مقدمة١

(١) ظاهرة «الوعي الأوروبي»

مبهورًا بأوروبا، وواقعًا تحت إغراء لغتها وألفاظها ومصطلحاتها، ومندهشًا لظروفها ومحيطها، قال أحد المفكرين: «هذا انفعالٌ خالص يمكن أن يخضع للتأمل.» وداخل هذا الانفعال يكمن الغرب كموضوع للدراسة؛ إذ يشير هذا اللفظ «أوروبا» إلى وحدة اقتصادية وسياسية. وقد استبدل به تعبير «الوعي الأوروبي»، وهو يشير إلى وحدة فكرية لها صفات خاصة. وبالفعل أصبح «الوعي الأوروبي» منذ فترة موضوعًا رئيسيًّا، ليس فقط في فلسفة التاريخ، بل أيضًا في الفلسفة الخالصة.٢
ويستبدل أحيانًا بلفظ «أوروبي» لفظ «غربي». يشير لفظ «أوروبي» إلى ميدان الأيديولوجيا، بينما يشير الثاني إلى الميدان المادي. يشير الأول إلى «الحضارة»، بينما يشير الثاني إلى «المدنية». وما زال لفظ «أوروبي» يحتفظ بصفاته، ولم يُستعمل على نحوٍ عشوائي كما استُعمل لفظ «غربي». ويشير لفظ «أوروبي» الآن إلى أيديولوجيا الوحدة الاقتصادية والسياسية لأوروبا، وقد كان يشير له من قبلُ إلى «كُلٍّ روحي» لميراثٍ مشترك له خصوصيته المتميزة.٣
أصبح لفظ «الغرب» يشير إلى بيئةٍ خاصة تنبثق منها موضوعات نظرية ومظاهر عملية للسلوك الإنساني،٤ ويُستعمل أحيانًا في تقابل مع لفظ «الشرق» في ميادين دفاعية أو عالمية مزيَّفة.٥ وبعد يقظة العالم الثالث، وتحرُّر الشرق من الهيمنة الغربية، ظهر شكلٌ جديد من أشكال الهيمنة البطيئة والأكثر حيطة، وهو التقارب بين الغرب والشرق. وتُخفي أساليب الدفاع والبلاغة النوايا الحقيقية. هذه الطريقة في التفكير هي التي تتبعها النوادي والمراكز الثقافية، وهي بعيدةٌ كل البعد عن البحث العلمي المستقل النزيه.

وبعد إيثار لفظ «أوروبا»، أيهما أفضل بعد ذلك «الوعي الأوروبي» أو «الحضارة الأوروبية»، مما لا شك فيه أنه لا يوجد «دين أوروبي»؛ فالدين له أصوله القبلية في الوحي، وعلى أقصى تقدير يمكن استعمال تعبيرات «فلسفة أوروبية» و«علم أوروبي»، ومع ذلك الفلسفة والعلم الأوروبي هما مظهران لنشاط «الوعي الأوروبي» مصدر الحضارة «الأوروبية». ويُستعمل لفظ «الوعي» للإشارة إلى المصدر المنتِج للحضارة، ويُستعمل لفظ «حضارة» للإشارة إلى المنتَج نفسه الذي يتضمن مجموع الأعمال؛ أي المصنَّفات الفكرية والأدبية.

أصبح «الوعي الأوروبي» ظاهرة للدراسة، ولوحظ ذلك داخل الحضارة الأوروبية وخارجها. لاحظها عديد من الفلاسفة والباحثين الأوروبيين وغير الأوروبيين، وقد تمَّت دراستها تحت بعض المؤشرات، مثل: «الأفول» أو «الأزمة» أو «الانتحار».٦ وقد لاحظ الفلاسفة والدارسون ظواهر «أزمة الوعي الأوروبي» و«أفول الغرب» على مدى امتداد الحضارة الغربية كلها، منذ بداية القرن الماضي. وربما أعطت ساعة النهاية الوعي الأوروبي الإحساس بأنه يقوم بحسابه الأخير ويقدم لنفسه كشف الحساب.
لم يدرس الفلاسفة فقط ظاهرة «الوعي الأوروبي» أو بتعبيرٍ أدق ظاهرة «أفول» أو «أزمة» الوعي الأوروبي باعتباره موضوعًا للتفكير، بل أيضًا الباحثون.٧ فإذا حاول الفيلسوف تشخيص أزمة العلوم الأوروبية ووصف أفول الغرب أو إعلان العدمية الشاملة والهدم الكامل لكل القيم، يحاول الباحث اختيار فترة زمنية من تطور الوعي الأوروبي.٨
ولظاهرة «الوعي الأوروبي» سابقتها في فلسفة التاريخ. صحيح أن مفهوم التاريخ مفهوم غربي؛٩ فقد نشأت فلسفة التاريخ بعد عصر النهضة لتحديد صلة فلسفة التنوير بالفلسفات الأخرى السابقة عليها خاصةً الفلسفة المدرسية. وبعد عديد من الفلسفات المتتابعة في العصور الحديثة، نشأت فلسفة للتاريخ لتحديد تطور المذاهب الفلسفية، وكان لكل عصر روحه. ومهَّدت فلسفة التاريخ إلى ظهور مفهوم «الحضارة»؛ فظاهرة «الوعي الأوروبي» نتاج الحضارة الأوروبية.
وخارج الحضارة الأوروبية، وبعد وعي الشعوب بحضارتها المستقلة بعد حركات التحرر الوطني، ظهر مفهوم «الوعي الأوروبي» كموضوع للبحث، إما دفاعًا عن استقلال حضارات الأطراف أو لنقد هيمنة حضارة المركز.١٠
وقد دفعت الحركة الحالية للتحرر من الاستعمار في العالم الثالث، والتي أصبح لها ثقلها الدولي كحكم لا ينحاز، عديدًا من الباحثين للتفكير ليس فقط في الحالة الراهنة للعالم الثالث بل أيضًا في المستعمر؛ السبب الرئيسي في مأساته في التاريخ.١١
أصبحت أوروبا مركزًا للعالم مشكلة داخل الحضارة الأوروبية ذاتها وانبهار الأذهان بها في الحضارات المجاورة؛ مما أنشأ ظاهرة «الانبهار بأوروبا» خارجها.١٢

انبهرت الحضارات الأخرى بتفسير كل شيء من وجهة نظر أوروبا، وسُمي استغلال العالم الكشف الجغرافي مع أنه بداية الاستعمار من وجهة نظر الشعوب المستعمَرة، وأصبحت ظروف أوروبا هي مقاييس تصنيف العالم؛ فهناك البلاد المتقدمة والبلاد المتخلفة. ومن أجل التخفيف من حدة التصنيف، استُبدل بلفظ «المتخلفة» لفظ «النامية» أو «في طريق النمو»، وصُنفت أنماط تفكير الشعوب غير الأوروبية على أنها «عقلية بدائية»، بل وصل الأمر إلى درجة تقسيم أجناس البشر إلى آرية وسامية.

وظهر نفس الشيء في الميادين الأكثر مادية للاقتصاد والسياسة؛ فقد اعتُبرت البلاد غير الأوروبية كمصادر للمواد الأولية من أجل تصنيع الغرب، ثم كأسواق لبيع المنتجات الأوروبية. وتمَّت صياغة عدة معاهدات وتحالفات، وأقيمت القواعد العسكرية ومناطق نفوذ في البلاد غير الأوروبية من أجل الدفاع عن أوروبا.

وتجلَّت داخل كل حضارة خارج أوروبا هذه الظاهرةُ «الانبهار بأوروبا»، والتي تكوَّنت من نسيان جذور الفرد في حضارته الخاصة ثم الانحياز إلى أوروبا والاغتراب فيها باعتبارها الحضارة الوحيدة التي يجد فيها كل فرد جذورًا بديلة، طوعًا أو كرهًا؛ ومن ثَم تقع كل حضارة خارج أوروبا في دائرة النسيان. أصبحت الحضارة الأوروبية ممثِّلة للإنسانية كلها.

أصبحت ظاهرة الوعي الأوروبي مشكلة بالنسبة للدراسات الفلسفية، سواء داخل الحضارة الأوروبية أو خارجها. لم تكتمل الدراسات بعدُ في الداخل. حصلت نتائج جزئية فحسب خاصة بأزمة العلوم وانهيار الحضارة، ولم يتم دفع هذه النتائج إلى أقصى مداها، وكان من الطبيعي ألا يستطيع الملاحِظ الفيلسوف أو الباحث أن يتخلص كليةً من الأثر الذهني لحضارته، وباعتباره مسئولًا عن بنيتها فإنه لم يكن باستطاعته إصلاحها. ويستطيع ملاحِظٌ غير أوروبي أن يكون مُشاهِدًا مُنصِفًا لأنه لا يخضع لتأثير البنية الذهنية للحضارة المدروسة، وفي الخارج تمَّ تناول المشكلة بطريقة دفاعية وخطابية، وتحت أثر حماس التحرر الوطني والثقة الشديدة بالنفس تمَّت معالجة الوعي الأوروبي عن طريق الهجوم العنيف على القُوى الاستعمارية الأوروبية. وكان ذلك طبيعيًّا نظرًا لأن التحرر الوطني لم يكتمل بعد.١٣

وفي الحالة الراهنة للدراسات حول الوعي الأوروبي هناك تياران على طرَفَي نقيض؛ الأول يمثِّله العلماء الأوروبيون، والثاني الخطباء اللاأوروبيون من أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. الأول نتيجة غياب أية مسافة بين الملاحِظ وموضوعه؛ لأن الملاحِظ أوروبي، وعيُه هو نفسه الانطباع الذهني الذي أعطته إياه حضارته. والثاني نتيجة المسافة الشاسعة بين الملاحِظ وموضوعه؛ فالملاحِظ خطيب، مثقَّف أو سياسي، يدافع عن وطنه الروحي أكثر مما يدرس موضوعه. ولا تستطيع النظرة القصيرة للأول ولا الطويلة للثاني أن تساعد على تقدم البحث الفلسفي. يستطيع الوعي المُحايد وحده أن يتجاوز اغتراب الأول والثاني، وأن تكون له فرصة رؤية أفضل، وحكم أدق.

(٢) الوعي المحايد والوعي المغترب

ليست الحضارة إلا النتاج المشترك من مجموع الوعي الفردي للجماعة.١٤ وبناء الحضارة هو نفسه بناء الوعي الفردي. كذلك يخضع كل تحليل للحضارة يقوم به الوعي الفردي الذي ينتسب إليها إلى هذه الحضارة ذاتها التي تترك انطباعها على ذهن الباحث. وكل تحليل يقوم به باحث لحضارة ينتمي إليها هو في نفس الوقت تحليل لبناء الوعي الفردي للباحث. ولما كان يجد نفسه محددًا في وضع معين، فإن تحليله يتم طبقًا لهذا الوضع. يتم كل تحليل للحضارة طبقًا لوجهة نظر الباحث واضعًا نفسه في «زاوية نظر» حضارته. ومن هنا تأتي ضرورة الوعي المحايد ودوره، والذي ينتمي إلى حضارة أخرى، والذي يمكن الحكم عليها دون أي حكم مسبق. الشعور المحايد خالٍ من أي انطباع من الحضارة المدروسة.١٥ وهي ميزة لديه على الشعور المغترب أو الملتزم بمذهبٍ ما داخل حضارته.١٦
الوعي المحايد موجود بفضل نوع من التربية الذاتية للباحث لنفسه وبنفسه. يوجد وعي الباحث نفسه أولًا في حالة من البراءة الأصلية، ويتخلى عن كل الأحكام المسبقة، ثم يبدأ اتباع فهم يبدأ من البراءة الأصلية، والبحث عن بداية جذرية تمنع مرة ثانية من اللجوء إلى أحكام مسبقة. ويستطيع هذا المنهج العودة إلى الأشياء ذاتها عن طريق اتحاد الوعي بالأشياء لإدراك ماهياتها.١٧

أليس من الطموح محاولة إيجاد بنية وتطور للوعي الأوروبي؟ هل يمكن إخضاع الوعي الأوروبي بعد أن أصبح ظاهرة كموضوع للدراسة؟

أولًا، تكوِّن هذه الملاحظات السابقة المتشعِّبة حول الوعي الأوروبي العناصر الرئيسية لهذا التخطيط المرجو. ثانيًا، لو استطاعت هذه الملاحظات أن تكون جزءًا من هذا التخطيط يأتي قانونٌ عام يقوم على هذه العناصر القليلة للمساعدة على توضيح الموقف بقوة التعميم، تستطيع هذه العناصر الخاصة والقانون العام أن تشارك في تكوين هذا التخطيط. ثالثًا، الأحكام الجريئة ضرورية، ولو كانت المادة العلمية قليلة وكان القانون العام غير مطابق، إلا أن الأحكام الجريئة تأتي للعون. قوة الحكم تحكم رؤية العناصر، وتجعل عمومية القانون أكثر تطابقًا. وطالما استطاعت بعض الأحكام غير المؤسسة تأسيسًا كاملًا أن تثير الأذهان، فإنه من الممكن إعادة تأسيسها على نحوٍ أتم.١٨

ويمكن للشعور المحايد أن يكون شعور الباحث اللاأوروبي الذي استطاع التخلص من الخطابة ومن بيئته الثقافية. والواقع أن وعي الباحث اللاأوروبي له ميزة القدرة على التخلص من الانطباع الذهني الذي تتركه الحضارة الأوروبية على وعي الباحث الأوروبي. يستطيع أن يعطي عدة ملاحظات دقيقة أكثر من الباحث الأوروبي بسبب المسافة الكبيرة بين الباحث وموضوعه. يستطيع رؤيته من أعلى، وعن بعد.

إن الوعي المحايد هو الأمل الوحيد لرؤية الحضارة الأوروبية على حقيقتها؛ لأنه هو الوعي الوحيد المنصِف. يكفي النظر إلى طرُق معرفة الباحثين الأوروبيين المنتمين إلى نفس الحضارة للتأكد من غياب الحياد الكامل. كيف دُوِّن التاريخ؟ فتاريخ الفلسفة الذي يكتبه تجريبي يدور حول التجريبية وكأن تاريخ الفلسفة هو تاريخ الفلسفة التجريبية،١٩ وتاريخ فلسفة آخر يكتبه مثالي يدور حول الفلسفة المثالية وكأن تاريخ الفلسفة هو تاريخ الفلسفة المثالية،٢٠ وتاريخ ثالث للفلسفة يكتبه وُجودي يدور حول فلسفة الوجود وكأن تاريخ الفلسفة هو تاريخ الفلسفات الوجودية. وهكذا يُكتب التاريخ دائمًا من زاوية واحدة. لماذا؟ تم ذلك لأن شعور الباحث شعور منحاز إلى مذهب، ينتسب إلى عقيدة أو يضع قناعًا يرى من خلاله العالم. ويمكن رؤية ذلك بوضوح في كتابة التاريخ من منظور المادية الجدلية، فكل ظاهرة لها أسباب وجودها في الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وعندما يستطيع الباحث أن يخلع عن وجهه المذهب-القناع، والذي يدوِّن التاريخ من خلاله، فإنه لا يتجاوز مستوى المؤرخ الذي يرى التاريخ باعتباره تاريخ أزياء وأغطية للرأس، مجرد تجاور للمذاهب أو تتابع للنظريات، أو يلجأ إلى الحلول الوسط، وأنصاف الحلول، والانتقائية.٢١
ليس الوعي المحايد وعيًا لا يهتم بشيء، باهتًا أو رخوًا، ولكنه وعيٌ ملتزم بطريقته الخاصة. ليس التزامه عن طريق رؤية العالم لصالح نظرية-قناع لأنه لا ينتمي إلى أيٍّ منها، التزامه هو الالتزام بالبحث عن الحقيقة. الوعي المحايد ممكن، ولكن ذلك لا يعني غياب كل عنصر قبلي سابق على الإدراك؛ فكل وعي ليس فقط وعيًا بشيء، بل وعي مهتم بشيء؛ فالإدراك الذي من خلاله يتجه الوعي إلى العالم مشروط بشعاعٍ ينبثق من الذات إلى الموضوع، من الوعي إلى مضمونه، من العقل إلى الشعور.٢٢ البحث عن الحقيقة موجَّه باستمرار بالوعي المسبق بهذه الحقيقة، حتى ولو في صورة انطباع مبدئي أو إحساس مسبق.٢٣ الوجود في العالم، والوعي بالذات باعتباره وعيًا باحثًا لديه انفعال بحثي، كل ذلك يمكن أن يكون عنصرًا سابقًا على التفكير في البحث الموضوعي.

هل يخضع الباحث اللاأوروبي للأثر الذهني القادم من بيئته؟ كل وعي باحث ينتمي إلى حضارة، ووعى الباحث هو وعي حضاري، ومع ذلك هناك حضارة لها أثرٌ بالغ على وعي الباحث مثل الحضارة الأوروبية. وهي نتاج عمل شاق ومستمر، مصدر حقيقة لوعي الباحث الذي ينتمي إليها؛ ففي عصر النهضة رُفضت كل حقيقة قبلية، وكان البحث عن الحقيقة هو الضامن لهذه الحقيقة ذاتها، وانضمَّت كل حقيقة تم اكتشافها بالبحث إلى أخرى؛ ومن ثَم اعتُبرت الحضارة وحدها هي المصدر الوحيد للحقيقة، وتم الحصول على اكتشافاتها واختراعاتها بجهدٍ مُضنٍ ومتواصل، وأصبح تطورها وبنيتها تطور وبنية الإنسانية نفسها، وهو الملاذ الوحيد لوعي الباحث. وقد بلغ حضورها إلى درجة أن تركت أثرها في ذهن الباحث؛ فهو مُبدِعها، ولكن لم يستطِع التخلص منها.

ولم يكن للحضارات الأخرى نفس وضع الحضارة الأوروبية،٢٤ ولم تمرَّ إحداها بنفس الظروف، وما زالت تنهل من مصدرٍ قبلي للحقيقة المعطاة سلفًا، بل إن النهضة الحالية لم تتم عن طريق الرفض القاطع لهذا المصدر، بل على العكس عن طريق الولوج في أعماقه. ولا يتم التخلص من كل الأحكام والمواقف المسبقة، وهو الشرط الرئيسي لكل نهضة، بل على العكس، عن طريق التخلص من ثقل التاريخ من أجل العودة إلى المصادر الأصلية. والإصلاح في الوعي الأوروبي شبيه بذلك مع فارق واحد، هو أن الإصلاح في حضارة لا أوروبية ليس خارج هذه المصادر نفسها، بل داخل فيها. ويمثِّل الإصلاح والنهضة والعلم في الحضارة الأوروبية ثلاث مراحل متتابعة في البحث عن الحقيقة؛ الإصلاح عن طريق العودة إلى المصادر الأولى، واكتشاف الوعي الفردي داخل معطيات الوحي،٢٥ والنهضة عن طريق الرفض الجذري لكل مصادر المعرفة المسبقة؛ فالبحث عن الحقيقة بالعقل الإنساني هو وحده القادر على ذلك، والعلم عن طريق اللجوء إلى الواقع ذاته هو الضامن الأول والأخير للحقيقة مع تجنُّب المجردات والافتراضات النظرية الخالصة. وفي الحضارة اللاغربية موضوع التفكير هنا، الإصلاح والنهضة والعلم موجود داخل المصدر القبلي للحقائق المعطاة سلفًا، والوعي مركز معطيات الوحي. العقل الإنساني بذرته، والواقع حامله. وبالدخول في أعماق هذا المصدر القبلي يستطيع وعي الباحث الذي ينتمي إلى هذه الحضارة أن يتخلص من تاريخ الحضارة؛ فالتاريخ نفسه لا يكون مصدرًا لأية حقيقة؛ ومن ثَم فإن وعي الباحث وحده الذي ينتمي إلى حضارة أخرى غير الحضارة الأوروبية هو الذي يستطيع أن يكون وعيًا محايدًا.

(٣) موضوع هذا العمل٢٦

يمكن تحديد موضوع هذا العمل عن طريق وصف نشوئه وتكوينه أولًا، ثم اختيار بناء الوعي الأوروبي وتطوره كموضوع رئيسي، ثم اكتشاف الوحي كمعطًى في نمط من الحضارة سواء في الوعي الفردي أو الوعي الجمعي.٢٧
طبقًا لمقتضَيات الوعي بالحضارات الأخرى بنفسها والرغبة في دراسة الوعي الأوروبي بوعي محايد، نشأ موضوع «بناء الوعي الأوروبي وتطوره»، وبحث عن تسجيل له في الأكاديمية (الجامعة). ونشأت مشكلة: كيف يمكن دراسة مشروع حياة في عمل جامعي محدَّد؟ كيف يمكن دراسة حضارة خمسة قرون بالإضافة إلى مصادرها والتنبؤات بمستقبلها؟ وتم الاقتناع باختيار نقطة محدَّدة، وكانت المقارنة بين لحظتين في الوعي الأوروبي، فلسفة التنوير وفلسفة الوجود، اختيارًا محتملًا.٢٨ والواقع أن الوعي الأوروبي بناءً على ملاحظة أولية قد انبثق في لحظة النهضة، ثم فلسفة التنوير التي اتسعت وأصبحت فلسفة العقل، ثم انتهت إلى فلسفة الوجود. ونقدت فلسفة الوجود فلسفة التنوير والوعي الأوروبي، يصحح مواقفه بأن يستبدل بالعقل الوجود. كان يمكن إذَن مقارنة هاتين اللحظتين في الوعي الأوروبي.٢٩
وبعد ملاحظة هاتين اللحظتين في الوعي الأوروبي تمَّت ملاحظة شيء آخر. فإذا كانت الملاحظة الأولى تتعلق بتطور الوعي الأوروبي، فإن الملاحظة الثانية تتعلق ببنيته. وظهر كل موضوع داخل الوعي الأوروبي في أشكال عديدة. كانت لغة التعبير ومستوى الفهم هما اللذان يحدِّدان الشكل الذي يظهر الموضوع من خلاله. مثلًا تعبِّر الألفاظ الثلاثة: الفضل الإلهي، الحرية الإنسانية، اللاتحدد في قوانين الطبيعة؛ عن نفس الشيء على ثلاثة مستويات مختلفة. الفضل الإلهي مفهومٌ ديني، ويظهر أحيانًا في الحرية الإنسانية، وهو مفهوم فلسفي، وأحيانًا ثالثة في اللاتحدد في قوانين الطبيعة في ميدان العلم.٣٠ فكل مفهوم فلسفي أو علمي له مصادره في المفاهيم الدينية؛ فالدين مصدر الفلسفة والعلم؛ ومن ثَم كان من اللازم اختيار مشكلة دينية للمقارنة بين هاتين اللحظتين في الوعي الأوروبي. وبحثًا عن أقصى درجة ممكنة من الدقة، كان من اللازم اختيار مثلين، عقلاني لفلسفة التنوير، ووجودي لفلسفة الوجود. وكان هذا هو السبب في تسميته الخطة الأولى «الدين العقلي والدين الوجودي عند كانط وكيركجارد».
وبعد الوعي بظاهرة «الوعي الأوروبي» في مجموعها ظهرت لحظةٌ ثالثة؛ فقد أتت فلسفة الوجود بعد فلسفة التنوير، وكانت فلسفة التنوير قد أتت بعد فلسفة الطبيعة.٣١ كان لزامًا إذَن مقارنة ليس فقط لحظتين في الوعي الأوروبي، والتي تمَّت ملاحظتهما، بل أيضًا ثلاث مراحل لتطوره، والتي تمَّت ملاحظتها بعد ذلك. وعلاوةً على ذلك ساعَد تحليل فلسفة الطبيعة على اكتشاف مصادر الوعي الأوروبي:
  • (أ)
    المصدر اليهودي المسيحي بعد قرن الإنجيل بالتوراة.٣٢
  • (ب)

    المصدر اليوناني الروماني بعد أن ورثت الحضارة الرومانية الحضارة اليونانية.

  • (جـ)

    البيئة الأوروبية ذاتها والظروف التاريخية لأوروبا.

وهكذا اكتمل تقريبًا مخطط بناء الوعي الأوروبي وتطوره: فلسفة الوجود، فلسفة التنوير، فلسفة الطبيعة؛ ومصادرها الثلاثة: اليهودي المسيحي، واليوناني الروماني، والبيئة الأوروبية فيما يتعلق بالتطور. والدين والفلسفة والعلم ثلاثة أشكال لنفس الشيء فيما يتعلق بالبنية.٣٣
وتؤسِّس كل حضارة رؤيتها إما على الوحي أو على الأمة أو عليهما معًا.٣٤ ويتوجَّه نقد الحضارة في الحالة الأولى إلى تصور العالم، في حين يتوجه نقد الحضارة في الحالة الثانية إلى القوى المادية. أما نقد الحضارة الذي يقوم على الاثنين معًا فإنه يتوجه أيضًا نحو تصورات العالم والقوى المادية في آنٍ واحد. وبتعبيرٍ آخر هناك نوعان من الحضارة؛ حضارة مركزية تدور حول تجربة ومصدر، وهو الوحي، وحضارة طردية تدور حول نفسها خارج الوحي.٣٥ وكانت الحضارة الأوروبية حضارةً مركزية لها مصدر وتجربة في المصدر اليهودي الروماني، ثم أصبحت حضارة طردية في العصور الحديثة عندما حدث رد فِعل على المركز بقوة دفع خارجة نحو العقل والطبيعة والإنسان والمجتمع والتاريخ، في حين أن الحضارة اليهودية والحضارة الإسلامية ما زالت كلٌّ منهما حضارة مركزية تدور حول مصدر وتجربة كنواةٍ أولى لم يحدث رد فِعل عليه بعد. وحركات الإصلاح هي إعادة تفسير للنواة وليس استبعادًا لها.
وبعد دراسة المشكلة الدينية لتحليل تحوُّلها الفلسفي والعلمي، مشكلة البنية، ظهر الوعي الفردي باعتباره محلَّ هذا التحول. وكان التطور يتعلق بالوعي الجمعي، الحضارة، والبنية تتعلق بالوعي الفردي تجاه المشكلة الدينية، وبوجهٍ خاص بالنص المقدَّس؛ مما أدَّى في النهاية إلى مشكلة التأويل.٣٦
١  تصدير x. Phéno, pp. 3–12. Avant propos.
٢  O. Spengler: Le Declin de l’Occident, Husserl: Krisis.
٣  استعمل هوسرل لفظ «أوروبا» في كتابه الشهير «أزمة العلوم الأوروبية»، بينما استعمل اشبنجلر لفظ «غرب» في كتابه الشهير «أُفول الغرب».
٤  نظرية Eidétique.
٥  دفاعية Apolegétique، عالمية مزيفة Denis de Rongement: Pesudo-oecuménique L’Amour et l’Occident. انظر مراجعة جان بول سارتر لهذا الكتاب في Situations I, pp. 62–69.
٦  استعمل هوسرل لفظ «أزمة»، واشبنجلر لفظ «أفول»، واستعمل آخرون ألفاظ «انتحار»، «نهاية»، «انهيار»، «انحطاط»، «سقوط» … إلخ.
٧  الفلاسفة مثل: هوسرل، نيتشه، اشبنجلر. والباحثون مثل: بول آزار في «أزمة الوعي الأوروبي» Paul Hazard: La crise de la conscience Européenne. هوسرل من النوع الأول، واشبنجلر من النوع الثاني، ونيتشه من النوع الثالث.
٨  هذه حالة بول آزار باختياره فترة ١٧٧٠–١٨٣٠م.
٩  في الفلسفة اليونانية حضر التاريخ العام في مفهوم άκμή، وفي تاريخ الحضارة كما رصده أرسطو مؤرخًا. واختلطت فلسفة التاريخ بالكونيات في محاورة «طيماوس»، ثم تم اكتشاف الزمان الإنساني في الوحي.
١٠  Diop: Civlization Africaine et Culture, Le suicide de l’Occident. وسيتم بحث الجانب النظري في هذه الدراسات فيما بعد.
١١  ليس هذا تفكيرًا سياسيًّا، بل إدخال الفكر في التاريخ. «مناهج التأويل» و«تأويل الظاهريات» لهما رسالة تاريخية. في «مناهج التفسير» الإعلان عن ميلاد حضارة، وفي «تأويل الظاهريات» الإعلان عن نهاية حضارة. وقد كتبت هذه الرسالة في الستينيات وقت انتصار حركات التحرر في العالم الثالث ونشأة كتلة عدم الانحياز.
١٢  الانبهار بأوروبا Europeanisation. وهي التي سُميت فيما بعدُ التغريب Occidentalisation.
١٣  F. Fanon: Les Damnés de la Terre. (وربما يحتاج العرب الآن إلى مرحلة تحرُّر ثانية بعد ضياع مكاسب حركة التحرير الأولى باحتلال كل فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير، بالرغم من تحرير جنوب أفريقيا من النظام العنصري.)
١٤  في اللغة العربية لفظ الوعي «لا يُجمَع»؛ مما يدل على فرديته، على عكس اللغة الفرنسية.
١٥  قد يتضمن الشعور المحايد دوافع لا شعورية مثل الرغبة في التحرر الثقافي كردِّ فِعل على تبعية المركز للأطراف، ولكن ذلك لا يمنع من الحياد. وفرقٌ بين هذا الدافع اللاشعوري والدوافع المقصودة الموجهة للاستشراق.
١٦  وهي نفس حالة عالم السكان Ethnologue الذي يبدأ بدراسة مجتمعات أخرى، محلِّلًا بنياتها دون أن يكون مُتأثرًا بها. فهل وعي الإثنولوجي الأوروبي وعيٌ مُحايد تجاه ما يُسمى بالمجتمعات «البدائية»؟
١٧  لذلك تم اختيار المنهج الظاهرياتي كمنهجٍ يبدأ من الشعور المحايد؛ فوَعيُ الظاهراتي هو أساسًا وعيٌ مُحايد، والوعي المحايد وتغيير الحياد من بين الموضوعات المتكررة في الظاهريات.
١٨  مثلًا عند هوسرل، بداية الوعي الأوروبي في بداية العصور الحديثة في عصر النهضة، ونهايته في نهاية العصور الحديثة.
١٩  B. Russerl: History of Western Philosophy.
٢٠  E. Bréhier: Historie de la Philosophie.
٢١  وفلسفة فكتور كوزان نموذجٌ جيد لذلك.
٢٢  الذات والموضوع، صورة الوعي ومضمونه، العقل والشعور Noèse-Noême.
٢٣  هذا هو معنى العبارة الشهيرة للسيد المسيح «لن تبحث عنى إن لم تكن قد وجدتني من قبل».
٢٤  فالحضارة الإسلامية مثلًا ما زالت تعترف بمصدرٍ قبلي للحقيقة.
٢٥  معطى الوحي Donné Revelé. وفي العربية الجمع «معطيات» بالجمع أفضل من المفرد «معطًى».
٢٦  Ex. Phéno. pp. 13–67.
٢٧  Ibid, p. 13–16.
٢٨  Les Méthodes d’Exégèse, Préface I, La génèse de l’oeuvre.
٢٩  يمثِّل فلسفةَ العقل: ديكارت، اسبينوزا، مالبرانش، كانط … إلخ. ويمثِّل فلسفةَ الوجود: كيركجارد، هيدجر، سارتر، ميرلوبونتي، أونامونو، أورتيجا، جابريل مارسل … إلخ.
٣٠  في الملحَقات I, II, III, IV تم تحليل أمثلة عديدة. وقد ساعدت فلسفة النقل Transposition والتشكل الكاذب Pseudo-morphologie في الرسالة الرئيسية على فهم هذا التحول Métamorphose.
٣١  كان اكتشاف هذه اللحظة الثالثة غالبًا في دروس جان جيتون بالنسبة لتوما الأكويني في تحليله لتطور الفلسفة الغربية الذي يحكمه قانون: الطبيعة، الروح، الوجود. انظر Jean Guitton: L’Existence Temporelle, Préface.
٣٢  التوراة La Bible.
٣٣  أشكال Métomorphose. ويلاحظ أنه بفضل التطور تم اكتشاف البناء؛ لذلك يسبق تحليل التطور تحليل البناء.
٣٤  الحضارة التي تُبدي ملاحظاتها على الوعي الأوروبي بناءً على الوحي مثل حضارة آسيا خاصةً الهند، والحضارة التي تقيم ملاحظاتها على الأمة مثل حضارة أفريقيا، والحضارة التي تقيم ملاحظاتها على الاثنين معًا مثل الحضارة الإسلامية.
٣٥  مركزية Centripète، طردية Centrifuge.
٣٦  التأويل Interprétation. Exégèse تأويل أو تفسير. وقد قوَّت دراسة كيركجارد هذا المطلب لدراسة الذاتية التي درسها هو نفسه في Post-Scriptum.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤