دور الملك في التكوين

استطاع «سرجون» إذن، ولأول مرة، أن يُوحِّد مدُن سومر في دولةٍ مركزية موحَّدة، يسُودها عنصر سامي وافد، وكان ذلك إيذانًا بتحوُّل فوضى الفُرقة إلى نظام، في جهازٍ إداري واحد صارم، وخضوع كافة السلطات الاجتماعية المُتراتبة، لسلطة واحدةٍ آمرة ناهية، تتمثَّل في شخص الملك الجديد، المالك لكافة المُشتركات المَدينية السابقة، التي تحوَّلت بسادتها البشَر والآلهة إلى أتباعٍ للسيد الجديد المُطلق النفوذ، الذي تحوَّل بدوره بالسلطة المجرَّدة من القسْر إلى سلطة باطشة، بعد أن تدهورت سلطة مجالس المُشتركات الأولى وقيودها على العاهل تدريجيًّا نتيجةً للاتساع الهائل للدولة ليُمسِك الملك المُتحرِّر النفوذ بكل السلطات. وفي الدولة السرجونية، تحرَّر الملك تمامًا من نفوذ أيِّ مجالس شعبية، وأصبح القسْر والبطش الأسلوب الأسرع في الوصول والتأثير في البقاع المُترامية الأطراف، لتحقيق مآرب الدولة الموحَّدة، إزاء طوارئ لا تَحتمِل انتظار الرأي الشعبي في دولةٍ واسعة، وتمَّ تمثيل الكلِّ في ذات الحاكِم، والإله الذي ساد بسيادة هذا الحاكم، ومِن ثَمَّ أخذ الإله يتحوَّل عن صورته الرحيمة القديمة كأبٍ بدائي للمشترك، ليتحوَّل إلى طاغٍ طُغيان المَلِك، كلمته نافذة نفاذ كلمة المَلِك، عِصيانها قد يُدمر الدولة أو يؤخِّرها على المستوى الإنساني، فهي خيانة عظمى، وعِصيانها على المستوى الإلهي كُفر وإثم عظيم، ومن ثَم أصبحت كلمة الملِك والإله واحدة، لا رادَّ لها ولا لقضائها، فتحوَّلت القُدرة الإلهية من الفعل بالعمل، إلى الفعل بالكلمة، وظهر لأول مرةٍ دَور الكلمة الإلهية في التكوين الرافدي، على ما سنرى بعد قليل.

المُهم أنَّ الساميين الوافدين تركوا الآلهة السومرية على حالِها لكن مع تبديلٍ في أسمائها إلى أسماء سامية، ومع بعض التغيير في الأدوار والوظائف، فظلَّ مجمع السبع المُقرِّرة المصائر قائمًا وكذلك مجمع العظام الخمسين، لكن بعد أن توارى «آن» زعيم السبع المقررة المصائر، ليحلَّ محلَّه «إيل» أو «إل» السامي أما الأرض «كي» فأصبح «أرد ARD»، كذلك «أوتو» الشمس تمَّ تعديله إلى «شمش»، و«نانا» القمر باعتباره الإله جميل الصورة الزين، إلى «سين»، والزهرة «إينانا» إلهة الجنس الشبِقة العاشقة دومًا للعشرة والمُعاشرة الجسدية، أصبحت «عشتار» من العِشرة والتعشير (أي الجماع والحمل)، بينما تحوَّل «آنليل» إلى «الليل» خلال الدولة الأكادية، ثم أزاحه إلهُ الدولة البابلي الصاعد «مردوخ MARDUK» نهائيًّا، واستولى على صفاته ومناصبه، ثم لم يكتفِ بذلك، بل اقتنص كل اختصاصات الآلهة العظام الخمسين، ولم يمضِ وقتٌ قصير حتى تمكَّن من الاستيلاء على اختصاصات باقي الآلهة، وحتى دور «آنكي» الأب الأول، سُلِب منه مبدئيًّا على يدِ إلهٍ جديد هو «أيا EA»، ثم أخذه منه «مردوخ» باعتباره في الميثولوجيا البابلية ابن «أيا» ووريثه، أو الابن الذي فاق أباه قوَّةً وحكمة.
وفي ذلك يقول «عبد العزيز صالح»: إنه قد «انتفع البابليون ببعض عناصر الفكر السومري، عن أصل الخلق المادي والمعنوي في دُنياهم، وخرجوا بنظريةٍ عن نشأة الوجود، جعلوا ربَّهم قُطب الدائرة فيها.»١ ويُضيف «بوتيرو»: «إنَّ البابليين لا يبدو أنهم افترضوا انعدامًا كليًّا للأشياء كأصل الوجود، بل افترضوا فوضى وعدَم انتظام شامل، وبهذا فإنَّ الكون لا يبدأ بخلق … لكن يبدأ بتنظيم ما هو في حالة فوضى.»٢
وقد وردتنا أسطورة شِبه متكاملة للتكوين البابلي، في الملحمة المُسمَّاة «إينوما إيليش Enuma Elish» التي تعني «في العلا عندما» أو «عندما في العلا»، وقد دُوِّنت في سبع لوحات، يعود تاريخ كتابتها إلى مَطلع الألف الثاني قبل الميلاد، وتؤكد أن مَبعث الفوضى الكونية الأولى كان يعود إلى سيادة إلهةٍ أُنثى عريقة قديمة، هي الإلهة «تيامت TIAMAT» ولنستمع إلى «بوتيرو» يسرد علينا موجزًا لهذه الملحمة، فيقول:
في الأسطورة الشهيرة للخليقة، المُسمَّاة إينوما إيليش … التي ألَّفَها علماء الدين في بابل لتعظيم الإله مردوخ … في الأصل لم تُوجَد سماء ولا أرض، لكن فقط مياه في حالةٍ من الفوضى، مكوَّنة من إلهَين أصليَّين، اختلَطا مع بعضهما، هما الآبسو، والموموتيامت … ونتيجة اندماج هذين الإلهَين … خرج الإله آن، الذي أولد أيا على شكله، والإله أيا قضى على الآبسو لأنه أراد تدمير نسلِه، وأولد مردوخ، وتبع هذا الحدث ثورة تقودها تيامت ضدَّ الآلهة انتقامًا للآبسو، وتحضر لمعركة مُخيفة وتجهز مجموعة من الوحوش الكاسرة … ويرفض الإله أيا الاشتراك وخوض الصراع ضدَّ تيامت ويقبل الإله مردوخ النزال، للحصول على السلطة العُليا … ويجري النزال وجهًا لوجه، مردوخ ضدَّ تيامت، وينتصِر عليها، ويسجن جيشها المُخيف ويَقسِم جسدَها إلى نصفَين، وينفخ فيه الهواء ويعمل من نصف جسدها العلوي — الذي يرميه إلى الأعلى — السماء، ومن النصف الثاني … الأرض … وينظم بذلك مردوخ القبَّة السماوية بكلِّ نجومها، التي حاز عليها بعد نضالٍ عنيف في تنظيم عالم الآلهة، ويُتوَّج، ويُحتفل به كسيِّد للآلهة السماوية، وعلى الأرض.٣

إذن: كان في الأصل غمر مظلم من الماء، ذكَر هو الآبسو (عرفناه باسم آنكي أو إنسي السائل المُخصِّب)، والمومو (أي الماما أو الأم الكبرى) تيامت (وواضح لصْق اسمها من تي أم نسا الأم تي)، وبتلقيح الآبسو كسائل مُخصب للأم تيامت، جاء الإله السماء «آن» وولد «أيا» الذي قضى على «آبسو» لأنه أراد تدمير نسلِه. (ولنلحَظ الرمزية هنا: أيا إله حلَّ محل الإله آبسو كإله للسائل المُخصب في الثقافة السامية الغازية محلَّ الثقافة السومرية. أما لماذا قضى أيا على آبسو، فلأن آبسو إله سومر، أراد تدمير نسلِه أيا السامي!)

ثم ولد «أيا» ابنه «مردوخ» إله الدولة والملكية المركزية ونتيجة مقتل السومري «آبسو» قامت الأم الإلهة تُطالِب «أيا» السامي بدمِه، وهنا يقوم الإله الابن «مردوخ» بالصراع ضدَّ «تيامت» ليحصُل على السلطة العُليا.

ولنفهم المعنى الأخير «لكي يحصل على السلطة العُليا»، نستعين مباشرةً بلوحات «الإينوما إيليش» فنجدها تقول: إن الآلهة وهي تجد نفسها مُهدَّدة من الأم البحر «تيامت» تلجأ إلى مردوخ أحدث الآلهة، إله الدولة الجديدة، لكن «مردوخ» يستفيد من ذلك، ليتجاوز سلطة مجلس السبع المقررة المصائر الخالقة، والخمسين العظام فيقول:
إذا كان عليَّ أن أكون بطلكم
وأن أقهر تيامت، وأنقذكم
اجتمعوا إذن
وأعلنوا عن سُلطتي العُليا
اجلسوا حقًّا فرحين
في بشو كينو
واتركوني أُحدِّد مِثلكم المصير
وذلك عن طريق:
الكلام الذي ينطق به فمي
وبهذه الطريقة
لن يكون بالإمكان
أن يتغيَّر شيء ممَّا أُقرِّر
الأمر الذي أعطيه
لا يُردُّ، لا يتغير.

وفعلًا:

أقاموا له عرشًا يليق بأمير
وجلس يترأس وهو يواجِه آباءه
أنت الأكثر تمجيدًا بين كبار الآلهة
إن ما تُقرِّره لا يُعارَض
إنَّ كلمتك الآمِرة هي كلمة آن
منذ اليوم
لا يكون ما تنطق به عُرضة للتغيير
نُطقك يغدو الحقيقة
وأمرك لا يحتمِل شكًّا
وقالوا لبِكرهم مردوخ:
افتح فمك
تتلاشى قطعة القماش
تكلَّم ثانية
تعود القطعة كما كانت …
ولمَّا رأى آباؤه ثمرة كلمته
قدَّموا له الخضوع في فرح
قائلين: من دونك ملك …
أيها السيد:
احفظ حياة من يؤمن بك
أيها السيد:
انزع حياة الإله الذي يُضمِر السوء
مُرْ بالغرق، أو بالخلق
يكن ما تأمر به.٤
وهكذا ظفر «مردوخ» بالسلطة المُطلقة، وتخلَّى له مجلسا الآلهة عن سُلطانهما، ليُصبح سيدًا أوحدًا، مُعبرًا عن سلطة الملك البابلي، في دولته المركزية الواسعة، ويؤكد لنا ذلك، طقس سنوي كان يقوم فيه الملك بتمثيل دور «مردوخ» في مسرحية دينية، يُحارب فيها «تيامت» وجيشها حتى يقضي عليها،٥ مُمثلًا بذلك وقائع سفر التكوين، وقد ذُكِر هذا الطقس في أكثر من نقش، إضافةً إلى أنَّنا نتأكد من مصداقية هذا الربط الذي نفترضه بين مردوخ والملك، بالنظر إلى ما ورد في الأسطورة ذاتها، فالآلهة تقول:
لقد خلَّصْتَنا الآن أيها الإله
فماذا ستكون هِبتنا لك؟
(إن الهبة ستكون هي تثبيت الملوكية، انظُر النص):
دعْنا نبني عرشًا
مأوًى لإقامته؟!٦
ولا يكتفي «مردوخ» بذلك، كما لم يكتفِ الملك بمجرَّد عرش، بل يَسلُب «مردوخ» الآلهة العظام الخمسين في المجلس سُلطاتهم، أو كما تقول الأسطورة:
أما نحن
فمهما أطلقْنا عليه
فهو إلهنا
ألا فلنُعلن أسماءه الخمسين!٧
وهكذا يستولي الملك بدَوره على سلطات المجالس شِبه الديمقراطية الأولى، الباقية من نظام المُشتركات المدينية، بعد توحيدها في دولته المركزية، مع ملاحظة أن هذه التطوُّرات تعبير في الوقت ذاته، عن سيادة مُطلقة للإله الذَّكَر، تمثَّلت في الفعل والخلق بمجرَّد الكلمة، كما تمثَّلت في لوحات «الإينوما إيليش» يقوم مردوخ بما قام به «آنليل» من قبل، لكن «آنليل» الذي ظلَّ زمانًا طويلًا إلهًا لطيفًا لُطف طبعه «الهواء»، فرفع أباه آن عن أُمِّهِ «كي»، في مياه الغمر الأولى «نمو»، أما مردوخ فكان عنيفًا قاسيًا، بعد أن حاز إمكاناتٍ أصبحت ضرورية، لحفظ الاستقرار في دولته السماوية، وضرورية للملك الأرضي لذات الغرض، وهو رأس دولة كُبرى مترامية الأطراف، تحتاج حزمًا وقوة وعنفًا، لذلك قام «مردوخ» وبقسوة ينفخ «تيامت» بالهواء، ثم:
شقَّها كما تُشَقُّ الصدفة قِسمَين
وثبَّت نصفًا جعله سقفًا سماء٨
شطَرَ جسدَها شطرَين،
أعلاهُما ثبَّته في السماء
خلق منه السماء
والأسفل ثبَّته في الأرض
خلق منه الأرض.٩
ويُعقِّب موسكاتي هنا بقوله: «وبذلك قسَّم المياه الأولى إلى: مياه فوق الجلد Firmament، وأخرى تحت الجلد.»١٠
ونتابع الإينوما:
صنع مردوخ منازل للآلهة
خلق الأبراج
ثبَّتَها في أماكنها
حدَّد الأزمنة
جعل السنة فصولًا
ولكلِّ شهرٍ من الاثني عشر
ثلاثة أبراج
حدَّد الأيام بأبراجها …
وإلى الشرق
وإلى الغرب
فتح بوابة
وسلط القمر على الليل
وجعله زينة في الليل
به يعرِف الناس مواعيد الأيام.١١
وبعد أن رتَّب «مردوخ» في هذا الماء، أو الجلد السماوي، كواكبه ونجومه، والنيرين الكبيرين: الشمس والقمر، هبط إلى النصف الثاني (الماء والأرض)، وهناك:
مردوخ على سطح الماء
ظفر حصيرًا وصنع شيئًا من التراب
وخلطَه مع الحصير
وهذا كوَّن لوحًا صلبًا
فوق المياه
هو: الأرض.١٢
لكن سماء «مردوخ» لم تكن سماءً واحدة، وأرضه لم تكن أرضًا واحدة إنما كانت السماء سماوات، فهي سبع سماوات طباقًا، والأرض أيضًا، طبقات سبع، أما في أعلى السماوات، فقد ابتنى «مردوخ» لذاته العُليا عرشًا يليق بجلاله، وبإطلاقية سلطانه.١٣
ولمَّا انتهى «مردوخ» من التكوين الكوني، اجتمعت الآلهة واحتفلت بتتويجه سيدًا للكون، وبنوا له مدينة «بابل» أو «باب إيل» أو «باب الإله» لتكون مقرًّا لمُمثله على الأرض، وفي وسطها بنوا له معبد «الإيساجيل Esag EI» وترجمته الحرفية «مقر رأس الإله»،١٤ ممَّا يُشير إلى أن «مردوخ» قد تعرَّض للقتل والذبح، باعتبار المَعبد مدفنًا للرأس فقط، مما يربطه بآلهة الفداء الشهيدة وعبادات الخِصب والري، مثل «أوزيريس OSIRIS» المصري و«أدونيس الفينيقي»، الذى هو أحد البعول الكنعانية، و«أتيس ATIS» الفريجي، و«ميتهرا METHERA» الفارسي، و«يسوع» العبري، و«الحسين» العربي … إلخ. وقد وجدنا أن أسطورة إله الري الذبيح قد لحقت بالإله «مردوخ»، وكانت تُقام له سنويًّا، طقوس واحتفالات للتذكِرة بعودته من بين الأموات، في عيدٍ للقيامة مجيد، وساعتها يتلو الكهنة أمامه أسماءه الخمسين، إعلانًا عن حيازته كل ألقاب السيادة. وأهم هذه الألقاب لفظ الجلالة الأسمي «إل» أو «إيل»، ولقب «بعل» أي سيد الآلهة أو ربها، ويفيد السيادة عمومًا، وغَني عن البيان أن الملك البابلي وهو يقوم بدور «مردوخ» في هذه التمثيلية الدينية، كان يَحظى سنويًّا وبتكرارٍ دوري وتكريس مُستمر، باعتراف أعضاء كل المشتركات المُنضوية تحت لوائه، بسيادته المُطلقة، بعد أن حاز كل الأسماء وكل شارات السيادة، وكل رموز السلطان المرموز لها في الأسطورة بالأسماء الخمسين.

وعليه فقد استولى الملك نهائيًّا على كافة شارات ومناصب آباء المشتركات، الذين بدءوا سادةً بدائيين، ثم سادة لمُشتركات مَعبدية فمدينية، وانتهى أمرُهم بالتسليم للملك القوي الصاعد، المُتربِّع على عرش بابل، فأصبح هو الأب الواحد الأوحد للجميع، ولا أب يُدانيه في إطلاقية النفوذ. ويبدو أن بداية ظهور الأب الأرضي المُتفوِّق هي التي أفرزت ربًّا مُتفوقًا عن بقية الأرباب، كخطوةٍ تطوُّرية في السماء أفرزها جدل المجتمع على الأرض، ممَّا ميَّز بالتدريج إلهًا عن سائر الآلهة، استطاع بعد ذلك أن يُلغيها ويجعلها آلهةً تابعة، لعدَم قَبول رفيقه السيد الأرضي المُستبد بوجود أي مُنافسين له.

ومن هنا أصبحت كلمة السيد الأرضي المُتربع في بابل لا رادَّ لها، نافذة بقوَّتها الذاتية، لأنها صادرة عن فم الأب الأعظم، الذي تُمثِّل كلمتُه حِكمة الإله «مردوخ». يكفي أن تكون نُطقًا باللسان فيكون كل المراد مُحققًا في الواقع.

وبذلك تركت الفكرة السامية عن الكلمة الملكية الفاعلة بذاتها، أثرًا في عموم فروع اللغة السامية، وأصبح الأمر «كن» من الفعل يكون أي يُوجَد، «ويكون» أي يخلق، والعالم الموجود بكليَّته إنما هو أحد اشتقاقات الكلمة، فهو «الكون»، فامتلك الأمر «كن» قُدرة سحرية لغوية تؤدِّي بمجرد نُطقها من قِبل شخصٍ مؤهَّل لها (ملك، إله، ساحر، كاهن) إلى «الكينونة»، أي الوجود الواقعي المُتحقِّق «كيانًا» عيانيًّا.

لكن الأمر الواجب إيضاحُه هنا، هو أن «مردوخ» لم يُخلَق بالكلمة إنما بالعمل اليدوي، فقد شقَّ «تيامت» كما تُشَقُّ الصدَفة، ورفع السماء وحطَّ الأرض … إلخ. بينما أُقحِمت مسألة القدرة السحرية للكلمة الفاعلة «كن» إقحامًا في الإينوما إيليش:
أقاموا له عرشًا يليق بأمير
وجلس يترأَّس وهو يواجِه آباءه
أنت الأكثر تمجيدًا بين كبار الآلهة
إن ما تُقرِّره لا يُعارَض
إن كلمتك الآمرة هي كلمة آن
منذ اليوم
لا يكون ما تنطق به عُرضة للتغيير
نُطقك يغدو الحقيقة
أمرك لا يحتمِل شكًّا!
واضح أن النص هنا ليس تعبيرًا عن مطلب الملك الأرضي، ليُصبح سيدًا مُطلق النفوذ، إزاء طوارئ اكتسبت صفة الديمومة، بحيث تُنفذ أوامره دون مناقشة، لذلك نلحظ أن كل ما جاء عن الكلمة الخالقة في الأساطير لا يتعلق فعلًا بما حدث لتكوين الكون وإيجاده، إنما كان تجربة كتجارب الحُواة وألعابهم، قُصد بها تأكيد تبعية الأتباع للسيد، أنه «لو أراد» شيئًا بالكلمة سيُحقِّقه:
ووضعوا في الوسط قطعة قماش
وقالوا لبِكرهم «مردوخ»: افتح فمك
تتلاشى قطعة القماش
تكلم ثانية تعود القطعة كما كانت
ولهذا
قدَّموا له الخضوع في فرح قائلين
من دونك ملك؟

وإعمالًا لكل ما سبق، يُمكننا الزعم أنَّ دخول فكرة الكلمة الخالقة إلى سِفر التكوين، بدأت تعبيرًا عمَّا وصل إليه التطوُّر السياسي في المجتمع الإنساني، وتعبيرًا عن وجوب الطاعة الكاملة غير المشروطة للعاهل الذي لا تردُّ كلمته ولا تتبدَّل، والتي يجِب تنفيذها الفوري مهما كانت غير مقبولة أو غير معقولة، ومع ذلك واصلت فكرة الكلمة الخالقة صعودها الخيالي في اللغات السامية، ليُصبح للأمر «كن» دلالات القوة الفاعلة في الكلام لكنها على المستوى الفعلي لم تكن ذات دورٍ فاعل حقيقي في عملية الخلق، التي تمَّت بموجب «الإينوما إيليش» البابلية.

وظلَّ فكر الساميين الديني بعد ذلك، يحتفظ بكِلتا الفكرتَين جنبًا إلى جنب: الخلق بالعمل اليدوي والفعل البدني من جانب الإله الخالق (يفصل السماء عن الأرض، يخلُق الإنسان بيديه، يكتُب ألواح الشريعة التوراتية بإصبعه … إلخ). وفي الوقت ذاته، يُمكنه أن يخلُق بمجرد الكلمة تعبيرًا عن سُلطانه اللامحدود، وقُدرته اللانهائية، لكن يبدو في مختلف نصوص الديانات السامية، أنَّ الأمر «كن» كان مجرَّد إمكانٍ غير مُتحقِّق (حتى الآن)، أو هو استعداد إلهي موقوف لإثبات القُدرة المُطلقة فقط، فهو استعداد بالقوة لم ينتقل إلى الفعل، وربما ينتقل من القوة إلى الفعل حين يشاء، لكنه لم يعُد الآن مُجديًا، بعد أن وُجِد الكون فعلًا بالطريقة اليدوية التصنيعية.

ولو نظرنا لتصوير «مردوخ» في النقوش، سنجده صورةً مُطابقة للنقوش الملكية، نقشٌ لرجل يلبَس تاجًا مخروطيًّا عاليًا، تزينه وريدات، له لِحية طويلة مُصفَّفة بتجاعيد مصطنعة على غرار صنعة الحلَّاق بالقصر الملكي، ومثل الملك كان «مردوخ» يرسل شعره خلفه، بينما يرتدى ثوبًا طويلًا مُرصَّعًا بالنجوم، يضمُّ يسراه إلى صدره، وهي تقبض على رموز السيادة: «الدائرة والعصا»،١٥ وهما فيما نرى رمزان لحيازة السيادة على مُجتمعَين ونظامَين: الرعوي الذكري والزراعي الأمومي،١٦ وإمساكهما إمساك بقُدرة منح الحياة وإعطائها، فالعصا عضو الذكورة، والدائرة فرج الأنثى.
١  د. عبد العزيز صالح: سبق ذكره، ص٤٧٩.
٢  بوتيرو: سبق ذكره، ص٩٨.
٣  نفسه: ص٩٧، ٩٨.
٤  د. نجيب ميخائيل: سبق ذكره، ص٢٩٣، ٢٩٤.
٥  فاضل عبد الواحد: عشتار، سبق ذكره، ص١٣٤.
٦  سليمان التكريتي: أساطير بابلية، مطبعة النعمان، النجف، العراق، ١٩٧٢م، ص٥٩، ٧٣.
٧  د. نجيب ميخائيل: سبق ذكره، ص٣٠٤.
٨  نفسه، ص٢٩٨.
٩  د. أنيس فريحة: ملاحم وأساطير من الأدب السامي، دار النهار، ط٢، بيروت، ١٩٧٩م، ص١٠٦.
١٠  موسكاتى: سبق ذكره، ص٨٥.
١١  فريحة: ملاحم، سبق ذكره، ص١٠٧.
١٢  بوتيرو: سبق ذكره، ص٩٦.
١٣  د. أنيس فريحة: دراسات في التاريخ، دار النهار، ط١، بيروت، ١٩٧٤م، ص٥١.
١٤  د. نجيب ميخائيل: سبق ذكره، ص١٥١.
١٥  بوتيرو: سبق ذكره، ص٤٤.
١٦  للمزيد حول تقسيمِنا للنظام الاجتماعي الغابر إلى رعوي يرتبط بسيادة الذكر، وزراعي يرتبط بسيادة الأنثى، ارجع إلى بحثنا: الأضاحي والقرابين والجذور الاجتماعية، سبق ذكره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤