التكوين الكوني

عندما لم يكن العِلم بجغرافية الأرض قد اتسع بعد، تصوَّر السومريون الأرض قرصًا مُنبسطًا هو الدنيا، مُحدد بحدودٍ لا تتجاوز الهند شرقًا والبحر الأبيض المتوسط غربًا، وبلاد الأناضول والقوقاس شمالًا، والخليج العربي وبعضًا من المحيط الهندي، وجزيرة العرب، جنوبًا.

ويقع تحت هذا القُرص، عالَم تحت أرضي سُفلي، هو مَقرُّ الأموات، ويلي مقرَّ الأموات مياه العمق، التي اتَّفقنا على ترجمتها ﺑ «السائل المُخصِّب آبسو ABZU أو أنكي ANKI»، ولو صعدنا على وجه القُرص الأرضي، نجد هناك قرصًا آخر يعلوه هو السماء، مَقر «آن» وكثير من الآلهة، وهو قُرص محدَّب في شكل قبَّة صلبة تُحيط بالقُرص الأرضي من جميع جهاته، ثم ما بين القبة السماوية والقُرص الأرضي، يمرَح الريح أو الهواء أو الروح أو الجو أو الأثير، تلك المادة التي أسمَوها «ليل LIL» وكل هذا في مجموعه يقِف راكدًا في بحر لا متناهٍ يُحيط بالكل من جميع الجهات، وهذا البحر اللامُتناهي كان في اعتقادهم مَنبع كل الوجود ومادته الأولى،١ وهذا هو كل شيء، كل الكون: منظورًا وغير منظور.

ورغم أنه لم تصِلْنا عن السومريين نظرية متكاملة، توضِّح آراءهم في كيفية وجود العالَم ونشأته، في الآثاريات المُكتشفَة حتى الآن على الأقل، فإنه يمكن استخلاص سِفر تكوين سومري، من خلال دراسة مُتأنية للنصوص المُتفرِّقة في أساطيرهم وآدابهم المُتعلقة بالخلق، مع أخذِنا بالحُسبان أنَّ هذه الأساطير ليست بالسذاجة التي تبدو ظاهرةً فيها، إنما هي لغة لها خصوصيَّتُها ومُفرداتها المتميزة، واصطلاحاتها الخاصة، لتبليغ ما تُريد من حقائق مقرَّرة في نظر أصحابها مع اعتبارنا لمراحل التطوُّر التدريجي التي سار فيها الفِكر الإنساني بادئًا من مثل هذه البدايات الأولى.

وكغيرهم من الشعوب، تأمَّل السومريون في طبيعة الكون وأصله، ونشأته، فظهر لدَيهم في غضون الألف الثالث قبل الميلاد، طائفة من المفكرين والحكماء حاولوا إشباع هذا الفضول المعرفي، بوضْع إجاباتٍ مُرضية، للتساؤلات التي أثارها تأمُّلهم في الكون وطبيعة الأشياء، دفعت الآثاريين إلى حدِّ الزعم أن السومريين وصلوا إلى آراءٍ ومُعتقدات ومبادئ، أصبحت أساسًا لعقائد شعوب الشرق الأدنى،٢ ودفعت بنا نحن إلى جمع شتاتها من الأساطير والملاحم، لتُعطينا سِفرًا سومريًّا للتكوين، يمكن أن تتَّضِح سماته تدريجيًّا مع بحثنا هذا.
وسعيًا وراء هدفنا هذا، نجد في اللَّوح الذي يُعدِّد أسماء الآلهة السومرية تقريرًا لمبدأ يقول: إنه في البَدْء كانت «نمو NAMU»، وقد عبر الخط المِسماري عن «نمو» بالمقطع الصوري الذي يُعبر عن البحر، ووصفت «نمو» بأنها الأم التي ولدت السماء والأرض، وهو ما يُصوِّر لنا الوجود قبل التكوين كمُحيط أو غَمْرٍ من الماء الأولي الأزلي، وهو تصوُّر غالِب على ثقافات الشعوب القديمة التي اعتقدت بخروج الآلهة من مُحيطٍ عظيم، كان هو الوجود الأول قبل أن تُوجَد كائنات الطبيعة.
وقد فسَّرت مدرسة التحليل النفسي انتشار نظرية الميلاد المائي لدى الشعوب القديمة، باعتبارها انعكاسًا لذِكرى كامنة في لا شعور الإنسان، حول حالة الجنين في الماء الرَّحِمي للأم، سابحًا في بحره الأول. ويذهب بعض الباحثين مثل «فراس السواح» إلى تفسير ميلاد الأرض والسماء من البحر الأول، بأنه وسط الماء ظهرت جزيرة يابِسة على هيئة جبل، قبَّتُه السماء وقاعدته الأرض٣ والسماء هي ما عرفناه باسم «آن AN إله ذكَر»، والأرض هي ما عرفناها باسم «كي KI أو جي GI إلهة أُنثى»، وأنه نتيجة التزاوُج بين القبة «آن» والقاعدة «كي» جاء الابن الإلهي في أول أُسرة ثالوثية «آن ليل»، والاسم الإلهي «آنليل» مُلصَق كما أسلفْنا من كلمَتَين «آن = لفظ جلالة + ليل = مادة ما بين السماء والأرض» ذلك الإله الذي شبَّ مُبكرًا عن طوقِه، ففصل أباه عن أمِّه الأرض، ورفع الأبَ إلى الأعالي (سماء)، وحطَّ بالأمِّ إلى الأسفل (الأرض). وقد جاء ذلك مُتفرِّقًا مُشتَّتًا في عدة أساطير، نقتطِع بعضًا ممَّا جاء فيها، مثل أسطورة خلق الفأس (ترجمة كريمر)، التي تُستهلُّ بمقطع يقول:
الربُّ الذي يملك حقًّا
هو الذي أظهر للعيان
الرب الذي لا يتبدَّل في أحكامه آنليل
الذي يجلُب البذور إلى الأرض ليزرَعَها
تولَّى برعايته فصلَ السماء عن الأرض
تولَّى برعايته فصل الأرض عن السماء.٤
إلا أن «فوزي رشيد» الباحث العراقي في السُّومريَّات، يُعطينا ترجمةً أخرى لذات المقاطع، فيقول:
السيد الإله آنليل
قد جعل كل ما هو نافع، يبدو ناصعًا
السيد الذي تقريره للمصير لا يمكن أن يتغيَّر
قد أسرع لفصل السماء عن الأرض
قد أسرع لفصل الأرض عن السماء.٥
وفي ملحمةٍ أُخرى، لم يتمَّ التعرُّف على عنوانها بسبب ما أصابها من تلَف، اصطُلِح على تسميتها «KAR.4-Mathos»، جاءت أبيات تقول:
عندما فصلت السماء عن الأرض
بعدما كانتا مُتَّصلتَين
ظهرت الإلهة الأم
وبعدما وُضِعت الأرض وثُبِّتت في مكانها
وبعدما وَضَعت الآلهة قواعد السماء والأرض
وبعدما نظَّمَت الآلهة الجداول والقنوات وثبَّتَت
شواطئ دجلة والفرات
جلست الآلهة:
آن
آنليل
أوتو
آنكي.٦

وقبل أن نمضي في استقصاء قصة التكوين السومرية من المُتفرِّقات المُتناثرة، نقِف هنيهةً مع ما أسلَفْنا ذِكره، لنُحدِّد الأمور بشكلٍ أقربَ إلى الدقَّة والوضوح، فنقول:

إنَّ الاجتهاد في تفسير خروج السماء والأرض من البحر الأول (كما وردَ عند الباحث سوَّاح)، على أنه خروج لجزيرة أو جبل من الماء الأول، قبَّتُه السماء وقاعدته الأرض، هو اجتهاد لا مُبرر له، كما أنه لا سندَ له فيما بين أيدينا من ملاحِم وأساطير، وكل ما وَصَلَنا هو إشارات عامة عن اعتقادٍ بوجود مُحيط ماءٍ أزلي، ومنه كانت السماء «آن» والأرض «كي»، ومنهما جاء «آنليل» ليفصل بينهما، ولا شيءَ زيادة على ذلك في هذا الجزء من التكوين السومري. ومن هنا أتصوَّر الفهم الأصح، هو أن هذا المُحيط البدئي كان ذكَرًا وأنثى في ذات الوقت، أي أنهم تصوَّروه كائنًا لدَيه قُدرة التوالُد الذاتي، فكان فيه الماء المُذكَّر، والماء المؤنَّث، وهو ما ستؤيده قصة التكوين الأكادية والبابلية، التي سنُفصِّل القول فيها فيما بعد، بعدما عُثر عليها شِبه متكاملة. ويزعُم الباحثون أنها أخذت مادتها وتفاصيلها عن التراث السومري، فأكدت القصة الأكادية أنَّ البدء كان ماء ذَكَرٍ وماء أُنثى، أنجبا سلسلة كيانات الوجود على التوالي،٧ وهو ما يدعم فَهمنا المبدئي الحالي للتكوين السومري.
ونتيجة لتلاقُح هذا الكائن المذكَّر المؤنَّث مع ذاته، أنجب كيانًا جديدًا هو «ليل»، الذي تُرجِم بمعنى الهواء، وأرى أنه يحمِل في اسمه أيضًا معناه الذي حمَلَتْه كل اللغات السامية بما فيها العربية، بمعنى الليل أو العتمة، وبإضافة اسم الجلالة السومري «آن» يُصبح «آنليل AN-LIL»، وفي اللغات السامية بدءًا من الأكاديين الذين حلُّوا محل السومريين في الرافدين يحلُّ اسم الجلالة السامي «إيل أو إل EL» محل اسم الجلالة السومري «آن»، فيصبح «آنليل» هو «الليل EL-LIL».٨
ويُساعد على فَهمنا هذا، أنَّ «نانا NANA» إله الليل وهو القمر مُتولِّد أصلًا في المفاهيم الرافدية من الهواء، وتؤكِّد الأساطير الرافدية أن القمر ابن «آنليل»، ومن هنا نعتقد أن الهواء والليل حمَلا معنًى واحدًا لدى السومريين.
وهكذا جاء الهواء أو الليل أو العتمة أو الظلمة «آنليل»، ليفصل في الغمر أو البحر الأول «نمو» بين مياه ومياه، فرفع المياه الذَّكَر إلى الأعلى لتُصبح سماء وحطَّ بالمياه الأُنثى إلى الأسفل لتُصبح أرضًا وفي ذلك ما يُفسِّر لنا اعتبار الإله «أنكي ANKI» إلهًا للماء، كما يَلتقي مع تصوُّر الأقدَمين للسماء كبحرٍ علوي، تهطل منه الأمطار والسيول، عندما تفتح أبوابه بماءٍ مُنهمر.
وبذلك تمكَّن «آنليل» من أن يُحدِّد في الماء الأول بين ماء ذَكَر وماء أُنثى، ويفصلهما عن بعضهما، حدَّد لكل منهما هويته وذاتيته وشخصيته المُستقلة، وهو ما يمكن فهمه من ترجمة كريمر السالفة «هو الذي أظهر للعيان.» والتي حاول «فوزي رشيد» أن يجعلها أوضح في ترجمته لنفس النص «قد جعل كل ما هو نافع يبدو ناصعًا.» أي واضحًا ومُحدَّدًا ومُستقلًّا بشخصه، وأتصوَّر أنه حتى «يظهر للعيان» ويجعل كل ما هو نافع «يبدو ناصعًا»، كان لا بدَّ من عملٍ آخر هو أن يُحيل الظلمة التي على وجه الغمر البدائي إلى ضياء، يظهر للعيان ويجعل المرئيات ناصعة واضحة، لذلك جاء في زعم «كريمر» أن «آنليل» هو الذي جاء بالإله الشمس «أوتو AUTO»، ولعلَّ أوضح تأييد لفهمنا هذا ما سجَّلته نهاية المقاطع التي أوردناها من أسطورة «KAR.4-METHOS»، أقصد:
وبعد ما وضعت الآلهة قواعد السماء
والأرض،
جلست الآلهة:
آن
آنليل
أوتو
أنكي.

ويظهر هنا «أوتو» الشمس، مَقرونًا بظهور الكيانات الكُبرى في الوجود، ويأتينا الإله «أنكي» إله الماء، بديلًا عن «كي» الأرض ضِمن الأربعة الخالقة التي عرفناها، والتي اختفت منها في هذا النص الإلهة «كي»، ممَّا يُوحي بما زعمناه، حول حسبانهم الأرض كانت أصلًا مياهًا، انفصلت عنها مياه السماء، ثم وبعد عناء عملية الخلق الكبرى تلك، جلست الآلهة على عروشها، أو استراحت، أو استوت.

١  كريمر: السومريون، سبق ذكره، ص١٤٩-١٥٠.
٢  كريمر: من ألواح … سبق ذكره، ص١٥١.
٣  السوَّاح: مغامرة العقل الأولى، دارة الكلمة، بيروت، ١٩٨٠م، ص٢٧.
٤  كريمر: الأساطير … سبق ذكره، ص٦٦، ٦٥.
٥  د. فوزي رشيد: خلق الإنسان في الملاحم السومرية والبابلية، مجلَّة آفاق عربية، بغداد، أيار ١٩٨١م، ص١٧.
٦  د. فوزي رشيد: الموضع نفسه.
٧  في قصة التكوين البابلية Enuma Elish (وكان يُراد بها تمجيد مردوخ كبير آلهة بابل بحُسبانه خالقًا للكون) جاء القول: إنه في البدء لم يكن في الوجود سوى مُحيط من الماء شاسع، اختلَطَ فيه الماء العذب «آبسو»، بالماء المالِح «تيامة». التفاصيل يُرجَع إليها في مُوسكاتي، سبق ذكره، ص٥، ٨٣.
٨  مِن المعروف لدى الباحثين في تاريخ الدِّيانات وفي الميثولوجيا بشكلٍ عام أن «إل» أو «أيل» يُعدُّ كبير الآلهة السامية على اختلاف مواطنها، بما فيهم اليهود، وقد وردَ اسمه في التوراة مُرافقًا للعهد الإبراهيمي حتى نبوَّة موسى، كما وردَ مُلصقًا في أسماء الأعلام، لآلهة أدنى منه شأنًا تحوَّلت مع التطوُّر إلى «الملائكة»، كما في أسماء عزرائيل، جبرائيل، إسرافيل، ميكائيل … إلخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤