المجتمع

حاول الباحثون باستمرار — وهم في أغلبهم غربيُّون — أن يُلقوا في رُوعنا أن أيَّ محاولاتٍ لاستطلاع أمر الرافدين قبل السُّومريين، هي محاولات عقيمة لن تصِل أبدًا إلى يقين؛ لأنه رغم أنَّ الإنسان استوطن جنوبي وادي الرافدين قبل ما يزيد على خمسة آلاف عام من الميلاد بزمان طويل،١ فإننا لا نعرف إلا القليل النادر عن هؤلاء السكان، لعدم وجود مدوَّنات خطية، فلم تكن الكتابة اختراعًا معروفًا بعد، وكل ما نعلَمه أنه كان هناك مُستوطنون في المنطقة قبل السُّومريين، كان أشهرهم ما أُطلق عليه اصطلاحًا «عصر العبيد»، نِسبة إلى المكان الذي عُثر فيه على آثارهم ويُسمَّى الآن تلَّ عبيد، وانتهى أمرُهم بالانقراض مع الفيَضان العاتي لدجلة والفرات المعروف في الملاحِم الدينية بالطوفان.
ورغم أنَّ هؤلاء الباحثين يندفِعون في أغلبهم إلى اعتبار هذه الفترة السابقة على السومريين، فترة حضارة سومرية أيضًا، فإنَّ باحثًا شهيرًا في الأثريَّات السومرية هو «صموئيل نوح كريمر»، يذهب إلى أن حضارة السومريين إنما كانت ناتج تلاقُحٍ واضح بين شعب العبيد، المُرجَّح عند «كريمر» أنه سامي الأصل، وبين الشعب السومري الذين هم في رأيه الوافدون الأغراب عن المنطقة، ثم يُعقِّب بقوله: إنه «نتيجة للإخصاب المتبادَل، ظهرتْ إلى الوجود أول مدنية راقية نسبيًّا في بلاد سومر.»٢ هذا مع أخذِنا بالحسبان تأكيد «لويد Loide» أن السومريين لم يصِلوا إلى جنوب الرافدين، إلَّا حوالي منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد.٣

لكنَّنا — رغم إشارات باحثٍ مثل كريمر — سنظلُّ الآن مع الرأي الغالب، فنبدأ دراستنا مع السومريين، بحُسبانهم لدى الباحثين في مُجملهم بدايةَ وأصلَ الحضارة في شرق المتوسط.

ومع بداية الألف الثالثة قبل الميلاد، يُمكننا أن نرسُم صورة غير دقيقة المَعالم تمامًا للمجتمع السومري، الذي شكَّل حضارة زراعية في هذه المنطقة النهرية الخصبة، في شكل مُشتركات قروية، في البداية. ولم تكن التجارة والنقود مُتطوِّرتَين بشكلٍ واضح — فيما يُخبرنا به شيسنو،٤ أما الملكية فقد أخذت شكل الحيازة الفردية ضِمن المجموع، المالك الحقيقي، بحيث إنَّ ما كان يخصُّ الفرد، إنما كان ضِمن المشترَك بوصفه عضوًا مُتحدًا به،٥ بل ويعلمنا «فرانكفورت Frankfort» أنَّ كل شيء كان ملكيةً جماعية، حتى أدوات الفلاحة والبهائم.٦

ومع مرور الزمن، في بيئة طبيعية مُتقلبة لا تعرِف الاستقرار، وإزاء العواصف غير المتوقَّعة، والفيضانات المفاجئة ارتبط هؤلاء بقوًى غير منظورة، ربطوها بظواهر الطبيعة، وتمثَّلوها فيها، وعبَدُوها رغبةً ورهبة، واستشعروا إزاءها التبعيَّة التامَّة، لكن يبدو أنَّ ذلك لم يكن بحدِّ ذاته كافيًا لجلب النفع من الطبيعة، أو على الأقل لدرء غضبها وكوارثها؛ ومن هنا احتاجت الأمور إلى تكاتُف القوى البشرية مع القوى الإلهية، عن طريق وسيطٍ بشري، يتَّسِم بمواصفاتٍ رأوها آنذاك علاماتٍ لصِلةٍ جيدة بالآلهة، فكان هذا الوسيط هو الوساطة الناجعة مع الآلهة، فكان ذلك هو الشكل الرئاسي البدائي لإدارة شئون الجماعة، بقصد تقليل أخطار الطبيعة وجلْب نفعها، عن طريق إدارة شئون العمل البشري الفعلي المُتكاتِف، في تنظيم أمور الري والزراعة، والتخفيف من نتائج الكوارث وتنظيم القُدرات في مواجهتها، وفي الوقت نفسه يتمُّ ذلك بعلاقة الوسيط مع الآلهة، التي تُوحي له بأفضل السُّبل لتَوقِّي أخطار كانت هي اليد الفاعلة فيها!

ومن ثَمَّ تقاربت الجماعات لتُشكِّل مجتمعًا متحدًا إزاء الطبيعة، وتَخضع لهيئة إدارية من المُتَّصِلين بالآلهة، لتمثيل المُشترك أمامها. وقد كوَّن هؤلاء فئةً متميزة وجهازًا مُتراتبًا، يعلوه شخصٌ كفء، كحاكم مفوَّض من قبل المُشترك، ومسئول أول أمام أعضاء المُشترك وأمام الآلهة في آنٍ واحد.

ويبدو أن الأمر قد بدأ بنوعٍ من التفويض المؤقَّت لفرد «أصبح يختار له مُعاونين فيما بعد» من قبل أفراد المُشترك جميعًا، والذين كانوا يشكلون مُجتمعًا ديمقراطيًّا بدائيًّا، يمكن تصوُّره على هيئة مجلس عام. ويؤكد لنا «هنري فرانكفورت H. Frankfort» أنه عندما ظهرت الكتابة، وجدْنا إشارات لمَجلسين هما: المجلس العام ومجلس الكبار،٧ ومن ثَمَّ تفرَّغ هذا الفرد ومُعاونوه من العمل البدائي، وركَّزوا جهودهم الذهنية في التعامل مع الآلهة وقُدراتها الطبيعية، بمحاولة قراءة هذه القُدرات الظاهرة والتنبُّؤ المُستطاع بفعلها المُستقبلي للمحافظة على نظم الري، وتلافي أو مواجهة مشاكل قد تنتُج عن تقلُّب المزاج الإلهي في الطبيعة، أو لمواجهة حروبٍ طارئة مع مُشتركات مجاورة تحتاج إلى نشاطٍ سريع وحاسم.

ومع استمرار الطوارئ، تحوَّلت الحاجة لهذه الإدارة من حاجة مؤقتة طارئة إلى حاجةٍ دائمة مُستمرة، مما أدى إلى ديمومة سلطة الوسيط ومعاونيه فتحوَّل بالتدريج إلى كاهنٍ وحاكم كبير، كما تحوَّل المشترك القروي بذلك إلى مُشترك معبدي، يضمُّ مجموعة مُشتركات قروية، لتظهر إلى الوجود دولة المدينة، التي تخضع كُليًّا لإله المدينة الأعظم، وبالتالي لنائبه ووسيطه الأرضي، حتى عُدَّ هذا الإله سيِّدًا إقطاعيًّا مُتغيبًا (لبعض شئونه)، لكنه كان يُثبت حضوره باستمرار بما يطلُبُه من إنتاج أعضاء المُشترك المعبدي، من قرابين ونذور وتضحيات وهِبات، أدَّى تراكمها إلى زيادة قدرات الكاهن الحاكم الوسيط، وبدأ يتحوَّل بما يملك من مواد مُتراكمة وأحيانًا نادرة إلى ملكٍ مُطلق النفود.

وبمرور الزمن، أخذ الملك يتفرَّغ للعمل الإداري والسياسي، لمواجهة المُشتركات الأخرى التي تحوَّلت بدَورها إلى ممالك، تاركًا مهمة الاتصال بالآلهة لأتباعٍ فوَّضهم عنه لهذا الغرض، ليُصبحوا وسطاء يعقدون معها المُحالفات، ويتلقَّون توجيهاتها ويُسكِّنون ثائرتها، ويُبلغونها برغبات عُبَّادها. ومن هنا بدأت تظهر ثلاث طبقات مُتمايزة، هي الطبقة الإدارية أو البيروقراطية مُمثَّلة في الجهاز الإداري الحكومي وعلى رأسه الملك وحاشيته ومُعاونوه ورجال جيشه؛ وطبقة الكهنة، وباقي جماهير الشعب التي تُشكِّل الطبقة الثالثة في الدولة.

وقد وجد الكهنة بالذات سبيلًا سريعًا للإثراء، من خلال إمساكهم بعنان المزاج الإلهي إنْ رضًا أو غضبًا، ممَّا أدَّى أحيانًا إلى اصطدام الكهنة بالملك، ممَّا كان يُضطرُّ الملك إلى خلع الإله المُزعج، وإعلان نفسه إلهًا، بانقلابٍ سلمي يُمسك بزمام الكهنة، وحينها كان نظام حُكم المدينة يتحوَّل إلى الشكل الاستبدادي المُطلق.

لكن يبدو أنَّ جدَل التطوُّر قد توقَّف بالسومريين عند حدود المدينة، فتحدَّدت ملامح حضارتهم بحدود الدولة المدينية، ومن ثَمَّ اتَّسمَت هذه الحضارة بخاصية المُدن المستقلة، التي لم تعرِف الوحدة الشاملة، إلا على يدِ الغزاة الساميين الذين أقاموا الدولة الأكادية، إلَّا أن نظام المُدن المستقلة السومري، لم يوقِف عملية التطوُّر الداخلي لكل مدينةٍ على حدة، فاستمرَّت عملية النمو الحضاري لكل مدينةٍ تسير في طريقها قُدمًا، مع تبادُل الفكر والثقافة وأهم المآثر الدينية، وكافة الأساليب الحضارية المُتيسرة لها، فيما بينها، وهو ما يُعقِّب عليه «عبد العزيز صالح» بقوله:
وهكذا قطع السومريون أكثرَ من خمسة قرونٍ من بداية عصر الأسرات العراقي، غابت فيها الوحدة السياسية الكاملة عن آفاقهم، وذلك على الرغم من أنَّ أهلها في مجموعهم، كانوا يُحسُّون تلقائيًّا بوحدة جنسهم، ويحسُّون بتقارُب مذاهبهم الدينية التي شجعتهم على أن يتمثَّلوا أربابهم في بعضٍ آخر، وتخيَّلوا صفات بعضها لبعضٍ آخر.٨
ثم يُحاول «نجيب ميخائيل» تعليل عدَم قيام وحدةٍ سياسية سومرية مركزية كبرى، وهو الأمر الذي أنجزته مصر مُبكرًا بقوله:
إنَّ الحياة في وادي الرافدين، كانت تختلف اختلافًا بيِّنًا عنها في وادي النيل؛ فوادي الرافدين أقلُّ دفعًا للوحدة السياسية، ومن ثم كانت هناك الدول المُدن التي تأخَّر توحيدها، وإن لم يقُم ذلك حائلًا دون تطوُّرها. والعراق القديم كان مفتوحًا، بينما كانت مصر مغلقة؛ أسهم وجود الصحراء على جانبَي واديها في صيانة كيانها ورَدِّ كثيرٍ من الهجمات حتى استطاعت أن تُغلق في كثير من الأحيان أبوابها، دون الطامحين فيها. أما مجاوِرات العراق القديم، فأراضٍ خِصبة، استطاعت أن تأوي إليها شعوب تُهدِّدها، وتعرِّض أراضيها للعدوان، الذي كان يؤثِّر على ركب الحضارة، فيُعطِّله أو ينال منه.٩
ومع ذلك فيبدو أن السومريين قد استشعروا نوعًا من الوحدة القومية بينهم رغم الفُرقة السياسية، وهو ما يمكن أخذُه من تأكيد الآثاريين:
إنه ليس هناك شكٌّ بأن السومريين كانوا يعتبرون أنفسهم من صنف الشعب المختار. في أسطورة آنكي ونظام العالَم، التي تُعالج موضوع خلْق آنكي للذاتيات الطبيعية والحضارية والعمليَّات الضرورية للمجتمع المُتمدِّن وتنظيمها، نجده يُبارك بلاد سومر بكلماتٍ رفيعة، تكشف أنَّ السومريين يعتقدون بأنفسهم كمُجتمع، أو بالأحرى مُجتمع مُميز ومقدَّس، مُتصل بالآلهة اتصالًا أقوى من اتصال بقية البشر بها، بشكلٍ عام.١٠
بل إنه رغم اعتراف المُهتمين بالحضارة السومرية، أنَّ السومريين مجموعة غريبة على المنطقة، فإنهم يزعمونهم أصحابَ ثقافةٍ قُدِّر لها السيادة على جميع أجزاء الشرق الأدنى، فيقول «كريمر Kramer»: «وتتجلَّى هذه السيادة الثقافية في عدة اتجاهات:
  • (١)

    أنَّ السومريين هُم الذين طوَّروا، ومن المُحتمَل أنهم قد ابتكروا، طريقة الكتابة المِسمارية، التي اقتبسَتْها جميع شعوب الشرق الأدنى على وجه التقريب.

  • (٢)
    طوَّر السومريون المفاهيم الدينية والروحية، كما أدمجوا مجموعة الآلهة المُختلفة على نحوٍ رائع، فكان لهذا الدمج أثرُه العميق على شعوب الشرق الأدنى، وبضِمنهم العبرانيون والإغريق، إضافةً إلى نفاذ الشيء الكثير من هذه المفاهيم الروحية والدينية إلى عالَمِنا المتمدِّن، عن طريق الأديان السماوية.»١١
ويكمُن ذلك عند «كريمر Kramer» في أنه قد «طوَّر السومريون خلال الألف الثالث قبل الميلاد، أفكارًا دينية ومفاهيم روحية، تركتْ في العالَم الحديث أثرًا لا يمكن مَحوُه، خاصَّة ما وصل منها عن طريق الديانات: اليهودية والمسيحية والإسلام؛ فعلى المستوى العقلي، استنبط المُفكرون والحكماء السومريون، كنتيجةٍ لتأملاتهم في أصل الكون وطبيعته وطريقة عمله، نظريةً كونية، وأُخرى لاهوتية، كانتا تنطوِيان على إيمانٍ راسخ وقوي بحيث إنهما أصبحتا العقيدة والمبدأ الأساسيين، في أغلب أقطار الشرق الأدنى القديم. وعلى المستوى العملي والوظيفي، طوَّر الكهنة ورجال الدين السومريون مجموعة من الطقوس والشعائر والاحتفالات، الغنيَّة بالألوان والتنوع، التي كانت تؤدَّى لغرَض إرضاء الآلهة وتهدئتهم، بالإضافة إلى ما فيها من إشباعٍ عاطفي، لحُب الإنسان للمهرجانات والمشاهد الضخمة.»١٢
١  جوردون تشايلد: التطوُّر الاجتماعي، ترجمة لطفي فهيم، مؤسسة كل العرب، القاهرة، ١٩٦٦م، ص١٨٠.
٢  صموئيل نوح كريمر: السومريون تاريخهم وحضارتهم وخصائصهم، ترجمة د. فيصل الوائلي، وكالة المطبوعات، الكويت، د.ت، ص٥٦.
٣  سيتون لويد: آثار بلاد الرافدين، ترجمة د. سامي سعيد الأحمد، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، ١٩٨٠م، ص٧٠.
٤  Chesneaux (jean): ln Center d Etudes de et de Recherches Marxistes (C.E.R.M) sur Le Mode de production siqtque Edition sociales Paris, 1969, p. 29.
٥  موريس غود ولييه: ضِمن كتاب «حول خط الإنتاج الآسيوي»، مع جان سوريه وآخرين، ترجمة جورج طرابيشي، دار الحقيقة، ١٩٧٢م، ص٧٥.
٦  Frankfort (Henri): La Royaute et les dieux, Paiot, Paris, 1951, p. 269.
٧  Frankfort (Henri): The Birth of Civilization in the Near East, Wiliams and Norgate, Limted Great Britain, 1951, p. 290.
٨  د. عبد العزيز صالح: الشرق الأدنى القديم، مصر والعراق، الهيئة المصرية العامة لشئون المطابع الأميرية، القاهرة، ١٩٦٧م، ج١، ص٤٠١.
٩  د. نجيب ميخائيل: مصر والشرق الأدنى القديم، حضارة العراق القديم، دار المعارف، القاهرة، ١٩٦١م، ج٦، ص٤.
١٠  كريمر: السومريون، سبق ذكره، ص٤١٢.
١١  كريمر: الأساطير السومرية، ترجمة يوسف داوود عبد القادر، مطبعة المعارف، بغداد، ١٩٦١م، ص١٩.
١٢  كريمر: السومريون، سبق ذكره، ص٤١٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤