شاملة في متناول أدنى طبقات المجتمع».4

(٢-٢) المكاسب المشترَكة جرَّاء التبادل

في الفصل الثاني — ذي الأهمية الجوهرية — من الكتاب، يشرح سميث كيف أن «التبادل المادي» ينشر منافع هذه الكفاءة الإنتاجية في أرجاء المجتمع. وهو يخمن بأن بعض المهارات الذهنية أو الجسدية المحدَّدة في «بلد بدائي» قد تجعل أحد الأشخاص أفضل في صناعة السهام، وغيره أفضل في الصناعات المعدنية. ومن خلال التخصص في العمل، يمكن لصانع السهام أن يُنتِج عددًا أكبر من السهام، وللحداد أن يصنع عددًا أكبر من النصال، مقارنةً بما يمكن أن يستخدمه كلاهما؛ ولهذا فإنهما يتبادلان السهام مقابل النصال، وهكذا يمتلك كلٌّ منهما مجموعة من الأدوات النافعة، ويكون كلٌّ منهما قد استفاد من كفاءة الآخر وإنتاجه التخصصي.

ويزعم سميث أن الميل إلى «التعاوض والمقايضة والتبادل» هو من الخصائص الطبيعية العامة في السلوك البشري، وخصوصًا بسبب انتفاع كلا الطرفين منه. وفي الواقع، إن التبادل لن يحدث إذا كان أيٌّ من الطرفين يعتقد أنه سيخسر بسببه، وهذه ملاحظة حكيمة حاسمة؛ ففي عالم سميث، كما هو عالمنا، كان تبادل معظم السلع يتم مقابل المال، وليس مقابل سلع أخرى. وبما أن المال من الثروات، فيبدو أن البائع وحده كان هو مَن ينتفع من هذه العملية. لكن سميث يُرِينا أن المنفعة مشتركة؛ فعبر التبادل، يحصل كلا الطرفين على السلع التي يريدانها مقابل جهد أقل، بالمقارنة مع الجهد الذي قد يبذلانه في صنع هذه السلع لنفسيهما، فكلا الطرفين يصبح أكثر ثراءً بفضل التبادل، أي إن الثروة، بعبارة أخرى، ليست ثابتة، وإنما هي «تتكون» عبر اتِّجَار البشر، وهذه الفكرة كانت فكرة رائدة ومبتكرة في أيام سميث.

وهناك ملاحظة حكيمة أخرى مفادها أن التبادل يستمر في إفادة الطرفين، حتى وإن كان كلٌّ منهما يقترح المساومة ويقبلها كليةً بما يصبُّ في مصلحته الشخصية، دون الاعتناء بمصلحة الطرف الآخر. وإن ذلك لمن حسن الحظ؛ لأنه يتيح لنا الطريقة التي نستخدمها لتحفيز الآخرين على التخلي عن الأشياء التي نحتاجها، وهو ما يعبِّر عنه سميث بقوله الشهير:
إننا لا نتوقع من الجزار أو صانع الخمر أو الخباز أن يوفر لنا طعامنا على أساس رغبته في عمل الخير، وإنما على أساس اعتباراته المتعلِّقة بمصلحته الشخصية؛ وبذلك فإننا لا نتعامل مع إنسانيتهم، وإنما مع حب كلٍّ منهم لذاته، ولا نتحدث معهم أبدًا عن احتياجاتنا الضرورية، وإنما عن المنافع التي تعود عليهم.5
وعندما يتكلم سميث عن «حب الذات» أو «المصلحة الشخصية»، فإنه لا يعني «الطمع» أو «الأنانية»، وإنما يقصد المعنى الذي كان سائدًا في القرن الثامن عشر، أي ليس الاستعداد الكريه لتحقيق المكاسب عبر جعل الآخرين أسوأ حالًا، وإنما الاعتناء بالحالة المعيشية للمرء على نحوٍ مناسبٍ ومقبولٍ، وهو أمر طبيعي جدًّا وذو أهمية كبيرة للبشر، إلى درجةٍ جعلت سميث يطلق عليه في كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية» مصطلحَ «الاهتمام بالنفس».6 وفي هذا الكتاب نفسه، تجده يشدِّد على أن «التعاطف» (أو ما ندعوه بالمشاركة الوجدانية) مع الآخرين هو من الخصائص الملحوظة للبشرية، وأن العدل (وهو عدم الإضرار بالآخرين) يُعتبَر من قواعدها الأساسية.

(٢-٣) الأسواق الأكثر اتساعًا والمكاسب الأكبر

إن المنافع التي نحصل عليها من التبادل هي التي تدفعنا إلى التخصص؛ مما يؤدي إلى زيادة الفائض الذي يمكننا تبادله مع الآخرين. ويرى سميث أن المدى الذي يبلغه التخصص يتحدد بحسب حجم إمكانية حدوث التبادل، أي حجم «السوق»،7 ﻓ «البلدة الكبيرة» فحسب هي التي يمكن أن تزوِّد العتَّالين بعدد كافٍ من الزبائن على سبيل المثال، وربما لا تتمكن المجتمعات المتناثرة من دعم حتى النجار أو البنَّاء المتخصص، وحينها تُجبِر الناس على أداء المزيد من هذه المهام لأنفسهم.
هناك أمر واحد يعمل بصورة مؤكدة على توسيع السوق، وهو «المال»؛8 فالحياة تصبح روتينية ومملة إذا تعيَّن على صانع الخمر الجائع أن يبحث دائمًا عن خبَّاز يشعر بالعطش، وهذا هو السبب في أننا نستخدم الوسيط المالي بشكلٍ عام، لتبادُل فائض الإنتاج مقابل المال، ثم تبادُل المال مقابل ما نريده من المنتَجات.

(٢-٤) مؤشر القيمة

لكنْ سواءٌ أَدَخَلَ المال كوسيط أم لا، ما العامل الذي يحدد السعر الذي يُتبادل مختلِف السلع بموجبه؟ إن من الأمور التي حيَّرت سميث أن شيئًا عديم النفع تمامًا (كالماس) يمتلك «قيمة تبادلية» عالية، بينما لا يمتلك شيء حيوي (كالماء) أيَّ قيمة تقريبًا. واليوم يمكننا حل هذا اللغز باستخدام نظرية المنفعة الحديِّة: فبما أن الماس نادر جدًّا، يمكن اعتبار أي ماسة إضافية نحصل عليها بمنزلة مكافأة عظيمة، وبما أن الماء متوفر على نحوٍ غزيرٍ، فإن أي كوب إضافي من الماء لا يُعَدُّ ذا منفعة كبيرة لنا. كما يمكننا حل اللغز أيضًا عبر الاستعانة بتحليل العرض والطلب.

مما يُؤسَف له أن الأداة الأولى (نظرية المنفعة الحديِّة) لم تكن قد وُجِدت في أيام تأليف كتاب «ثروة الأمم»، كما لم يكن سميث قد أتقن فهم الأداة الثانية (تحليل العرض والطلب) في ذلك الحين؛ لذلك نجده يجهد نفسه في تحديد ما الذي يمنح منتَجًا ما قيمة معينة.

لقد بدا من الطبيعي في نظر سميث أنه في المجتمعات البدائية لا بد أن تعكس القيمة في الأصل مقدار «العمل» المبذول في إنتاج السلعة.9 فنحن، في نهاية المطاف، نبذل «الكد والعناء» في صناعة المنتجات التي نبيعها، لا لشيء سوى أن نوفر على أنفسنا عناء صناعة المنتجات التي نشتريها، فليس هناك من معنًى عند البائع والمشتري في شراء شيء يمكن صناعته بالقليل من الجهد الشخصي؛ ولهذا فإن السعر المثالي للتبادل يجب أن يعكس جهدًا مساويًا له.
ولهذا، إذا كان من السائد في مجتمع الصيد أن «يكلِّف قتل القندس من العمل عمومًا ضعفَي العمل المبذول لقتل الغزال، فمن الطبيعي أن يحدث تبادل القندس مقابل غزالين، أو تساوي قيمة القندس قيمة غزالين».10 ولا شك في أن سميث لاحظ أن أوجه العمل غير متساوية؛ فإحدى العمليات الإنتاجية قد تتطلب عملًا أكثر جدًّا، أو قدرًا أكبر من المهارة، أو مدة أطول من التدريب والخبرة، لكن هذه العوامل تؤخذ في الاعتبار «عبر الاتفاقات والمساومات في السوق».11

ولقد تعرَّض هذا القسم من كتاب «ثروة الأمم» إلى الكثير من النقد بوصفه يؤصل ﻟ «نظرية قيمة العمل»؛ مما أتاح لكارل ماركس الادعاء بأن عمل العامل يتعرض إلى سرقة دائمة من جانب أرباب العمل الرأسماليين. وإذا صح ذلك، فهذا يعني دون شك أن الجهد الذي بذله سميث في هذا القسم لم يُسْدِ للعالَم أيَّ صنيع.

إن ما أوردناه لا يعني أن سميث يذهب بنا حقًّا إلى نظرية قيمة العمل؛ فما يفعله في الواقع هو محاولة فهم ما نعتبره اليوم معيارًا اقتصاديًّا أساسيًّا، وهو «التكاليف الإجمالية للإنتاج». ففي مجتمع الصيد، تكون هذه التكاليف في صورة عمل على نحوٍ كاملٍ تقريبًا، لكننا تطورنا واجتزنا هذه المرحلة، حيث يمضي سميث إلى تحديد غيرها من «عوامل الإنتاج»، مثل الأرض ورأس المال، التي تُوظَّف في المنظومات الاقتصادية الأحدث، وهذه الفكرة أصبحت أيضًا من المفاهيم الاقتصادية الأساسية في يومنا هذا. بعد ذلك، جاء سميث بمفهومَي العرض والطلب، ولم يقتصر تحليله على تأثيراتهما على السعر، وإنما امتدَّ أيضًا إلى كيفية توجيههما لمنظومة الإنتاج والتوزيع بأكملها. إن هذا الطرح ريادي، وتطلَّب شرحه عدة فصول، ينبغي أن يُنظَر إليها باعتبارها كتلة واحدة؛ إذ تتتبع كيفية تطور المجتمع بعيدًا عن اعتبار العمل المصدر الأساسي للقيمة.12

(٢-٥) الأرض والعمل ورأس المال

إن الإنتاج الحديث بمختلِف أنواعه يتطلب أشخاصًا يؤدون العمل، وتجهيزات كالأدوات والآلات التي يحتاجها هؤلاء الأشخاص في عملهم، ومكانًا يعملون فيه؛ ولهذا يمكن تقسيم تكاليف العمل الإجمالية بين «العوامل الأساسية الثلاثة للإنتاج»، كما يؤكد سميث.13 وبخلاف ما يحدث في اقتصاد الصيد، إنَّ مَن يمتلك هذه العوامل هم أشخاص مختلفون مُخوَّلون بحق الحصول على حصة من عائدات ما يتم إنتاجه؛ فهناك «عمل» العامل الذي ينعكس بالطبع في «الأجور»، وهناك أيضًا «رأس المال» — ويسميه سميث «المخزون» — الذي يجمعه أرباب العمل وينعكس في «الأرباح»، إلى جانب استخدام «الأرض» وينعكس في «عائدات الإيجار» التي تُدفَع لصاحب الأرض.

إذنْ، فإن الأرض ورأس المال والعمل عوامل ثلاثة تسهم معًا في الإنتاج، وتجعل العمال وأرباب العمل وأصحاب الأرض يعتمدون بعضهم على بعض، لكن هذا الاعتماد المتبادَل لا يقتصر على الإنتاج، فبما أن معظم الإنتاج يتم بنِيَّة التبادل، يتحتم على هؤلاء الانخراط في عملية تقييم وتوزيع المنتجات أيضًا؛ وبذلك، يقودنا سميث تدريجيًّا إلى إدراك أن الإنتاج والتقييم والتوزيع لمخرَجات الأمة هي عمليات لا تحدث منعزلة بعضها عن بعض، وإنما تحدث بشكل متزامن باعتبارها أجزاء مترابطة في «منظومة» اقتصادية تعمل بكفاءة، يُعَدُّ كل فرد طرفًا فيها. ولقد كان هذا الطرح أيضًا بمنزلة ابتكار نظري هائل.

(٢-٦) كيف تقود الأسواق عجلة الإنتاج؟

ينتقل سميث بعد ذلك إلى شرح كيفية قيام هذه المنظومة ﺑ «قيادة الإنتاج وتوجيهه»، فيقول بأن «سعر السوق» الذي تُتبادَل به السلع في العادة قد يكون أعلى أو أقل من التكلفة الإجمالية للإنتاج (التي يدعوها سميث «السعر الطبيعي»).14 ويعتمد هذا السعر على حجم الطلب على السلعة (أو على الأقل الطلب «الفعلي» من جانب المستهلك الذي يملك المال الكافي للشراء)، ومقدار ما يُتوفَّر منها في السوق. وإذا كان سعر السوق أعلى من التكلفة الإجمالية التي يتكبدها البائع، فهذا يعني حصوله على الربح، أما إذا كان أقل، فهذا يعني تكبده للخسارة.

لا يمكن لسعر السوق أبدًا أن يظل طويلًا أدنى من تكاليف الإنتاج؛ إذ من شأن ذلك أن يؤدي إلى انسحاب البائع كي لا يستمر في تكبُّد الخسائر، لكنه أيضًا لا يمكن أن يستمر في الارتفاع إلى حدٍّ بعيد؛ لأن ذلك يؤدي إلى تنبيه المنافسين بوجود أرباح ممكنة؛ مما يزيد العرض، وهذا يؤدي إلى انخفاض سعر السوق مجددًا؛ ولذلك، فإن هدف الصناعة يجب أن يتمثَّل في إنتاج كمية محدَّدة بدقةٍ تضمن توازن السلعة في السوق.

لا شك أن التنافس قد لا يكون مثاليًّا؛ إذ قد تؤدي الضوابط التنظيمية إلى الحد من القدرة على دخول السوق. وقد يزيد المحتكِر الأسعار من خلال إبقاء السوق في حالة من قلة العرض، وربما تكون المعلومات المتوفرة عن السوق غير كافية. فعلى سبيل المثال، قد يبتكر أحدهم طريقةً أرخصَ للإنتاج تدرُّ عليه أرباحًا استثنائية طيلة سنين إلى أن يكتشف هذه الطريقة منافسون آخرون؛ ولهذا فإن السعر «الطبيعي» وأسعار السوق قد يختلفان عن بعضهما.

(٢-٧) اعتماد الأجور على النمو الاقتصادي

يمكننا أن نلاحظ وجود العيوب السابقة في «سوق العمل» أيضًا؛ فقد تكون الأرض ورأس المال والعمل عناصر تعتمد بعضها على بعض، إلا أن الصراع بين العامل ورب العمل وصاحب الأرض يكون صراعًا غير متكافئ. فيقول سميث إن أرباب العمل يعزِّزون القوانين التي تمنع الائتمار فيما بين العمال، على الرغم من أن هذا الائتمار أمر «دائم ومطَّرد» فيما بين أرباب العمل أنفسهم.15 لكن يجب على أرباب العمل ألَّا ينسَوا أن إبقاء الأجور متدنية إنما هو إجراء اقتصادي مضلِّل؛ فالأجر الأعلى والظروف الأفضل من شأنها أن تؤدي إلى رفع الإنتاجية؛ مما يولِّد عائدات أعلى.

يرى سميث أن أكثر ما يفيد العامل هو الدخل الوطني المرتفع ونمو رأس المال؛ لأنهما يؤديان إلى ارتفاع الأجور. فصاحب الأرض الذي يتمتع بفائض في العائدات سيوظف عددًا أكبر من الخدم، والحائك والإسكافي الذي يحصل على فائض من رأس المال سيوظف مَن يساعده في عمله. وبعبارة أخرى، إن الطلب على العمل يزداد إذا ازدادت الثروة الوطنية فقط، وإن «المردود الوافر للعمل» يعتمد بشكل كامل على النمو الاقتصادي.

ومع ذلك، فإن المعيار الحقيقي للأجور يتعلق بمقدار ما تشتريه الأجور، ويلاحظ سميث هنا أنه على الرغم من أن الضرائب أدَّت إلى ارتفاع أسعار الشموع والجلود والمشروبات الكحولية وغيرها من الكماليات في عصره، فإن أسعار الطعام والضروريات الأخرى أخذت في الانخفاض بفضل منظومة السوق، وقد أدى ذلك إلى مساعدة الفقير بشكل خاص، وهو أمر ليس سيئًا، باعتبار أنه «ليس هناك من مجتمعٍ يمكن أن يكون مزدهرًا وسعيدًا، بينما يرزح معظم أبنائه تحت طائلة الفقر والبؤس».16

(٢-٨) أسعار الأجور في السوق

نظريًّا — كما يذهب سميث — من المفترض أن تميل عوائد العمل إلى التكافؤ. فإذا كانت تجارةٌ ما تحقِّق مردودًا أعلى، فسينهمر عليها الناس من المجالات الأخرى، وسيتوجب على السوق أن يبادر سريعًا إلى تصحيح اختلال التوازن. لماذا إذنْ تتباين الأجور على أرض الواقع؟

يجيب سميث عن هذا السؤال بأنه يجب ألَّا نقتصر في التحليل على المردود «المالي»، وإنما ينبغي علينا أن نضم إليه المردود غير المالي أيضًا؛ فبعض المهن شاقَّة أو غير مقبولة (ولهذا يحصل الجزار والجلاد على أجر أعلى من أجر الحائك)، وبعض المهن تعتمد على مواسم معينة (كالعمل في البناء)، وبعضها (كالطب) تتقاضى أجرًا عاليًا؛ لأنها تتطلب ثقة عالية من الجميع، وبعضها تكلِّف مبالغ طائلة لتعلُّمها (كالمحاماة)، وبعضها قد تكون فرصُ النجاح فيها ضئيلة (كمغني الأوبرا). إن هذه العوامل جميعها سوف تُحدِث تأثيرًا في سعر سوق العمل في مهن بعينها.

(٢-٩) الأجور والسياسة

لكن العوامل «السياسية» تؤثر في الدخل والربح أيضًا؛ فالضوابط التنظيمية تمنع الناس من العمل في مهن معينة. ويعرض سميث للَّوائح التي تمنع صانع السكاكين في مدينة شفيلد من أن يكون له أكثر من صبي، أو تمنع الحائك في نورفولك أو صانع القبعات في إنجلترا من أن يكون لدى كلٍّ منهما أكثر من صبيَّيْن. إن حواجز العمل في هذه المهن تحافظ على استقرار دخل القلة الذين يؤهلون صبيتهم ليكونوا صانعي سكاكين أو حائكين أو صانعي قبعات، لكن ذلك لا يحدث إلا بسرقة أشخاص آخرين ﻟ «السمات المقدسة» التي ينطوي عليها جهدهم. وتمنع هذه الحواجز أيضًا انتقال العمال من المهن المتدهورة إلى المهن التي تكون في حاجة إليهم أكثر.

يُشتهَر سميث بتأكيده على أن «المنخرطين في المهنة نفسها نادرًا ما يلتقون، حتى وإن كان ذلك للمتعة واللَّهو، لكن حواراتهم إنِ التقَوا تنتهي دائمًا بالتآمُر على الناس، أو إلى ابتكار أمر ما يؤدي إلى زيادة الأسعار».17

لكن سميث استطرد على الفور وبادر سريعًا إلى القول بأن السياسيين والقانون شريكان في ذلك؛ لأنهما يشرِّعان ويفرضان الضوابط التي تجعل مثل هذا التآمر أكثر ترجيحًا وفاعلية؛ وبذلك يشير سميث إلى الامتيازات التي تتمتع بها الرابطات العمالية الحرفية (أو ما يدعوه «الاتحاد النقابي»)، والتي فرضت منذ العصور الوسطى طوقًا منيعًا لحماية احتكاراتها، وحصرت حق الانضمام للحرف وشروط ذلك، واحتفظت بسجلات لأسماء مَن حصلوا على ترخيص مزاولة الحرفة، وجمعت الأموال من أعضائها لتحسين المستوى المعيشي للفقراء منهم.

ويرى سميث أن سَنَّ قانونٍ لوضع سجل عمومي لمُزاوِلي المهن يسهل تواصُل بعضهم مع بعض؛ مما يتيح فرصًا أكثر لحدوث مثل تلك اللقاءات التآمرية، كما أن الرسوم الخيرية الإجبارية تجعل هذه اللقاءات أمرًا حتميًّا؛ لأن أعضاء المهنة يجب عليهم الحضور لتسديد هذه الرسوم. وأينما مضى القانون بحيث يسمح للمهن بتحديد السياسة على أساس تصويت الأغلبية، فإنه سيؤدي إلى «الحد من التنافس بشكل أكثر فاعلية ودوامًا من أي اتحاد تطوعي على الإطلاق».18
وبحسب سميث، فإن الضابط «الحقيقي والفعلي» الوحيد على الأعمال هو الخوف من فقدان الزبائن؛19 فالسوق الحر الذي يتمتع فيه الزبون بالسيادة هو طريق أكثر ضمانة لتنظيم سلوك الأعمال، وذلك بالمقارنة مع أي عدد من القواعد الرسمية، والتي تؤدي في الكثير جدًّا من الأحوال إلى ما يتناقض مع نواياها المعلَنة.

(٢-١٠) رأس المال والأرباح

على نحوٍ مماثلٍ، فإن الضوابط التنظيمية الحمقاء تؤدي أيضًا إلى التأثير في العامل التالي للإنتاج، وهو ما يدعوه سميث «المخزون»،20 وهو — كما يشرحه سميث فيما بعدُ21 — يتضمن السلع المخزنة للاستعمال الفوري كالألبسة أو الأغذية، ورأس المال الثابت كالآلات، ورأس المال الجاري بما فيه من عمليات جارية وسلع صُنِّعتْ غير أنها مُخزَّنة.
ويعلق سميث هنا بأن أرباح المخزون — أي المردود الذي يحقِّقه المستثمرون في المشروعات الإنتاجية — تتصف بالتنوع الشديد؛ فهي تعتمد على أسعار السلع، وعلى كيفية أداء المتنافسين، وعلى «الآلاف من الحوادث الأخرى» التي يمكن أن تحدث للسلع عند نقلها أو تخزينها.22 لكن أسعار الفائدة تزودنا بمقياس غير دقيق حول إمكانية الربح؛ فإذا كان الناس مستعدين لدفع الكثير من أجل الاقتراض، فهذا يوحي بأن بإمكانهم تحقيق ربح مرتفع عند توظيف هذه الأموال المقترَضة في الإنتاج.

ولتوضيح ذلك، يشير سميث إلى أسعار الفائدة المرتفعة جدًّا في المستعمرات الأمريكية؛ حيث يوجد هناك فائض من الأرض، مع مقدار قليل نسبيًّا مما يلزم لاستصلاحها من رأس المال أو العمل؛ ولهذا فإن الأرض رخيصة، أما رأس المال والعمل فيتصفان بالغلاء، وينعكس ذلك في ارتفاع الأرباح، وارتفاع أسعار الفائدة، وارتفاع الأجور.

(٢-١١) الأرض وإيجارها

تُبيِّن لنا آراء سميث حول الأرض وإيجارها23 عدم استحسانه لأصحاب الأراضي قَدْر عدم استحسانه لأرباب العمل؛ فهم يتمتعون بالحصول على «سعر احتكاري» لا بسبب ما يبذلونه من جهد، وإنما لمجرد ملكيتهم للأرض وموقعها وخصوبتها. ويُضاف إلى ذلك أن رغبة التجار الأغنياء في امتلاك عقارات ريفية شاسعة تتسبب في زيادة الطلب على الأرض؛ مما يؤدي إلى زيادة إضافية في أسعار الأراضي والإيجارات.

ولا شك أن الأرض تجود لنا بالمعادن والغذاء والمساحة التي نعيش عليها. وفي النقاش المطوَّل الذي قدَّمه سميث في فقرة «استطراد حول الفضة»، نجد تجميعًا للبراهين التي تدعم طرحه القائل بأن نمو الدخل الوطني يؤدي إلى رُخص السلع وغلاء الأرض.

(٢-١٢) المنظومة الآلية

بإيجاز، إن «الناتج السنوي» للبلاد ينقسم إلى إيجار وأجور وأرباح، وهذا يعني أن أصحاب الأراضي والعمال وأرباب العمل لا مفر لهم من اعتماد بعضهم على البعض الآخر؛24 فهم أجزاء من منظومة لانهائية، تُصنَّع فيها السلعة وتُتبادَل وتُستخدَم وتُستبدَل — وتُستخدَم فيها الموارد أيضًا على النحو الأفضل — بصورة آلية.
لكن هذه العملية يمكن أن تنحرف عن مسارها عن طريق أصحاب المصالح الشخصية، الذين يستخدمون السلطة الحكومية من أجل تشويه منظومة السوق الحر لمصلحتهم الخاصة. فربما يتكاسل صاحب الأرض، ويُضْحي العامل ضعيفًا واهنًا، لكنَّ رَبَّ العمل يمتلك كلًّا من الحافز والفطنة اللذين يجعلانه يعزز الضوابط التي تعرقل التنافس؛ ولهذا فإن:
اقتراح أي قوانين أو إجراءات تنظيمية جديدة للتجارة تستند إلى هذه المنظومة يجب أن يُنظَر إليها دائمًا بحذر شديد، وألَّا تُطبَّق أبدًا إلا بعد تدقيق النظر فيها مطوَّلًا وبحذر، دون الاقتصار في ذلك على توليتها أدق انتباه فحسب، وإنما بتوجُّس شديد أيضًا؛ حيث إن هذا الاقتراح يأتي من مجموعة من الأشخاص الذين لا تتطابق مصالحهم البتة مع مصالح الناس، والذين لديهم عمومًا في خداع الناس بل حتى في اضطهادهم؛ ولذلك فإن هناك الكثير من الحالات التي تشهد بأنهم خدعوا الناس واضطهدوهم.25

(٣) تراكم رأس المال

يناقش المجلد الثاني من كتاب «ثروة الأمم» تراكم رأس المال، الذي يشدِّد سميث على أنه شرط ضروري للتقدم الاقتصادي. فخلق الفوائض يتيح إمكانية التبادل والتخصص، وهذا التخصص يساعد في خلق فوائض أكبر، وهي بدورها يمكن استثمارها مجدَّدًا في تجهيزات جديدة متخصصة وموفرة للعمل؛ ولذا تتسم هذه الدورة الاقتصادية بأنها حميدة، فبسبب هذا النمو في رأس المال، يصبح الازدهار كعكة متنامية الحجم، ولا حاجة معها لإفقار أي شخص (أو أمة) من أجل تمتُّع الآخرين بالثراء الأكبر، وإنما العكس بالعكس، فتصبح الأمة بأكملها أكثر ثراءً مع توسع الثروة.

(٣-١) المال

يرى سميث أن المال لا يمتلك أي قيمة جوهرية؛26 فهو ليس إلا أداة للتبادل، والثروة الحقيقية تكمن فيما يشتريه المال، لا في تلك الأوراق والقطع المعدنية. إن القوة الشرائية للذهب والفضة تتقلب على أي حال، والشخص الذي يستلم اليوم جنيهًا من الدخل ربما يُنفِق الجنيه نفسه غدًا؛ وبذلك يوفر دخل شخص آخر، وهذا الشخص قد يُنفِق الجنيه نفسه بعد غدٍ؛ وبذلك يوفر دخل شخص ثالث؛ ولهذا، من الواضح أن كمية المال المتداول لا تتطابق مع إجمالي دخل الأمة، ويخطئ أتباع المذهب المركَنتيلي عندما يخلطون بين الاثنين.

ومع ذلك، فإن للمال تأثيراته؛ فعندما يُهمَل ولا يُتداوَل، يصبح أداة لا فائدة منها — أو «مخزونًا كاسدًا» — لكن العمل المصرفي الفعال يستطيع أن يجعله يعمل بجد واجتهاد أكبر. إن المال المُجاز في التعامل في يومنا هذا (حيث تعلن الحكومة أن العملة التي تطبعها هي عملة قانونية)، لم يكن موجودًا في عالم سميث الذي لم يحتوِ إلا على أوراق نقدية تصدرها المصارف بدعمٍ ممَّا في خزائنها من احتياطي الذهب. وهو يرى أن ذلك من شأنه أن يسهِّل حركة السيولة النقدية، إلا أنه أشار إلى خطورة إسراف المصارف في إصدار هذه الأوراق النقدية؛ وكان سميث يكتب «ثروة الأمم» بعد عام ١٧٧٢ الذي شهد أزمة مصرفية أدت إلى انهيار الكثير من المصارف الاسكتلندية. آمن سميث بأن خطر التنافس لا بد أن يدفع المصارف إلى الحذر في تعاملاتها، لكنه رأى أيضًا أن هناك دورًا يمكن أن يلعبه التنظيم في القطاع المصرفي. (وتجدر الإشارة هنا إلى أن سميث لم يكن يعارض كافَّة أنواع التنظيم الاقتصادي، وإنما كان رفضُه يقتصر على الضوابط التنظيمية المصمَّمة لتعزيز مصالح بعينها على حساب الرخاء العام.)

(٣-٢) الاستهلاك والاستثمار

يوضح سميث تمييزًا مبتكرًا آخرَ بين الدخل الإجمالي والدخل الصافي؛ أي الدخل الكلي منقوصًا منه تكلفة تحقيقه.27 يتابع الفصل الثالث — عن العمل والمدخرات — هذا التحليل، وهذا الفصل يُعَدُّ في حد ذاته جزءًا جوهريًّا من كتاب «ثروة الأمم»، لكن المصطلحات المستخدَمة قد تُشوِّش القارئ الحديث. إن سميث يقسم العمل إلى «إنتاجي» و«غير إنتاجي»، ويعني ﺑ «العمل الإنتاجي» العملَ الذي يتخطى تكاليفه وينتج فائضًا يمكن استثماره مجدَّدًا، كالعمل الذي يقوم به فريق التصنيع. أما «العمل غير الإنتاجي»، فإنه يعني العمل الذي يُستهلَك فورًا، كالعمل الذي يقوم به الطبيب أو الموسيقي أو المحامي أو محرك الدُّمى أو المسئول العمومي أو المهرِّج، وهو عمل لا ينتج مردودًا يمكن إعادة استثماره مجدَّدًا؛ وبهذا فإن سميث يورد تمييزًا أساسيًّا في علم الاقتصاد الحالي، وهو التمييز بين قطاع التصنيع والقطاع الخدمي.

إن استهلاكنا لهذه الخدمات الفورية يؤدي إلى ترك قدر أقل من الفائض لاستثماره في الإبقاء على رأس المال، الذي يعتمد عليه دخلنا في المستقبل وزيادته؛ فكلما استهلكنا المزيد حاليًّا، تخلينا عن المزيد من النمو والدخل في المستقبل.

وفي الحقيقة، يمكننا أن نفرِط في الاستهلاك حتى لا يتبقى معنا شيء يمكن استخدامه لتوسيع قدراتنا الإنتاجية، بل إننا قد لا نتمكن حينها حتى من «الحفاظ» على هذه القدرات. ويرى سميث أننا — حالنا حال «المسرف» — قد يصل بنا الأمر إلى «استهلاك» رأس المال، من خلال «عدم تقييد نفقاته في حدود دخله»، والقيام بدلًا من ذلك بالإنفاق على «الكسل والتراخي من الأموال التي أدى اقتصاد أسلافه … إلى تخصيصها للإبقاء على المجال الذي يعملون فيه».28

وقد يتبدد رأس المال أيضًا بسبب القرارات الاستثمارية الخاطئة (التي يدعوها سميث «إساءة التصرف»)، وبذلك يذكِّر المركَنتيليين بأن هذا الأمر لا يؤدي إلى إنقاص مخزون الذهب والفضة التي تحتويها خزائن الأمة، لكنه يؤدي حتمًا إلى تقليل قدرتها الإنتاجية. وإذا غاب حكم القانون، فإن رأس المال يمكن أن يتعرَّض للسرقة؛ مما يؤدي إلى تقليل الحافز الذي يدفع الناس إلى مراكمة رأس المال في المقام الأول.

لكن «الأمم العظيمة لا تتعرض أبدًا إلى الفقر بسبب التبذير وإساءة التصرف من جهة خاصة، لكنها تعاني ذلك أحيانًا بسبب صدور الأمر نفسه من جهة عامة».29 إن الشخص العادي يعلم بأن من الواجب عليه أن يدَّخِر ويستثمر إذا كان يرغب في تحسين وضعه، لكن الحكومات تركز بشكل أقل على أهمية الحفاظ على رأس المال؛ فدورها يتمثل في الإنفاق على الخدمات الحالية، وليس الاستثمار في الإنتاج. ويلاحظ سميث أن كل عوائد الحكومات يتم توظيفها بأكملها تقريبًا في الحفاظ على القوى العاملة «غير الإنتاجية»؛ لذلك:
إن من قمة الوقاحة والجراءة … لدى الملوك والوزراء أن يتظاهروا بأنهم يعتنون باقتصاد الشعب … فهم أنفسهم، ودون استثناء، أكبر المسرفين في المجتمع … وإذا لم يؤدِّ إسرافهم إلى تدمير الدولة، فإن إسراف رعاياهم لن يؤديَ أبدًا إلى هذه النتيجة.30
إن «إسراف الحكومة» قد يجبر دافعي الضرائب على «التعدي على رءوس أموالهم»، إلى أن «تعجز كل إجراءات الاقتصاد وحسن التصرف من جانب الأفراد عن تعويض ما يحدث من إهدار وتدهور للإنتاج». لكن اقتصاد السوق يظل منظومة متماسكة بقوة، وإذا قامت الحكومة الضخمة بدفع الأمة إلى الخلف، فإنها تعجز عن إيقاف مسيرتها إلا فيما ندر:
إن الجهد المطرد والمتواصل دون أي انقطاع، والذي يبذله كل فرد لتحسين ظروفه، كثيرًا ما يكون قويًّا بما يكفي للحفاظ على التقدُّم الطبيعي للأمور نحو التحسُّن، وذلك على الرغم من إسراف الحكومة والأخطاء الفادحة التي ترتكبها الجهات الإدارية.31

(٣-٣) أفكار إضافية حول رأس المال

يلاحظ سميث أن رأس المال يمكن استخدامه بطرائق متنوعة؛32 فبعض الأصول (كمصائد السمك) تقدِّم سلعًا للاستهلاك الفوري، وغيرها (كالآلات) تُستخدَم لتصنيع أو نقل مواد خام وسلع نهائية، وكثيرًا ما يتم تجاهل أمر على القدر نفسه من الأهمية والإنتاجية؛ وهو رأس مال تجارة التجزئة الذي يُستخدَم لتجزئة السلع إلى وحدات أصغر قابلة للاستهلاك. وهكذا فإننا إذا أردنا استهلاك اللحم، فلا حاجة لشراء ثور بأكمله.
(إن هذا يدفع سميث إلى إيراد ملاحظة مضحكة حول الإجراءات الرسمية التي تهدف للحد من عدد تجار التجزئة في أي مجال، كترخيص البارات، فيقول: «إن العدد الكبير للبارات ليس هو ما يؤدي إلى ميل عام إلى إدمان الخمر … لكن هذا الميل … هو بالتأكيد ما يوفر العمل لذلك العدد الكبير من البارات.»33 فتجارة التجزئة تتبع الطلب، كحال أي تجارة أخرى.)

إن المجلد الثاني من كتاب «ثروة الأمم» يتمحور حول أن ادِّخَار جزء من الإنتاج — بدلًا من استهلاكه بالكامل — يسمح لنا بنمو رأس المال الإنتاجي، والذي يتيح لنا بدوره زيادة الإنتاج في المستقبل. فهي دورة للثروة تتصف بالتوسع المستمر دون أن يكون لها علاقة (ولاحظوا ذلك أيها المركَنتيليون) بكميات المعدن في خزائن المصارف.

يمكن تطوير عمليات أكثر تخصُّصًا وأكثر توفيرًا للعمل من خلال تراكم رأس المال. ويرى سميث أن تقسيم العمل سوف يزداد عمقًا، وهذا يحتاج بدوره إلى المزيد من العمل؛ ولهذا فإن توسع رأس المال يؤدي إلى ارتفاع الأجور. (لا شك في أن سميث كتب ذلك قبل أن تتكامل قوة الثروة الصناعية، وفي وقت كان لا يزال فيه العمل اليدوي يحتل موقعًا أساسيًّا في الاقتصاد؛ إذ لا يبدو أن سميث كان يتخيل أن الآلات ستستبدل فعليًّا العمل البشري.)

وبعبارة أخرى، يمكن القول بأن اقتصاد السوق لا يضاهيه أي شيء في تعزيز ثروة الأمة، وهذه الثروة تنتشر لتصل إلى أشد العمال فقرًا. وفي الواقع، إن الفقير في الدول الغنية التي تتبنى هذه المنظومة إنما يعيش حياة أفضل بالمقارنة مع الغني الذي يعيش في الدول الفقيرة التي لا تتبناها. تلك هي رسالة العولمة: تصبح الدول أفضل حالًا إذا لم تحاول الإبقاء على الاكتفاء الذاتي أو ترفع الحواجز التي تَحُول دون التجارة مع الدول الأخرى.

(٤) تاريخ المؤسسات الاقتصادية

يتناول المجلد الثالث تطور العلاقات الاقتصادية، أحيانًا عبر الحدس التاريخي، وأحيانًا أخرى عن طريق ثروة من الحقائق التاريخية. ويبدأ سميث هذا الكتاب باقتفاء أثر التطور من الزراعة إلى الصناعة، مؤكدًا على أن نمو المدن والاعتماد المتبادَل بينها وبين الريف إنما هو أمر طبيعي بالكلية. فالحِرَفي يحتاج إلى المُزارِع لإنتاج طعامه، لكن المُزارِع يحتاج إلى الحِرَفي لصناعة أدواته، وإلى المدن لما فيها من أسواق لمنتجاته؛ وفي الواقع، كلما كبرت المدينة كبر معها السوق. فالأمر ليس كما يدَّعِي الاقتصاديون «الفيزيوقراطيون» الفرنسيون حينئذٍ، بأن المدن تعتمد على الريف في معايشها، وإنما يضيف كلا الطرفين القيمة المتأتية من تبادل إسهاماتهما المختلفة.

ويقدِّم سميث مخطَّطًا لتفكك النظام الإقطاعي في أوروبا، ويستكشف جذور القانون الإقطاعي بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، وكيف أدت التجارة إلى الاستعاضة عنه.34 ويخمن سميث أن الثروة، قبل عصر التجارة وتبادل المنفعة، كانت في قبضة يد كبار أصحاب الأراضي، ولم يكن هناك مفر من أن يصبح هؤلاء البارونات سلطة شرعية محلية أيضًا، لكنها كانت سلطة اعتباطية، وتطور القانون الإقطاعي كمحاولة لبثِّ الاعتدال في أوصالها، وإن لم يحرز إلا نجاحًا جزئيًّا. لكن ظهور التجارة وتبادل المنفعة شهد ضمور ثروة أصحاب الأراضي (ومن ثَمَّ سلطتهم)، وتحوُّل مستخدميهم إلى مستأجرين مستقلين عنهم، فطالَبَ هؤلاء المستأجرون، الذين أضحت لهم طموحات خاصة بهم، بالمزيد من الأمن؛ فزال النظام الإقطاعي ليحل محله حكم القانون الذي يُطبَّق على النبيل والوضيع على حدٍّ سواء. لقد أدى ظهور التجارة إلى فصل السلطة الاقتصادية عن السلطة السياسية؛ والسلطة الاقتصادية قوية بمفردها بلا ريب.

ويرى سميث أن هذه النتيجة مرضية؛ لأنها حمت رءوس أموال الناس، وسمحت بنمو تبادل المنفعة والتجارة والمصنِّعين تحت مظلة العدل المدني. ومجدَّدًا، تحقَّقت نتيجة مفيدة على أيدي مجموعات من الناس لم يكن لديهم أدنى نية لخدمة العامة، وإنما كانت أذهانهم مشغولة بالحرص على ملكيتهم الخاصة وأمْنهم فحسب.

(٥) النظرية والسياسة الاقتصادية

في المجلد الرابع، يصوغ سميث انتقاداته لسياسة التدخل الاقتصادي، فيبدأ من المركَنتيلية ورؤيتها الخاطئة بأن المال والثروة وجهان لعملة واحدة، وسياستها التي تسعى إلى الحد من الواردات وزيادة الصادرات من أجل الاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من الذهب والفضة.35

(٥-١) المركَنتيليون والمال

يُذكِّرنا سميث بأن المال ليس إلا أداة لتسهيل التبادل؛ وبما أن التجارة الخارجية تشكل جزءًا صغيرًا من التجارة الإجمالية، فإن تحركات الذهب عبر الحدود لا يوجد لها أثر يُذكَر في تدمير أي أمة عظيمة.

بالطبع، يقول المركَنتيليون إن الذهب يقاوم عوادي الزمن، وإن الدول التي تصدِّر إلينا السلع يمكنها مراكمة الذهب على نحوٍ متوحشٍ طيلة عقود، بينما لا نفعل في غضون ذلك إلا تبادل سلع فانية بحماقة مقابل سلعة باقية كالذهب. ويرد سميث على ذلك بأننا نشعر بالرِّضَى التام لاستيراد خمور (فانية) من فرنسا وتصدير أدوات معدنية (باقية) في المقابل، لكن الفرنسيين ليسوا أغبياء كي يراكموا القدور والمقالي بكميات أكثر مما يحتاجونه، وبالمثل يجب ألَّا نكون أغبياء أيضًا فنخزِّن الذهب والفضة إلى حدٍّ يتجاوز الكميات المفيدة. إن الفائض من المعادن غير المفيدة يعتبر رأس مال كاسد، ورأس المال الكاسد لا يأتي بالثراء.

(٥-٢) الميزة المطلقة

يستمر سميث في طرحه فيرى بأننا عندما نفرض القيود على الواردات أملًا في الحفاظ على مخزون الذهب والفضة، فإن ذلك يعني أن المستهلك المحلي يملك خيارات أقل؛ إذ يتوجب عليه أن يشتري ما يحتاجه من منتِجِين محليِّين بدلًا من الشراء من نطاق متنوِّع من المنتِجِين الأجانب، الذين قد تكون سلعهم أفضل أو أرخص؛36 مما يجعل هذه السياسة مكلفة وتأتي بنتائج عكسية. أما بالنسبة لتقسيم العمل بين المجالات المختلفة، فإن الدول ينبغي لها أيضًا أن تضطلع بما تتفوق في فعله على النحو الأفضل، ثم تتبادل الفائض الناتج. إن هذا الطرح يقدِّم وصفًا مبكرًا للمبدأ الذي ندعوه اليوم «الميزة المطلقة». ويختم سميث تحليله بمثال حي، فيقول:
إن استخدام الصوبات الزجاجية والمستنبتات وجدران الاستنبات ذات المداخن الحرارية يتيح لاسكتلندا أن تزرع نوعية جيدة جدًّا من العنب، كما يمكن أن يُصنَّع منه خمر عالي الجودة بتكلفة تبلغ — على الأقل — قرابة ثلاثين ضعف تكلفة أي خمر جيد بالمثل مصنَّع في دولة أجنبية؛ فهل سيكون من المعقول أن نسنَّ قانونًا يمنع استيراد كافة الخمور الأجنبية لمجرد تشجيع صناعة خمر الكلاريت والبُرغندية في اسكتلندا؟37
إن مثل هذه السياسة التدخلية ليست مكلِّفة وغير عقلانية فحسب، وإنما هي مجلبة للفساد أيضًا:
إن رجل الدولة الذي يحاول توجيه الأفراد إلى أسلوب استثمار رءوس أموالهم، لن يكلف نفسه عناء الاهتمام بأمر غير ضروري تمامًا فحسب، وإنما سيتولى أيضًا مسئوليةً ليس من السهل إسنادها إلى أي شخص أو هيئة أو مجلس أيًّا كان، وهي سلطة لا يمكن أن يكون هناك أخطر منها عندما تقع في يد رجل يمتلك من الحماقة والوقاحة ما يكفي لدفعه إلى الاعتقاد بأنه قادر على ممارستها.38

(٥-٣) التعريفات والإعانات

يسلم سميث بأنه قد يكون هناك ما يؤيد فرض تعريفات «مؤقتة» إذا كانت تُجبِر دول أخرى على إلغاء ما تفرضه من تعريفات، لكن يمكن القول عمومًا بأن مثل هذه السياسات إما أن تكون ضارة أو غير فعالة، وأنه ينبغي النظر بعين الريبة إلى مَن يؤيدها. فعلى سبيل المثال، التعريفات التي تفرضها بريطانيا على الخمور والبيرة الأجنبية يتم الدفاع عنها على أساس أنها تؤدي إلى الحد من إدمان الخمر، لكن سميث يردُّ على ذلك بأنه على الرغم من إساءة استخدام المشروبات الكحولية أحيانًا، فإنه من الأفضل أن يكون بالإمكان شراؤها بسعر أرخص من تكلفة صناعتها محليًّا. ويشير أيضًا إلى أن التعريفات المفروضة تفضل البرتغال على فرنسا، بحجة أن البرتغال مستهلك أفضل في وجهة نظر المصنِّعين البريطانيين. ويشكو سميث من أن «فنون التسلل التي يجيدها التاجر قليل الشأن تصل هكذا إلى مستوى المبادئ السياسية في سلوك إمبراطورية عظيمة».39

وينصح سميث المركَنتيليين بعدم القلق من التوازن التجاري العكسي؛ فما دامت البلاد تنتج أكثر مما تستهلك، فإن هذا يعني أنها تدَّخر وتضيف إلى رأس المال، ومثل هذه البلاد لا يزال بإمكانها أن تستورد أكثر مما تصدِّر، وأن تستمر مع ذلك في إنتاج الفوائض وتزداد ثراءً.

إن ما عرضه سميث في كتابه من إجراءات التدخل التجاري الأخرى، مثل «استرداد رسوم الاستيراد بعد تصدير السلع» (في صورة الإعفاءات الضريبية للمصدِّرين)، و«المكافآت» (في صورة الإعانات)،40 إنما يقدِّم لنا لمحات مثيرة للاهتمام عما كان يجري في أيامه، ومنها هذا المثال الثمين الذي لا يتكرر في العادة:
تُمنَح المكافآت التي تحصل عليها مصائد أسماك الرنكة حسب الوزن بالطِّنِّ، وتكون متناسبة مع حمولة السفينة، لا مع اجتهادها ونجاحها في الصيد. ومن المؤسف أنه قد أصبح من السائد أن تُجهَّز سفن الصيد من أجل هدف واحد هو صيد المكافآت، وليس صيد السمك.41

(٥-٤) القيود المفروضة على التجارة الاستعمارية

أُصدِر كتاب «ثروة الأمم» قبل عدة أشهر فقط من تحوُّل مشاعر الاستياء المتأجِّجة في أمريكا إلى تمرد صريح، ويكشف الفصل الذي خصَّصه سميث للحديث عن المستعمرات42 عن تعاطفه مع الأمريكيين، وجاء ذلك في الأساس بسبب القيود التي فرضها المركَنتيليون، فألحقت الضرر بتجارة الأمريكيين (مع أن بريطانيا لم تنتفع منها)، إضافةً إلى سبب ثانوي هو إحساسه بأن مساهمة أمريكا في عائدات الضرائب يجب أن تخوِّل لها — بحسب ما يقتضيه العدل — تمثيلًا أوسع في البرلمان.

يتتبع سميث أصول المستعمرات، ويشير إلى أنها تأسست عمومًا على أمل العثور على الذهب أو الفضة، وهما العنصران اللذان يساويان الثروة في نظر المركَنتيليين. لكن الأصل الحقيقي في أمريكا هو الأرض؛ لأنها متوافرة بكثرة وبثمن بخس، وتحتاج إلى قدر كبير من العمالة لتحقيق العائدات المحتملة، وهذا يجعل العمالة مكلفة، لكن الزراعة الأمريكية تدرُّ في الواقع إنتاجية هائلة إلى حدٍّ يجعل من الممكن تحمل تكلفة العمالة. بل إن أمريكا بلغت من خصوبة أراضيها وثرائها حدًّا لم تستطع معه حتى ضرائب بريطانيا وقيودها التجارية أن تنال منها (حتى ذلك الحين).

ومما يُؤسَف له أن سياسة إجبار أمريكا على التبادل التجاري مع البلد الأم فقط (وهي بريطانيا) أدت إلى إبعاد رأس المال والمشروعات البريطانية عن استخدامات أكثر إنتاجية؛ مما أدى إلى تدني الازدهار في بريطانيا وأمريكا معًا، وإلى تباطؤ تراكم رأس المال؛ مما نتج عنه تناقص في الدخول المستقبلية في كلا البلدين. ويقول سميث بأن بريطانيا حاولت أن تجعل الأمريكيين «شعبًا استهلاكيًّا»، لكن هذه السياسة أدت عوضًا عن ذلك إلى تحويلهم من مزارعين إلى سياسيين. وبما أن قدرًا كبيرًا من الصناعة البريطانية يركِّز على التجارة بين جانبي المحيط الأطلسي، فإن الخطر السياسي متفاقِم، ولا يمكن تقليل حجم هذا الخطر إلا عن طريق تحرير التجارة — والتحرر السياسي — لكن الاستثمار البريطاني وصل إلى مرحلة من الانحراف سيكون فيها الإصلاح المطلوب من الصعوبة بمكان.

إن القيود التجارية التي فرضتها بريطانيا على أمريكا تُعتبَر مثالًا آخر على التفكير المركَنتيلي؛ حيث تكون الهيمنة لمصالح المنتجين، لكن «الاستهلاك هو الغاية الوحيدة للإنتاج في مجمله، ويجب أن يكون هناك اهتمام بمصلحة المنتِج، على أن ينحصر هذا الاهتمام بالحد الضروري لتعزيز مصلحة المستهلك».43

(٥-٥) البديل الليبرالي

ينتقد سميث الفيزيوقراطيين الفرنسيين بسبب رأيهم القائل بأن القيمة بكافة أشكالها تنشأ من الأرض والزراعة، أما تجار المدينة و«الصنَّاع البارعين» فلا يفعلون شيئًا إلا إعادة تنظيم هذه الثروة، دون أن ينتجوا أي شيء بأنفسهم. ويرد سميث على ذلك بأن سكان المدن منتجون حقًّا؛ فهم ليسوا مجرد مستهلكين لرأس المال، وإنما هم يستبدلونه، فهم عمالة إنتاجية، لا غير إنتاجية.

ومع ذلك، فإن سميث يعتبر الفلسفة الاقتصادية للفيزيوقراطيين من الفلسفات الأفضل، فهم لا يخلطون بين المخرَجات وبين المال، ويرون بأن الحرية الكاملة للتجارة هي الطريق الأمثل لتحقيق الحد الأقصى من تلك المخرَجات.

ويعتقد سميث أن اقتصاد السوق قوي بما يكفل بقاءه، حتى وإن كانت الحرية غير كاملة، لكن متعة المنظومة الاقتصادية الحرة تكمن في أنها تعمل آليًّا. ويعبِّر سميث عن ذلك بقوله إن «المنظومة الواضحة والبسيطة للحرية الطبيعية تبني نفسها بنفسها»؛ فالناس أحرار في السعي خلف مصالحهم الخاصة؛ وبذلك فإنهم يعززون مصالح الجميع دون إدراك منهم، كما تدل الأحداث؛ إذ لا حاجة هنا للتوجيه المركزي:
إن الحاكم مُعفًى تمامًا من مسئوليةٍ لا يمكن أن تَفِي [بها] أي حكمة أو معرفة بشرية، وهي مسئولية الإشراف على المجهودات الهائلة التي يبذلها الشعب كأفراد، وتوجيه هذه المجهودات نحو قنوات توظيف تصبُّ بأقصى نحوٍ ملائم في صالح المجتمع.44
وهو أمر يعتبره سميث من حسن الحظ؛ لأن كل منظومة تحاول توجيه الموارد في اتجاهات بعينها «تضر في الحقيقة بالغاية العظيمة التي تهدف لتعزيزها».45

(٦) دور الحكومة

يستكشف سميث في المجلد الخامس جوانب الدور الملائم للحكومة، منتقدًا إياها وذوي السلطة، غير أنه ليس من مناصري مبدأ عدم التدخل الحكومي في الاقتصاد؛ فهو يعتقد بأن اقتصاد السوق الذي قدَّم وصفًا له لا يمكنه العمل وتحقيق المنافع إلا إذا تحققت قواعده، ويحدث ذلك عندما تؤمَّن الملكيات وتُحترَم العقود؛ ولهذا فإن مراعاة «العدل» واحترام «حكم القانون» من الأساسيات.

وكذلك «الدفاع»؛ فإذا كانت هناك إمكانيةٌ لتعرُّض إحدى ملكياتنا للسرقة من جانب قوة أجنبية، فالأمر لا يختلف عن سرقة الجيران لها.

لكن سميث يتجاوز ذلك بقوله إن هناك أيضًا دورًا للحكومة في «توفير الأشغال العامة» و«تعزيز التعليم».

(٦-١) الدفاع

يذهب سميث إلى أنه في مجتمع الصيد والجمع، يتوجب على الجميع أن يدافعوا عن أنفسهم. لكن بما أن الصياد يعيش لكسب قوت يومه ولا يكاد يمتلك أي شيء، فليس هناك ما يدعو إلى تأسيس أي سلطة مركزية. أما في عصر الزراعة، فقد بدأ الناس يراكمون الملكية الثمينة (المحاصيل والمواشي مثلًا)، وأصبح الدفاع عنها أولوية لديهم. وبموجب مبدأ تقسيم العمل، تأسست قوة عسكرية متخصصة، يحقق منها ذوو الملكيات الأكبر منافعَ أكبر، لكنهم يجبرون الجميع على المساهمة فيها بدلًا من «الاستفادة المجانية»؛ ولذلك أصبح الدفاع من وظائف الحكومة.

(٦-٢) العدل

إن الحجة التاريخية السابقة تنطبق على العدل أيضًا، فعندما ينتقل الناس إلى مجتمع التجارة وتبادُل المنافع، يؤسس أصحاب الملكيات حكوماتٍ مدنيةً للدفاع عن أنفسهم ضد جيرانهم الذين لا يمتلكون أي شيء:
إن ثراء الغني يثير نقمة الفقير الذي دائمًا ما يحركه العوز ويدفعه الحسد للاعتداء على ممتلكات الغني، ولا يمكن إلا تحت حماية القضاء المدني أن يتمكن صاحب الأملاك الثمينة، والتي حصل عليها بجهد أعوام طويلة أو بجهد الكثير من الأجيال المتعاقبة، من النوم ليلة واحدة بأمان.46

ويمكننا أن نلاحظ بوضوح ما يتحقق من منفعة إذا ما تقبَّل الجميع سلطة القضاة المستقِلِّين، لكن الجهود التي يبذلها مَن يتمتع بالغنى والقوة لبناء مظلة قضائية تحميه، إنما تستمد الدعم من ميل الإنسان الطبيعي إلى احترام سلطة عدة ميزات شخصية، مثل: القوة والحكمة والحصافة والنضج والثروة والمكانة.

وبعبارة أخرى، يمكن القول بأن الحكومة المدنية هي محصلة الصراعات والتفاوتات التي تنشأ في المجتمع التجاري؛ وهي محصلة طبيعية نافعة عمومًا، لكنها ليست مثالية بأي شكل من الأشكال.

إن الحكومة المدنية، ما دامت قد أُقِيمت لضمان أمن الملكية، فقد أُقِيمت في الواقع للدفاع عن الغني ضد الفقير، أو عن هؤلاء الذين لديهم بعض الملكية ضد مَن ليست لديهم أي ملكية على الإطلاق.47
وليس من المفاجئ أن تتصف بنية الحكومة، التي أُقِيمت على هذه الأُسُس غير المثالية، بأنها غير مثالية؛ فالقدرة على جباية الضرائب تتيح لها مراكمة قدر هائل من الموارد، لكنها تمتلك حافزًا أقل لإدارة الملكية بكفاءة إدارة الفرد لها كجهة خاصة، ولهذا:
عندما أصبحت أملاك التاج البريطاني ملكية خاصة، كان من شأنها أن تصبح خلال بضعة أعوامٍ أراضيَ محسَّنة ومستصلَحة على نحوٍ جيدٍ … وكان العائد الذي تحصل عليه السلطة الملكية من رسوم الجمارك والضرائب سيزداد بالضرورة مع زيادة عائدات الأفراد واستهلاكهم.48
إن غياب هذا الحافز أمر يتطلب الإصلاح، و«الخدمات العامة لا تُنجَز أبدًا على نحوٍ أفضل من إنجازها عندما تكون المكافأة نتيجةً لأدائها، وتكون أيضًا متناسبة مع مقدار الجد والاجتهاد المبذول في أدائها».49

(٦-٣) الأشغال والمؤسسات العامة

إن الواجب الثالث الذي تتولاه الحكومة، بحسب رأي سميث، يتمثل في «إنشاء أشغال ومؤسسات عامة بعينها والمحافظة عليها، ولا يمكن أبدًا أن يكون إنشاؤها والمحافظة عليها في مصلحة أي فرد وحده، أو في مصلحة عدد قليل من الأفراد».50

ويتضمن هذا «مشروعات البنية التحتية» التي تسهل التجارة و«التعليم»؛ مما يعين الناس على أن يكونوا جزءًا بنَّاء في النظام الاجتماعي والاقتصادي.

الأشغال العامة

إن الازدهار يتطلب التجارة، والتجارة تحتاج إلى بِنًى تحتية كالطرق والجسور والموانئ. ويعتقد سميث أن بعض هذه البِنَى التحتية ليست قادرة أبدًا على إنتاج عائد يغطي تكلفتها، وأننا بحاجة إلى إنشائها من التحصيل الضريبي، غير أن جزءًا من التكلفة على الأقل يمكن استرجاعه عبر فرض رسوم على مستخدميها، وذلك بدلًا من فرض ضرائب على عموم الأمة. وعلى النحو ذاته، إذا كانت المنفعة الأساسية محلية ولا يمكن استرجاع تكلفة الإنشاء عبر الرسوم، فإن الحل الأمثل في هذه الحالة هو فرض ضريبة «محلية»، كأن يتوجب على دافعي الضرائب في لندن أن يدفعوا مقابل تعبيد الشوارع وإنارتها في مدينتهم، على سبيل المثال.

يعتقد سميث أيضًا في الحاجة إلى امتيازات عامة لتشجيع الناس على الانفتاح إزاء التبادل التجاري مع الدول «غير المتمدنة»، لكن هذا العون يجب أن يُقدَّم على شكل احتكارات محلية مؤقتة (كَبَراءات اختراع أو حقوق ملكية فكرية)، وليس على شكل إعانات من جانب دافع الضرائب.

وبما أن كتاب «ثروة الأمم» يُعتبَر حتى هذه النقطة بمنزلة إدانة مفصَّلة للحكومات التي «توجه رءوس أموال» الناس، فإن مقترحات الإنفاق العام هذه تبدو على العكس تمامًا مما ينادي به الكتاب في أفضل الأحوال. فالتجارة تحتاج حتمًا إلى البنية التحتية، تمامًا كما تحتاج إلى قواعد العدل، لكن ليس من الواضح لماذا لا ينبغي أن تُبنى الطرق والجسور والموانئ من منطلق تجاري، وأن تُسترَد كلفة إنشائها بالكامل بفرض الرسوم على مستخدميها، فحتى تعبيد الشوارع وإنارتها ربما يمكن إجراؤها وتمويلها عن طريق الشركات المحلية، التي يمكنها تحقيق المنفعة في المقابل. وإذا كان شق طرق تجارية جديدة أمرًا يستحق القيام به من جانب الشركات المحلية، فلماذا تريد الحكومة التدخل في هذا الشأن؟

ربما نلتمس لسميث عذرًا على أساس أننا نمتلك أدوات مالية أشمل بكثير من أجل توفير التمويل للمشروعات التجارية الجديدة وإنشاء البِنَى التحتية الضرورية، كما أن لدينا تقنيات أفضل لجمع الرسوم ممَّن يستخدم الطرق والجسور وغيرها من المنشآت. لكن في القرن الثامن عشر، يبدو أن التمويل والمبادرة من جانب الحكومة كانا يمثِّلان السبيل الوحيد للقيام بأمور معينة يتفق الجميع على ضروريتها.

تعليم الناشئة

يرى سميث في تعزيز التعليم الأساسي أمرًا مشابهًا للبنية التحتية؛ أي إنه شيء نحتاج إليه لإتاحة فرص الازدهار أمام التجارة، لكنه يورد هنا أيضًا تحليلات وتوصيفات لا تبدو منسجمة مع تحليله العام.

فيبدأ بقوله إن تقسيم العمل، مع كل ما فيه من منافع، قد يؤدي إلى عواقب اجتماعية غير مرغوبة؛ فالتركيز اليومي على مهام متكررة لا مفر من أن يؤدي إلى تضييق آفاق الناس وتقليص مصالحهم، إذ يقول:
إن الشخص الذي يقضي حياته بأكملها في أداء بضع عمليات بسيطة — ربما لا تخرج تأثيراتها عن منحًى واحدٍ دائمًا، أو في معظم الأحيان — لا يملك أي فرصة لجهد نفسه في التعبير عن إدراكه، أو ممارسة الابتكار في إيجاد أساليب للتخلص من صعوبات لا تحدث أبدًا.51

هذا ما دعاه ماركس لاحقًا «الاغتراب»، ويشدد سميث على أننا نحتاج إلى التعليم لتصحيح هذا الحال؛ إذ يجب أن يركز التعليم على العامل الفقير الذي يعاني أكثر من غيره (فالمصنِّعون والتجار يعيشون في عالم أكثر بهجة). ويرى سميث أنه لتسهيل التجارة، يحتاج الناس إلى الإلمام ﺑ «القراءة والكتابة والحساب»، كما أن الهندسة والميكانيكا نافعتان بالمثل.

ويمكن أن يعمل «العامة» على تيسير هذا التعليم من خلال إنشاء المدارس، كالمدرسة المحلية المموَّلة حكوميًّا التي ارتادها سميث في كيركالدي. على الرغم من ذلك، بينما ربما تدفع الدولة تكلفة الأبنية المدرسية، لا يتوجب عليها دفع كافة أجور المعلمين، فإذا كان المعلم يعتمد على أجره من التلاميذ، فهذا سيؤدي إلى أن يكون أداؤه أفضل بكثير، وهنا يتذكر سميث بانزعاجٍ أيامَه في أوكسفورد فيقول: «كادت أوقاف المدارس والكليات تؤدي بالضرورة إلى تقليل ضرورة بذل الجهد من جانب الأساتذة، وكانت رواتبهم مستقلة بالكلية عن نجاحهم وسمعتهم في مِهَنهم المميزة.»52

غير أن سميث لا يزال غير واضح بشأن القدْر الذي يجب أن تدفعه الحكومة في التعليم الأساسي، وذلك على الرغم من أنه يعبِّر عن احترامه الشديد للمدارس الخاصة لما بها من مهاراتٍ كتعليم المبارزة أو الرقص؛ حيث يدفع التلاميذ رسوم التعليم كافة. لكن إذا أخذنا بعين الاعتبار كتابات سميث حول المشروعات الحكومية، فربما يتبادر إلى ذهن القارئ المعاصِر سؤال حول ما إذا كان من الأصلح تقديم الإعانة المالية للتلميذ المحتاج، وليس للمدرسة التي يلتحق بها.

التعليم لجميع الأعمار

يرى سميث أيضًا أن هناك دورًا للحكومة في تعزيز تعليم الكبار والتعليم الديني؛ فرجل الدين يصبح كسولًا عندما يحصل على راتبه من العُشر، لكن إغراءات المدن المتنامية تعني أن التعليم الديني والأخلاقي لم يكن أبدًا على هذه المرتبة من الأهمية؛ ولذلك فإنه يؤيد على الأقل دور الحكومة في تشجيع دراسة العلوم والفلسفة والفنون. لكن سميث هنا، مرة أخرى، لا يحدد ما يريد؛ فهو يرى أن الحكومة يجب أن تولي «اهتمامًا جديًّا» بمكافحة «التشوُّه الذهني» الذي ينطوي عليه سلوك الجُبن، تمامًا كما يجب أن تمنع انتشار «الجذام أو أي مرضٍ آخر كريهٍ ومثير للاشمئزاز».53

(٦-٤) الحاكم

العنصر الأخير في قائمة المدفوعات من الضرائب هو «كرامة الحاكم»، وتتضمن تكاليف الملكية والعدل الجنائي، لكن سميث يشدِّد على أن معظم تكاليف العدل «المدني» يجب أن تُدفَع من أموال المتخاصمين، ما داموا هم مَن يحصلون على المنفعة الكبرى.

(٦-٥) مبادئ فرض الضرائب

بعد أن رسَّخ سميث لضرورة فرض بعض الضرائب على الأقل، ينتقل إلى سؤال يتعلق بكيفية جبايتها على النحو الأمثل، وهنا يبدو أكثر ثقة وعلى قدر أكبر من الإحاطة بالموضوع؛ فهو يدرك تمامًا أنه «ليس هناك من فنٍّ تتعلمه الحكومة على نحوٍ أسرعَ من سائر الحكومات كفن سحب الأموال من حافظات أموال الشعب».54
ولهذا من الواضح أن هناك حاجة لبعض القيود. ويقترح سميث أربعة مبادئ شهيرة لفرض الضرائب؛ أولًا: يجب على الناس أن يساهموا بمقدارٍ يتناسب مع الدخل الذي يتمتعون به في ظل أمن الحماية الحكومية. ثانيًا: يجب أن تكون الضرائب محدَّدة، لا أن تعتمد على قرارات اعتباطية يصدرها مسئولو الضرائب. ثالثًا: يجب ألَّا تكون الضريبة مرهِقة على نحوٍ يستعصي على الدفع. رابعًا: يجب أن يكون للضرائب أقل قدر ممكن من التأثيرات الجانبية، أي أن تكون جبايتها ذات تكلفة قليلة، وألَّا تؤديَ إلى إعاقة الصناعة والمشروعات، وألَّا تكون مرهِقة إلى حدٍّ يشجِّع على التهرُّب منها باستخدام تهريب البضائع وغيره، وألَّا تتطلب «زيارات متكررة وفحصًا بغيضًا من جباة الضرائب».55
يرى سميث أن فرض الضرائب أمر يجب أن تقوم به الحكومة على النحو الصحيح؛ فليس من الحكمة أن تفرض الضرائب على الشركات على سبيل المثال؛ لأن رأس المال الذي يعتمد عليه دخلنا — كما يلاحظ سميث ببصيرة مدهشة — يتصف بأنه متحرك بنشاط:
إن صاحب المخزون هو مواطن عالمي بكل ما تحمله الكلمة من معنًى، وليس هناك ما يربطه بالضرورة بهذه الدولة أو تلك، وقد يميل إلى ترك بلده الذي يتعرض فيه إلى استجواب مزعج لتقدير ما يجب عليه دفعه من ضريبة مرهِقة، وقد ينقل مخزونه إلى بلدٍ آخر يتيح له الاستمرار في أعماله، أو التمتع بثروته أكثر كيفما يشاء.56

لكن هناك بعض التضارب في خطط سميث في هذا المجال أيضًا؛ إذ نجده يعارض فرض الضرائب على الاستهلاك، لكنه يدعم فرضها على الكماليات (بما في ذلك من أشياء نعتبرها اليوم من الأساسيات كلحوم الدجاج). كما يرى سميث أنه يجب على الناس أن يدفعوا ضريبة تتناسب مع الدخل الذي يتقاضونه، لكنه يريد من الغني أن يدفع «ما يزيد عن تلك النسبة».

(٦-٦) الديون العامة

بينما تبدو بعض آراء سميث حول دور الحكومة متناقضة مع المبادئ العامة التي طرحها، وتفتقر بعض وصفاته السياسية إلى دقة الدراسة التي اعتدناها منه، فإنه ينهي كتابه على نحوٍ أشبه بأسلوبه القديم؛ إذ يرى أن الحكومات تميل إلى إنفاق مبالغ مالية أكثر مما تسحبه من الناس، وبذلك يختم «ثروة الأمم» بتحذيره من أن الدَّين القومي الكبير يؤدي بالخصوص إلى آثار ضارة.57

عندما تصدر الحكومة دَينًا، فإنها تسحب رأس المال من نطاق الاستثمار والنمو، وتوجِّهه نحو الاستهلاك الحالي — على هيئة أنشطة حكومية — مما يؤدي إلى تعثُّر حتمي في النمو. وإضافةً إلى ذلك، يتيح الاقتراض الحكومي للسياسيين أن يتولوا وظائف أخرى ويعززوا سلطتهم دون اللجوء إلى فرض ضرائب إضافية على الناس، كما أن الحكومات تعثر دائمًا على السبل التي تمكِّنها من تفادي تسديد الدَّين على أي حال؛ لهذه الأسباب، فإن الدَّين القومي ليس مجرد انتقال حميد من مجموعة إلى أخرى، وإنما هو خطر حقيقي يهدد الحرية؛ ومن ثَمَّ يهدد الازدهار.

(٧) «ثروة الأمم» في عصرنا الراهن

لا شك أن العالم الذي عاش فيه سميث كان شديد الاختلاف عن عالمنا، وذلك قبل أن تؤديَ الثروة الصناعية إلى تغيير كل شيء. فقد كان ينظر بعين الشك إلى شركات المحاصَّة التي تعتبر الدعامة الأساسية للرأسمالية المعاصرة، قائلًا إن «العدد الهائل من أصحاب الأملاك» لا يتيح لهذه الشركات قط أن تظل محافظة على تركيزها.58 ربما كان محقًّا في ذلك، غير أنه لم يتنبأ بصعود السلطة النقابية، ومشكلات التلوث الصناعي، وتضخم المال المجاز في التعامل، والكثير من المشكلات التي تزعج الاقتصاديين في عصرنا هذا.

وبغض النظر عن هذه الملاحظات، فإن «ثروة الأمم» — بما فيه من تبيان لكيفية ما تؤدي إليه حرية العمل والشعور بالأمن فيه، والتجارة، والادخار، والاستثمار من تعزيز للازدهار، دون أي حاجة لسلطة توجيه — يزودنا بنطاق فعَّال من الحلول لأسوأ المشكلات الاقتصادية التي يمكن أن نُبتلَى بها. إن الاقتصاد الحر هو منظومة مرنة قابلة للتكيف، يمكنها مقاومة صدمات المستجدات، والتغلب على كل ما يحمله المستقبل من تحديات.

هوامش

(1) A point made neatly by P. J. O’Rourke, On The Wealth of Nations, Atlantic Monthly Press, New York, 2006, pp. 7-8.
(2) Wealth of Nations, Book I, ch. I, p. 13, para. 1.
(3) Ibid., Book I, ch. I, p. 22, para. 11.
(4) Ibid., Book I, ch. I, p. 22, para. 10.
(5) Ibid., Book I, ch. II, pp. 26–7, para. 12.
(6) The Theory of Moral Sentiments, part VI, section I.
(7) The Wealth of Nations, Book I, ch. III.
(8) Ibid., Book I, ch. IV.
(9) Ibid., Book I, ch. V.
(10) Ibid., Book I, ch. VI, p. 65, para. 1.
(11) Ibid., Book I, ch. V, p. 49, para. 4.
(12) Ibid., Book I, chs V–XI.
(13) Ibid., Book I, ch. VI.
(14) Ibid., Book I, ch. VII.
(15) Ibid., Book I, ch. VIII, p. 84, para. 13.
(16) Ibid., Book I, ch. VIII, p. 96, para. 36.
(17) Ibid., Book I, ch. X, part II, p. 145, para. 27.
(18) Ibid., Book I, ch. X, part II, p. 145, para. 30.
(19) Ibid., Book I, ch. X, part II, p. 146, para. 31.
(20) Ibid., Book I, ch. X.
(21) Ibid., Book II, ch. I.
(22) Ibid., Book I, ch. IX, p. 105, para. 3.
(23) Ibid., Book I, ch. XI.
(24) Ibid., Book I, ch. XI.
(25) Ibid., Book I, ch. XI, p. 267, para. 10.
(26) Ibid., Book II, ch. II.
(27) Ibid., Book II, ch. II.
(28) Ibid., Book II, ch. II, p. 339, para. 20.
(29) Ibid., Book II, ch. III. p. 342, para. 30.
(30) Ibid., Book II, ch. III, p. 346, para. 36.
(31) Ibid., Book II, ch. III, p. 343, para. 31.
(32) Ibid., Book II, ch. V.
(33) Ibid., Book II, ch. V, p. 360, para. 7.
(34) Ibid., Book III, ch. IV.
(35) Ibid., Book IV, ch. I.
(36) Ibid., Book IV, ch. II.
(37) Ibid., Book IV, ch. II, p. 458, para. 15.
(38) Ibid., Book IV, ch. II, p. 456, para. 10.
(39) Ibid., Book IV, ch. III, part II, p. 493, para. c8.
(40) Ibid., Book IV, chs IV and V.
(41) Ibid., Book IV, ch. V, p. 520, para. 32.
(42) Ibid., Book IV, ch. VII.
(43) Ibid., Book IV, ch. VIII, p. 660, para. 49.
(44) Ibid., Book IV, ch. IX, p. 687, para. 51.
(45) Ibid., Book IV, ch. IX, p. 687, para. 50.
(46) Ibid., Book V, ch. I, part II, p. 710, para. c2.
(47) Ibid., Book V, ch. I, part II, p. 715, para. 12.
(48) Ibid., Book V, ch. II, part I, p. 824, para. a18.
(49) Ibid., Book V, ch. I, part II, p. 719, para. 20.
(50) Ibid., Book IV, ch. I, part III, p. 723, para. c1.
(51) Ibid., Book V, ch. I, part III, p. 782, para. f50.
(52) Ibid., Book V, ch. I, part III, article II, p. 760, para. f5.
(53) Ibid., Book V, ch. I, part III, article II, pp. 787–8, para. f60.
(54) Ibid., Book V, ch. II, part II, appendix to articles I and II, p. 861, para. h12.
(55) Ibid., Book V, ch. II, part II, p. 827, para. b6.
(56) Ibid., Book V, ch. II, article II, pp. 848–9, para. f8.
(57) Ibid., Book V, ch. III.
(58) Ibid., Book V, ch. I, part II, article I, p. 744, para. e22.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤