سادسًا: عيوب الدراسات المقارنة١
أدخلت الدراسات المقارنة بقوةٍ الظاهريات في مصادرها، مثل
المثالية الألمانية، والتي تعتبر الظاهريات اكتمالها، ولم تتم
حتى الآن دراسات مقارنة كثيرة بينها وبين التيارات الفكرية
الأخرى، والظاهريات إحداها،٢ وإذا كان لفظ «الظاهريات» قد تكوَّن داخل ثقافة
معينة وهي الثقافة الألمانية، فإنها الآن تيار فلسفي داخل
ثقافات وطنية عديدة داخل الحضارة الأوروبية، وربما أيضًا خارجها.٣ فالظاهريات تيار معرفي وحياتي إنسانيًّا يظهر في
كل حضارة،٤ يبدأ من الخبرات الحية للأفراد وللجماعات، وكما
تتجلى في الأفعال العامية والآداب الشعبية وحكمة الشعوب، بل
وفي الممارسات الصوفية.
وكل مقارنة بين الظاهريات والعلوم الفلسفية السابقة مقارنة
لها ما يبرِّرها، ففي الظاهريات اكتملت المثالية الألمانية،
ووجدت مشكلة الثنائية القديمة بين الذات والموضوع، المجرد
والعياني، الروح والطبيعة، المثال والواقع، حلها الأخير في
القصدية. وأصبح المنهج المقارن، بعد تطبيقه في الظاهريات،
تحليل نتاج التجربة الذاتية الترنسندنتالية المشتركة في
التاريخ، وهي جزء من الظاهريات ذاتها، والحقيقة أن كل الأعمال
الحضارية في الظاهريات هي نوع من الدراسات المقارنة، وتبين
الحقيقة باعتبارها قصدية تاريخية، وتتكشف الروح تدريجيًّا في
الأعمال الحضارية، وبالتالي يصبح المنهج التطبيقي المقارن في
الظاهريات منهجًا «تقدميًّا» يكشف عن غائية التاريخ، ومساره
نحو الحقيقة، وهو أيضًا منهج بنيوي يحكم على الحقيقة الجزئية
التي تجلَّت في كل عصر مسترجعًا إياها داخل الحقيقة المكتملة،
المقارنة إذَن هي اكتمال الحقيقة في تاريخ الظاهريات، وهي
الحقيقة المكتملة، الحقيقة هي مقارنة بنيوية بين الحقيقة
الجزئية والحقيقة الكلية مرة، ومقارنة تطورية تبين اكتمال
الحقيقة الجزئية في الحقيقة الكلية مرة أخرى؛ ومن ثَم فإن
المقارنة بين الظاهريات وحقيقة تاريخية عن طريق تجاور الاثنين
كمذهبين مستقلين لا تنتهي إلى شيء؛ لأنها تجهل دور الظاهريات
في التاريخ.٥
ويمكن للظاهريات الترنسندنتالية أن تكون أكثر خصوبة إذا تم
إدراجها ضمن الفلسفات المعاصرة إلى أن تسعى لتحقيق نفس الهدف
بنفس الوسائل أو بمناهج مختلفة، وإن لم تكن هناك نفس النتائج
فإنها لا تعارض نتائج الظاهريات بالضرورة، بل على العكس يفسر
بعضها بالبعض الآخر. وإذا اكتشفت الظاهريات الترنسندنتالية
الزمان كنسيج تكوين الظواهر، وإذا اكتشف الزمان كديمومة وإبداع
دائم وكانبثاق متجدد باستمرار، فإن النتيجتين تتكاملان ولا
تتعارضان؛ فالزمان في نفس نسيج الظواهر وخلق مستمر، وكلا
النتيجتين تصارعان الزمان النفسي أو النفسي الجسمي (السيكوفيزيقي).٦
وتتجاوز المقارنة بين الظاهريات والنظريات الفلسفية الأخرى
إطار ملاحظة حول هوسرل مؤسس الظاهريات وهيجل مؤسس المثالية المطلقة؛٧ إذ تتبع الدراسات المقارنة منطق الموازاة، ومنهج
الأثر والتأثر شيء والمقارنة بين نمطين مثاليين شيء آخر، يكفي
وضع الظاهريات في ثقافاتها حتى تتجه كل دراسة مقارنة حول
اكتمال الفلسفة التي بدأتها العصور الحديثة في الظاهريات،
يتكامل «الكوجيتو» مع «الكوجيتاتوم»، الشعور مع مضمون الشعور،
المثالية النقدية والمثالية المطلقة في المثالية
الترنسندنتالية؛ أي في الظاهريات.
ولا يكفي في الدراسات المقارنة القيام بموازاة بين العلوم
الفلسفية داخل كل منطقة حضارية؛٨ فالمقارنة بين الظاهريات وفلسفة الكوجيتو أكثر
خصوبة من المقارنة بين الظاهريات والمثالية النقدية أو
المثالية المطلقة، وكذلك المقارنة بين الظاهريات وفلسفة الحدس
أكثر فائدة من المقارنة بين الظاهريات وفلسفة تصورات العالم!
الظاهريات حاجة في كل منطقة حضارية،٩ ومحل الالتقاء بين هاتين الحاجتين هو موضوع خصب للمقارنة.١٠ في كل منطقة حضارية يظهر نفس المشروع، الظاهريات
الضمنية. يقع أحيانًا في الصورية، وأحيانًا أخرى في المادية،
وأحيانًا ثالثة في النزعة النفسية، في كل منطقة حضارية توجد
هذه الاتجاهات الثلاثة، واستمرت نظرية العلم منذ المثالية
النقدية مرورًا بالمثالية المطلقة حتى المثالية الترنسندنتالية.١١
والانتباه ضروري في الدراسات المقارنة بين مستويات الأشياء
المقارنة، مثلًا ليست مشكلة اللاشعور في نفس مستوى ولا في نفس
الأهمية في الظاهريات والمثالية المطلقة وفي التحليل النفسي.١٢ اللاشعور في الظاهريات هو الخبرة الحية الضمنية في
المثالية المطلقة، وإمكانية دفينة في التصور وفي علم النفس
الوقائع الاجتماعية المركبة. صحيح أن التفكير في أشكال
اللاشعور لا غبار عليه مع الاستفادة بما تقدمه هذه العلوم
الثلاثة وربما أكثر كمادة للتفكير، ولكن ما لا يجوز هو تسمية
ذلك أشكال الظاهريات، وبوجه أخصَّ الظاهريات
الترنسندنتالية.
وفي مقارنة الظاهريات مع باقي العلوم الفلسفية، سواء داخل
المنطقة الحضارية التي نشأت فيها الظاهريات أو المناطق
الحضارية الأخرى، يركِّز الانتباه على اكتمال المثالية
الألمانية، وبالرغم من أن الظاهريات تبدأ من فلسفة الكوجيتو،
فإنها تصحح وتكمل المثالية النقدية والمثالية المطلقة، فقد
اكتمل «الكوجيتو» في «الكوجيتاتوم»، عقل الشعور في مضمون
الشعور، لم يعد الأنا علبة فارغة للمقولات. وتقدم الحقيقة
قصدية، وليس عملية تاريخية عالمية، وبتعبير آخر كلُّ مقارنة
تأخذ بعين الاعتبار فكرة البداية والنهاية للوعي الأوروبي ومد
التاريخ بينهما.١٣
وفي الدراسات المقارنة يوجد تمييز ضروري بين المراحل
المختلفة لتطور الحضارة، يمكن مقارنة الظاهريات مع الفلسفة
اليونانية في موضوع «اللوجوس»، ومع الفلسفة المدرسية في موضوع
القصد أو مع الفلسفة الحديثة في موضوع «الكوجيتو»، وفي كل
مرحلة وضع الفلسفة ليس هو نفس الوضع، في الفلسفة اليونانية كان
هناك استقلال للفلسفة بالنسبة للدين والعلم وكل تجليات «الروح»
في الحضارة، وكانت «الفكرة» تقوم بدور الماهية؛١٤ ومن ثَم يمكن مقارنة «اللوجوس» في الفلسفة
اليونانية و«الماهية» في الظاهريات لأن موضوعَي المقارنة
مستقلان، وهما موضوعان مثاليان.
وفي الفلسفة المدرسية لم تكن الفلسفة مستقلة ولا قائمة
بذاتها، كانت ملحَقة بالدين،١٥ ومهما كانت أهم الاكتشافات قد تمَّت في الفلسفة،
مثل التوتر، فإنها ظلت هامشية؛ لأن الغاية لم تكن البحث عن
الحقيقة الفلسفية بل تبرير الحقائق الدينية؛١٦ ومن ثَم فإن المقارنة بين التوتر المدرسي والقصدية
في الظاهريات لا تكون على نفس المستوى، الأول ليس موضوعًا
مستقلًّا في حين أن الثاني موضوع مستقل.١٧
والفلسفة في العصور الحديثة هي تحول لبعض جوانب الدين مع بحث
طبيعي عن الحقيقة، ويتحد الموضوع المدرسي والمنهج اليوناني
والقصدية في علم النفس الوصفي محاولة للإصلاح ضد علم النفس
التجريبي نتيجة علم النفس العقلاني الخارج من الفلسفة، ويمثل
تقدمًا نحو البحث عن المستوى الإنساني بعد رده إما إلى الصوري
أو إلى المادي. وظيفة القصدية في العصور الحديثة ليست وظيفتها
في الفلسفة المدرسية،١٨ تمثل القصدية في الظاهريات خطوة إلى الأمام نحو
المستوى الصحيح للظاهرة الإنسانية بعد التخلص من النزعة
النفسية في القصدية في علم النفس الوصفي.
في الدراسات المقارنة محاولات للجمع بين بعض جوانب الظاهريات
والنظريات الفلسفية السابقة، على نقيض الظاهريات نفسها التي
تعتبر نفسها المجموع المكتمل للقصدية الغائية للتاريخ، وخطورة
المركب هو تقييم نظرية ينتسب إليها الباحث على حساب نظرية أخرى
يعارضها، فعند الباحث اللاهوتي بطبيعة الحال تسود القصدية
المدرسية ولا شك، وعند الباحث عالم النفس تكون الأولوية
للقصدية في علم النفس الوصفي، وللظاهرياتي القصدية في
الظاهريات الترنسندنتالية وحدة كلية في ذاتها، يستبعد كل عنصر
يدخل فيه أو يخرج منه في أي محاولة للتركيب.١٩
وفي الدراسات المقارنة تمَّت مقارنة الظاهريات المختلطة
بتطوراتها اللاحقة في الفلسفة الوجودية مع المادية الجدلية،
ومع أن المقارنة تقوم على منطق محكم للموازاة إلا أنها أخذت
المادية الجدلية كقناع ترى من خلاله الظاهريات،٢٠ ومن شروط المقارنة الحياد، فلا ينتسب المقارن إلى
أي نظرية مسبقة بحيث لا تقوم المقارنة على الهوى والميل
الشخصي، يستطيع أن ينتسب إلى نظرية فلسفية دون أن تؤثر عقائده
الخاصة على رؤيته للأشياء، ويمكن وجود شعور محايد خالٍ من أي
افتراض مسبق. ولم تكن كذلك حال كثير من الدراسات المقارنة،
كانت المقارنة بديلًا عن اختيار تم مسبقًا، وكانت الظاهريات
المعروضة هي ظاهريات الشراح،٢١ اختلطت بتطوراتها اللاحقة وكأن نقد الفلسفة
الوجودية خاصةً أسطورة العدم نقد للظاهريات.٢٢
١
Ex. Phéno., pp.
222–8.
٢
لم تتم حتى الآن مقارنة هوسرل مع برجسون، والوحيد
الذي حاول القيام بهذه الدراسة المقارنة تحت إشراف
هوسرل نفسه هو رومان إنجاردن في رسالته «الحدس والعقل
عند برجسون». R. Ingarden: Intuition
und Intellekt bei Bergson، وقد
صاح هوسرل بعد قراءة الرسالة «هكذا تقريبًا وكأنني
برجسون». Dass ist fast so als ob Ich
Bergson Wäre. انظر أيضًا
G. Gurvitch: Les Téndances
actuelles de la Philosophie Allemande, pp.
13–6.
٣
الظاهريات اكتمال المثالية الألمانية.
٤
وذلك مثل: برجسون في الثقافة الفرنسية، ووليم جيمس
في الثقافة الأمريكية، وأونامونو في الثقافة
الإسبانية، وأبي حيان التوحيدي والتصوف في الحضارة
الإسلامية، والبوذية في الحضارة الهندية،
والكونفوشوسية في الحضارة الصينية. وهو ما يفسر
ازدهارها في اليابان خاصة في مدرسة كيوتو.
٥
A. De Waelhens: Réflexions sur une
Problématique Husserlienne de l’Inconscience,
Husserl et Hegel, Phänomenologica, pp.
221–37.
٦
ومن ثَم فإن فلسفة برجسون ضرورية للشرح المضبوط
للظاهريات عند هوسرل، تعطيها بعدًا جديدًا وصل إليه
هوسرل نفسه في المخطوطات؛ وبالتالي فإن ملاحظات فان
كور Vancourt ودي
فالانس De Waelhens
حول الاختلاف بين الفلسفتين أقل دقة من ملاحظات هيرنج
Héring وجورفتش
Gurvitch حول أوجه
التشابه بينهما Vancourt: op. cit., p.
23.
٧
ملاحظة حول هوسرل وهيجل Lyotard: La
Phénoménologie, pp. 42–6, Héring: op.
cit.
٨
تقال الحضارة على الحضارة الأوروبية، والمنطقة
الحضارية أي الثقافة على الثقافة الألمانية أو
الفرنسية أو الإنجليزية … إلخ.
٩
لذلك فإن المقارنة بين هوسرل وديكارت وبرنشفيج
Brunschvicg
وبرجسون أكثر خصوبة من المقارنة بين هوسرل وكانط
وهيجل.
١٠
هوسرل في ألمانيا، برجسون في فرنسا، وليم جيمس في
أمريكا، أونامونو في إسبانيا. ومؤلف هذه الرسالة يقوم
بنفس الدور في الوطن العربي.
١١
J. Hyppolite: L’Idée Fichtéenne de
la doctrine de la science et le projct
Husserlien, Phanomenologica 2, pp.
173–82.
١٢
A. Se Waelhens: Réflexions sur une
problématique Husserlienne de l’inconscient,
Husserl, Hegel.
١٣
فيما يتعلق بهوسرل وكانط وديكارت G.
Berger: Le Cogito dans la Philosophie de
Husserl, pp. 121–38.
١٤
وُصفت الظاهريات الترنسندنتالية أكثر من مرة بأنها
أفلاطونية.
١٥
هذه الملاحظة مثالية أكثر منها تاريخية.
١٦
التوتر
Intentio.
١٧
S. Berton: Conscience et
Interntionalité, p. 9–22، فيما
يتعلق بلامادية القصدية عند توما الأكويني. وقد كانت
المقارنة تتم دائمًا بين القصدية عند هوسرل مع القصد
عند توما الأكويني بالرغم من أن هذا الأخير كان يميز
بين القصدية الإجرائية
Opérative
والقصدية التصورية
Conceptuelle. كما
يميز هوسرل بين القصدية الفاعلة
Opérante والقصدية
التكوينية
Constitutive،
والمقارنة بين القصدية عند هوسرل والتوتر عند القديس
أوغسطين مقارنة خصبة؛ الأولى حضور للأبدية، والثانية
حضور للتاريخ. ويوجد عند هوسرل نفس التمييز من نفس
النوع؛ فالقصدية محل الماهيات اللازمانية، وقصدية
التجربة المشتركة بين الذوات
Intersubjective
جوهر التاريخ، ويحيل هوسرل نفسه نزعته الباطنية إلى
القديس أوغسطين: «في داخلك أيها الإنسان تسكن الحقيق»
Noli foras, in te rede, in
interior homine habitat veritas, Méditations
Cartésiennes, p. 134.
١٨
بمناسبة القصدية وعلم النفس الوصفي عند برنتانو
F. Brentano، انظر
S. Berton: Conscience et
Intenationalité, pp.
24–38.
١٩
Ibid., pp.
199–230.
٢٠
G. Lackacs: Existentialisme au
Marxisme?.