الدم روح الإنسان

يقول الباحث العراقي «فوزي رشيد»: إنَّ «قصة الخليقة البابلية، قد تضمَّنَت بين سطورها وصفًا لوضعية الآلهة، بعد أن كُتِب عليها العمل، وكيف أنَّ تلك الوضعية كانت لا تختلف عن وضعية الإنسان، بعد خلقه …
عندما كانت الآلهة مثل البشر
(وتعني لدينا: عندما كان الملوك كبقيَّة الناس)
توجَّب عليها العمل
وكانت سلَّة عمل الآلهة كبيرة
وكان عملهم صعبًا
لذلك تعدَّدت الشكوى …
ويعني هذا أنَّ الإنسان قد خُلق، من أجل أن يقوم بتزويد الآلهة بالطعام والشراب والسكن، وهذا ما قاله «فوزي رشيد»١ مع تعليقِنا بين قوسَين. لكن مع سياق فَهمنا للأمور، نرى القصة صدًى لواقع حدَث، بعد أن تفرَّغت فئة للحكم، وتحرَّرت من عناء العمل، لذلك تُردِّد القصة ما سبق ورأيناه في التكوين السومري، حيث انقسم مُجتمعهم الإلهي إلى صنفَين من الآلهة: آلهة عاملة أو شغيلة، وآلهة مُتفرغة للخلق وإدارة شئون الكون، لكن التكوين البابلي قام هنا بصياغة جديدة فأوضح أن الآلهة خلقَت البشر ليحملوا هم أعباء العمل، لتتفرَّغ الآلهة لإدارة شئون الكون والبشر، وكان أكبر الآلهة «مردوخ» الذي يُمثله على الأرض ملك بابل، وما على أفراد المجتمع سوى السعي من أجل خِدمته وراحته، وتقديم فائض إنتاجهم بين يدَيه.
ونعود إلى «الإينوما إيليش» نستطلعها التفاصيل، فتقول في لوحتها السادسة:
ألا فليذكُر الرعايا دائمًا إلههم
وطبقًا لكلمته يهتمُّون بالآلهة
ألا فلتُحمَل القرابين
إلى آلهتهم وإلهاتهم
وبغير نسيان
فليُعنَوا دائمًا برعاية آلهتهم
ليستصلحوا أراضيهم
ويبنوا هياكلهم
ليخدُم ذوو الشعور السوداء
آلهتهم.٢
ونستكمل من ملحمة «اتراخاسيس» بدءًا من السطر «١٧٩» بالعمود الرابع، الذي يقول:
«بيليت إلى» كانت حاضرة الرحم
ليتَها تخلُق الإنسان الأول
لكي يحمل هذا الإنسان سلَّة عمل الآلهة
نادوا مُولِّدة الآلهة الإلهة «مامي» الحكيمة
وسألوها:
أنت الرحم خالقة البشَر
اخلُقي الإنسان الأول
من أجل أن يحمِل النير …
سلَّة عمل الآلهة يجِب عليه حمْلُها
فتحت الإلهة «ننتو» فاها
وخاطبت الآلهة العظيمة:
ليس بمَقدوري أن أفعل ذلك
إنَّ القدرة بيد الإله «آنكي»
إذ بإمكانه أن يجعل كلَّ شيءٍ طاهرًا
فتح الإله آنكي فاه
وخاطب الآلهة العظام:
في اليوم الأول، والسابع،
والخامس عشر من الشهر
سأقيم طقوس الاغتسال
وسأقيم الحمام
وليذبح الآلهة إلهًا من بينهم
وبعد ذلك يُطهِّروا أنفسهم في الحمَّام
وعلى الإلهة «ننتو» أن تمزج الطين
مع لحمه ودمِه
وليت الإله والإنسان يمتزجان سوية
في الطين دعونا نستمع إلى الطبل
من أجل مصير الأيام القادمة
وبسبب لحم الإله
نودُّ أن يسكن شبح الموت
جسم الإنسان
وليُذكِّر هذا الشبح الأحياء بالموت
ما داموا على قيد الحياة
ليت شبح الموت أن يُوجَد في الإنسان …
ثم فتحت الإلهة «مامي» فاها
وقالت تُخاطب الآلهة العظام:
لقد عهدتُم إليَّ عملًا فأكملته
وما دُمتم قد ذبحتُم إلهًا رغم قُدسيته
فها أنا قد رفعتُ عنكم عناء أعمالكم الشاقَّة
وجعلتُ الإنسان يحمِل سلَّة عملكم
وها أنتم قد وهبتُم صراخكم للبشرية
وها أنا حللتُ عنكم النَّير
حرَّرتُكُم من الواجبات
ولمَّا سمع الآلهة كلامها
تراكضوا إليها وقبَّلوا قدمَيها
وقالوا:
في السابق الإلهة «مامي» كنَّا نُناديك
والآن: ليكن «سيدة الآلهة» اسمك.٣
ولاستطلاع أمر هذا الإله الذي ذُبح، نعود مرة أخرى إلى «إينوما إيليش» فتُطالعنا:
قُتل «كنجو»، قُطعت شرايينه
سال الدم
ومن الدم، خُلق الإنسان
ليعبُد الآلهة، يخدُمها.٤
ولأن «إينوما إيليش» أكثر ساميةً من «إترام خاسيس» المُتأثِّرة بالفكر السومري أكثر، فإنَّ «الإينوما» تحاول إبراز دور «مردوخ» بفاعلية أوضح، في عملية خلق الإنسان، فتقول:
بعد أن سمع الإله «مردوخ»
كلمات الآلهة
تحرَّق قلبه من أجل خلق الكمال
وعندما أخبر الإله «أيا» بقراره
وشرح له خطة العمل
التي رسمها في ذهنه:
أُريد أن يُحضِر لي الدم والعظم
أريد أن أخلُق لوللو
الذي سيكون اسمُه الإنسان
لأني أريد أن ألقي عليه عناء الآلهة
حتى تنعم هي بالراحة
وأريد أن أجعل طريق الآلهة
مُحاطًا بالإبداع …
يجِب إحضار أحد إخوانك
لنذبحه ونصنع منه البشَر
وليت الآلهة العظام تجتمع الآن
وتعترِف عليه الآلهة
جمع الإله «مردوخ» الآلهة العظام
وبلُطف أمرهم أن يقدِّموا المشورة …
سأضعكم الآن تحت القسم
وأطلب منكم الحقيقة
من منكم تسبَّب في نشوب الحرب؟
«تيامت»!
«تيامت» أثارتها ونظَّمت الثورة.
عليكم بإحضار الذي تسبَّب
في نشوب الحرب
لأني أريد أن أُحمِّله وزرَها
لتعيشوا أنتم في هدوء
«كنجو»
هو الذي تسبب في نشوب الحرب
و«تيامت» أثارتها ونظمت الثورة،
ربطوه
وجاءوا به إلى الإله «أيا»
وحمَّلوه وزر جريمته
وسفكوا دمه
وعلى دمه خلق الإله «أيا» البشر
وحملهم عناء الآلهة
وتحرَّرت هي منه
وعندما قسَّم الإله مردوخ
مُلك الآلهة
آلهة الآنوناكي إلى قِسمَين
علوي
وسُفلي.٥
هكذا سجلت اللوحة السادسة:
إنه «كنجو»
هو الذي أثار الفتنة
وحرَّض «تيامت» على الثورة
واشترك في المعركة
فقيَّدوه
وأمسَكوا به أمام «أيا»
ووضَعوا عليه جريمته
وفصَدوا دمَهُ
وصاغوا منه البشَر.٦
وعليه سجَّلت ذات اللوحة قول «مردوخ»:
سأُكتِّل العظم وأخلُق اللحم
سأصنع إنسانًا …
سيكون اسمُه الرجل …
سيُكلَّف بخدمة الآلهة.٧
ولنقِف الآن مع هذه النصوص، لنُحاول معرفة علاقتها بواقع الأحداث، ولنبدأ مع مبتدأها:
عندما كانت الآلهة مثل البشر
توجب عليها العمل.
فالنصُّ يُردِّد هنا صدى واقع أحداث المجتمع، قبل تفرُّد فئة بالحُكم دون باقي الأفراد، عندما كان الجميع سواء في العمل، ثم تطوَّرت الأوضاع إلى تفرُّد البعض بالإدارة، واستيلائهم على فائض إنتاج الأفراد:
ألا فليذكُر الرعايا إلهَهم …
ألا فلتحمل القرابين
إلى آلهتهم وإلاهاتهم
وعلى باقي أفراد المجتمع الكدُّ والعنَت والكدْح
في الأرض،
ليستصلحوا أراضيهم
ويبنوا هياكِلَهم.
وإن الربط بين العمل في الأرض، وبين بناء الهياكل والمعابد، هو ترسيخ واضح لسلطان الملك المُرتبط بفائض العمل، وبقدسيَّته كإلهٍ يستحقُّ هذا الفائض بالحق الإلهي، ثم لنتأمَّل أبيات ملحمة «إترام خاسيس»، التي يتَّضِح فيها أثر تقديس الميلاد من أمٍّ إلهة، وهي فكرة أقدم:
«بيليت إلى» كانت حاضرة الرحم
ليتها تخلُق الإنسان.

(لنلحظ أنَّ القراءة الأصدق لاسم الإلهة بيليت إلى هو بعليت إيلي، أي البعلة الإلهة أو السيدة، أو سيدتي البعلة.)

ويظهر في النص أثر مفاهيم عبادة الخِصب والري في أصل الوجود والخلق بالميلاد من أمٍّ أولى، وهو بدوره أثر من عبادة الأم في مجتمعات الخِصب القديمة، وذات النظام الاجتماعي الأمومي الغابر، ويتَّضح ذلك في النص:
نادوا مُولِّدة الآلهة
الإلهة «مامي» الحكيمة
وسألوها:
أنت الرحم، خالقة البشر.
والإلهة «مامي» هي التي عرفناها في سفر التكوين السومري، باسم «ننتي» أو «ننتو» وهو ما يُردِّده نصُّنا الحالي لكن بعد التمازُج مع الفكر السامي في نظامه الأبوي الذكَري، الذي سلب هذه الأم قدرتها الذاتية على إنجاب الحياة وحدَها دون مُعين، فيقول:
فتحت الإلهة «ننتو» فاها
وخاطبت الآلهة العظمى
ليس بمقدوري أن أفعل ذلك
إن القدرة بيد الإله «آنكي».

لم يزل الإله «آنكي» حتى الآن فاعلًا في أسطورتنا السامية المُبكرة، ومن الضروري أن يُلقي ببذرة الخصب، أو السائل المُخصِّب، حتى يتمَّ التكوين المطلوب، لكن يدخل هنا عنصر جديد على المناطق الخصبة، فقد تصوَّرت هذه المناطق في فجر الفكر أن وجود البشر مسألة خاصَّة بالأم وحدَها، خاصَّةً أيام المشاع البدائي القديم، ولم يكن للذكَر دور يمكن ملاحظته في عملية الحمْل والوضْع، كنتاج التقاء المرأة بأكثر من رجل، فتصوَّروا أن دم الحيض هو سِر الميلاد، ومنه يتكوَّن الجنين لدى المرأة دون مُعين، لكن دخول الثقافة الذَّكَرية أدخل دورًا واضحًا للذكر في التكوين الإنساني، مع رغبة مُلحَّة في إلغاء دور الأنثى تمامًا، إلغاءً لسُلطانها.

وحتى يتمَّ الخلق من الدم باعتباره المادة المعروفة لتكوين الجنين، وليس لديهم مادة أخرى يقبلها حِسُّهم للتكوين المطلوب فنعتقد أنهم عمدوا إلى الدم كمادةٍ لتكوين الإنسان الذي إذا جُرِح سال منه هذا الدم الذي خُلق منه حتى إذا نفد دمُه مات، لكنهم استبعدوا دمَ الأنثى واستبدلوه بدَمٍ ذكري. وبما أن الذَّكَر لا يحيض، إذن فليُذبَح! ومن هنا سجَّلت النصوص:
قُتل كنجو، قُطعت شرايينه
سال الدم
ومن الدم خُلق الإنسان.
وهكذا نظنُّ الفكر الذَّكَري قد حقَّق سلطان فلسفته، ثم ضمَّنها تفسيره لظاهرة الموت؛ فالإنسان يموت لأنه تكوَّن من دم إلهٍ ميت (بعد مزجِهِ بالطين):
وبسبب لحم الإله
نودُّ أن يسكن شبح الموت
جسم الإنسان
وليُذكِّر هذا الشبحُ الأحياء
بالموت
ما داموا على قيد الحياة
ليتَ شبح الموت يُوجَد في الإنسان!
ثم ترى «الإينوما» الأكثر إيغالًا في الطابع الذَّكَري، ومركزية السلطان، وجوب تقسيم المجتمع طبقتَين: طبقة تعمل، وطبقة تحكُم وتُدير، وهذا هو الكمال وتمام النظام بعد الفوضى الكونية، والاجتماعية، الأولى، فتقول:
بعد أن سمِع الإله «مردوخ»
كلمات الآلهة
تحرَّق قلبه من أجل أن يخلُق الكمال
وقد حقَّق ذلك عندما
قسَّم الإله «مردوخ» ملك الآلهة
آلهة الآنوناكي
إلى قِسمَين
عُلوي وسُفلي.
أما لماذا؟ فهو ما يُجيب عليه النصُّ بلسان «مردوخ»:
أريد حقًّا خلقَ الإنسان
لأني أريد أن أُلقي عليه عَناء الآلهة!
حتى تنعَم هي بالراحة.
ومن ثم يبدو أن الملك الأرضي، قد سوَّغ استيلاءه على مجمع السلطات بشكلٍ يُعطيه تفويضًا من قِبل رؤساء المدن وحكَّامها، إبَّان عملية التوحيد والمركزة، كي يبدو هذا التفويض شهادةً منهم وموافقة غير قسرية فيقول النص:
جمع الإله «مردوخ» الآلهة العظام
وبلُطفٍ أمرَهُم أن يُقدِّموا المشورة
سأضعكم الآن تحت القَسَم
وأطلُب منكم الحقيقة
من منكم تسبَّب في نشوب الحرب
«تيامت»!
«تيامت» أثارتها ونظمَّت الثورة.

ربما كان ذلك ترديدًا لذِكرى قديمة، إبَّان تداخُل المجتمعَين الذكَري الأبوي والأنثوي الأمومي، وسيادة النظام الذكري، وربما كانت تيامت رمزًا للنظام الأمومي الذي غبر بسيادة الذكَر.

١  رشيد: خلق الإنسان، سبق ذكره، ص١٨، ١٩.
٢  د. نجيب ميخائيل: سبق ذكره، ص٣٠٤.
٣  رشيد: خلق الإنسان، سبق ذكره، ص٢٤، ٢٥.
٤  فريحة: ملاحم، سبق ذكره، ص١٠٩.
٥  رشيد: خلق الإنسان، سبق ذكره، ص٢٥.
٦  د. نجيب ميخائيل: سبق ذكره، ص٣٠١.
٧  نفسه، ص٣٠٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤