الآلهة التوراتية

هكذا لا يعود مُستغربًا أن نجد الدين اليهودي قد مرَّ بأطوارٍ لا يحكمها منطق مُحدَّد، قدْر ما تحكمها ظروف أخرى أهمُّها التأثُّر بمختلف عقائد شعوب البلدان التي عاش فيها اليهود أزمانًا طويلة، سواء في البلاد الكنعانية أو المصرية أو الرافدية، أو أي موطن آخر استقرُّوا فيه بضعًا من الزمن. ومن هنا يمكن لأي باحث — بقليل من الجهد — أن يجِد في التوراة مآثر مصرية وأخرى رافدية وثالثة فينيقية، أو أن يجد طبيعة التأليه تتضارب ما بين التأثر بآلهة الخِصب والزرع والري، وبين آلهة الصحراء والجبال والبراكين، وبين فجاجة الاعتقادات والطقوس الابتدائية، وبين قمَّة التطوُّر في مفهوم الألوهية نحو المُطلق، وكله في آنٍ واحد، يتناثر دون تنظيم مُحدَّد على صفحات التوراة فيُشكِّل خليطًا عجيبًا دونما رابط ولا زمام، ولا مُراعاة لمنطق التطوُّر الزمني أو الاختلاف المكاني، ولا يبقى أمام الباحث سوى أن يُلقي بنفسه وسط هذه الأحبولة ذات المائة وجهٍ والألف لون.

ولا نزعم أنه بإمكاننا ترتيب الأمر كله دفعةً واحدة، وإلا كان ذلك سذاجةً مُفرطة، وإنما غايةَ ما نزعمه هو الإخلاص في المحاولة مع الإشكاليات التي قد تعترِضنا، على أن تتمَّ هذه المحاولة على خطوات، مع كل خطوة نخطوها في بحثنا، في هذا التلِّ المُختل من الأحاجي والطقوس والاعتقادات والنُّظم والتاريخ، الباطل منها والصحيح.

وسيرًا مع خُطَّتنا التي اتبعناها في البابَين السابقين، سنحاول فَهم طبيعة التأليه في التوراة، وهنا يقول لنا «إيفار لسنر»: إن سفر التكوين ينسِب جزءًا من عملية الخلق إلى إلهٍ يُدعى «إلوهيم Elohim» بينما ينسِب جزءًا آخر إلى إلهٍ يُدعى «يهوه Jehovah»١ ورغم تبسيط «لسنر» المسألة وتسطيحها، فإنَّنا سنقِف مع هذين الإلهين «إلوهيم» و«يهوه أو جاهوفاه» وقفة تفصيلية بعض الشيء:

والاسم «إلوهيم» هو جمع للاسم «إيل» أو «إل» الذي عرفناه عند الساميين في الرافدين والهلال الخصيب، وهو الإله الذي استمرَّ وجوده في التوراة مُتواترًا، طوال عصر الآباء البطاركة «إبراهيم» النبي، والمُمتدِّ عبر أبنائه وأحفاده، حتى ظهور النبي «موسى»، ومع «موسى» يبدأ «يهوه» في الظهور، بعد أن التقى بموسى في «مديان» وهو هارب من مصر، بعد جريمة قتلِهِ المصري ظلمًا، حيث قال له: «ظهرتُ لإبراهيم واسحق ويعقوب بأني الإله القادر على كل شيء، وأما باسمي يهوه فلم أُعرَف عندهم» (خروج ٣٦: ٣).

وهنا قصدٌ واضح من التوراة للتفرقة بين عهدَين، عهد عُبد فيه الإله باسم «إيل» طوال عصر الآباء الأول، ثم عصر جديد يبدأ موسى يُظهر فيه الإله باسم «يهوه» وبما أن المفترَض في سفر التكوين كقصة للخليقة، أن يكون أقدم بعصورٍ وأزمنة بعيدة عن عهد موسى، ويعود إلى عصورٍ مُوغلة في القِدَم، فإنَّ «يهوه» يظهر فيه ليقوم بجزءٍ من عملية الخلق، في عدة مواضع، ممَّا حدا بالباحثين إلى الظنِّ أن هذا السفر قد كُتِب بعد عهد موسى بزمانٍ طويل، أما نحن فنرى في ذلك تأليفًا بين قصَّتَين للتكوين؛ إحداهما قصة عتيقة قام بها بدور البطولة مجموعة من الأبطال من الآلهة القديمة عبَّرت عنهم التوراة باسم الجمع «إلوهيم»، كل منها «إيل»، وهى الآلهة التي رافقت العهد الإبراهيمي في التوراة، وقصة أُخرى أحدث، قام فيها بدور البطولة الإله «يهوه»، الإله الذي أرفقته التوراة بالعهد الموسوي وما بعده حتى اليوم.

وقد سبق وعلِمنا أنَّ «إل» كان اسمًا جلاليًّا منتشرًا على نطاقٍ واسع بين جميع الشعوب السامية، وعرفته القبائل السامية الضاربة على سواحل المتوسط الشرقية، ووصفته ملحمة البعل الأوغاريتية الفينيقية بأنه «إيل أبو السنين» و«خالق الخلائق»، «ثورايل»، «مقام إيل عند نبع النهرين»٢وهي إشارات تدلُّ على مستوًى تطوُّري رفيع بلَغَه «إيل»، حيث تحوَّل من إلهٍ فرد ضِمن مجمع إلهي، إلى أبٍ رفيع الشأن وإلهٍ للزمان «أبو السنين»، وتدلُّ أيضًا على مستوًى رفيع من التجريد لدى هذه الشعوب، ممَّا أدَّى به إلى التحوُّل إلى رمزٍ جلالي يُطلَق على أي معبود، ومن إله بذاته إلى اسم مجرَّد يعني الإله أو الله، مما انتهى بالباحثين إلى اعتبار «إل» علمًا إلهيًّا عُرف في كل العبادات السامية بلا استثناء.٣ خاصَّةً بعد أن تأكد لدى الباحثين في آثاريات جزيرة العرب أن «إل» كان معبودًا معروفًا قديمًا ومنتشرًا في كل بِقاعها.٤
ورغم أن «موسكاتي» يرى أنه كان شخصيةً إلهيةً غامضة٥ فإن «ديتلف نيلسن» الباحث والآثاري في آثاريات جزيرة العرب، يؤكد أنَّ هذا الإله كان متواجدًا باستمرارٍ في جميع النقوش التي عرَضَت له، وأنه كان ذا دلالةٍ عامة «اسم جلالة» لكن «نيلسن» يُشير في الوقت ذاته، إلى أنه قد عرَضَت له نقوش، ظهر فيها «إل» كدالٍّ على إلهٍ خاص مُحدَّد مُفرَد،٦ ممَّا يدعونا إلى افتراض أنه ابتدأ كإلهٍ خاص، ذي دلالة طبيعية مُحدَّدة، مثل «آن» السومري، نظنُّها السماء، ثم تحوَّل إلى رئيسٍ لمجمع إلهي، ثم مع التطوُّر انتهى إلى اسم جلالي ذي دلالة عامة.٧
ورغم أن البادي في سفر التكوين التوراتي، أنَّ «إل» إلهٌ مُفرد ذو دلالة مُحدَّدة، كما في التأكيد أن «إيل إله إسرائيل» (تكوين ٣٠: ٢٠)، وأنه كان له مَوضع مُقدَّس حمل الاسم السامي «BIT»، فأصبح هو «إله بيت إيل» (تكوين ٣١: ١٣)، فإن الباحث في التوراة يجده في مواضع أخرى كثيرة، اسمًا ذا دلالة عامة، وأنه استُخدم للدلالة على عددٍ من الآلهة كل منها «إل» أو إله، تعاصَرت في العهد الإبراهيمي، وكوَّنت مجمعًا كان له إلهٌ رئيس أو كبير مُيِّز بلقب «الرب الإله»، ويُمكن أن نفهم ذلك من نصوصٍ عديدة، منها مثلًا:
وسمِعا (آدم وحواء) صوت الربِّ الإله ماشيًا في الجنة
فنادى الربُّ الإله آدم وقال: أين أنت؟
فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟
فقال الربُّ الإله للحيَّة: لأنك فعلتِ هذا ملعونةٌ أنتِ.
(تكوين ٣)
أو ما نجده في النصِّ الذي يحكي عن موقف الرب الإله من أبوَي البشر، بعد أن أكلا من ثمرة المعرفة المُحرَّمة بأمر الإله، وخشية الرب الإله أن يتطاوَل آدم وحوَّاء أكثر، ويتناولا من ثمرة الخلود ويعيشا إلى الأبد كالآلهة، يقول النص: على لسان الرب:

هو ذا الإنسان قد صار كواحدٍ منَّا عارفًا الخير والشر، ولعلَّه يمدُّ يدَه الآن ويأخُذ من شجرة الحياة أيضًا، ويحيا إلى الأبد.

والتعبير «كواحدٍ منَّا» يُشير بوضوحٍ إلى مجمعٍ من الآلهة الخالدة، يقِف فيه الربُّ الإله متحدثًا. ومثل هذه الإشارات كثير التكرار في التوراة، ومنها مثلًا عندما خشي الإله البشَر، الذين قاموا يبنون بُرجًا صاعدًا إلى السماء، وحتى لا يقلقوا راحته السماوية، فقد بلبَلَ ألسنتَهم وفرَّقها كي لا يَفهَم بعضهم بعضًا، ويتفرَّقوا عن البناء، فقام يقول:

هلُمَّ ننزِل ونُبلبل ألسنتهم.

(تكوين ١١: ٥–٨)
وغالبًا ما حدَّدت التوراة الإله في مجمعٍ من ثلاثة شخوص، كما في قصة ذهاب الربِّ إلى النبيِّ إبراهيم، لزيارته وتبشيره بغُلامِهِ إسحق، وإبلاغه بقرار تدمير أهل لوط ابن أخيه في «سدوم» و«عمورة»، الذين تفشَّى بينهم داء الشذوذ الجنسي. تقول التوراة:

وظهر له الربُّ عند بلوطات مُمرًّا، وهو جالس في باب الخيمة وقتَ حرِّ النهار. فرفع عينيه ونظر، وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه، فلمَّا نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة، وسجد إلى الأرض، وقال: يا سيِّد إن كنتَ قد وجدتَ نعمةً في عينيك، فلا تتجاوز عبدَك.

(تكوين ١٨: ١–٣)
والنصُّ واضح تمامًا، فالربُّ هنا يظهر في صورة ثلاثة رجال، استقبلهم إبراهيم، ثم خاطبهم بصيغة المفرد: يا سيِّد، عينيك، عبدَك، ونتابع النص:

ثم قام الرجال من هناك وتطلَّعوا نحو سدوم، وكان إبراهيم ماشيًا معهم ليُشيِّعَهم، فقال الرب: هل أُخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله؟ … وانصرف الرجال من هناك، وذهبوا نحو سدوم، وأما إبراهيم فكان لم يزل قائمًا أمام الرب.

(تكوين ١٨: ١٦–٢٢)
مرة أخرى، الربُّ هنا مجموعة رجال في واحد، لكن المُربك في هذا النص القول إنَّ هؤلاء الرجال الآلهة ذهبوا نحو سدوم ليُدمِّروها، بينما بقي الربُّ مع إبراهيم، ولا تفسير لهذا الأمر سوى أنَّ الذي بقِيَ هو كبيرهم الرب الإله. ويؤكد لنا هذا الفهم، أنَّ الذين ذهبوا لتنفيذ المهمة اثنان فقط، فالنصُّ يتابع قائلًا:

فلمَّا رآهما لوط، قام لاستقبالهما وسجَدَ بوجهِه إلى الأرض، وقال: يا سيدي مِيلا إلى بيت عبدكما، واغسِلا أرجُلكما …

(تكوين ١٩: ١-٢)

ومع ذلك فإنَّ مزيدًا من الإمعان في التوراة، يرفع عدد آلهة المجمع، حيث نجد عددًا لا بأس به من الآلهة، فهناك: «إل صبلوت» إله الجنود، و«إله عليون» الإله العلي، و«إل شداي» الإله الشديد أو القدير، و«إل شلم» إله السلام، و«إل جبور»، و«إل رحبوت» و«إل يراه» ويمكن لخبرة الباحث في تاريخ الديانات وفي الميثولوجي، أن يشتَمَّ في هذه الأسماء، أسماء لآلهة مواضع ومناطق وظواهر طبيعية فترجمة «إل صبلوت» يمكن أيضًا أن تكون «إله الظباء» أو الإله الظبي أو التيس، وهو إله معروف في تاريخ الديانات كرمز للخصب، و«إل عليون» يمكن أن يكون إله مكان مُرتفع كقمَّة جبل أو بركان أو ما شابَهَ ذلك و«إل شداي» يمكن أن يُترجَم إضافةً إلى كونه الشديد، إلى إله الشذى أو الرائحة أو الريح (الدال تختلِط بالذال في الساميَّات)، و«إل يراه» رمز واضح لإله الماء والري والخصب، وينطق أيضًا «يراخ»، والمصريون يقولون:«المطر يرخ.» ويتَّضِح للمُدقِّق في التوراة أن إل يراه كان إلهًا لبئرٍ أو لِعَين من الماء فهو يلتقي بهاجر «على عين الماء التي في طريق شور» (تكوين ١٦: ٧)، ويأمُرها بالرجوع إلى سيدتها فدعَتِ اسم الربِّ الذي تكلَّم معها: «أنت إيل رئي.» والمعنى أن هاجر تعلَم أن هناك أكثر من إلهٍ فميَّزت الإله الذي قابلته «الذي تكلَّم معها» وعرفت فيه إله الري، بأنه «أنت إيل رئي.» وقد اكتشفت أنه إله الري بالذات، والسبب «لأنها قالت: أها هُنا رأيت بعد روية» (تكوين ١٦: ١٣)؛ أي ارتويت بعد عطش كاد يكون موتًا «روية»، ثم إنها صادفت ذات الإله بعد ذلك عندما أخذها إبراهيم النبيُّ بأمر زوجته سارة إلى البرية، حيث تركها هناك مع طفلها إسماعيل، حيث تظهر علامات إلهِ الخِصب مرةً أخرى حين «طرحت الولد تحت إحدى الأشجار» (تكوين ٢١: ١٥)، وأخذت تبحث عن الماء، «وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء» (تكوين ٢١: ١٩)، لذلك «دعت البئر بئر لحي رئي» (تكوين ١٦: ١٣)، ولعلَّ النصَّ في الأصل «دعت البئر لهي رئي»؛ أي إله الري والماء.

ويظهر الإله «لهي رئي» في أكثر من موضع في العهد الإبراهيمي، لكن مع تداخُل يهوه، الذي لم يظهر إلا في العهد الموسوي، بيدِ الكاتب المتأخر الذي خلَط بين العهدين، وذلك في قصة تضحية إبراهيم بابنه لربِّه، وطقس التضحية يرتبط عادةً بإلهة الخصب والري، طلبًا للغيث والري، كما يرتبط بطقس الجنس الجماعي، والموضع الذي ذهب إبراهيم ليُضحِّي فيه بولده يأتي في النص القائل «فدعا إبراهيم اسم ذلك الموضع «يهوه يراه»» (تكوين ٢٢: ١٤)، وهنا يرِدُ «يهوه» بمعنى الإله مُضافًا إلى «يراه» فهو إله الري، وفي أكثر من موضع نجد اسحاق بن إبراهيم يُسمِّي بئر هذه المنطقة «بئر لحي رئي»، أو ما افترضنا «بئر لهي رئي» أي إله الري وليس إله الرؤية بمعنى البصيرة (التكوين ٢٤، ٦٢، ٢٥، ١١).

وهناك أمر يرتبط بهذا الإله هو إشارة المؤرِّخين العرب والمُسلمين إلى هبوط النبيِّ إبراهيم مع هاجر وولدها إسماعيل جزيرة العرب، لكن التوراة لم تُشِر إلى هذا الأمر بوضوح، وإن كنَّا قد استطعنا أن نعثر على مُتفرِّقات بالتوراة، يمكن أن تربط إبراهيم وجزيرة العرب، وأثبتناه بالأدلة في بحثنا «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول، سينا للنشر»، ويرتبط أيضًا بهاجر وبالإله الذي التقت به عند البئر «إله رئي»، وبطقس ذبح الابن الذي كاد أن يقوم به النبي إبراهيم (وهو أحد طقوس عبادة الخصب، حيث كانت التضحية بالابن البِكر شرعةً واجبة في عبادات الخِصب بطول المنطقة وعرضها فكان العباد يذبحون البِكر ويُحرقونه في حجر الإله).

والتوراة تُورد الأمر الإلهي لإبراهيم بقولها: «خذ ابنك وحيدك الذي تُحبُّه إسحق، واذهب إلى أرض المريا، وأصعِده هناك محرقة» (تكوين ٢٢: ٢)؛ لذلك «دعا إبراهيم اسم ذلك المَوضع يهوه يراه، حتى إنه يُقال اليوم في جبل الرب يرى» (تكوين ٢٢: ١٤).

والنص يعني أن الرب أمر إبراهيم بذبح ابنه إسحق، وهو ما لا يتفق مع شِرعة التضحية بالبِكر، والبكر هو إسماعيل، والعرب والمُسلمون يؤكدون أنَّ الذبيح كان إسماعيل، وهو ما يتَّسِق مع تلك الشرعة القديمة. وإذا كان إسماعيل في التوراة، وفي كتُب التراث الإسلامي هو الجد البعيد لعرَب الجزيرة، فإن ذلك كله يذهب بنا إلى جزيرة العرب، في رحلة إبراهيم مع هاجر وإسماعيل حيث تركهما هناك، لكن بعد أن كاد يُضحِّي بولده في «أرض المريا» لذلك سُمِّي الموضع «يهوه يراه» وأنه يُسمَّى حتى اليوم، أو بتعبير التوراة: يقال اليوم «جبل الرب يرى»، وهو ما تعنيه تمامًا اللفظة العربية «المروة»، التي تتركَّب من مُلصَقَين هما «الإله» و«مروة» أو «مروي» وتُشير إلى الري والخِصب.

ولم تزل «المروة» موضعًا مُقدَّسًا في بلاد الحجاز، باعتقاد أن قُدسيته موروثة منذ أيام النبي إبراهيم، وشعيرة الهرولة بين الصفا والمروة أحد شعائر الحج الأساسية، ويتبَعُه ضِمن الطقوس شعيرة الذبح.

وتقول كتُب التراث الإسلامي: إنَّ الصفا والمروة كانا مُقدَّسَين قبل الإسلام بزمانٍ وظلَّا مُقدَّسَين في العصر الجاهلي، وكان الجاهليون يُهروِلون بينهما؛ لأنه على الصفا كان الصنم «إساف» أو «أصاف» أي يوسف، وأن على المروة كان الصنم «نائلة»، وإن يوسف في الأسطورة قد جامع نائلة داخل الكعبة، لذا نشأ طقس الهرولة بينهما في الجاهلية، مدًّا وإيصالًا لحبل الوصال بينهما، وهذا الجماع كان بدَوره أحد طقوس عبادة الخِصب في الديانات القديمة (ولنلاحظ أنَّ نائلة في العامية نايلة، وفي العربية يُعبرون عن وصال المرأة بكلمة نالها، وفي العامية المصرية: نيلها).

وتأسيسًا على كل هذه المعاني سنقوم بالربط بين «إيل يراه» أو «إل يرخ» وبين القمر، باعتبار القمر كان يرتبط دوما بالعبادة الخصبية التي كانت تقوم في البوادي، والاسم «يرخ» كان أحد أسماء القمر في العبادات السامية وله أسماء عدة مشتقة من «يراه»، فهو أيضًا «رخ»، «يرخ»، و«الورخ» و«يرح»، وكان أشهر مقار عبادته فيما يُفيدنا به أنيس فريحة، المدينة التي حملت اسم «أريحا»!٨ في فلسطين.
وإننا إذ نربط بين القمر وبين عبادة الخصب، فإنَّنا نُقيم ذلك على عدَّة شواهد، أهمها الاعتقاد القديم أنَّ القمر مُتولِّد أصلًا من الهواء، والهواء هو الذي يُسبب الريح «يريح»، كما أنه في هيئة الهلال كان في شكل قرنَين، والقرنان لوازم الحيوانات التي قُدِّست باعتبارها رموز آلهة الخِصب وهي الشياه عمومًا (الثور، التيس، الخروف)، لذلك أطلق على القمر لدى الشعوب السامية اسم آخر هو «سين» اشتقاقًا من أسماء الشياه، وأسماء الشياه، فيما يُفيدنا به «موسكاتي» كانت تُنطق «سي» بإمالة السين إمالةً طويلة، وهى التي تطوَّرت بعد ذلك من «سي» إلى «شي» إلى «شاء» إلى «شاه».٩

إذن «إل يرى» هو إله الخصب إله القمر، وتأسيسًا على فرْضِنا هذا وقياسًا على ثوابت العبادات الخصبية في المنطقة، يُمكننا افتراض أنه كان في الثالوث الإيلي، ابن «إل شداي» وشداي منها الشذي، أي الرائحة والريح والهواء، والقمر مُتولِّد عن الهواء في اعتقادات القدماء كما أسلَفْنا فيكون «إل شداي» هو إله الهواء أبو إله الخصب القمري «إل يرى».

وهكذا لا يكون اليهود قد خرجوا في عهدهم الأول عن النمَط السائد في العبادات الطبيعية القديمة، المرتبطة بمواطن الزرع، وبظواهر الطبيعة الكُبرى، والذين عبَدُوا الآلهة نفسها بالمواصفات والوظائف نفسها تقريبًا، بينما ظلَّ «إل» كعَلَم مُستقل ومجرد عند الجميع، دلالة جلالية تعود أصلًا إلى السماء كجليلٍ حمَل لدى السومريين الاسم «آن» مجردًا، ولدى الساميين الاسم «إل» مجردًا، ليظلَّ دائمًا فوق جميع الآلهة، وأباها جميعًا.

هذا عن «إلوهيم» أو مجموعة الآلهة الإيلية في العهد الإبراهيمي وما قبله، فماذا عن «يهوه» المنسوب في التوراة إلى النبي «موسى»؟

واضح أنَّ إله السماء توارى بمرور الزمان وأصبح رمزًا غير واضح، بينما قفز الإله الابن ليحتلَّ مكان الصدارة في ديانات المنطقة، فأدونيس الفينيقي يبرُز ويُصبح فوق جميع الآلهة، وبعل الكنعاني يزيح الأب إيل تمامًا ويُصبح هو محور العبادات، ومن قبل تقدَّم آنليل السومري على أبيه آن، بل وظهر المسيح الابن في الديانة المسيحية بنصِّ الأناجيل كما الوحيد من الأب ليُصبح هو المعبود الرئيسي الأول، بينما توارى الأب تمامًا، ثم في المذاهب الشيعية في الإسلام، المنعوتة بالمُتطرفة، تمَّ إحلال الحُسين في المقام الأول بعد أن أزاح من الوجدان أباه «علي» أو الإله العلي، وبنفس الطريقة أزاح الإله الابن «يراه» الأب وحلَّ محلَّه ليُصبح هو إله الهواء وإله الري وإله القمر والإله الثَّور معًا، ولكن باسم «يهوه».

وإن استيلاء الابن على سلطات أبيه في المجامع الإلهية، هو بالاستفادة من النظرية الفرويدية، ترديد لِما حدَث في المجتمع الإنساني على الأرض، حيث كان يحلُّ الابن القوي دائمًا محلَّ أبيه الذي ظلَّ مُطلق السلطات طوال فترة تمتُّعه بالقوة الجسدية، حتى إذا ما كهل وظهرتْ عليه بوادر الضعف، قفز أقوى الأبناء إلى المُقدِّمة واستولى على القيادة.

وقد جاءنا من نصوص آثاريات «أوغاريت» الكنعانية الفينيقية نصوص تُشير إلى أن الإله «إيل» أب طاعن في السن عاجز عن إدارة شئون مملكته، توَّاق إلى أن يحمِل ابنه أعباء وظيفته الإلهية عنه، وأعلن في عدَّة نصوص تعيين ابنه خليفةً له.١٠

ولمَّا كنَّا برأيِنا مُتفرِّدين في القول بتفوُّق «إل يراه» بالتحديد، وأنه هو الذي أصبح يحمل اسم «يهوه» بعد مجموعة الآلهة الإيلية «إلوهيم»، فنحن نحتاج مزيدًا من الأدلة حتى يتَّسِم رأينا بالوجاهة المطلوبة.

لقد عرَضْنا فرضَنا: أن «إل يراه» هو إله القمر المتولِّد عن «إله الشذى» أو الهواء أو الريح «إل شداي»، وأنه مُرتبط بالري والخصب، وأن أهمَّ رموزه هي ذات رموز آلهة الري في مختلف العبادات الخصيبة، وهي الشياه (الثور، التيس، الخروف)، وأنه ربما صاحبته طقوس الخصب المعروفة في عبادات الخصب كالتضحية بالأطفال على مذبحِه، وممارسة نوع من طقوس الجنس لحضِّ الطبيعة على الإخصاب والعطاء نباتًا وحيوانًا.

وبالبحث عن دعم، نجد التوراة تَحكي لنا: أنه من بين أسباط يعقوب «إسرائيل» من دخل مصر مع يوسف، حين كان موزَّرًا على خزانة مصر، وهناك تكاثروا وتناسَلوا، ومن سبط ليفي أو لاوي كان النبي موسى، وإن موسى هرب من مصر إثر جريمةٍ قتل فيها مصريًّا، انتصارًا ليهودي من بنى جلدته، بعد أن تحوَّلوا من سادةٍ إلى عبيد، وأنَّ هروبه كان إلى قبائل «مديان»، وهناك تعرَّف إلى كاهن مدين المدعو «يثران» وتزوَّج ابنته، وعاش معه زمانًا يرعى الغنم في تلك البوادي، وهناك:

جاء إلى جبل الله حوريب، وظهر له ملاك الرب بلهيب نارٍ من وسط عليقة، فنظر وإذا العليقة تتوقَّد بالنار والعليقة لم تكن تحترِق، فقال موسى: أمِيل الآن لأنظُر هذا المنظر العظيم. لماذا لا تحترِق العليقة؟ فلمَّا رأى الربُّ أنه مال لينظُر، ناداه الله من وسط العليقة، وقال: موسى، موسى، فقال: ها أنا ذا، فقال: لا تقترِب إلى ها هنا، اخلع حذاءك من رجليك، لأنَّ الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدَّسة … هكذا تقول لبني إسرائيل: أهيه أرسلني إليكم، وقال الله أيضًا لموسى: هكذا تقول لبني إسرائيل يهوه … أرسلني إليكم، هذا اسمي إلى الأبد.

(خروج ٣: ١–١٥)
إذن، ميلاد «يهوه» في أفق الديانة اليهودية، بدأ من تمثُّله في نار تلتهِب في عليقة، حيث التقى بموسى وأعلنه بقرار ربوبيته لليهود، ودعمًا لفرْضِنا المطروح، ما نجده عند الآثاري «ديتلف نيلسن»، الذي قطع بأنَّ «يهوه» كان إلهًا للقمر، تأسيسًا على ما لاحظه من شواهد أهمها:
  • أنَّ التوراة عندما كانت تتحدَّث عن تجليَّات «يهوه» تفَّهمنا باستمرار أنَّ هذا التجلِّي لم يكن يحدُث إلا ليلًا.

  • أنَّ يوم السبت المقدَّس، والأعياد الأسبوعية الأخرى في الطقوس اليهودية ترتبط بأيام المُحاق الثلاثة، وترتبط كلَّ شهرَين بمواقع القمر.

  • أن تعبيرات التوراة عن ظهور الإله «يهوه» هي اصطلاحات فلكية قمرية معروفة.

  • أنَّ ظهور «يهوه» في سيناء لليهود، ارتبط بوقت ظهور القمر في اليوم الثالث من الشهر القمري.

  • أن أهم مواقيت تقديس «يهوه»، تكون في اليوم الأول من الشهر القمري ومنتصف الشهر عندما يكون القمر بدرًا.

  • أن مواعيد الأضاحي المُقرَّبة إلى «يهوه» حسب الأوامر المدوَّنة بالتوراة كانت ترتبط بمواطن القمر، ويتزايد عددُها مع نضوج القمر، حتى استوائه بدرًا الرابع عشر من الشهر، فيذبحون أربعة عشر أضحية.١١

ونُضيف إلى نيلسن ملاحظاتنا:

إنه وإذا كانت ديانات الخصب قد اعتبرَت الشياه وعلى رأسها الثور، رمزًا لإله القمر، للتشابُه بين الهلال والقرنَين، فهو ما لم تخرج عنه التوراة، ومن أمثلة ذلك:
  • أنَّ أتباع موسى إبَّان رحلة الخروج، انتهزوا فُرصة غيابه فوق الجبل لكي يحضُر فصنعوا ثورًا من ذهب، ووقفوا يرقُصون حولَه عُراة، وهو ذات الطقس التعبُّدي في مختلف ديانات الخصب (خروج ٣٥).

  • تزعم التوراة أن موسى أمَرَ بصُنع تابوت بمواصفات مُحدَّدة، ليتَّخِذه «يهوه» مرقدًا له، وإنَّ هذا التابوت هو الذي وضعه الملك «سليمان» بعد ذلك في هيكلٍ عظيم، صُنع للتابوت خصيصًا في أورشليم، وأنه كان لهذا الهيكل مذبح، وعلى المذبح تمثال لرأس ثور كبير، له قرنان عظيمان.١٢
    ويذكر سِفر الملوك الأول: أنَّ الملك سليمان قتل أخاه أدونيا، وذبح قائد جيشِه يوآب، وهو مُمسِك بقرون المذبح يستجير بيهوه.١٣ أما جميع زخارف المعبد فكانت ثِيرانًا مقدَّسة،١٤ ويؤكد «ديورانت»: «أن بني إسرائيل لم يتخلَّوا قطُّ عن عبادة العجل والكبش والتيس.»١٥
  • أنَّ الملك اليهودي «يربعام» بنص التوراة: «عمِل عجلَي ذهبٍ وقال لهم: عليكم أن تصعدوا إلى أورشليم، هو ذا آلهتُكِ يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر، ووضع واحدًا في بيت إيل، وجعل الآخر في دان» (ملوك أول ١٢: ٢٨، ٢٩).

  • أو ما جاء في النص التوراتي عن هارون أخي موسى: «فأخذ ذلك «الذهب» من أيديهم، وصوَّرَه بالأزميل وصنعَهُ عجلًا مَسبوكًا، فقالوا هذه آلهتُك يا إسرائيل» (خروج ٣٢: ٤).

  • ولنذكِّر قارئنا بأمورٍ عدَّة لم يقِف عندها الباحثون، وأهمها هو: لماذا تحوَّل الجبل المقدَّس، الذي التقى فيه موسى بربِّ لهيب العليقة، من جبل «حوريب» إلى جبل «الطُّور»؟ ولماذا كان اسم كاهن بلاد مديان حيث التقى موسى بربه، وحيث تزوَّج بنت هذا الكاهن، لماذا كان يحمِل اسم «يثران»؟ ويثران مع ظاهرة القلب في الساميَّات تُصبح «ثيران»!

    ونحن نعلَم أن كهنة الآلهة، كانوا يتزيَّون عادةً بزيِّ الإله، وأكدت ذلك نقوش آلهة الخصب وكهنتها بطول المنطقة وعرضها، وصورت كهنة الثور يلبَسون تاجًا ذا قرنَين.

    وممَّا يدعم وجهة نظرنا في أنَّ اللفظة «ثيران» أو كما وردت مقلوبة — بالميتاتيز — «يثران» هي لقب كهنوتي لكبير كهنة الإله الثور، هو أنَّ أول ذِكر لهذا الكاهن في قصة لقاء بناته بالنبي موسى، عندما كان موسى هاربًا من مصر إلى مديان، تقول: «وكان لكاهن مديان سبع بنات، فأتين واستقَين وملأنَ الأجران ليسقين غنَم أبيهن، فأتى الرعاة وطردوهن، فنهض موسى وأنجدَهُن، وسقى غنمهن، فلمَّا أتين إلى رعوئيل أبيهن … قُلن: رجل مصري أنقذنا من أيدي الرعاة» (خروج ٢: ١٦–١٩).

    وقد تكرَّر ذِكر هذا الكاهن بالاسم «رعوئيل» عدة مرات كما في النص: «وقال موسى لحوباب بن رعوئيل المدياني حمى موسى: إننا راحلون إلى المكان الذي قال الرب أعطيكم إيَّاه» (عدد ١٠: ٢٩)، ممَّا يفيد أنَّ هذا المكان كان يحمل اسم رعوائيل ويقلب لقبًا وظيفيًّا «الثور».

  • وأنه ما علينا إلا أن ننطق اسم «يهوه» نطقًا دقيقًا «جاهوفاه JAHIUVAH» حتى نجدنا نُقلِّد خوار الثور بكل دقة! خاصَّة مع تدقيق «لودز LODS» في النطق الصحيح لاسم هذا الإله، ووجوب نطقِه بفتح ثم ضمٍّ فسجول طويلة١٦ (والغريب مع ذلك، أن لودز لم يلحظ العلاقة بين النطق بهذا الشكل وبين خوار الثور).

ثم، وحتى ندعم فرْضَنا أكثر، سنُضطرُّ إلى تسجيل أمرٍ هام لاحظناه، وهو التلبُّس الواضح للإله «يهوه» بالإله الكنعاني «بعل مولوخ» منذ مراحله المُبكرة «والبعل مولوخ» ينطق أيضًا ويُكتب «بعل مولوك والبعل الملك». ويعني السيد الملك، أو الرب الملك، وكان ذا غرامٍ خاصٍّ بدماء الصغار وكانت له احتفالات يأخذ الناس زِينتهم فيها، كأنهم في يوم عيد، وكانت دقَّات الطبول وأصوات المزامير تطغى على صراخ أطفالهم، وهُم يحترِقون في حِجر الإله، وقد حدث في قرطاجنة أثناء حصارها سنة ٣٠٧ق.م. أن أُحرِق على مذبح هذا الإله الدموي مائتا غلامٍ من أرقى أُسَرِها، كما كشفت حفائر «كفر الجرة» عن صندوق يضمُّ عظام أطفال، تحت أساس عمودٍ كضحية تأسيس، لبعل مولك، أو الملك.

ومن القصص المشهورة قصة «ميشا» ملك «موآب» الذي ضحَّى بابنه البِكر ليفكَّ الحصار عن مدينته، ولمَّا أجابه البعل، ذبح سبعة آلاف يهودي شكرًا وعرفانًا.

ومُلاحظتنا عن تلبُّس «يهوه» بالإله «بعل مولك»، تبدأ من شغَف «يهوه» بدَوره بدماء البشر، فهذا الملك «يفتاح» يَنذُر للرب نذرًا قائلًا: «إنْ دفعت بني عمون ليدي، فالخارج الذي يخرُج، للقائي عند رجوعي بالسلامة من عند عمون، يكون للرب، وأُصعِده محرقة … ثم أتى يفتاح إلى المِصفاة إلى بيته، وإذا بابنته خارجة للقائه … وهي وحيدة ولم يكن له ابن ولا ابنه غيرها … ففعل بها نذرَه الذي نذر» (قضاة ١١: ٣٠–٣٩)، ثم انظُر مثلًا آخَر: «وسلَّمهم إلى يد الجعبونيين، فصلبوهم على الجبل أمام الرب» (صموئيل الثاني ٢١: ٩)، أو «فحمِيَ غضب الربِّ على إسرائيل، فقال الرب لموسى خُذ جميع رءوس الشعب، وعلِّقْهم للرب مقابل الشمس، فيرتدُّ حمو غضب الرب» (عدد ٢٥: ٤٣)، أما النبي «إرميا» فيُعلِنها صريحةً ويُقرِّر أن اليهود كانوا يُقدِّمون أطفالهم مذبوحين مَحروقين على مذبح البعل الملك (إرميا ٩).

ومع مزيدٍ من المُطالعة في التوراة يتأكد فرضُنا، حتى نكاد نزعم أن «يهوه» لم يكن شيئًا آخر غير «البعل الملك»، ولنعُد إلى لقاء موسى بيهوه الناري، والنص يقول: «وظهر له ملاك الربِّ بلهيب نار من وسط العليقة.» ومع التعبير «ملاك الرب» يستمرُّ النص فيقول: «ناداه الرب من وسط العليقة … هكذا تقول لبني إسرائيل: «يهوه» أرسلني … إليكم.» فما المعنى إذن؟ هل كانت نار العليقة ملاك الرب، أم الرب «يهوه» ذاته؟ الواضح في النص أنها الرب بذاته، إذن ما هو تفسير «ملاك الرب»؟ لقد حاولتُ في بحث سابق «القمر الأب أو الضلع الأكبر في الثالوث» تفسير هذا التضارُب المُتواتِر بكثرة في التوراة ما بين ملاك الرب، و«الرب»، بأنَّ كاتب هذه الأجزاء من التوراة من الكتَّاب المُتأخِّرين (حوالي ٤٠٠ق.م. في الأسْر البابلي وبعده)، وأن فكرة الألوهية كانت قد سارت حثيثًا في تطوُّرها نحو التوحيد، ممَّا حدا بالكاتب إلى محاولة تفادي التعدُّد عند الحديث مثلًا عن الذين دمَّروا سدوم وعمورة (وهم ثلاثة) فكان يُضطرُّ إلى إثبات المعلومة الأصلية المُعدَّة، ثم يتحايَل بالقول إنهم ملائكة، لكني لوجه الحق لم أعُد مُقتنعًا تمامًا بصِدق هذا التفسير، لذلك لن أُثبِتَه الآن أو أنفِيَه، إنما أُضيف إليه تصوُّرًا جديدًا أو فرضًا جديدًا أكثر تماسُكًا وقبولًا، أبدؤه بافتراض وجود خطأ واضح ربما كان في ترجمة النصوص الأصلية فلا شكَّ أنَّ «ملاك الرب» إنما هي أصلًا «الرب الملك» أو «البعل مولك، مولوخ»، ويدعم ذلك أن تعبير «ملاك الرب» يرِد تبادليًّا في مواضع كثيرةٍ بالتوراة مع تعبير «الإله أو يهوه»، ومن هنا لا شكَّ يُراودنا إذا قُلنا إن «يهوه» لم يكن شيئًا آخَر غير «البعل مولك» أو «الملك»، منادى بالاسم اليهودي الجديد «يهوه».

ولنلحظ أن «شتادة» يرى معنى الاسم «يهوه» هوى بمعنى سقط١٧«يهوه». ولنلحظ أنَّ هوى في اللغة تعني سقط وارتفع في آنٍ معًا، الهواء، وهو ما ذهب إليه «فلهاوزن» حين اعتبر «يهوه» إله الريح،١٨ وقد خرج المرحوم العقَّاد باعتقاده أنَّ الاسم «يهوه» من مادة الحياة «يحو»،١٩ وهو ما يُذكِّرنا بالتعبير التوراتي المُتواتر عن «إل رئي» بأنه مرة «يهوه رئي»، ومرة «لحي رئي»، ولنلحَظ أنَّ الهواء سبب «الحياة»، والأقدَمون اعتبروا «الروح» سرَّ الحياة من «الريح» أو الهواء والنفس، وحمَلَت لنا اللغة اشتقاقاتها من جِذرٍ واحد، وعليه فإنَّ فرْضَنا أنَّ «يهوه» كان إلهًا للهواء والريح مرموزًا له بالشياه، مع استفادتنا بمذهب «ديتلف نيلسن» أنه كان إلهًا للقمر، قد أصبح فرضًا مدعمًا بشكل كافٍ. وقد ألمح الباحثون إلى ارتباط «يهوه» بالبراكين، وعدُّوه إلهًا بركانيًّا ولنا هنا إضافات تُثري هذا المعنى. فإذا ربطنا بين ظهور القمر بجاذبيَّتِهِ التي تُسبب ظاهرة المد، كما تُسبِّب أيضًا فوران البراكين النشطة، فإنَّ ذلك يؤدِّي إلى ارتباط القمر بالبراكين في أذهان الأقدَمين، ولو طبَّقْنا ذلك على «يهوه» كقمَرٍ سنجِدُه مُرتبطًا بالبراكين ارتباطًا مُثيرًا، حيث نجد صفات «يهوه» في التوراة صفاتٍ بركانية دون لَبس، فهو قد ظهر أولًا لموسى في هيئة نار في عليقة، كما كان يتمثَّل لموسى وأتباعه إبَّان رحلة الخروج «نهارًا في عمود سحاب … وليلًا في عمود نار» (خروج ١٣: ٢١)، وهو المشهد الذي تتجلَّى به البراكين، فهي إبَّان النهار يطغى ضوء الشمس على إشعاع لهيبها المُختفي في الفوَّهة، فلا يُرى منها غير دخانها، أما ليلًا فيتَّضح مشهد النيران واللهيب.

كما خلعت التوراة على «يهوه» صفات، ليست سوى صفات مسئولٍ كبير عن البراكين وهَولها في تصوُّر العقل القديم فهي تصِفُه بأنه «إله يسخط كل يوم» (مزامير ٧: ١١)، وأنه «يُمطر … فخاخًا نارًا وكبريتًا وريح السموم» (مزامير ١١: ٦)، وأنه يُنادي عبادَه آمِرًا اعبدوا الربَّ بخوفٍ واهتفوا برعده» (مزامير ٢: ١١)، وأنه إذا غضب «صعد دخان من أنفه ونار من فمه» (مزامير ١٨: ٨)، وأنه إذا تجلَّى صاحَبَتْهُ «رعود وبروق وسحاب ثقيل على الجبل … وكان جبل سيناء كله يُدخِّن من أجل أن الربَّ نزل عليه بالنار، وصعد دُخانه كدخان الأتون، وارتجف كل الجبل جدًّا» (خروج ١٩: ١٨–١٦). أما صفته الدائمة المُتواترة في نصوص التوراة فهي «الربُّ إلهك هو نار آكلة» (تثنية ٤: ٢٤). أما أوضح تعبير توراتي عن ارتباط ظهور القمر بجاذبيته، بظهور الإله «يهوه» بثورة البركان، فهو ذلك النص الذي لا يحتاج تعليقًا: «… جاء الربُّ من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وعن يمينه نار شريعة لهم» (تثنية ٢٣: ١)، مع ملاحظة أنَّ اسم الجبل الذي أشرق منه الإله «يهوه» أو القمر، يحمل اسم «سعير»، والسعير يدلُّ على هوية هذا الجبل المُستعر بالنار الذي تلألأ منه الإله وعن يمينه نار.

أما الأكيد فهو أنَّ ابن «إيل» كان «البعل الملك»، وفي النصوص الأوغاريتية الكنعانية يقول الرب «إيل»: «اسم ابني ياو.»٢٠ و«ياو» ليس شيئًا آخر غير «ياهو» أو «إهيه» أو «ياه» أو «يهوه»، أسماء رب اليهود في العهد الموسوي، كما وردت في التوراة! (ولنلحَظ أنه عندما جاء الإسلام أعطى ملاك أو خازن النار في السعير الاسم مالك!)
وعليه نُقرِّر أن اليهود عبدوا فعلًا «الملك» باسم «يهوه» في الغالب وعبدوه أحيانًا أخرى بالاسم «الملك» صراحة كما رأينا في سِفر النبي أرميا. وأنهم تحاشيًا لهذه الوصمة الكبرى التي تهدِم أعمدة الفكر الديني اليهودي المُتَّسِم بالذاتية والاستقلالية والخصوصية التامة، حيث زعموا أنَّ «يهوه» اختارهم من بين العالمين عبادًا له، بينما هو أحدُ آلهة شعوب المنطقة، وأنه كان معبود اليهود فعلًا وإلا ما حرَّمَتْه ونهَتْ عنه التشريعات الموسوية، أقول: تحاشيًا لذلك استخدم اليهود الاسم «يهوه» بديلًا عن «الملك»، ذلك الاسم الذي حمَل من المعاني الكثير أوردناها سلفًا، لكنه حمل أيضًا معنى نداء الغائب في العبرية تحاشيًا لنداء الرب صراحة باسمِه «بعل مولوك» أو «الملك»، ولم تكن التسمية «يهوه» كنداء للغائب «هو» كما ذهب الباحثون التوراتيون احترامًا للذات الإلهية (كما في رأي سميث مثلًا):٢١ إنما تغطيةً لاسم المعبود الأصلي، الذي كثيرًا ما ظهر في الترجمات بالاسم «ملاك الرب» بدلًا من الترجمة الحقيقية «الرب الملك» أو «البعل مولوك» أو مالك.

لكن ذلك لا يعني أن اليهود، قد انتقلوا من عبادة مجموعة الآلهة الإيلية «إلوهيم»، إلى عبادة إلهٍ واحد باسم يهوه؛ فالأمر لم يكن كذلك، ولم يكن «يهوه» هو إله اليهود الوحيد بعد العهد الموسوي، إنما كان هناك عدَدٌ آخَر من العبادات لحِق بعبادة «يهوه» وعددًا من الآلهة عُبِد في الوقت ذاته إلى جوار «يهوه» حتى في داخل هيكله، وقد سجَّلت التوراة ذلك دونما حرَج، وتواجدت هذه الآلهة طوال العصر المُمتدِّ من موسى حتى ظهور الأنبياء الموحِّدين (أمثال أشعيا ودانيال، وظهروا مُتأخِّرين، قبل القرن السابق للميلاد بقليل).

فإلى جوار «البعل الملك» أو «يهوه» عبَدَ اليهود عددًا آخَر من البعول مثل «بعل فغور»، الذي ورد في النص التوراتي «وتعلَّق إسرائيل ببعل فغور، فحَمِي غضب الربِّ على إسرائيل» (عدد ٢٥: ١–٥)، ومثل البعلة، زوجة بعل مولك (البعلة الملكة، أو ملكة السماوات، بعليت مولوخ) المعروفة بالأُنثى الإلهية «إناث»؛ إذ قالت التوراة بلسان اليهود: «بل سنعمَل كلَّ أمرٍ خرج من فمِنا، فنبخر لملكة السماوات، ونسكُب لها سكائب، كما فعلنا نحن وآباؤنا وملوكنا رؤساؤنا في أرض يهوذا، وفي شوارع أورشليم، فشبِعْنا خبزًا، وكنَّا بخير …» (أرميا ٤٤: ١٧).

بل إنَّ بعض كبار ملوكهم مثل سليمان، عبَدَ مثل هذه الآلهة صراحةً وهو ما نراه في النصِّ التوراتي «حينئذٍ بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس المُوآبيين، على الجبل الذي تجاه أورشليم، ولمولك رجس بنى عمون» (ملوك أول ١١: ٧). وبالمناسبة: هل كموش غير جموش أو بالعربية جموس أو جاموس؟ لفتة نُشير بها إلى أنه بدوره كان إلهًا للخصب.

ثم إنهم عبدوا أيضًا «تموز» إله الخِصب الرافدي، ومارسوا طقوس الندب والبكاء عليه باعتباره إلهًا شهيدا، كما ظلُّوا على عبادة الشمس فترة طويلة وهو ما يفهم من رواية النبي حزقيال، عندما ذهب إلى الهيكل: «وإذا هناك نسوة جالسات يبكين على تموز … وإذا عند باب هيكل الرب وبين الرواق والمذبح نحو خمسةٍ وعشرين رجلًا، ظهورهم نحو هيكل الرب، ووجوههم نحو الشرق وهم ساجدون للشمس» (حزقيال ٨: ١٤–١٦).

ولا تني التوراة تؤكد أنهم عبدوا مجموعة البعول والبعلات المُلقَّبات باسم «عشتارت» من عشتروت الرافدية، فتقول: «وعبدوا البعليم «جمع بعل» والعشتاروت «جمع عشتار» وآلهة آرام وآلهة صيدون، وآلهة موآب، وآلهة بني عمون وآلهة الفلسطينيين» (قضاة ١٠: ٦)، أو باختصار، أنهم شاركوا في عبادة كلِّ آلهة المنطقة.

ومن المقدَّسات الشبيهة بالآلهة عند اليهود، وربما كانت أدنى قليلًا، كائنات أسمَتْها التوراة «الكروبيم» جمع «كروب»، وكان تصوُّرهم لشكل «الكروب» مُحيِّرًا، فهو يظهر مرةً على أنه طَير ربما كان نسرًا، لكنه بعد ذلك يأخذ شكل الثور المجنح، بوجه إنسان. فالأسفار القديمة تصوِّره في هيئة نسر صُنع له تمثالان وُضِع أحدهما على مُقدمة تابوت العهد أو الشهادة، والآخر في مُؤخِّرته. فالنص يقول: «فلمَّا دخل موسى إلى خيمة الاجتماع، ليتكلَّم معه «الرب»، كان يسمع الصوت يكلمه من على الغطاء الذي على تابوت الشهادة، من بين الكروبيين» (عدد ٧: ٨٩). ويُنسَب إلى موسى القول إنه رأى هذا النوع من الطيور قُرب عرش الإله، وأنه لمَّا أتمَّ سليمان بناء الهيكل، جمع شيوخ اليهود «وحمَل الكهنة التابوت … وأدخل الكهنة تابوت عهد الربِّ إلى مكانه في مِحراب البيت، في قُدس الأقداس، إلى تحت جناحَي الكروبيين» (ملوك أول ٨: ١).

ويبدو لنا أن تقديس النسور في مختلف العبادات القديمة، كان سببه رؤية العقل القديم لمسكن الآلهة في السماء، مع قُدرة هذه الطيور رغم ضخامتها على الطيران والصعود في الأعالي، ممَّا جعلها في التصوُّر قريبة من الآلهة، لذلك أعطى العقل القديم كل المقدَّسات القريبة من الآلهة الأجنحة والقُدرة على الطيران حتى تتمكَّن من الصعود إلى مقرِّ الآلهة أو الهبوط منها، وهو ما نلحَظه في صفات الملائكة، وقد قدَّست معظم الشعوب القديمة النسر وبخاصَّة العرب الجنوبية وقد أشار القرآن الكريم إلى عبادة «نسر» ضِمن مجموعة آلهة عربية قديمة في قوله: وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (نوح: ٢٣).

أما الصورة الثانية للكروب، كثَور مجنَّح برأس إنسان، فتأتي في الأسفار المتأخِّرة، حيث نجد النبي حزقيال يصِفه كالآتي: «لها شبَه إنسان، ولكلِّ واحدٍ أربعة أوجه ولكل واحدٍ أربعة أجنحة … أيدى إنسان تحت أجنحتها … أما شَبَه وجوهها فوجْه إنسان ووجْه أسد … ووجْه ثور … ووجه نسر» (حزقيال ١: ٢٥)، وقد نُقِشت تماثيل هذه الكائنات الإلهية على جدران المعبد اليهودي، ومع التحوُّل نحو التوحيد (عند إشعيا وأرميا) تحوَّلت الكروبيم إلى الدابة التي يستخدمها الإله في الركوب، فكان لا بدَّ لدابَّتِه أن تتميَّز عن حَمير وخيول البشر، بما يليق بمكانته، فأُضيف إليها وجه الإنسان، والأجنحة. «ركِبَ على كروب وطارَ وهفَّ على أجنحةِ الرياح» (مزامير ١٨: ١٠).

وغنيٌّ عن الذِّكر أنَّ مثل هذه الكائنات بقِيَ محفورًا في الديانتَين المسيحية والإسلامية؛ ففي المسيحية تُصادفنا «الكروبيم» في حفل أو «بارتي» إلهي تُغني قدَّاسًا إلهيًّا (رؤيا يوحنا اللاهوتي ٤: ٦–١١)، أما في الإسلام فقد جاءتنا الدابة الإلهية «كروب» منطوقة «قروب»، ومع ظاهرة القلب المعروفة في اللغات السامية تحوَّلت «كروب»، أو «كراب» إلى «براك»، أو «براق» وهو دابة سماوية بوجه إنسان وجسمٍ مجنَّح، حملت النبيَّ محمدًا من مكة إلى القُدس في قصة الإسراء المعروفة، كما كان للبراق باسمه العبري «كروب» شأن في كتابات التراث الإسلامية. لكن بعد أن تحوَّلت مع التطوُّر إلى أملاك للإله الواحد، فهي ملائكة له، فأصبحوا سادة الملائكة٢٢ وباعتبارهم دوابَّ رُكوبٍ وحَمْل، فقد جاءوا كحمَلةٍ للعرش الإلهي في الإسلام٢٣ كما كانوا مركبًا ليهوه وتابوته من قبل، وقد صادق النبي محمد على بيتٍ من الشعر الجاهلي لأُميَّة بن عبد الله يصِف الكروب يقول فيه:
رجلٌ وثَور تحت يُمنى رجلِه
والنَّسر لليُسرى وليثٌ مُلبَّد
وجاء تصديق النبي في تعقيبه على هذا البيت بقوله: «صدق أمية في قوله!»٢٤

ولعلَّ صورة الكروب تلك، لا فرض آخر لظهورها، وتحوُّلها من نسرٍ إلى ثور مُجنَّح، سوى القول إن حزقيال قد تأثَّر بشدة بالثيران المجنحة المرسومة على جدران بابل، وتماثيلها المُتناثرة في أرض بابل، وكانت عند البابليين حيواناتٍ خرافية مُهمَّتها حراسة المواقع الهامَّة في البلاد، ولا شكَّ أن حزقيال رآها هناك إبَّان أسْر اليهود في بابل.

ونظنُّ أن اليهود قد تمثلوا في هذا الكروب البابلي إلهَهم «يهوه» في فترةٍ من زمانهم؛ فالوجه الإنساني الوقور يُمثل الجانب البشري فيه، والثور يُمثِّل إل رئي، بوصف الثور رمزًا للخِصب والري، والأجنحة تمثل إل شداي أو الريح، والقرنان رمز للقمر … إلخ.

ثم إضافة للكروبيم كانت هناك كيانات أخرى مُقدَّسة مثل السرافيم جمع ساراف، ويُفسِّر «موسكاتي» ساراف أنها كانت تعني الحيَّة أو الثعبان.٢٥ وقد سبق وأقام لها موسى تماثيل مقدَّسة على راياته عند خروجه من مصر «فصنع موسى حيةً من نحاس ووضعها على الراية» (عدد ٢١: ٩)، ولا ننسى عصا موسى التي كانت تنقلِب إلى حيَّة، كما لا ننسى خروج موسى ورجاله من مصر القديمة حيث كانت الحية رمزًا مُقدَّسًا يُوضَع على تيجان الفراعنة، وأنَّ السرافيم لم تُعرَف في تاريخ الديانة اليهودية قبل الخروج من مصر، ويبدو أنَّ عبادة الحيَّة وما يلزَمُه طقسها من إيقاد نار مستمرة أمامها للتبخير وتقديم قرابين البخور، قد استمرَّ قائمًا في أُفق الديانة اليهودية دون أن يغضب «يهوه» أو ينزعج وهو ما تؤكده التوراة في قولها: «حيَّة النحاس التي عملها موسى لأنَّ بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها» (ملوك ثاني ١٨: ٤)، هذا بينما كان «يهوه» يتفجَّر غضبًا إذا عبدوا بعلًا آخَر لأنها بعول غريبة، مثل بعل بني مؤآب كموس أو جاموس أما هو فالبعل الوحيد لليهود، لذلك كان يُطالبهم بالإخلاص القبلي له دون بقية البعول، وفعلا نظر اليهود إلى بعلهم بحُسبانه بعلًا إسرائيليًّا فحسْب، أحقَّ بعبادة اليهود من البعول الأخرى، ولم يُنكروا في الوقت ذاته وجود بعولٍ أخرى، كما لم يُنكر «يهوه» ذلك، لكن إنكار الأتقياء منهم كان إنكارًا لسيادة ربٍّ غريب عليهم. ومن هنا دانوا ليهوه وحدَه بالولاء؛ فالتوراة لا تُميز ربها باعتباره ربَّ الجميع الأوحد، إنما ربٌّ إلى جوار أرباب الشعوب الأخرى، لكنه الوحيد من بينها الجدير بولاء اليهود. انظُر مثلًا:

من مثلك بين الآلهة يا رب.

(خروج ١٥: ١١)

الآن علِمتُ أن الربَّ أعظم من جميع الآلهة.

(خروج ١٨: ١١)

من يُشبه الربَّ بين أبناء الله؟ إله موهوب جدًّا في مؤامرة القديسين، ومَخُوف عند جميع الذين حوله، يا رب إله الجنود، من مثلك قوي يا رب؟

(مزامير ٨٩: ٦–٨)

لكنَّ التطوُّر التالي الذي لحق بعبادة البعل الملك يهوه، لِيتحوَّل به من إلهٍ قبلي إلى عالمي، يطلُب السيادة على القبائل والشعوب الأخرى، فقد جاء مُترافقًا مع ظروف عالمية وتغيُّرات جدَّت بعد السَّبي في الرافدين، وقام بهذه المهمة بكفاءةٍ عالية عدد من الأنبياء، أشهرهم «دانيال وأشعيا»، اللَّذين كانا على علاقةٍ سرية وخاصة بالدولة الفارسية الطالِعة الطموحة، وبعلها «كورش»، حتى اتُّهم أشعيا — بسبب هذه العلاقة — بالجاسوسية لحِساب الفُرس، رغم وضوح أنه كان يعمل بإخلاصٍ لفكِّ أسْر اليهود على يدِ قورش، ولو مع بعض التنازلات الدينية التي لا بأس بها إزاء الغرَض الأكبر. وكانت هذه التنازلات هي سبب هجوم اليهود عليه واتهامه بالعمالة. وقد استطاع أشعيا وصحبه أن يفتحوا أبواب بابل للفرس، وبعد سقوط هذه القوة الكبرى تمكَّن قورش من الزحف قُدمًا ليكون أكبر إمبراطورية ظهرت في الشرق حتى عهده. وباعتبار اليهود قطعةً من هذا الملك الواسع، فقد تصرَّف الأنبياء وفق الوضع الجديد، واستغلوه سياسيًّا ودينيًّا بذكاء، فحوَّلوا إلهَهم المَحلِّي إلى إلهٍ عالمي، ولم يتردَّدوا عن التجاسُر بالقول إنه هو إله قورش؛ ومن ثَم إله الإمبراطورية، بل وسجَّلوا ذلك في توراتهم، وادَّعوا أن قورش كان يعمل بنُصح «يهوه» وإرشاده حتى بلغ بهم الأمر مبلغًا كبيرًا فقالوا إنَّ قورش هو مسيح «يهوه» المُنتظَر، ومُخلِّص اليهود الذي طالما ترقَّبوا ظهوره ليُعيدهم إلى أرضهم ليبنوا دولتهم من جديد، هذا رغم أن قورش كان رجلًا مؤمِنًا بديانته الزرادشتية، مُخلصًا لها تمامًا، لكنه لم يجد بأسًا ولا حرجًا في قليلٍ من المُجاملة لجواسيسه الخُلص فتغاضى عمَّا كان يُعلنه اليهود عنه وعن الرب يهوه، ما دام الأمر لم يتجاوز النطاق الديني أو نطاقهم هم الديني بتعبيرٍ أدق. وزاد قورش في المجاملة فأطلق سراحهم من الأسْر، وساعدهم في إقامة هيكلِهم مرة أخرى، ثم تزوَّج واحدةً منهم «إستير» وجعلها ملكةً على بابل.

وكان لتبادُل هذه المُجاملات والسماحات بين العاهل الفارسي العظيم وبين اليهود، دوره الفاعل في تحوُّل «يهوه» من إلهٍ قَبلي محلي إلى إلهٍ عالمي …

وسبق ذلك عدَّة محاولات سريعة لتخليص «يهوه» من ارتباطه بمولك الثور ومن السرافيم «الحيَّات» والكروبيم «الثيران الطائرة»، فقام عدد من الأنبياء بهذه المهمة بجرأةٍ شديدة ليُعلنوا كُفرهم بالإله الثور، والتنديد به والتطاوُل عليه، فهذا يجهر قائلًا: «قد زَنخَ عجلك يا سامرة» (هوشع ٨: ٥)، وذاك الملك حزقيا بن أحاز يتبع الدعوة الجديدة، فتُسجِّل التوراة عنه، أنه «هو أزال المُرتفعات، وكسر التماثيل، وقطع السواري، وسحق حيَّةَ النحاس التي عملها موسى، لأنَّ بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها» (ملوك ثاني ١٨: ٤).

ولذلك «أمر الملك حلقيا الكاهن العظيم، وكهنة الفرقة الثانية، وحرَّاس الباب أن يُخرِجوا من هيكل الرب جميع الآنية المصنوعة للبعل (إقرار واضح بصِدق فرضنا)، وللسارية ولكل أجناد السماء، وأحرقها خارج أورشليم، في حقول قدرون، وحمل رمادها إلى بيت إيل … وذبح جميع كهنة المُرتفعات … وكذلك السحَرة والعرَّافون والترافيم والأصنام، وجميع الرجاسات» (ملوك ثاني ٢٣: ٤–٢٤).

ومن ثَم جاز ليهوه بعد ذلك أن يزهو بذاته الوحيدة، فيقول على لسان أشعيا:

أنا الربُّ وليس آخر، لا إله سواي … أنا الرب وليس آخر، مُصور النور وخالق الظلمة، صانع السلام.

(أشعيا ٤٥: ٥–٧)

أنا الأول وأنا الآخر، ولا إله غيري وكل شيء أنا أعلَم به … أنا الربُّ صانع كل شيء، ناشِر السماوات وحدي، باسط الأرض، من معي؟

(أشعيا ٤٤: ٦–٢٤)

الجالس على كُرة الأرض … الذي يَنشُر السماوات كسرادق، ويبسطها كخيمةٍ للسكن، الذي يجعل العظماء لا شيء (أهل بابل)، ويصير قضاة الأرض كالباطل … فبِمن تُشبِّهونني فأُساويه؟

(أشعيا ٤٠: ٢٢–٢٥)

هكذا تكفَّل أشعيا بإشاعة أن يهوه قورش وناصره، ومن ثَم هو إله الإمبراطورية والعالَم، ولم يعترض قورش المُجامل على جواسيسه الذين كانوا ينقلون له أخبار بابل ومُختلف الشعوب أولًا بأول بوفاءٍ جلي.

أما دانيال النبي فقد تكفَّل بمهمةٍ أخرى، فقام يردُّ تحية قورش بأحسنَ منها، فأدخل إلى اليهودية عقيدةً جديدة لم تكن فيها أبدًا من قبل، أخذها عن ديانة كورش «الزرادشتية» ليكون هذا المزج الديني كفيلًا بتحقيق الأهداف المرجوَّة؛ فقد ظلَّ اليهود طوال عصورهم يعتقدون أنَّ الموتى جميعًا يرحلون إلى العالَم التحت أرضي، صالِحُهم وطالِحُهم، ذلك العالَم الذي أسمتْه التوراة «الهاوية» و«شيول» وأكدت التوراة هذا المعنى، فهي تقول: «من جهة أُمور بني البشر، إن الله يَمتحنهم ليُريَهم أنه كما البهيمة هكذا هم … موت هذا كموت ذاك، ونسمة واحدة للكل.»

(جامعة ٣: ١٨-١٩)

وكان أعظم عقابٍ ربَّاني يلحَق بإنسان، هو أن يموت، حتى أن الله ذاته كثيرًا ما كان يلجأ إلى هذا السلاح السريع المفعول لإنزال عقابِهِ على العُصاة، فيُميتهم ليذهبوا إلى عالَم تحت الأرض «الهاوية»، أما الإنسان المُخلِص ليهوه، فكان يهوه يزيد في سِني عمره وفي حياته الدنيوية الأرضية.

فالتوراة تَحكي: «وكان عير بِكر يهوذا شريرًا في عَيني الرب، فأماته الرب» (تكوين ٣٨: ٧). وهذا «أونان … أفسد على الأرض … فقبُح في عيني الربِّ ما فعله، فأماته أيضًا» (تكوين ٣٨: ٩، ١٠). وذاك الملك التَّقي الورِع «حزقيا» يُخبر النبي أشعيا بقُرب موعد مَوته، ويرجوه أن يتوسَّط له لدى الرب يهوه، وأن يُذكِّر «يهوه» بأفضاله عليه، فينقل أشعيا الرسالة ليهوه، ويتلقَّى الرد «اذهب وقُل لحزقيا هكذا يقول الربُّ إله داوود أبيك قد سمعتُ صلاتك، قد رأيتُ دموعك وها أنا ذا أُضيف إلى أيَّامك خمس عشرة سنة» (أشعيا ٣٨: ٦).

لذلك فإنَّ «مخافة الربِّ تزيد الأيام، أما سنو الأشرار فتقصر» (أمثال ١٠: ٢٧)، لأن شيول تُساوي بين الجميع، «هذا يموت في معظم وفرة وقد عمَّته الدعة والطمأنينة وذاك يموت في مرارةٍ ونفسه لم تذُق طيبًا، وكلاهما يضطجعان في التراب، فيكسُوهما الدُّود، فمَن الذي يبين طريقه، ومن يُكافئه على ما صنع؟» (أيوب ٢١: ٣١).

لذلك كانت التوراة تؤكد أن الموتى «يضطجعون معًا لا يقومون، قد خمدوا كفتيلة انطفئوا» (أشعيا ٤٣: ١٧)، «يناموا نومًا أبديًّا ولا يستيقظوا» (أرميا ٥١: ٣٩). بل يبدو لنا في التوراة أنَّ العالَم التحت أرضي خارجٌ عن سلطان «يهوه» وسيطرته، فهذا يرجو ربَّه ألا يُميته قائلًا: «عُد يا رب، نجِّ نفسي، خلِّصني من أجل رحمتك، لأنه ليس في الموت ذكرك، في الهاوية من يحمدك؟ … هل يُحدِّث في القبر برحمتك؟ أو بحقِّك في الهلاك؟ هل تُعرَف في الظلمة عجائبك؟ وبرك في أرض النسيان؟» (مزامير ٦).

حتى الأنبياء ذاتهم، عندما كانوا يتسبَّبون في إشعال غضب «يهوه» لا يجد لهم دواءً سوى القتل، وهو ما نراه في موت النبي موسى وأخيه هارون «وكلَّم الربُّ موسى في نفس ذلك اليوم قائلًا: اصعد إلى جبل عباريم، هذا … ومُت في الجبل الذي تصعد إليه … كما مات هارون أخوك … لأنكما خُنتماني» (تثنية ٣٢: ٤٨–٥١).

بل إنَّ كبار الأنبياء كانوا يعلمون مصيرهم بعد الموت، وأنه هاوية تحت الأرض، فها هو يعقوب ينوح حزينًا على مَوت ولدِه يوسف، بعد أن خدَعَه أبناؤه وقالوا له: لقد أكلَهُ الذئب، فيقول: «إني أنزل إلى ابني نائحًا في الهاوية» (تكوين ٣٧: ٣٥).

ولكن هل كان دانيال يعرِف أنَّ «كورش» سيرضى بهذا المصير ولدَيه في الديانة الزرادشتية نعيمٌ مُقيم بعد الموت في مكانٍ سماوي يُدعى «باراديس» أو «الفردوس»؟ هنا كانت مهمة دانيال الذكي، فقام يُحوِّل شيول إلى عالمٍ خالد، من أجل عيون قورش، ذلك الذي أصبح مَسيحًا للرب ويستحقُّ مصيرًا أفضل، وبالطبع قَبِل قورش الهدية مُمتنًّا شاكرًا، فظهر في التوراة سيرًا على منطق الديانة الزرادشتية ولأول مرة، حديث حول قيامة الأموات:

وكثير من الراقِدين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الأبدية، وهؤلاء إلى العار، إلى الازدراء الأبدي، استيقظوا وترنَّموا يا سُكان التراب، هَلُمَّ يا شعبي ادخل مخادعك.

(أشعيا ٢٦: ١٩)

وأضع روحي فيكم فتحيَون، وأضع في أرضكم فتعلمون أنَّني أنا الرب، تكلَّمتُ وفعلت.

(حزقيال ٣٧: ١–٤)

ومع ذلك، فقد كان عامَّة الشعب يعلمون أنَّ ذلك ليس في أصل دِينهم وأنَّ المسألة لعبةٌ سياسة، فعاملوا هذه الأفكار الجديدة بحُسبانها غشًّا وتدليسًا ودسًّا على يهوه، لذلك ظلَّت مثل هذه الأفكار مَوضع تحفُّظ من غالبية اليهود، وكانت محلَّ رفضٍ واستنكار من المُتزمِّتين التقليديين، حتى مجيء المسيح، الذي كان تأكيده على فكرة البعث والحساب، من أهمِّ حيثيَّات الحُكم عليه بالكفران بدين يهوه، ومن ثَم استحقاقه حُكم الإعدام صلبًا.

١  لسنر: سبق ذكره، ص١٤٤، ١٤٥.
٢  د. فريحة: ملاحم … سبق ذكره، ص١١٨–١٢٥.
٣  د. جواد على: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج٢، ص١٧.
٤  ديتلف نيلسن: الديانة العربية القديمة، بحث ضمن كتاب التاريخ العربي القديم، مع مؤلِّفين آخَرين، ترجمة د. فؤاد حسنين على، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ١٩٥٨م، ص١٢٧.
٥  موسكاتي: سبق ذكره، ص١٢٧.
٦  نيلسن: الديانة، سبق ذكره، ص١٨٤.
٧  من العجيب حقًّا أن نلاحظ تواجُد الإلهَين «إيل» و«يهوه» في عبادات جنوب جزيرة العرب، ونلحظ ذلك في تركيب قوائم الملوك، التي عادةً ما يتألف فيها اسم الملك من مُلصقَين أحدهما اسم الإله مضافًا إلى النعت الذي يفيد الانتساب إلى الإله أيًّا كان لون هذا الانتساب، وفي القوائم الملكية التي أوردَها العلَّامة «هومل» عن الأركيولوجي «جلازر» وربما عن آخَرين معه، أسماء لملوك مُعيَّنين تحمِل أسماء «إيلي يبيع، وقهي إيل، إيل معدي» وفي قوائم ملوك قتبان وسبأ وهمدان نجد أسماءً جديدة، يُلصَق فيها اسم الإله الجديد «يهو»، مثل: «شومو هو عليًا، يوها أمين يوها نعيم، يهو أمين، يهو رجيب، يهو ضبيع». ارجع إلى قوائم الملوك كما أوردها «فرتز هومل» في «التاريخ العام لبلاد العرب الجنوبية»، ضِمن كتاب «تاريخ العرب القديم»، بالاشتراك مع نيلسن وآخرين، ترجمة د. فؤاد حسنين، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ١٩٥٨م، صفحات ٦٥–٦٨، ٧٧، ٧٩.
٨  فريحة: دراسات … سبق ذكره، ص٩١.
٩  موسكاتي: سبق ذكره، ص٣١٩.
١٠  د. فريحة: دراسات … سبق ذكره، ص١٩٧–٢٠٩.
١١  نيلسن: الديانة … سبق ذكره، ص٢٢٣.
١٢  د. شلبي: سبق ذكره، ص١٨٤.
١٣  نفسه: ص١٦٩.
١٤  يعقوب السيد بكر: تعليقاته وهوامشه على ترجمة لكتاب موسكاتي السابق ذكره، ص٣٤٩.
١٥  ديورانت: سبق ذكره، ص٢٣٨.
١٦  Lods (A): lsrael from its beginnings to the middle of the Eighth century, London, 1913, PP. 321-322.
١٧  Stade (B): Lehrch der hebraischen (j): Die Biblischen Atertu mer. الهامش الأول.
١٨  walihausen (J): Die Bibli schen Atertumer.
انظر أيضًا هوامش يعقوب سيد بكر على كتاب موسكاتي السابق ذكره ص٢٨٦.
١٩  عباس العقاد: الله، كتاب الهلال، سبتمبر ١٩٤٢م، ص١١٣.
٢٠  السوَّاح: سبق ذكره، ص١٠٨.
٢١  أحمد شلبي: سبق ذكره، ص١٧٦، مأخوذ عن: Smith, God and Manin erly srael, p. 35.
٢٢  الزمخشري: الفائق، طبعة محمد أبو الفضل وعلي الباجوي، ج٢، القاهرة، ١٩٤٧م، ص٤٠٨.
٢٣  القزويني: عجائب المخلوقات، جوتنجن، ١٨٤٩م، ص٥٦.
٢٤  أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني، بولاق، ١٢٨٥ﻫ، ص١٦٠.
٢٥  موسكاتي: سبق ذكره، ص٣٠٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤