سفر التكوين التوراتي

لنتذكَّر الآن أن المدارس البحثية في التوراة تكاد تُجمِع على أن سِفر التكوين أول أسفار الكتاب المقدَّس، يُعدُّ من بين أحدث الأسفار وليس أقدمها، وأنه دُوِّن حوالي القرن الثالث قبل الميلاد، أو قبلَه بقليل، أي بعد العودة من الأسْر في بلاد الرافدين.

وأول ما تُطالعنا به التوراة، في أول أسفارها «التكوين»، وفي أول صفحات هذا السِّفر وفي الإصحاحات الثلاثة الأولى، تطلُع بقولها:
  • في البدء خلق الله السموات والأرض.

  • وكانت الأرض خربةً وخالية.

  • وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرفُّ على وجه المياه.

  • وقال الله: ليكن نور، فكان نور، ورأى الله النور أنه حَسَن، وفصَل الله بين النور والظلمة، ودعا الله النور نهارًا، والظلمة دعاها ليلًا، وكان مساء وكان صباح يومًا ثانيًا.

  • وقال الله: ليكن جلد في وسط المياه، وليكن فاصلًا بين مياه ومياه، فعمِل الله الجِلد، وفصل بين المياه التي تحت الجلد، والمياه التي فوق الجلد، وكان كذلك ودعا الله الجِلد سماء وكان مساء وكان صباح، يومًا ثانيًا.

  • وقال الله لتجتمِع المياه تحت السماء إلى مكانٍ واحد، ولتظهر اليابسة … ودعا الله اليابسة أرضًا، ومُجتمع المياه دعاهُ بحارًا، ورأى الله ذلك أنه حسَن.

  • وقال الله: لتُنبِتَ الأرض عُشبًا وبقلًا، يبزر بزرًا وشجرًا ذا ثمَر، يعمل ثمرًا كجنسِه بذره فيه على الأرض، وكان كذلك، فأخرجت الأرض عُشبًا وبقلًا، يبزر بزرًا كجنسِه، وشجرًا يعمل ثمرًا بزره فيه كجنسه ورأى الله ذلك أنه حسَن، وكان مساء، وكان صباح يومًا ثالثًا.

  • وقال الله لتكن أنوار في جِلد السماء، لتفصِل بين النهار والليل، وتكون لآيات وأوقات وأيام وسنين، وتكون أنوارًا في جِلد السماء، لتُنير الأرض، وكان كذلك. فعمل الله النورَين العظيمَين، النور الأكبر لحُكم النهار والنور الأصغر لحُكم الليل، والنجوم، وجعلَها الله في جلد السماء، لتُنير على الأرض، ولتحكُم على النهار والليل، ولتفصِل بين النور والظلمة، ورأى الله ذلك أنه حسَن، وكان مساء، وكان صباح، يومًا رابعًا.

  • وقال الله: لتفِضِ المياهُ زحافاتٍ ذات نفسٍ حيَّة، وليَطير طير فوق الأرض، على وجه جِلد السماء، فخلَق الله التنانين العِظام، وكل ذوات الأنفُس الحيَّة الدبَّابة، التي فاضت بها المياه كأجناسها، وكل طائر ذي جناح كجنسِه، ورأى الله ذلك أنه حسَن، وباركها الله قائلًا: أثمري وأكثري واملئي المياه في البحار، وليَكثُر الطير على الأرض، وكان مساء، وكان صباح يومًا خامسًا.

  • وقال الله: لتخرج الأرض ذوات أنفسٍ حيَّة كجنسِها، بهائم ودبَّابات ووحوش أرض كأجناسها … فعمل الله وحوش الأرض كأجناسها، والبهائم كأجناسها، وجميع دبابات الأرض كأجناسها، ورأى الله ذلك أنه حسَن، وقال الله: نعمل الإنسان على صُورتنا كشبَهِنا، فيتسلَّطون على سمك البحر وعلى طير السماء، وعلى البهائم، وعلى الأرض، وعلى جميع الدبَّابات التي تدبُّ على الأرض، فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقَهُ ذكرًا وأُنثى خلقَهم، وباركَهم الله، وقال لهم: أثمِروا وأكثِروا واملئوا الأرض … (بينما بداية الإصحاح الخامس تقول: يوم خلَق الله الإنسان، على شَبَه الله عمله، ذكرًا وأُنثى خلقَه وبارَكَه، ودعا اسمَه آدم يوم خلقَه) ورأى الله كلَّ ما عمِلَه فإذا هو حسَن جدًّا، وكان مساء، وكان صباح، يومًا سادسًا.

  • فأُكمِلت السموات والأرض وكل جُندها، وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمِل، وبارك الله اليوم السابع وقدَّسه، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمِل الله خالقًا.

  • هذه مبادئ السموات والأرض حين خُلِقت يوم عمل الربُّ الإله الأرض والسموات، كلُّ شجر البرية لم يكن بعدُ في الأرض، وكل عُشب البرية لم ينبُت بعد، لأنَّ الربَّ الإله لم يكُن قد أمطر على الأرض، ولا كان إنسان ليعمل في الأرض، ثم كان ضباب يطلُع من الأرض ويَسقي كلَّ وجه الأرض، وجبل الرب الإله آدم ترابًا من الأرض، ونفخ في أنفِهِ نسمة حياة، فصار آدم نَفْسًا حيَّة.

  • وغرس الرب الإله جنةً في عدن شرقًا، ووضع هناك آدم الذي جبلَه، وأنبتَ الربُّ الإله من الأرض كل شجرة شهيَّة للنظر، وجيدة للأكل، وشجرة الحياة في وسط الجنة، وشجرة معرفة الخير والشر.

  • وكان نهر يخرج من عدن ليَسقي الجنة، ومن هناك ينقسِم فيصير أربعة رءوس، اسم الواحد فيشون وهو المُحيط بجميع أرض الحويلة، حيث الذهب، وذهب تلك الأرض جيِّد هناك المقل، وحجر الجزع، واسم النهر الثاني جيحون، وهو المُحيط بجميع أرض كوش، واسم النهر الثالث حداقل وهو الجاري شرقي آشور، والنهر الرابع الفرات.

  • وأخذ الربُّ الإله آدم ووضعَه في جنةِ عدن، ليعملها ويحفظها، وأوصى الربُّ الإله آدم قائلًا: من جميع شجر الجنة تأكُل أكلًا، وأما شجرة معرفة الخير والشرِّ فلا تأكُل منها، لأنك يوم تأكُل منها موتًا تموت، وقال الربُّ الإله: ليس جيدًا أن يكون آدم وحدَه فأصنُع له مُعينًا نظيره، وجبل الرب الإله من الأرض كلَّ حيوانات البرية، وكلَّ طيور السماء، فأحضرَها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها، وكلُّ ما دعا به آدم ذات نفسٍ حيَّةٍ فهو اسمُها فدعا آدم بأسماء جميع البهائم وطيور السماء، وجميع حيوانات البرية، وأما لنفسه فلم يجد مُعينًا نظيره.

  • فأوقع الرب الإله سباتًا على آدم فنام، فأخذ واحدةً من أضلاعه، وملأ مكانها لحمًا، وبني الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة، وأحضرَها إلى آدم، فقال آدم: هذه الآن عظم من عظامي، ولحم من لحمي. هذه تُدعى امرأة لأنها من امرئٍ أُخذت، لذلك يترُك الرجل أباه وأمَّهُ ويلتصِق بامرأته، ويكونان جسدًا واحدًا، وكان كِلاهما عُريانَين، آدم وامرأته وهما لا يخجلان.

  • وكانت الحية أحيَلُ جميع حيوانات البرية، التي عملها الربُّ الإله، فقالت للمرأة: أحقًّا قال الله لا تأكُلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية: من ثمَر شجر الجنة نأكل، وأما ثمرة الشجرة التي في وسط الجنة، فقال الله لا تأكلا منه ولا تمَسَّاه، لئلَّا تموتا. فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله، عالِم أنه يوم تأكلان منه تنفتِح أعينكما، وتكونان كالله عارفَين الخيرَ والشر، فرأت المرأة أنَّ الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأنَّ الشجرة شهيَّة للنظر، فأخذت من ثمرِها وأكلَت، وأعطت رَجُلها أيضًا معها فأكل، فانفتحت أعينُهما وعَلِما أنهما عُريانين، فخاطا أوراق تين، وصنعا لأنفسهما مآزر.

  • وسمعا صوت الربِّ الإله ماشيًا في الجنة، عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله، في وسط شجر الجنة، فنادي الربُّ الإله آدمَ وقال له: أين أنت؟ فقال: صوتك في الجنة فخشيتُ لأني عُريان، فاختبأتُ فقال: من أعلمَكَ أنك عريان؟ هل أكلتَ من الشجرة التي أوصيتُك ألَّا تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التي جعلْتَها معي هي التي أعطتني من الشجرة فأكلت؟ فقال الربُّ الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلتِ؟ فقالت المرأة: الحيَّةُ غرَّتني فأكلتُ، فقال الرب الإله للحية: لأنك فعلتِ هذا ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية، على بطنك تَسعَين وتُرابًا تأكُلين كلَّ أيام حياتك، وأضَعُ عداوةً بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، هو يسحَقُ رأسك، وأنت تَسحقين عقِبَه. وقال للمرأة: تكثيرًا أُكثِّر أتعاب حبَلَكِ بالوجع تلِدِين أولادًا، وإلى رَجُلك يكون اشتياقك، وهو يسُود عليك، وقال لآدم: لأنك سمعتَ لقول امرأتك، وأكلتَ من الشجرة التي أوصيتُك قائلًا لا تأكُل منها، ملعونة الأرض بسببك، بالتَّعَب تأكُل منها كلَّ أيام حياتك، وشوكًا وحَسَكًا تُنبت لك، وتأكل الحقل، بعرَق وجهك تأكُل خبزًا حتى تعود إلى الأرض التي أُخذتَ منها، لأنك تُراب وإلي تراب تعود.

  • ودعا آدم اسم امرأته حواء، لأنها أم كل حي، وصنع الربُّ الإله لآدم وامرأته أقمصةً من جِلد وألبسهما.

  • وقال الربُّ الإله، هو ذا الإنسان، قد صار كواحدٍ منَّا، عارفًا الخير والشر، والآن لعلَّه يمدُّ يدَه ويأخُذ من شجرة الحياة أيضًا، ويأكل ويحيا إلى الأبد … فطُرد الإنسان، وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم، ولهيب سيف متقلِّب لحراسة طريق شجرة الحياة.

من البَيِّن في هذه القصة التوراتية بشأن التكوين، أنَّ هناك روايتَين أصليتَين تم دمجهما في قصة واحدة، وتُشير إلى ذلك دلائل شاهدة:

مرة يقوم بفعلٍ من أفعال الخلق من سَمِيِّ «الله»، وهو في الأصل العبري «يهوه» كما في النص «في البدء خلق الله» و«قال الله»، ومرة يقوم بأفعال أُخرى للخلق زعيم المجمع الإلهي «إلوهيم»، الذي ميَّزناهُ باسم «الرب الإله»، وصيغة حديث الربِّ الإله تُشير بوضوحٍ سافِرٍ إلى تشاوُره المُستمر مع أعضاء هذا المجمع «إلوهيم»، كاستشارته لأعضائه «نعمل الإنسان على صورتنا كشبَهِنا.» أو كما في إعلامه المجموعة الإلهية بالخبر المُفزِع الذي أثار القلق الشديد لدي الربِّ الإله «هو ذا الإنسان قد صار كواحدٍ منَّا عارفًا الخير والشر.» وإنَّ هذا الكائن الجديد ربما تطاوَل وأخذ من شحرة الحياة الخالدة، فيُصبح خالدًا مثلهم.

في موضعٍ يقوم الإله الخالق بصُنع السماء والأرض دفعةً واحدة «في البدء خلق الله السماوات والأرض، وكانت الأرض خربةً وخالية.» بينما في موضعٍ آخر تكون السماء والأرض موجودتَين أصلًا كَيَمِّ ماءٍ أزلي، يفتِقُه الله عن بعضه إلى سماءٍ وأرض.

في مشهد يقوم مَن لُقِّب ﺑ «الله» أو يهوه بإنبات النبات في الأرض، ويضع فيها حيوانها ودبَّاباتها، بينما في مشهدٍ آخر نجد بريةً بلا عُشب يقوم الرب الإله فيها بخلق آدم، ثم فجأة يضَعُه في مكانٍ أرضي يُسمي الجنة ليزرعَها ويَفلحَها ويَعملها ويحفظها، وفيه نباتات مختلفة، أهمُّها شجرتان؛ شجرة المعرفة، وشجرة الحياة. وواضح أنَّ هذا المكان كان موطنًا تعيش فيه مجموعة الآلهة «إلوهيم» مع كبيرها «الرب الإله» فقط، بدليل خشية الرب الإله أن يتجرَّأ مخلوقه «آدم» ويأكل من شجرة الخُلد الخاصة بالآلهة الخالدة وحدَها، خاصَّةً بعدما تجرَّأ على الأكل من شجرة المعرفة، مما جعله يُصبح كالآلهة يُميِّز بين الخير والشر.

هذا مع تناقُضٍ واضح يُشير إلى هذا الانفصال الأكيد لروايتَين مختلفتين من الأصل، تمَّ مزجُهما معًا، فنفهَم في أحد مواضع قصة التكوين أن آدم عندما وضع في مقر إلهه الخالد، لم يكن مُحرَّمًا عليه أكل ثمرة الخُلد أساسًا، بينما نفهم من موضعٍ آخَر أنه كان مخلوقًا للفناء «حتى تعود إلى الأرض، التي أُخذتَ منها، لأنك تُراب، وإلى ترابٍ تعود.»

ثم تضارب آخَر، فلدَينا رواية تؤكد أن عملية الخلق بدأت بخلق السماوات والأرض دفعةً واحدة، فتقول الرواية: «إنَّ الله قال: ليكن نور فخلق النهار والليل.» بينما الرواية التي تتحدَّث عن السماء والأرض كموجودٍ واحد أصلي في هيئة غمر أزلي مُظلم، تُرجئ إيصال الإنارة إلى ما بعدَ فتْق هذا المُحيط إلى سماءٍ وأرض.

ثم يظهر تضارب آخر بين القصَّتين، في كُنه عملية الخلق ذاتها فالله يتخذ كل مرة قرارًا للخلق بالكلمة فقط، لكنه في كل مرة كان يتبع كلمته الخالقة بعملٍ يدوي من صُنع يدَيه لإيجاد الشيء المراد خلقه: «وقال الله ليكن جِلد … فعمل الله الجلد، وقال الله لتكن أنوار … فعمِل الله النورَين العظيمَين … إلخ.»

أما أبرز الشواهد على مزْج روايتَين مُختلفتَين في التكوين التوراتي فهو الكيفية التي تمَّ بها خلق الإنسان الأول، ففي مواضع القصة نجد الخالق يخلق الإنسان دفعةً واحدة، ككائنٍ واحد، يجمع في ذاته الواحدة الذكورة مع الأنوثة «ذكرًا وأنثي خلقَه وباركه، ودعا اسمه آدم.» ثم يفصل عنه العنصر الأنثوي من خلال المرأة الضِّلع أو الضِّلع المرأة، بينما نجد في موضعٍ آخر إشارة مختلفة تمامًا، تقول «على صورة الله خلقَه ذكرًا وأنثي خلقهم.» فهنا شخصان منفصلان مُتمايزان عن بعضهما تمامًا من الأصل.

ولا مجال هنا لتفسير ذلك، سوي ما أسلفناه حول طبيعة التأليه اليهودي، الذي اتَّخذ طورَين أساسيَّين، أو ما أسميناهما: طور التأليه الإلوهيمي في العصر الإبراهيمي وربما قبل إبراهيم بزمانٍ طويل، واعتمد ثالوثًا يرأسه الربُّ الإله؛ وطور التأليه اليهودي في العصر الموسوي وما تلاه، واعتمد مجموعةَ بعولٍ أو ثيران تتَّسِم بالصفات البركانية، مع التأثيرات التي لا شكَّ دخلت هذا السفر إبَّان وجود اليهود أَسرى في بلاد الرافدين، حيث كان الجوُّ الديني يعبق بسِفري التكوين السومري والبابلي، وهو ما نجده واضحًا في المقارنة التالية:
  • (١)

    يقول التكوين السومري: في البَدء لم يكن في الوجود سوي مُحيط بدئي مُظلم، وهذا الغمر كان هو «نمو»، وقام الإله الهواء الريح «آنليل» بالفصل في هذه المياه بين سماء وأرض.

    ويقول التكوين البابلي: في البدء كان غمر مظلم أنثي هي «تيامت»، شقَّها «مردوخ» كما تُشَق الصدفة إلى قِسمَين: سماء وأرض.

    ويقول التكوين التوراتي: في البدء خلق الله السماوات والأرض وكانت الأرض خربةً وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرفُّ على وجه المياه. وقال الله ليكن جِلد في وسط المياه، وليكن فاصلًا بين مياه ومياه، فعمل الله الجِلد، وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد، وكان كذلك، ودعا الله الجِلد سماء.

  • (٢)

    يقول التكوين البابلي: إن «مردوخ» أظهر اليابسة على الماء بأنه على سطح الماء ضفر حصيرًا، وصنع شيئًا من التراب، وخلطه مع الحصير وهذا كوَّن لوحًا صُلبًا فوق المياه، وهو الأرض.

    ويقول التكوين التوراتي: لتجتمِع المياه تحت السماء إلى مكانٍ واحد، ولتظهر اليابسة، وكان كذلك، ودعا الله اليابسة أرضًا.

  • (٣)

    ويقول التكوين السومري: إنَّ آنليل شاء إزالة الظلمة من على الغمر، (فأظهر للعيان) بالنورَين العظيمَين، الشمس والقمر.

    ويقول التكوين البابلي: إنَّ «مردوخ» سلَّط القمر على الليل، جعله زينة في الليل، به يَعرف الناس مواعيد الأيام، كذلك جعل الشمس للنهار.

    ويقول التكوين التوراتي: وقال الله ليكن نور، فكان نور، ورأى الله النور أنه حسَن، وفصل الله بين النور والظلمة، ودعا الله النور نهارًا والظلمة دعاها ليلًا. وقال الله لتكن أنوار في جلد السماء، لتفصِل بين النهار والليل، وتكون لآيات وأوقات وأيام وسنين. لتُنير على الأرض … فعمل الله النورَين العظيمَين، النور الأكبر لحُكم النهار، والنور الأصغر لحكم الليل.

  • (٤)

    يقول التكوين السومري: قامت إلهةٌ أُنثى بعجن طين، خلقَت منه الإنسان الأول، بعد أن عجنَت بسائل الخصب «آبسو وآنكي» المنيَّ المقدس، وأنَّ الإنكي أو الإنسي عصى أوامر إلهية، فأكل ثمارًا مُحرَّمة، أُصيب بسببها بمرضٍ في واحد من ضلوعه، حتى أشرف على الهلاك، «لن أنظُر إليك بعين الحياة حتى تموت.» ولم يُنقِذه إلَّا استخراج ضلعه المريضة، لتُصنع منها زوجة له، هي «نن تي» أو «ننتو» سيدة الضلع، وتعني أيضًا سيدة الحياة أو التي تُحيي أو الوالدة، فالإنسان بذلك خُلِق ذكرًا وأنثى معًا في ذاتٍ واحدة، ثم فُصِلًا بعد ذلك.

    يقول التكوين التوراتي: «يوم خلق الله الإنسان، على شبَهٍ الله عمله ذكرًا وأنثى خلقَه، وباركه، ودعا اسمه آدم يوم خُلق … وقال الرب الإله ليس جيدًا أن يكون آدم وحده … فأوقع الرب الإله سباتًا على آدم فنام فأخذ واحدةً من أضلاعه وملأ مكانها لحمًا، وبنى الرب الإله الضلع التي أخذَها من آدم امرأة … ودعا آدم اسم امرأته حوَّاء؛ لأنها أمُّ كل حي.» ثم يقول إنَّ حواء الحيَّة (وهي من حوى، وحياة، وحيا أي فرج)، وقد خدَعَت زوجَها (إليه اشتياقها) فأكل معها من ثمرة المعرفة المُحرَّمة، وأول ما عرفاه — وهنا الغريب — أنهما عُريانان؟ وهو الفعل الجنسي إذن! وهو ما ذهبنا إليه عند مُعالجتِنا سِفر التكوين السومري.

  • (٥)

    يقول التكوين البابلي: إنَّ الدم هو سِرُّ النفس أو الحياة، لذلك كان لا بدَّ كي يُوجَد الإنسان حيًّا، أن تخلُط النفسُ الحياة مع الطين، وكان الدم عند الأقدمين هو سِرُّ الحياة، عندما كانوا يرَون المرأة المُتميزة بالقُدرة على الولادة تتميَّز بدورها بالدم الشهري، وأنَّ هذا الدم ينقطع عند الحمْل فتصوَّروا أنه يظلُّ في الداخل ليُعطي المولود حياته، وحتى يسلُب التكوين البابلي المرأة هذا الحقَّ البيولوجي، وينسِبُه للرجل قاموا بذبح «كنجو» ليخلطوا دمه بالطين، ويخلقوا الإنسان.

    وفي التشريع التحريمي تقول التوراة: لكن احترز ألَّا تأكل اللحم، لأنَّ الدم هو النفس، فلا تأكُل النفس مع الدم (تثنية ٢١: ٢٣).

  • (٦)

    في الختم (المُفترض أنه سومري حسب تصنيف الآثاريين) رأينا الحيَّة تُوعِز للأنثى الأولى بأكل ثمار التمر (ولا تنسَ الثمر المُحرَّم الذي أكله آنكي) فتدعو زوجها لأكلِه، مما يؤدي إلى انتهاء الخلود الفردي وبداية خلود النوع بالتناسل، بخروج إنكى أو إنسي وزوجته «نن تى»، من أرض الخلود دلمون، وكان الخلود يتمثَّل في نبتةٍ لو أكلها الفاني خلُد. وفي ملحمة جلجامش علِمْنا أن هذه النبتة لا تنمو إلا في أرض الخلود «دلمون» مقرِّ الآلهة الخالدة.

    ويقول التكوين التوراتي: وغرَس الربُّ الإله جنةً في عدن شرقًا، ووضع هناك آدم الذي جبلَه … وشجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشر … وأخذ الربُّ الإله آدم ووضعَه في جنة عدن ليعملها ويحفظها وأوصى الربُّ الإله آدم قائلًا: من جميع شجر الجنة تأكُل أكلًا، وأما شجرة معرفة الخير والشرِّ فلا تأكُل منها، لأنك يوم تأكُل منها موتًا تموت (ثم خلق له حوَّاء كما شهدنا)، وكانت الحية أَحيَلُ جميع حيوانات البرية التي عملها الربُّ الإله … فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله عالِم أنه يوم تأكلان منه تتفتَّح أعينكما، وتكونان كالله عارِفَين الخيرَ والشر، فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل … فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رَجُلها أيضًا معها فأكل، فانفتحت أعينهما وعلِما أنهما عريانان، فخاطا أوراق تينٍ صنَعا لأنفسهما مآزر … وقال الربُّ الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحدٍ منَّا عارفًا الخير والشر، والآن لعلَّه يمدُّ يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا ويأكل ويحيا للأبد … فطُرِد الإنسان، وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلِّب لحراسة طريق شجرة الحياة (ولنلحَظ أن شجرة الخُلد لم تكن محرَّمة أصلًا، ولكن أكل آدم من شجرة المعرفة نبَّهَ الربَّ الإله إلى أنه غفل عن أمر شجرة الحياة، ممَّا اضطرَّه إلى طرْد المخلوق البشري من موطن هذه الشجرة، حتى لا يخلُد كالآلهة).

  • (٧)

    والغرض من خلق الإنسان في التكوين السومري والتكوين البابلي، هو أن يحمِل الإنسان عناء عمل الآلهة، بأن يزرع الأرض ويعمل فيها ليحفظها.

    وفي التكوين التوراتي أخذ الربُّ الإله آدم، ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها.

  • (٨)

    وفي التكوين البابلي: كان مُفترضًا أن تتمَّ عملية الخلق بالكلمة الخالقة للإله مردوخ، ومع ذلك كان الخلق يتمُّ دائمًا بالصنعة اليدوية.

    وفي التكوين التوراتي: كان الإله ينطق الكلمة الخالقة (ويبدو أنه كان لا يحدُث شيء بالمرة عند نُطقها)، لذلك كان الإله يُضطرُّ دائمًا إلى صناعة الشيء المُراد خلقه بالعمل اليدوي.

    وفي التكوين السومري، وبعد عناء عملية الخلق، جلست الآلهة لتستريح, وفي التكوين البابلي، استوى مردوخ على عرشه، أما في التكوين التوراتي، عندما «فرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، استراح في اليوم السابع.»

figure
أحد ثيران بابل المُجنَّحة برأس إنسان وأجنحة نَسر وقوائم وجسد ثور، وفي مُجمله يوحي بمشهد الأسد أو كما أسماه حزقيال «كروب أو قراب» أو كما أسمته الروايات الإسلامية «البراق».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤