أولًا: لغة الظاهريات١

يحتاج المنهج الظاهرياتي في مرحلته الراهنة إلى بعض التعديلات فيما يتعلق بلغة الظاهريات، وقواعد المنهج، واكتمال النظرة للعالم التي يرتبط بها هذا المنهج.٢
وبقدرِ ما أصبحت الظاهريات تقريبًا كلمة السر على لسان الباحثين حقًّا أم باطلًا لإغرائها، فإنها أبعدت باحثين آخرين جادِّين عنها بسبب لغتها.٣ نعم، أصبح من المسلَّم به أن لغة الظاهريات لا يمكن فهمها؛ فقد سال حبرٌ كثير لتقال أشياء قليلة، بل أصبحت هي السمة الجوهرية في الفلسفة المعاصرة التي تنتسب إلى الظاهريات.٤ وقد جعلت مأساة لغة الظاهريات مشكلة الاتصال بين الباحثين ومؤلَّفات الظاهراتيين أو بين الظاهراتيين والباحثين من علوم أخرى مشكلةً عاجلة. يكفي أخذُ رأي الظاهراتيين في أعمال مؤسِّس المنهج، ويكفي أيضًا سماع الاتهام بالتلاعب اللفظي الموجَّه من غير الظاهراتيين إلى الظاهراتيين.٥
ويكفي أيضًا مراجعة الدراسات النظرية حول الظاهريات لمعرفة سيادة اللغة التي تضاعف ثقلها، اللفظ فوق اللفظ، والمفهوم فوق المفهوم، دون أي جهد للتخلص من هذه اللغة المعملية وحجرة العمل التي منها خرجت الظاهريات أثناء التكوين. ويستطيع لفظٌ واحد أن يخلق عدة خلافات في التفسير. ويوجد في الظاهريات حاليًّا السلفيون والحدثيون. هناك توضيح لأعمال مؤسس الظاهريات، وهناك تفسير شخصي لها. صحيح أن تطور الظاهريات لا يمكن تجنُّبه إن لم يكن ضروريًّا بشرط ألا يكون هذا التطور خديعة المشكلات الناشئة عن لغة الظاهريات.٦
الظاهريات الآن مثقَلة بلغتها؛ غمضت مقاصدها، وقلَّ وضوحها؛ بسبب تعقُّد مصطلحاتها. وطُويت بداهةُ اختياراتها داخل جهاز اصطلاحي مثقَل. الظاهريات ما زالت في المعمل، وما زالت تُصنع، دون أن تخرج بمنهج واضح ومتميِّز. وقد ساعدت البيئة الثقافية التي أغْرَتها دائمًا المصطلحات الجديدة على زيادة الحمل اللغوي المثقَل. ويقترح كل ظاهراتي إضافةَ مصطلح بدلًا من التخلص من مصطلحات سابقة، مع أنه يمكن ممارسة تحليل الخبرات الحية بسهولة ويُسر باستعمال أسلوب أقل تعالمًا، ومصطلحات أقل غلظة. يمكن التعبير عنها بلغةٍ عادية يفهمها الجميع. لا ترجع عظمة الظاهريات في المخزون الهائل من المصطلحات المستعملة بل في بداهات مقاصدها، وفي سهولة التعبير عنها وإيصالها. فلا يرهب القارئ هذه الكيمياء للفكر، بل على العكس يطمئنُّ إلى بداهاتها ومقاصدها الخاصة التي تعطيها له الظاهريات بتحليلاتها. ولا ينال الأسلوب العادي من الظاهريات باعتبارها علمًا ظاهراتيًّا رفيعًا، بل على العكس يجعلها أقل ادعاءً علميًّا في الظاهر، وأكثر مباشرةً نحو الواقع. تستطيع كل ظاهريات أن تخلق لغةً خاصة قادرة على التعبير عن الخبرات الخاضعة للتحليل. لكل موضوع طبيعته يعبِّر عن نفسه في لغة اصطلاحية من نفس الطبيعة.٧
والمصطلحات الرئيسية يمكن الإبقاء عليها مثل: المعيش، صورة الشعور، مضمون الشعور، قصدية، حدس، بداهة، معطًى، ماهية، دلالة.٨ وقد أصبحت عادية في الاستعمال. إنما هي التفريعات اللغوية التي تزيد غموضًا من المصطلحات الرئيسية، وخطوطها العامة هي التي يمكن تجنُّبها. فلا ينخدع الظاهرياتي بعديد من المصطلحات، لا تشير ولا تعبر إلا عن شيء واحد. والدقيقات في التحليل بالبحث لكل همسة عن لفظ مستعار من التراث الفلسفي يتم تركيبه عن طريق ضم بضعة مقاطع أمرٌ لا ينتهي.
وتجديد لغة الظاهريات ممكن عن طريق دلالة اللغة المورثة، ومع التخلص من الجهاز المفاهيمي الرياضي المنطقي أو النفسي الفلسفي الذي استعملته الظاهريات من أجل خلق ألفاظ مستمدة من اللغة العادية للتعبير عن بداهات الخبرات اليومية. وهذا ما أرادته الظاهريات نفسها وما تنبَّأت به.٩ إذَن لا يتعلق الأمر هنا بالتطهير الفعلي للغة الظاهريات، بل فقط بإبداء بعض الملاحظات الأولية النافعة للظاهراتيين. وتطهير اللغة عملٌ ضروري قبل وضع الظاهريات موضع التطبيق.
١  Ibid., pp. 69–71.
٢  كانت أول معرفة بالظاهريات عام ١٩٥٦م؛ فقد تم التعرض بسرعة إلى «الرد» و«القصدية» في درس الميتافيزيقا لزكريا إبراهيم. كانت القصدية بمثابة وحي جديد ضد سيادة ثنائية الذات والموضوع التي سادت الفلسفة، والتي تم التخلي عنها على الإطلاق. كان بالإمكان إذَن شقُّ طريق جديد داخل الفلسفة الأوروبية، وأخذُ مسار جديد للتفكير. ونظرًا لرغبة في دراسة الوحي كعلم إنساني وخاصةً باعتباره ظاهرة شعورية، فقد أدَّت قراءة الفلسفة الأوروبية إلى الفلسفة الترنسندنتالية خاصةً في صورتها المكتمِلة في الظاهريات.
كما تم اختيار المنهج الظاهرياتي طبقًا لمطلب أكاديمي خالص فيما يتعلق باختيار منهج للبحث قادر على دراسة الوحي كظاهرة شعورية دون الوقوع في الخطابة أو الدفاع. كان أقرب المناهج إلى الوصف والتحليل النظري للوحي كظاهرة شعورية، وكانت أيضًا مناسبة لتخليص المنهج الظاهرياتي من عيوبه كما هو معروف في التاريخ. وهذه هي الغاية من هذه المقدمة الطويلة عن المنهج الظاهرياتي وعن ظاهريات الدين. ومع ذلك يظل الطابع الظاهرياتي لهذا العمل مستقلًّا تمامًا عن المنهج الظاهرياتي المعروف تاريخيًّا، فلم يتم اختياره كمنهج بحث إلا طبقًا لمطلب أكاديمي خالص؛ ومن ثَم فإن هذا العمل يتضمن ظاهريات مستقلة. وكان هذا هو انطباع بول ريكير بعد قراءة الرسالة الأولى «مناهج التأويل».
٣  استعجب هوسرل نفسه من كثرة استعمال هذا اللفظ. «يبدو أنه تأسَّف منذ ١٩١٧م لأن الظاهريات أصبحت موضة.» Buytendijk: La signification de la Phénoménologie Husserlienne pour la Psychologie actuelle, p. 99, Phaenomendogica Z, Husserl et la pensée mode.
٤  وهذه هي حالة هيدجر في Sein und Zeit، وسارتر في L’Etre et Le Néant، وميرلوبونتي في Le Visible et l’invisible؛ من أجل اختيار بعض الأمثلة الأكثر دلالة.
٥  التلاعب اللفظي Verbiage.
٦  انظر فيما بعدُ الفصل الثاني: الظاهريات النظرية، والظاهريات التطبيقية.
٧  وبهذا المعنى يمكن اعتبار جابريل مارسل ظاهراتيًّا بسبب لغته ولهجته الخاصة.
٨  صورة الشعور Noèse، مضمون الشعور Noême.
٩  في بدايات الفينومينولوجيا، يجب أن تبقى كل المفاهيم وكل الألفاظ في صيرورة بطريقةٍ ما، مستعدة تمامًا أن تتمايز وتتعدد طبقًا لتقدم تحليل الشهور ومعرفة المستويات الجديدة للظاهريات داخل ما تم التسليم به سابقًا في وحدة لا يمكن تفكيكها، عن Ideen I, p. 170. G. Berger: Le Cogito dans la Philosophie de Husserl, p. 14.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤