الآلهة

وأهم ما يمكن احتسابه للفكر الديني السومري في رأيِنا، أنه استطاع مُبكرًا أن يفصل بين الآلهة وبين أشكالها الطوطمية، فغلَب على نقوش الآلهة الهيئة الإنسانية، بينما احتفظت الذاكرة بالأصل الطوطمي كرمزٍ يُنقَش قابعًا إلى جوار الإله، أو يحمِله الإله بين يدَيه، أو يُرسَم على ثوبه، بعكس المصريين الذين لم يتحرَّروا تمامًا من الأصول الطوطمية للآلهة، فجسَّموا الإله في الشكل الآدمي مع الاحتفاظ بالرأس الحيواني الأصلي. ويبدو لنا ذلك ناتجًا عن الفارق الطبوغرافي بين المَنطقتين، حيث كانت مصر مغلقةَ الحدود، مُتجانسة التكوين جنسيًّا وفكريًّا إلى حدٍّ بعيد، بينما كانت الرافدين بلادًا مفتوحة، تلاحقَتْ فيها أجناس وثقافات مُتعدِّدة، أدَّت في أحيانٍ كثيرة إلى نوع من التجريد المُطَّرد، أدَّى إلى سلخ الآلهة من جذورها البدائية، وهى ظاهرة نلحظها أيضًا في تطويرهم الكتابة إلى نوعٍ من الخط المُجرد، ابتعد بسرعة عن أصله التصويري، بينما ظلَّ الأصل التصويري في الكتابة غالبًا فترةً طويلة على الكتابات الهيروغليفية في مصر، ولم يتحرَّر المصريون منه بشكلٍ واضح إلا بعد احتكاكهم بالشعوب الأخرى، وبعد غزوات مُتعددة لأراضيهم في نهاية الإمبراطورية المصرية، وسقوط الدولة الحديثة، ممَّا أدى بالهيروغليفية إلى التحرُّر من التصوير والتحوُّل إلى التخطيط لتتطوَّر إلى «هيراطيقية، ديموطيقية، قبطية». ولا شكَّ لدَينا أنَّ هذا المَيل إلى التجريد، قد صار خاصيةً لشعوب شرقي المتوسط الأدنى عمومًا، لتشابُه الظروف البيئية، وكان دافعًا فيما بعدُ إلى ظهور الفلسفة اليونانية، التي هي امتداد طبيعي لفكر المنطقة وتُعدُّ في المقام الأول فكرًا «أيونيًّا» مَشرقيًّا، ومن خلال التفوق الفينيقي التجاري والبحري وما نتج عنه من احتكاكٍ اجتماعي، في الألف الأولى قبل الميلاد.

ومع ذلك فقد استمرَّت التعددية المُفرطة هي سِمة الديانة السومرية، حتى أمسى للفأس إله، ولقالَب الآجِر إله، وللمِسمار إله، ولكل فردٍ إله خاص به يَحميه وفقَ طموحاته الشخصية، يُحابى فيه نزعاته وطموحاته ومُيوله، إضافةً إلى افتراض ربٍّ أو ربةٍ لكل ظاهرة طبيعية، كبُر شأنها أو صغُر، كما افترضوا لأربابهم صورًا بشريةً ضخمة، وحياةً تُماثل حياة البشر، تزاوَجوا فيها وتناسَلوا وتحابُّوا وتخاصَموا وتقاتَلوا، لكنها كانت حياةً سرمدية، ذات قُدراتٍ مُطلقَة.

أما عندما يكون وجود هذه الآلهة ضروريًّا في ذاتيَّات الكون المُوكلة بها، فإنها كانت تعيش في «جبل السماء والأرض»١ وإني أتصوَّر ذلك نوعًا من الفصل بين آلهةٍ عاملة (شغِّيلة) مُرتبطة باستمرارٍ بالظواهر الطبيعية مُطَّردة الحدوث، ودائمة التأثير المباشر في حياة الإنسان السومري، وبين آلهة مُتفرِّغة للعمَل الذِّهني النظري وللإدارة في جبل السماء والأرض، ويُحتمَل أنها كانت الآلهة الكبرى. والظنُّ عندي أن ذلك راجع إلى ظهور الكهنة المُفوَّضين للإدارة في المُشتركات الأولى، التي تحوَّلت إلى مُشتركات قروية ثم معبدية، ممَّا طبع شكل المُجتمع الإلهي، بما وصلتْ إليه أحوال المجتمع السومري اقتصاديًّا وسياسيًّا؛ وكما تفرَّغ الكُهَّان من العمل البدَني للإدارة، فقد تفرَّغ مجموعة من الآلهة وتحرَّروا من العمل المُلاصِق لعمل الطبيعة الدائم، وهو ما تدلُّ عليه أسماء هذه الآلهة، الذين شكَّلوا مجاميع إلهية أشهرها:
  • مجمع الآلهة مُقرِّرة المصائر، وعددُهم سبعة.

  • مجمع الآلهة العظام، وعددُهم خمسون إلهًا.٢
وفوق هذه الآلهة جميعًا، كانت عناصر الكون الكبرى، ذات التواجد الدائم الثابت (السماء، الأرض، الهواء، الماء)، آلهةً لها خصوصيتها المُتميزة باستمرار التواجُد المنظور، إزاء الآلهة الأخرى مُتغيرة الأحوال، التي لا تتَّسِم بديمومة التواجد. ونذهب إلى أن ملاحظة السومري المُستمرَّة لجدَل التأثير المتبادَل بين الظواهر الأربع الثابتة، في إنتاج الحياة، وضرورة استمرار هذا الجدل لضمان استمرار الحياة، كما لو كانت مُهمَّتها الإشراف على هده الاستمرارية وتتابُعها؛ أقول: إنَّ هذه الملاحظات قد سوَّغَت للسومري المُتأمِّل، الاعتقاد أن هذه الظواهر الأربع إنما هي أربعٌ من الآلهة، تكاتفَتْ معًا لتقوم بخلق بقية كائنات الوجود، ومن ثَم أُطلِق عليها «الآلهة الخالقة»، وهي:
  • آن AN الإله السماء.
  • كي KI أو «جي» GI الإلهة الأرض زوجة إله السماء.
  • آنليل AN-LIL الإله الهواء ابن إلهَي السماء والأرض.
  • أنكي AN-KI الإله الماء.
ويُرجِّح «كريمر» أن تكون هذه الآلهة الأربع هي الأعضاء الكبرى في مجتمع السبع المُقرِّرة المصائر، ويكون بقية هذا المجمع إذن هُم الآلهة:
  • نانا NANA الإله القمر.
  • أوتو UTO الإله الشمس وهو ابن الإله القمر.
  • إينانا ENANA إلهة كوكب الزهرة.٣
وإن كان موسكاتي يجعل من هذه الثلاث الأخيرة أُسرةً إلهية مُثلَّثة تضم: الأبَ القمر والأم الزهرة والابن الشمس.٤

وهكذا تكوَّن مجمع الآلهة السبع مُقرِّرة المصائر، من أُسرتَين ثالوثيَّتين كلٌّ منهما يشتمل على ثالوث (أب وأم وابن)، فشكَّلا معًا ستة من الآلهة، بينما ظلَّ سابعهم «آنكي – الماء» حالة شاذَّة وسط هذا المجمع، باعتباره ليس عضوًا في أيٍّ من الأُسرتَين الثالوثيَّتَين، وإن كان يُكمل الأسرة الأولى لتصبح أربعًا من الآلهة الخالِقة، وهو أمر حيَّرَنا من البداية، لكنها حيرة أثمرتْ عن كشفٍ هام، يُعدُّ واحدًا من أعمدة هذا القسم من بحثنا.

وحتى نتمكَّن من الوصول بقارئنا إلى الكشف المأمول، نقِف أولًا مع الآلهة الأربع وقفةً تفصيلية بعض الشيء، نستقي أخبارَها من المصادر، فتُطالِعنا بأن:
  • (١)
    «آن AN»: هو إلهٌ ذكَر، وهو إله السماء، والكلمة «آن» تعني أيضًا السماء المنظورة ذاتها، وكانت في رؤيتهم سقفًا يعلُوهم، ثم أصبحت «آن» بالتدريج عَلمًا ورمزًا على الألوهية عمومًا، فعادلت — بمعنًى من المعاني — اسمًا للجلالة، تدلُّ على ألوهية أيِّ مُسمًّى إلهي، وبذلك حمَلَت معنى السيادة والرفعة والسمو، لذلك كان «آن» سيد الآلهة جميعًا، باعتباره في نظرِهم كان الأب الأول لكلِّ الآلهة وسيد الآلهة السبع المُقرِّرة المصائر.٥
    ويقول «كريمر»: إنَّ الأسباب التي أدَّت إلى تسيُّد «آن» مجموعة الآلهة السومرية، أسباب غير معروفة.٦ لكننا نتصوَّر وببساطة أن رؤية الرافدي القديم للسماء بفسحتها واتِّساعها، وتعدُّد الألوان والأحداث والظواهر فيها مع ضخامة هذه الظواهر، وجَسَامة هذه الأحداث، ومطرِها الذي يُشكل للأرض مَنيَّ الحياة، ثم إحاطة السماء للأرض في الأفق، وتغطيتها من جميع جوانبها؛ كل ذلك كان كفيلًا بتصوُّرها بما يلائم عظمة اتِّساعها ورَحابتها وتعدُّد الإمكانات فيها، مقابل ضِيق المساحات المرئية أمامه بشكلٍ مباشر على الأرض، التي مهما بلغَتْ مظاهرها هولًا وغرابة، فإنها لم ترُقْ أبدًا في نظرِه إلى درجة ظواهر السماء، مع أخذِنا بالحُسبان عدَم التَّماس المُباشر بينه وبين السماء، ممَّا جعلها مجهولًا دائمًا يقَع في نفسه مَوقع الجليل، بما له من هيبة ورغبة واحترام وتقديس، فكان أن تصوَّر السماء أعظم الآلهة، وأبًا أولًا دائم الاقتدار، بتواصُلٍ وديمومة مستمرة، يُخصِّب الأم الكبرى «كي KI» الأرض، وهو يحتضنها ليُلقي في أحشائها بدفقات ماء الحياة. ومن هنا ظلَّت السماء «آن»، وظلَّ الإله «آن» يقع في الوهم الإنساني — حتى اليوم — موقعه القديم، فنتحدَّث عن الإله مجازًا فنقول: السماء، أو نتصوَّره قابعًا على عرْش في بيتٍ إلهي في السماء، أو ننفعل فنُقسِم أغلظ الأيمان بحقِّ السماء! ولا يبقى عن «آن» الآن، سوى ترجيحنا أن يكون هو نموذج الأب الأول في مُشترك العشيرة البدائي.
  • (٢)
    «كي KI أو جي GI»: وهي إلهة أُنثى هي الأرض تعدَّدت أسماؤها وشخصها واحد، فهي كزوجةٍ للسماء الذَّكَر «آن AN» تُسمَّى «أنتوم AN-TUM»٧ مؤنَّث الكلمة «آن AN» وهي أيضًا «نينماه أو نينا ماه NIN-MAH»،٨ والاسم «نينماه» يُشير إلى مدلول هذه المعبودة في الذهن السومري، فهو مُركَّب من مُلصَقَين: «نن NIN» بمعنى السيدة أو العُظمى، أو السيدة العُظمى. ولا زِلنا نُنادي الأم، والأم الكبرى (الجدة) باللفظ «نينا»، والمُلصَق الثاني «ماه MAH» أي الأم، وتُصبح الترجمة: السيدة الأم، أو الأم العُظمى أو الأم الكبرى، كما عُرفت «كي» أيضًا باسم «نينتو NINTO»٩ وهو اسم يحمِل أيضًا معنى الأمومة، لأنَّ «نن = السيدة + تو = تلد» أي السيدة التي تلد، أو السيدة الوالدة، أو إيجازًا: الوالدة. كما سُمِّيت أيضًا «أرش ARSH» بمعنى أرض، كما حازت على الألقاب «مامي MAMY» و«ماما MAMA» و«ما MAH»،١٠ وكلها تحوي «ميم» الأمومة.

    وقد شكلت «كي» مع «آن» فكرةً ابتدائية عن نشأة الحياة على الأرض أو ما يمكن اعتباره سِفرًا بدئيًّا للتكوين، صادقًا صِدق بدائيَّته، مُطابقًا لراسِب خبرات الإنسان، ومُلاحظاته، عن دَور مطَر السماء أو مَنيِّ «آن» وفعله في الأم الأرض لتُنتِج الحياة، لكن هذا السِّفر يقِف عند هذا الحدِّ عندما يبدأ الخيال الإنساني يتدخَّل في صناعة الفكرة، ليأخُذ التكوين خطًّا آخَر أكثر تعقيدًا من بساطة الحقيقة.

  • (٣)
    «آنليل ANLIL»: وهو إلهٌ ذكَر، هو إله الهواء وهو الضلع الثالث، في ثالوث: الأب فيه آن والأم كي والابن آنليل. وعنه يقول «جان بوتيرو»:
    «آنليل يعني باللغة السومرية، سيد الريح والعاصفة ومجال عمل آنليل هو الأرض، فهو الذي يُسيِّر البشر … وقد لقب السيد.»١١ ولنلحَظ أنَّ الاسم «آنليل» مُركَّب من «آن» = سيد أو إله أو رب + «ليل» وهي مادة ما بين السماء والأرض من هواءٍ ورياح وسحُب، ويقول «نجيب ميخائيل»: إنَّ كلمة آن ليل تعني أصلًا سيد الريح والرُّوح، وهو لم يأخُذ لقب سيد الأرض إلَّا فيما بعد … ومَعبدُه هو «بيت الجبل E-KUR»،١٢ ويقول «عبد الحميد زايد»: «إن آنليل هو سيد ما بين السماء والأرض، فهو إله الهواء وما يتعلَّق به، كما لُقِّب أيضًا بأبي الآلهة … كما يقود آنليل الآلهة إلى الحرب، فهو يُمثِّل القوة والبطش، فكان آن يرأس الاجتماعات في مجمع الآلهة، وكانت وظيفة آنليل تنفيذ أحكام هذا المجمع، فآن وآنليل هما العنصران الرئيسيان، وكانت وظيفة آنليل تنفيذ أحكام هذا المجمع، فآن وآنليل هما العنصران الرئيسيَّان في الدولة، هما السلطة التشريعية والتنفيذية، وقد عُهد إلى آنليل بالمحافظة على ألواح القدر.»١٣ ومِن ألقابه سيد جميع البلدان، أبو جميع الآلهة، مُقرِّر المصائر، الذي لا رجعة لقراراته، الذي يمتلك ألواح القدَر الذي فصل أباه السماء عن أُمِّه الأرض، خالق الفأس أداة العمل، الجبل العظيم. هذا وكان مقرُّ عبادته في مدينة نفر، وكان هنالك تقليد سنوي، تذهب فيه بقية آلهة المُدن لطلَبِ الرحمة والبركة من آنليل لحكَّام مُدن هذه الآلهة، وهو الإله الوحيد الذي اغتصب أُنثاه ننليل، فأنجبت منه القمر نانا.»١٤ مع ملاحظة هامَّة هي أنَّ رمزَه التصويري كان ذاتَ رمز إله السماء آن.
    ويقول «كريمر» إنه «… يُوجَد في أقدم التصانيف السومرية المنشورة عددٌ كبير من القطع الأدبية التي نُطلِق عليها اسم المراثي، نرى فيها الإله «آنليل» يقوم بذلك العمل البغيض، وهو القيام بإحداث الدمار وتنفيذ الكوارث والبلايا، التي كانت تأمُر بها الآلهة لسببٍ من الأسباب، وهذا هو السبب في وصْم آنليل بأنه إله شرس مُدمِّر في كتابات الباحثين القدماء في الشئون السومرية، ولكنَّ الحقيقة هي أنَّنا لو حلَّلنا التراتيل والأساطير لا سيما ما نُشِر منها منذ عام ١٩٣٠م، لألفَينا الإله آنليل وقد مجَّدوه بصفتِهِ إلهًا رحيمًا، يتحلَّى بالحنوِّ الأبوي، ويُعنى بسلامة جميع البشر وخيرهم.»١٥

    وبالاجتهاد يُمكننا فهم هذا التضارُب في شخصية آنليل ويمكننا تفسير استطاعته إزاحة أبيه «آن» ليتحوَّل إلى رمز مَسلوب السلطان، وهو أمر شائع في المِيثولوجيا الشرقية عمومًا، في قصة الابن الذي يتفوَّق على أبيه ويَسلِبُه سُلطاته، وهو ما يبدو لنا صدًى طبيعيًّا لواقع أحوال الإنسان البدائي قبل استقراره وتحضُّره، حيث كان الأب القوي يظلُّ سيدًا أو حاميًا للقطيع حائزًا لكل الإناث، حتى يظهر من بَنيه ذكَر قوي يُنافسه السيادة وحيازة الإناث، فيُنازعه سُلطانه ويدعوه للنِّزال، في وقتٍ يكون فيه لِعامل السنِّ دوره، في إزاحة الأب الكهل، ليحلَّ الابن الشابُّ القويُّ محلَّه في سيادة القطيع والذَّود عنه، ويتحوَّل هو إلى أبٍ جديد للقطيع، لكن هذه السيادة الأبوية البدائية، بدأت تفقِد سلطانها مُبكرًا مع التطوُّر الاجتماعي، عندما أصبحت السيادة تحتاج إلى مقوِّماتٍ أكثر من مجرَّد الأبوة، أو القوة الجسدية واستدْعَت وجود كفاياتٍ متعددة في سيد العشيرة، المُفوَّض من مجموعة عشائر مؤلَّفة من مُشترك بدائي، ممَّا أدَّى إلى ضرورة التحوُّل نحو قانونٍ جديد، فرضتْهُ ظروف التجمُّع الأكبر؛ حيث ساد مجموعة من رؤساء العشائر الآباء، تحوَّل أحدهم إلى أبٍ مُفوَّض للمجموعة العشائرية المُتحدة في مُشترك قروي ثُم مَعبدي ليكون همزة الوصل بين الأب القديم الذي تحوَّل إلى إلهٍ غائب، وبين أفراد المُشترك، أو بين الآلهة عمومًا وبين الناس، في شكل كاهنٍ رئيس، مُتحرِّر النفوذ من أسْر مجلس القبيلة العام.

    أقول: عندما فقد الأب البدائي سُلطانه في المجتمع الأكبر، انعكس ذلك على عالم الآلهة، ففقد إلهُ السماء سلطانه الأبوي، المُتَّصِف في الأساطير بالحنوِّ البالِغ والشفقة، وظهر ولده آنليل، وقد حدث ذلك على ما يبدو بالتدريج البطيء الذي حدث به في عالم البشر، حتى صار «آن» مجرد شخصية هُلامية مُبهمة غامضة في مجمع الآلهة، وإن ظلَّ محتفظًا باحترامه كأبٍ أول خالق، لكن مسلوب السلطات.

    وكما تحوَّل الأب المفوَّض في المجلس العام بالمُشترك البدائي إلى حاكمٍ مُتحرِّر النفوذ، تحوَّل آنليل بمفهوم الألوهية من الرحمة إلى الشراسة، يمتلك أقدار الناس وأقواتهم (الذي يمتلِك ألواح القدَر)، ويتفرَّغ للعمل الذِّهني لتطوير أدوات الإنتاج (خلق الفأس أداة العمل)، وينظم أعمال الناس (يسيِّر البشر)، ويقود الجيوش (يقود آنليل الآلهة إلى الحرب)، لذلك أصبح «سيد جميع البلدان»، وتوجَّب «أن تذهب إليه بقية الآلهة لطلَب الرحمة.» باعتبار الحاكِم الذي يُمثِّل آنليل مفوضًا من جميع العشائر المتحدة وسيِّدًا مُتحرِّرَ النفوذ محلَّ الأب البدائي، وهو ما ترك أثره في تصويره الرمزي، بنفس رمز الأب آن.

  • (٤)
    «أنكي ANKI أو آنجي ANGI»: وهو إلهٌ ذكَر، يتركَّب اسمه من مُلصقَين «آن = السماء + كي = الأرض»، أي «السماء والأرض» وبترجمة بعض الباحثين «السيد الأرض» باعتبار «آن» تعني السيادة والجلالة أيضًا، فهو بذلك إلهُ الأرض، لكن هذا يتضارب مع حقيقة ميثولوجية مُتواتِرة في ميثولوجيا البلدان الزراعية، حيث الأرض دومًا إلهة أُنثى كمصدرٍ للحياة، كما يتضارَب مع أخرى هي أن آنكي كان يُعدُّ لدى السومريين إلهًا للماء وكان بهذه الصفة إلهًا ذكرًا، حيث كان سكان المناطق الخصبة ينظرون إلى الماء كمَنِيٍّ للأرض، وسائل يُخصِّب الأُنثى الأرض لتحمِل بالزرع.
    وسُمِّي آنكي باسم آخَر هو «آبسو ABZU» وهو بدوره مُلصق من كلِمَتَين «آ A = الماء» + «بسو BZU»، ويترجم الباحثون «BUZ» بمعنى البعيد أو العميق،١٦ ويقول «نجيب ميخائيل»، إنهم قصدوا بذلك المياه الجوفية،١٧ لكنَّ الغريب في بابه أنَّ هذا الإله، وهو رابع الآلهة الخالقة الأربعة، المكوَّنة من أسرةٍ ثالوثية «آن، كي، آنليل»، مضافًا إليها «أنكي» رغم كونه ليس عضوًا في الأسرة! ثم لماذا يكون «أنكي» ماء العُمق أو المياه الجوفية بالذات، كعُنصر إحياءٍ فاعل في عملية الخلق؟ لماذا لا تكون مياه الأمطار أو الأنهار هي صاحبة هذا الدور الخالق، في بلدٍ يغمُره النهران العظيمان: دجلة والفرات؟
    الحقيقة أني وقفتُ مع «أنكي» أو «آبسو» وقفة طويلة، انتهيتُ منها إلى اعتباره فعلًا ذكَرًا هو الماء، لكنه ماء إلهي أو هو مَنيُّ الإله «آن» السماء، الذي زرَعَه في رحِم الأم الأرض «كي». وهو ما يُفسِّر لنا تركيب اسمه من السماء والأرض معًا (آن + كي)، فهو الفعل المُشترك لأبوي الحياة؛ هو ماء الحياة الذي استقرَّ في رحِم الأرض لتظلَّ دائمًا مصدرًا مُستمرًّا للحياة ممَّا يفسِّر غياب «آن» وتواريه، بعد أن قام بالمطلوب منه دفعةً ومرة واحدة، ثم ترك لمائِهِ أن يفعل فعلَهُ المُستمر في إنتاج حياة مستمرة، وهو أيضًا ما يفسِّر لنا تأليه «أنكي» كإلهٍ خالق، رغم كونه ليس عضوًا في الأُسرة الخالقة الثالوثية، فهو خالق باعتباره مَنيَّ «آن»، أو هو روح قدسيَّة منه حلَّت في حشا الأم الأرض «كي». ويلتقي ذلك مع اعتقاد السومريين أن مياه الأنهار تنبُع من مياه العمق تحت الأرض، وهو ما يُشكِّكنا في ترجمة «آبسو» بماء العُمق فكلمة «آبسو»، نعم، تحمِل معنى الغَور والبُعد، لكنها مع فَهمنا للأمر تتَّضِح، فتُصبح «المياه الكامنة في الرحم». وأقترح الترجمة الأدقَّ وهى «السائل المُخصِّب»، ويدعَمني في ذلك أنَّ الإله «دومو زي آبسو DUMU-ZI-ABZU» يُترجَم اسمه إلى «الابن الحقيقي لمياه العمق»،١٨ علمًا أنه كان إلهًا للخصب ومُوكلًا بإخصاب الأرض، إضافةً إلى أن «آنكي» باسم «آبسو» كان يُعد خالق الزرع والحياة والبشر، أو نصيًّا «الذي خَلقت يداه البشر»١٩ هو «خالق العالم»،٢٠ وإنَّ تحليلنا هذا، وترجمتنا تلك، تُوضِّح لنا: لماذا أدخله السومريون ضِمن الآلهة الخالقة، رغم كونه ليس فردًا في الأسرة الثالوثية الخالِقة، وهو ما يَنقلنا إلى بحث الدور الذي قام به كلٌّ من الآلهة الأربعة، في عملية الخلق.
١  كريمر: السومريون، سبق ذكره، ص١٥٥.
٢  كريمر: من ألواح سومر، ترجمة طه باقر، مكتبة المُثنَّى بغداد ومؤسسة الخانجي بالقاهرة، ١٩٧١م، ص١٥٥.
٣  كريمر: السومريون، سبق ذكره، ص١٦٣.
٤  سبتنيو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة، ترجمة د. السيد يعقوب بكر، دار الكتاب العربي للطباعة، القاهرة، ١٩٥٧م، ص٧٥.
٥  د. نجيب ميخائيل: سبق ذكره، ص١٠٣؛ انظُر أيضًا جان بوتيرو: سبق ذكره، ص٣٦؛ وكريمر: السومريون، سبق ذكره، ص١٥٧؛ ود. عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، دار النهضة العربية، القاهرة، د.ت، ص١٤٣.
٦  كريمر: من ألواح … سبق ذكره، ص١٧٢.
٧  برتيرو: سبق ذكره، ص٣٦.
٨  كريمر: من ألواح … سبق ذكره، ص١٨٣؛ انظر أيضًا فرَّاس السوَّاح: مغامرة العقل الأولى، دار الكلمة، بيروت، ١٩٨٠م، ص٢٤٦، ٢٤٧.
٩  كريمر: من ألواح … سبق ذكره، ص١٨٣.
١٠  د. فاضل عبد الواحد: الطوفان في المراجع المِسمارية، أوفست الإخلاص، بغداد، ١٩٧٥م، ص٥٤.
١١  بوتيرو: سبق ذكره، ص٣٧.
١٢  د. نجيب ميخائيل: سبق ذكره، ص١١٥، ١١٧.
١٣  د. عبد الحميد زايد: الشرق الخالد … سبق ذكره، ص١٤.
١٤  د. فوزي رشيد: «الديانة، المُعتقدات الدينية» (ضمن سلسلة كتب تاريخ العراق مع آخرين)، دار الحرية للطباعة، بغداد، ١٩٨٥م، ج١، ص١٥٢، ١٥٤.
١٥  كريمر: من ألواح … سبق ذكره، ص١٧٣.
١٦  كريمر: من ألواح … سبق ذكره، ص١٧٨.
١٧  د. نجيب ميخائيل: سبق ذكره، ص١١٨.
١٨  د. فاضل عبد الواحد: عشتار ومأساة تموز، وزارة الإعلام العراقية، بغداد، ١٩٨٣م، ص٣٦، ٤٠.
١٩  د. عبد الحميد زايد: الشرق الخالد … سبق ذكره، ص١١٩.
٢٠  بوتيرو: سبق ذكره، ص٣٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤