ثالثًا: التكوين الجزئي للمنهج١

وتظل الظاهريات، في الدراسات الثانوية، أيضًا نظرية عصية على التطبيق مع أنها تبين أثناء تكوينها وبعد تطبيقها في نقاطٍ معينةٍ المنطق والفلسفة والحضارة طابعها العملي، وتبين الظاهريات المكتملة أيضًا أنها أصبحت منهجًا وليس مجرد فلسفة، في الدراسات الثانوية لم تؤخذ هاتان الملاحظتان بعين الاعتبار؛ إذ يتردد عرض الظاهريات بين النظريات الرياضية والمنطقية والنفسية والفلسفية دون أن ينخرط الكل في منهج تطبيقي، فقد تحوَّل المنهج إلى مذهب، والقاعدة إلى نظرية، والظاهريات إلى فلسفة.٢
ومع ذلك من الصعب في الظاهريات النظرية، وإن كان ضروريًّا، التمييز بين ميدان الأنا الخالص والتجربة المشتركة من ناحية، وقاعدتَي المنهج، الرد والتكوين، من ناحية أخرى؛ فالمنهج الظاهرياتي في داخل الشعور الذي هو في عالم الآخرين «المحيط الإنساني» وعالم الأشياء، البيئة الطبيعية، ومن أجل صياغة منهج ظاهرياتي من الضروري أولًا إيجاد بنية الشعور في العالم، والذي يمكن تصويره بثلاث دوائر متداخلة تشارك في مركز واحد، وتضم الأنا الخالص كدائرة صغرى، والمحيط الإنساني كدائرة وسطى إلى البيئة الطبيعية كدائرة كبرى، لا يكفي إذَن تحليل الخبرة المشتركة دون وضعها في بدايتها الأولى في الأنا الخالص أي في الذاتية،٣ وبعد وصف بناء الشعور يُصبح تأسيس المنهج ممكنًا، ولا يكفي تحليل «الرد» دون «التكوين».٤ ولا يبرر التمييز بين مستويات عديدة في «الرد» نسيان «التكوين»، وهو الغاية النهائية من الرد ذاته.
وأحيانًا تُعرَض الظاهريات دون أي منهج أو باستعمال منهج مناقِض لها، يبغي العرض الأول الحياد ولكن ينتهي إلى التكرار بلا دلالة، والثاني يبغى الأصالة والتقدم العلمي ولكنه ينتهي إلى القضاء على جوهر الظاهريات، وأحيانًا يكون عرض الظاهريات خليطًا من النظرية والمنهج. «الأنا الخالص» نظرية في حين أن «الرد» منهج، وهناك خلط آخر أقل شيوعًا بين الظاهريات في طريق التكوين والظاهريات المكتملة؛ فالتصورات الرياضية والمنطقية والنفسية تنتمي إلى الظاهريات في سبيل التكوين، في حين أن القصدية تنتمي إلى الظاهريات المكتملة، وهناك خلط ثالث بين النفي والإثبات الظاهرياتي؛ النفي موجَّه ضد الشك النفساني، والإثبات للمثالية الترنسندنتالية.٥ وهناك خلط رابع بين الظاهريات الترنسندنتالية وتطورها إلى ظاهريات أنطولوجية، ومع أن الظاهريات هي أساس الأنطولوجيا فإنها تظل مستقلة عن الاتجاهات الأنطولوجية الحالية، وهناك خلط خامس بين الظاهريات النظرية والظاهريات التطبيقية في العلوم الإنسانية، صحيح أن المنهج الظاهرياتي ساهم في تقدم الفهم المنهجي للعلوم الإنسانية، ومع ذلك يظل مستقلًّا كمنهج، ولا يمكن رده إلى تطبيقاته في العلوم الإنسانية؛ النفسية والاجتماعية أو في فلسفة التاريخ، لقد ساهمت هذه العلوم من قبل في اكتمال الظاهريات، ثم شاركت الظاهريات بدورها في تقدمها المنهجي، ومع ذلك تظل الظاهريات علمًا مستقلًّا وكاملًا، يمكن تطبيق المنهج الظاهرياتي في العلوم الإنسانية دون أن يرد إليها.٦
ولا يكفي تتبُّعُ عملٍ عملٍ كي يؤسس المنهج بطريقة خصبة، وإذا أمكن تحليل كل عمل على حدة وإبراز مفاهيمه وتصوراته ومصطلحاته، فإنه لا يكفي لرؤية تكوين الظاهريات خطوة خطوة، فلا يتضمن كل عمل ظاهراتي مفاهيم عشوائية، بل تمثل اتجاهًا أو حركة مستقطبة نحو اتجاه محدد،٧ ولكل مجموعة من الأعمال أيضًا توجُّهها مثل المجموعة المنطقية، والمجموعة الفلسفية، والمجموعة الحضارية.٨
وتحليل الموضوعات الرئيسية في الظاهريات أكثر فائدة إذا ما تجاوزت مستوى الظاهريات النظرية إلى ظاهريات تطبيقية، يجد موضوع الزمان في الظاهريات تطبيقات عديدة في علم النفس والجمال والدين،٩ كما يصبح التكوين وأنواعه المختلفة أكثر نفعًا لو أدَّى هذا التمييز إلى توضيح ميدان يسوده الخلط بين المستويات في العلوم الإنسانية.١٠
ومعظم الموضوعات في الدراسات الثانوية هي جوانب متعددة للمنهج الظاهرياتي، قواعده وميادينه، وتكوِّن ذاتية الموضوعية بنية الشعور ذاته داخلًا في العالم.١١ والتجربة المباشرة موضوع آخر في الظاهريات،١٢ وهي وضوح أولي دون أن تكون فلسفة تمَّت صياغتها بجهد جهيد. صحيح أن هذا الوضوح يمكن أن يساهم في تقدم البحوث في العلوم الإنسانية، ويمكن أيضًا أن يصبح حقيقة مستقلة مرتبطة بمنهجها، وصحيح أيضًا أنه يمكن عرض الظاهريات ابتداءً من موضوع رئيسي مثل: «الكوجيتو»، «الشعور»، «القصدية». ومع ذلك يتناول هذا العرض الظاهريات كفلسفة أكثر منها كمنهج؛١٣ لذلك يتأرجح التحليل كله بين النظرية والمنهج، بين الميدان والقاعدة، بين تطور الظاهريات كطريق يبحث عن نفسه واكتمالها كمنهج، ويشير الوضع الرئيسي للكوجيتو والأنا الترنسندنتالي وحياته الخاصة إلى نفس الشيء؛ أي إلى الأنا الخالص، مركز العالم الإنساني والعالم الطبيعي،١٤ و«الرد» هو أولى خطوات المنهج،١٥ والبداهة هي نقطة البداية في تحليل صورة الشعور ومضمونه.١٦
ولا يكفي التمييز بين موضوعات عديدة في الظاهريات لإيجاد المنهج الظاهرياتي؛١٧ فداخل هذه الموضوعات هناك تمييز ضروري بين النظرية والميدان والمنهج، بين قضية في ذاتها ونظرية، الخبرة المشتركة بين الذوات ميدان للاستكشاف، في حين أن «الرد» و«التكوين» وتحليل صورة الشعور ومضمونه يتعلق بالمنهج، ولم يتجاوز عرض الظاهريات كنظرية مذهبًا فلسفيًّا يقوم على أسس أربعة: الرد، والدلالة، والماهية، والقصدية. ولا تكفي هذه اللحظات الأربع في الظاهريات لتتحول إلى قواعد في المنهج الظاهرياتي.١٨

وقد تفترض خمس لحظات لعرض الظاهريات: تنظير الخبرة، اكتشاف القصدية، التحليل الموضوعي، تكوين المنطق، الظاهريات الشاملة. ولا تكون هذه اللحظات الخمس منهجًا محكمًا، بل تتلخص فقط بعض جوانب المؤلفات الظاهراتية دون تنظيمها في حركاتها داخلها.

وهناك عديد من المحاولات في الدراسات الثانوية لتحويل الظاهريات إلى منهج تطبيقي، قامت إحداها لإيجاد منهج ظاهرياتي وتطبيقه في العلوم الاجتماعية،١٩ ووضع للمنهج سبع قواعد؛ كل فعل هو سلوكٌ باعثه مشروع مدرك سلفًا، إشارة كل فعل إلى خبرة، كل الأفعال تتضمن اختيارًا، العلاقات مباشرة بين الأشخاص من خلال الجسد، إدراك الآخر في تيار الشعور، الآخر مجرد طريقة للحضور، كل عالم اجتماعي له أبعاده التقريبية، ويلاحظ أن هذه القواعد السبع تشير فقط إلى ميدان واحد للظاهريات هو الخبرة المشتركة بين الذوات، كما أنها تخلط بين ميادين والقواعد بالمعنى الدقيق، تتأرجح القواعد بين الاثنين.
والشعور القصدي هو بلا شكٍّ الرابطة بين الميادين وقواعد المنهج الظاهرياتي؛ فالشعور هو مركز العالم الإنساني والعالم الطبيعي، وتمثل القصدية العلاقة بين هذه العوالم الثلاثة، ويصبح التحليل القصدي ممكنًا عن طريق تطبيق قواعد المنهج؛ «الرد» ثم «التكوين»، وصورة الشعور، ومضمون الشعور، والبناء الصوري المادي للشعور، والقصدية التكوينية والقصدية الترنسندنتالية، كل ذلك يدخل ضمن التحليل القصدي.٢٠
يكوِّن المنهج الظاهرياتي العقدة الرئيسية في الظاهريات، وفي كل مرة يتم الاقتراب منه يضيع وسط السجال حول تفسير الظاهريات نفسها خاصة بين التيارين المثالي والواقعي في تفسيرها.٢١
ظلَّت محاولات الاقتراب من المنهج الظاهرياتي محدودة إلى حدٍّ ما، صحيح أن الحدس في صلب المنهج، ويستطيع الجدل، وهو لفظ غير ظاهرياتي، التعبير عن المراحل المختلفة للرد،٢٢ وبالرغم من بناء الحدس على خمسة جوانب؛ الشيء المعطى بالضرورة، حضوره في الزمان والمكان، التوقع الفارغ لتنويعاته، تغليف الشيء بأشياء أخرى، والدور البرجماتي الاجتماعي والتاريخي في الإدراك؛ فإنها لا تكفي لتوضيح الدور الذي يلعبه في المنهج الظاهرياتي، وبالرغم من أن جدل رد الاتجاه الطبيعي، والتفكير الطبيعي أو النفسي حتى التفكير الظاهرياتي الترنسندنتالي يشير بوضوح إلى المراحل المختلفة للرد الظاهرياتي فإنه ليس الجانب الوحيد للمنهج، بل هو مرتبط بالتكوين كلحظة ثانية وبميادين المنهج، الأنا الخالص، والعالم الإنساني، والعالم الطبيعي.

وتوحي الظاهريات النظرية التي عرضتها الدراسات الثانوية بأن المنهج الظاهرياتي قد تمَّت صياغته طبقًا لموضوع محدَّد كما يحدث في باقي المناهج، تعرضه كصنعة مكتبية يمكن ربط عناصره أو فكها بطريقة أخرى، وتفترضه كنتيجة لتأمل رفيع في ذروة العلوم الإنسانية، الرياضيات، والمنطق، والميتافيزيقا، والأنطولوجيا … إلخ. في الظاهريات التطبيقية يبدو المنهج الظاهرياتي كمنهج طبيعي ينبثق من الطبيعة الإنسانية على نقيض المناهج المصطنعة، الصورية أو المادية؛ لأنه يترك للظاهرة الإنسانية كل فسحتها دون قِسمتها إلى جزأين وأخْذ واحد وترك الآخر، ويتركها أيضًا في مستواها الخاص دون زحزحته إلى مستوًى آخر، ولا تنزع من الظاهرة الإنسانية أيًّا من خصائصها العيانية، مثل: الانقطاع، وعدم القدرة على التنبؤ، والفردية … إلخ.

والمنهج الظاهرياتي منهج تلقائي لا يحتاج إلى تعلم في تطبيقه، بل إن «جهازه المفاهيمي» يمكن استبداله بلغة مرئية وعادية؛ لذلك تم استعماله قبل صياغته بوضوح في تصورات أو قواعد أو أفكار موجَّهة تؤكده الحياة اليومية التي تندُّ عن التنظير العقلي والتحليل العملي،٢٣ يشعر كل فرد بعالم الحياة، وباختصار يتمُّ لكل فرد تطبيقُ المنهج الظاهرياتي على نحو لا شعوري؛ لأنه ينبع من الطبيعة الإنسانية.
لم ينجح هذا النوع من الدراسات الثانوية في تحويل الظاهريات إلى منهج تطبيقي على طريقة «مقال في المنهج» أو «قواعد لهداية الذهن»، بل ولم تنجح أيضًا محاولة عرض الظاهريات كمنهج للتطبيق.٢٤
١  Ex. Phéno. pp. 209–16.
٢  M. Murleau-Ponty: La Philosophie et son Ombre, Phänomenologica, 4, pp. 195–220.
٣  A. Schutz: Le Problème de l’Intersubjectivité Transcendentale chez Husserl. Husserl, Cahiers de Royaumont, p. 334–81.
٤  H. L. Van Breda: La Réduction Phénoménologique. Ibid., pp. 307–33.
٥  Lyotard: La Phénoménologie, pp. 11–42.
٦  Ibid., pp. 47–121.
٧  انظر فيما بعدُ الباب الثاني، الفصل الثالث: التفسير.
٨  يذكر لوير Q. Lauer كل عمل على حدة: La Philosophie comme science rigoureuse (p. 11–8), Die Idée der Phänomenologie, p. 149–59. Philosophie als strenge Wissenschaft, p. 59–62, Nachwort zu meinem Ideen p. 166–72، وكل الفصل الخامس عن الظاهريات الشاملة للعقل، شرح للتأملات الديكارتية كل تأمُّل على حدة (p. 304–89).
٩  Van Pearson: La notion du Temps et de l’EgoTranscendentale chez Husserl, Cahier de Royaumont, pp. 196–213.
١٠  R. Ingarden: Le Problème de la constitution et le sens de la Réflexion constitutive chez E. Husserl, Ibid., pp. 242–70.
١١  Q. Lauer: The Subjectivity of Objectivity, Phänomenologica 4, pp. 167–74.
١٢  L. Landgrebe: Von der Unmittelbarkeit der Erfahrung, Phänomenologica 4, pp. 238–59.
١٣  G. Berger: Le Cogito dans la Philosophy de Husserl، والعنوان دالٌّ للغاية.
١٤  Ibid., pp. 9–16, 91–117.
١٥  Ibid., pp. 43–61 تحليل صورة الشعور ومضمونه L’Analyse noético-noêmatique.
١٦  Ibid., pp. 65–88.
١٧  G. Gurvitch: Les Téndances actuelles de la Philosophie Allémande, pp. 28–52.
١٨  W. Scapp: Erinnerungen an Husserl, Phänomenologica, 4, p. 4.
ويميز المؤلف بين خمس لحظات:
  • (أ)

    الموضوعي، الموضوعات، الأشياء، عالم الموضوعات وعلاقات بعضها بالبعض الآخر.

  • (ب)

    حالة الأشياء.

  • (جـ)

    القضايا المقابلة لحالات الأشياء.

  • (د)

    الأحكام وأفعال الأحكام المقابلة لحالات الأشياء.

  • (هـ)

    دائرة الأفعال المعرفية التي يتم تمثيل العالم بها مثل: التمثل، الإدراك الحسي، الرؤية، التمثل الفارغ، مسألة الشك.

١٩  A. Schutz: Husserl’s importance for the social science, Phänomenologica, 4, p. 949.
٢٠  S. Berton: Conscience et Intentionalité, pp. 39–198.
٢١  H. Reiner: Sinn und Recht der Phänomenologische methode, Phänommenologica, Fink: L’Analyse Intentionelle de la Pensée speculative في Les Problèmes actuels de la Phénoménologie.
٢٢  St Strasser: Intuition und Dialektik in der Philosophie, Husserl, Phänomenologica, 4, pp. 148–53.
٢٣  لذلك توجد في مؤلفات كيركجارد ظاهريات تلقائية قبل أن تتم صياغتها.
٢٤  عرض مورا Muralt الظاهريات في لحظات أربع: فكرة العلم، المنطق باعتباره فكرة للعلم، المنطق الصوري الهوسرلي، والمنطق داخل الظاهريات وليس الظاهريات باعتبارها منهجًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤