رابعًا: معركة التفاسير١

وإذا كانت معاصرة التلميذ المباشر للمعلم، وهو التلميذ من الدرجة الأولى، ميزة له، فإنها لا تعطيه حق التفسير للظاهريات واحتكاره لها بدعوى المعاصرة، صحيح أن التردد على المعلم ومصاحبته يفتح المجال للتراث الشفاهي الحي، خاصة إذا لم ينشر المعلم كثيرًا في حياته، ولكنه لا يعطي التلميذ أي إحساس بالعظمة والتفوق وربما والغرور بالنسبة للتابعين، بل على العكس يجعلهم أكثر تواضعًا وأقل غرورًا،٢ ومهما بلغ شأن إنقاذ كتابات المعلم فإنه عمل فلسفي وأخلاقي نزيه دون أي طلب للمدح أو الثناء.٣
وقد أعطت الظاهريات النظرية من خلال الدراسات الثانوية الفرصة للتفسيرات الشخصية لكل ظاهراتي؛ فهناك الآن الظاهريات السلفية التقليدية، الحرفية أو حتى «الأصولية»، في مقابل الظاهريات التأويلية التحديثية التجديدية «التحريفية»،٤ والظاهريات الأصلية في مقابل الظاهريات الشخصية. وحدثت معارك بين التفسيرات المختلفة تراجعت فيها الظاهريات نفسها إلى الوراء،٥ وذهبت ظاهريات الظاهراتيين، نتيجة للتفسيرات المختلفة للظاهريات، إلى الحد الأقصى، وأصبحت تأملات شخصية للحساب الشخصي للظاهراتي. وبالرغم من سمو هذه التأملات وعمقها فإنها تظل فلسفات أكثر منها ظاهريات، خاصةً الظاهريات الترنسندنتالية. المنظور ممكن بشرط ألا يتغير المنهج الظاهرياتي نفسه تغييرًا جذريًّا، ويمكن للقصدية أن تتحول إلى وجود في العالم ولكنها لا تستطيع أن تتحول إلى مفارقة أيًّا كانت، المفارقة الوحيدة الممكنة هي الحلول التي تشبه المطلب نحو الأكمل والأفضل، ولا يمكن أن تتحول القصدية إلى سر أيًّا كان؛ لأنها تبدأ من البداهة.٦
وتبين بوضوحٍ المعارك بين التلاميذ تطور المنهج الظاهرياتي؛ فالدفاع عن تكامل ظاهريات المعلم، الرد الترنسندنتالي والرد النظري، ونقد أولوية الشعور، كل ذلك يجعل هذا الموقع للمعاصرة حيًّا ومليئًا بالإمكانيات الجديدة.٧ صحيح أنه في كل مرحلة من تطور المعلم كان هناك منظور، ومع ذلك ظلت الوحدة القصدية لحياته ولعمله مستمرة،٨ وتفسر المرحلة الأخيرة للظاهريات المرحلتين السابقتين،٩ وهذا ليس كل شيء، هناك أيضًا الظاهريات كما تكشف عنها المخطوطات، بل هناك أيضًا الظاهريات كما تكشف عنها يوميات المعلم.
وتُسقط الظاهريات الظاهراتيين أحيانًا مخططات غريبة على الظاهريات كي تصبح تفسيرًا ممكنًا، لا تعترض الظاهريات على وضع فلسفة للتصورات الإجرائية في مواجهة تصورات موضوعية،١٠ أما إذا أُسقطت التصورات الإجرائية على الظاهريات فإن هذا مناقض لقاعدة بسيطة من قواعد التفسير،١١ قد تكون هذه التصورات الإجرائية مصدرًا للظاهريات، ولكنها ليست من الموضوعات الرئيسية التي تكوِّن مركز العلم، والصلة بين «الإجرائي» و«الموضوعي» هي نفسها بين «صورة الشعور» و«مضمون الشعور».١٢ فلماذا الابتعاد عن الطريق المباشر والانحراف به من أجل أصالة موضع الشك؟ من الممكن توضيح الظاهريات، ولكن أن تصبح نقطة بداية لنظريات فلسفية تُعزى إليها، فإن ذلك يخرج عن مهمة الدراسات الثانوية، والآن يقوم كل ظاهراتي بتأسيس ظاهرياته وفلسفته الخاصة، وهذا حقه الطبيعي، أما أن يُسمى ذلك تأويلًا للظاهريات فهذا ما يخرج عن حدود التأويل، وبالإضافة إلى ذلك أُزيحت كثير من موضوعات الظاهريات عن مستوياتها الخاصة؛ فمثلًا «البراءة» في الظاهريات من جهة الشيء المعيش، ولكنها في فلسفة التصورات الإجرائية من جهة التأمل والتفكير.١٣
ومن الصعب وضع حدود فاصلة بين تطور الظاهريات على يد فلاسفة الظاهريات أي تأويلها على يد مفسِّريها، وهم المساعدون السابقون لهوسرل، وتطبيق الباحثين للمنهج الظاهرياتي والذين يتابعون الظاهريات الترنسندنتالية نفسها أو إحدى تنويعاتها، إن لم يسمحوا هم أنفسهم بتنويعات شخصية صغيرة، ومع ذلك يمكن إدراك الاتجاهات المختلفة التي ساهمت في تطور الظاهريات مثل: الظاهريات الترنسندنتالية، ظاهريات الموضوع، أو الظاهريات الأنطولوجية داخل الظاهريات نفسها.١٤ فالموضوع والفعل متكاملان، ومسألة أيهما له الأولوية على الآخر متاهة فلسفية وفصل فلسفي تعسفي، والتحليل الوصفي للوجود الإنساني ليس بعيدًا عن ميادين الظاهريات؛ الأنا الخالص، العالم الإنساني، العالم الطبيعي. لقد شعرت الدراسات الثانوية بمشكلة تفسيرات الظاهريات دون أن تحاول إيجاد قواعد لتفسيرها يضمن تفسيرًا صحيحًا لها،١٥ ليس التفسير فقط تصحيح فهم تصور أو أكثر على وجه التحديد، بل وضع مشكلة الأساس؛ أي كيف يمكن تفسير مجموع العمل الظاهرياتي.١٦
١  Ex. Phéno., pp. 216–9.
٢  ويشعر الإنسان أحيانًا بهذه الميزة عند الظاهراتيين المعاصرين لهوسرل في كتاباتهم.
٣  H. L. Van Breda: Geist und Bedeutung des Husserl, Archives, Phanomenologica, 4, pp. 116–22.
٤  «السلفية» أو «الأصولية» Othodoxe. التحريفية Hétérodoxe. الأصولية Authentique.
٥  «الفكرة الجريئة القائلة بفلسفة مزدوجة لهوسرل موجودة عند الأتباع المهمومين بتطوير فلسفاتهم الخاصة؛ أي باستعمال هوسرل أكثر من التعبير عن الإلهام الدفين للمعلم والإخلاص له» G. Berger: Le Cogito dans la Philosophie de Husserl, p. 15.
٦  S. Breton: Conscience Inteutionalité, pp. 267–89.
٧  J. Hering: Edmund Husserl, souvenirs et Réflexions, Phanomenologica, 4, pp. 26–8.
٨  H. Spiegelberg: Perspektivenwandel: Konstitution eines Husserl Bildes, Phanomenologica, 4, pp. 56–63.
٩  E. Fink: Die Spätphilosophie Husserl in der Freiburger Zeit, Phanomenologica, 4, pp. 99–115.
١٠  E. Fink: Les Concépts Opératoires dans la Philosophie de Husserl, Cahiers de Royaumont, pp. 214–41.
١١  تصورات إجرائية Concepte Opératoires. تصورات موضوعية Concepts Thématiques.
١٢  صورة الشعور Noèse. مضمون الشعور Noême.
١٣  Naiveté، السذاجة، البساطة، البراءة E. Fink: op. cit., p. 223.
١٤  H. Conrad Murtins: Die Transcendentale und dir Ontologische Phänomenologie, Phänomenologica, 4, pp. 175–84.
١٥  Muralt: L’Idée de la Phénomenologie, I, La notion de l’Intentionalité et L’Inteprétation de la Phénomnologie, pp. 9–11.
١٦  وهذا هو السبب في كتابة هذه الرسالة؛ «تأويل الظاهريات».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤