أولًا: من اللفظ إلى العمل الكلي١
إنه من السابق لأوانه وضع قواعد لتفسير الظاهريات أو لأي عمل
فلسفي أو أدبي أو حتى ديني، ومع ذلك يمكن لبعض الأفكار الموجهة
أن تُستخدم كنواة لهذه القواعد بناءً على الأشكال الكمية للنص
وليس الأشكال الصورية، الأفكار الموجهة اختارها هوسرل للتعبير
عن «ثلاثية الأفكار».
٢ والأشكال الكمية هي وحدات التعبير من اللفظ
والعبارة حتى العمل كله، المطبوع والمخطوط، والأشكال الكيفية
هي الوحدات الأدبية من تحليلات ونقد وحوار، والشخص الأول وكما
هو معروف في «تاريخ الأشكال الأدبية» هذه الوحدات الكمية
الأولى هي: اللفظ، العبارة، الفقرة، مجموع الفقرات في موضوع أو
تحت عنوان واحد، الفصل، القسم، الجزء، المجلد، المجموعة،
المطبوع، المخطوط، اليوميات، العمل … إلخ.
٣
(١) اللفظ٤
هناك كلمات-مفتاح، وكلمات-تعبير.
٥ الكلمات-المفتاح هي الكلمات الرئيسية
والمصطلحات والمفاهيم المميزة لكل مذهب فلسفي، مثل:
«الكوجيتو» عند ديكارت، و«النقد» عند كانط، و«الجدل» أو
«المطلق» عند هيجل، و«الديمومة» عند برجسون، و«العدم» عند
سارتر، و«الموت» عند هيدجر … إلخ. ومن هذه الكلمات المفتاح
في الظاهريات: قصدية، خبرة حية أو معطًى حي، صور الشعور،
مضمون الشعور، منطقة، خبرة ذاتية مشتركة … إلخ.
٦ هذه هي الكلمات التي تكون مجموع المصطلحات
الظاهراتية. ويشير كل لفظ إلى شيء دون المرور على المفهوم،
يشير لفظ الحي إلى الموضوع الحي، وتشير القصدية إلى بنية
عيانية للشعور، والخبرة الذاتية المشتركة بين الشعور
والآخرين، ومن أجل الفهم الانتقال ضروري من اللفظ إلى
الشيء دون المرور بالمفهوم، وإن إدخال المفهوم بين اللفظ
والشيء يُغمض الشيء ويجعله يتوه في ظاهرة التفريعات
والتقسيمات العقلية، حيث يدور العقل حول ذاته بعد هروب
الموضوع، وهذه وظيفة تلك القاعدة «من اللفظ إلى
الشيء».
وكلمات التعبير هي ألفاظ من اللغة العادية التي لا تشير
إلى معانٍ خاصة أو إلى أشياء معينة، تهدف فقط إلى الكتابة
عن الشيء وتحويله إلى خطاب وتنتهي بالحديث عن شيء آخر، هي
ألفاظ — وسائل وليست ألفاظ — غايات. ليس المطلوب إذَن فهم
أي شيء منها أو إعطاءها أي معنًى، هي مجرد وسيلة للتخاطب
وليس لفهم المعنى أو كشف الشيء.
(٢) العبارة٧
كل عبارة بمفردها في النص الظاهرياتي ليس لها معنًى، ولا
يظهر المعنى إلا إذا دخل في القصد الكلي للعمل، هناك
عبارات لا معنى لها لأنها مجرد عبارات ربط أو طرق في
الكلام، هي مثل كلمات-التعبير الضرورية للربط بين الألفاظ
والمعاني، هي عبارات الوصل بين الجمل مثل حروف العطف بين
الكلمات.
وإذا كانت كل عبارة تكمل الأخرى؛ ومن ثَم لا تتعارض
النصوص مع بعضها البعض من أجل حل تعارض ظاهر، كل عبارة في
سياقها، وتدخل في قصديته النصية، ليست كل السياقات على نفس
المستوى، ولا تكشف كل «القصديات» عن الموضوع الحي من نفس
الجانب، أنطولوجيا لا توجد تناقضات، بناء الوجود وحده هو
الضامن لحقيقة كل تحليل لأحد هذه الجوانب.
ولا تفسر كل عبارة في النص الظاهرياتي بمعزل عن العبارة
الأخرى، وتتكاتف كل العبارات للتعبير عن القصد الذي يشع
منها، لا تعطي كل عبارة معنًى بذاتها ولكنها تدل في
مجموعها على معانٍ، ولا تستقل كل فقرة عن الأخرى بل تتداخل
الفقرات فيما بينها لتدل على قصدٍ أكثر عمومية، ويمهد كل
فصل وكل باب، وكل قسم وكل كتاب، بل وكل مجلد أو جزء أو
مجموعة، للفصل أو الباب أو القسم أو المجلد أو الجزء أو
المجموعة القادمة، كل عمل يشرح الآخر؛ ومن ثَم يستحيل عمل
«شريحة» ظاهراتية أي مقطع في أي مكان لرؤية نسيجه الداخلي
خارج العضو كله، لا يوجد متناهٍ في الصغر؛ أي «جينات» تدل
على متناهٍ في العِظَم. صحيح أن الدراسة التكوينية
للظاهريات ممكنة، ولكن دون تفكيكها في عبارات ثم إعادة
تركيبها من جديد، ويمكن رؤية نشأة الظاهريات وتطورها
واكتمالها في قصديتها العامة الموجودة في العمل كله،
ويساعد فهم هذه القصدية على فهم العمل كله، بل وتصحيح
الفهم الخاطئ له، ومع ذلك، لكل عبارة استقلالها إذا فُهم
قصدها، وتكشف كل فقرة جانبًا من الواقع لو أمكن رؤيته
مستقلًّا عن الآخر، الكل ما هو إلا صورة مكبَّرة من الجزء،
والجزء ما هو إلا صورة مصغَّرة من الكل؛ لذلك يكفي في
الظاهريات التطبيقية أخذ عبارة لتطبيق نظرية بأكملها مثل:
«الشعور ينطلق نحو»، «كل شعور هو شعور بشيء»، «وضع الأشياء
بين قوسين» … إلخ.
٨ واستقلال العبارة والفقرة ومجموعة التحليل
مطلب للبداية الجذرية، كان مؤسس الظاهريات يبدأ كل يوم
بدايةً جديدة، يبدأ من لا شيء لينتهي إلى كل شيء، وليس
كالتفكيكيين المعاصرين، البداية من شيء والانتهاء إلى لا
شيء أو العدميين، البداية من لا شيء والانتهاء إلى لا
شيء.
(٣) الفقرة٩
كل فقرة في النص الظاهرياتي وصف لأحد جوانب الشيء، لها
استقلالها ووحدتها، وكل فقرة مستقلة عن الأخرى في قصديتها
الجزئية، ومرتبطة بباقي الفقرات بالقصدية الكلية لمجموع
الفقرات.
وتقع الظاهريات أحيانًا في تفسير حرفي، فلا يهم أي نص له
هذا المعنى أو ذاك لو كان هذا النص أو هذا المعنى هامشيًّا
للغاية بحيث لا يغير شيئًا في جوهر التحليل، وفي هذا
الإطار، يحاول كل ظاهرياتي أن يبين قدرته على احتواء
النصوص حتى الجهاز النقدي في الهامش الخاص بتغيرات
المخطوطات كما هو وارد في تحقيق النصوص القديمة أو نشر
الكتب المقدسة، ويُنسى الأهم وهو صلب النص، وضد هذا المنهج
الحرفي ذاته تثور الظاهريات؛ فالكل ليس مركبًا من عدة
أجزاء، الكل له وحدته المثالية.
١٠ كل تفكيك للظاهريات إلى المتناهي في الصغر
وغير الدال هو منهج مضاد للظاهريات، الفقرة هي وحدة معنًى،
ووحدة قصد، ووحدة رؤية. ولا يمكن تجزئتها إلى عبارات، كما
أن العبارة وحدة معنًى، لا يمكن تجزيئها إلى كلمات، كما أن
الكلمة تصور، لا يمكن تجزئتها إلى حروف.
(٤) مجموع الفقرات١١
تتكون مجموعة الفقرات من فقرات مرقمة مع عنوان يبين
فكرتها الأساسية، وعادة ما يُواجه العنوان ضد اتجاه موضوع
تحت النقد. وأحيانًا يكشف عن الخلط السائد فيه عن طريق
التمييز بين لفظين متجاورين، وأحيانًا يضع العنوان حقيقة
خاصة بالظاهريات، العنوان هو نواة المعنى لكل مجموعة من
الفقرات، وعن طريق الاتصال المباشر بالعنوان، وإدراك مباشر
لمعناه، يظهر القصد الكلي لمجموع الفقرات، وقد يغني الفهم
المباشر لعنوان مجموع الفقرات عن قراءته كله؛ ففهم الكل
سابق على فهم الأجزاء، كما أن معرفة النفس سابقة على معرفة
البدن؛ فالواقع أن الظاهريات تتكون من مجموعة من الأفكار
الثابتة تظهر لأول وهلة في هذه العناوين، وربما يكون
تدوينها والتعبير عنها قد تم على نحو غير ملائم، فبعد
التعبير عن الفكرة الثابتة على رأس مجموعة الفقرات في
عنوان يدل عليها جميعها قد لا ينجح عرض هذه الفكرة
الثابتة؛ فالحدس عادةً أوضح من البرهان وأكثر مباشرة منه،
والرؤية أدل من العرض، وعادةً ما يستخدم العرض خليطًا من
المصطلحات الرياضية والمنطقية والنفسية والفلسفية طبقًا
لما هو سائد في البيئة الفلسفية، أو التي تعبر أحيانًا عن
بعض التأملات الشخصية مستعملة أيضًا لغة علوم العصر،
وأحيانًا أخرى عن بعض الخبرات الحية بأسلوب الحياة اليومية
مما يُفقد الظاهريات اصطلاحاتها وعالمها الخاص، ومن ثَم
بين العنوان المرقم وتحليله هناك هذه المسافة بين نجاح
أحدها وفشل الآخر، نجاح حدس العنوان وفشل أسلوب العرض
وطريقة البرهان.
وأحيانًا يفشل عنوان مجموع الفقرات عندما تسوده بعض
مفاهيم الفلسفة الرسمية؛ مما يمنع الصلة المباشرة معه
لغياب بداهته، مثال ذلك «الحامل الأقصى» أو «هذا»، فهي
ليست من الألفاظ العادية التي تسمح بإدراك معانيها
المباشرة، ليست وظيفة المصطلح الاستغلاق بل التركيز على
المعنى بأقل قدر ممكن من الألفاظ كما يدل الاسم على
المسمى، والرأس على البدن.
١٢
(٥) الفصل١٣
وكل فصل في عمل يكشف جانبًا من موضوع البحث، ليس الفصل
مجرد قسمة إجرائية للعمل بل منطقة وجود، له وحدته كقصدية
مستقلة، وفي نفس الوقت يتكامل مع باقي الفصول التي تشير
إلى مناطق وجود أخرى، الفصل منظور الشيء، ورؤية لبعض
جوانبه، ليس مجرد تجميع مادة من هنا أو هناك؛ فالأجزاء لا
تكوِّن كلًّا واحدًا، بل هو جزء من بناء، له استقلاله في
ذاته، وله تداخله مع باقي الفصل في مجموع البناء المعماري.
الفصل كلٌّ في ذاته، وجزء بالنسبة إلى غيره، عدد الفصول
إذَن محكم سلفًا بجوانب الموضوع وأسس البناء، وليس مجرد
عدد إجرائي لتقسيم المادة العلمية عليها بالتساوي، وعلى
التبادل، وعلى نحو كمي خالص.
(٦) القسم١٤
ويشير القسم إلى أحد جوانب القصدية الكلية في الظاهريات
كفلسفة ومنهج وقد يتكون من مجموعة من الفصول؛ فالقسم أكبر
من الفصل، وهو ما يعادل الباب في التصنيف الحديث. هي خطوة
من مجموع خطوات، وطابق من طوابق البناء. القسم هو الموضوع
بعد أن بدأ يتشكل في أحد جوانبه، هو مقطع في الوجود أو
مستوًى فيه، وهو ما يدل عليه الاشتقاق في اللفظ الألماني.
١٥ وقد قسم الجزء الثاني من «الأفكار» عن
«التكوين» على هذا النحو: تكوين الطبيعة المادية، وتكوين
الطبيعة الحية، وتكوين عالم الروح.
(٧) المجلد١٦
المجلد هو عمل واحد ضمن مجموع الأعمال التي تكون مجموع
الأعمال الظاهراتية كما تركها مؤسسها، يعطي باسمه الفكرة
الرئيسية مثل «فكرة الظاهريات»، وهي تبين انكشاف الظاهريات
فجأةً كحدس أو فكرة أو مشروع أو كعلم رائع،
١٧ مثال ذلك أيضًا «أزمة العلوم الأوروبية»
والظاهريات الترنسندنتالية، وهو لا يعلن فقط الأزمة
الحالية في الوعي الأوروبي، بل يدينها ويقترح حلًّا لها في
الظاهريات الترنسندنتالية، وأيضًا يشير «التجربة والحكم»
مباشرة وبوضوح إلى جانبَي المنطق الظاهرياتي، وكذلك يعلن
«علم النفس الوصفي» منذ البداية عن وجود علم نفس مستقل عن
علم النفس التقريبي، وعلم النفس العقلي أو حتى علم النفس
الوصفي، وهو الذي خرجت الظاهريات منه. المجلد طابق في
معمار الظاهريات، ولبنائها الهندسي، وهيكلها العظمي،
المجلد هو «القائم» العمود الفقري أو الجهاز العصبي أو
المخ أو القلب.
(٨) الجزء١٨
وهو لفظ غير ملائم للتعبير عن مضمونه، واستُعمل من أجل
التمييز بينه وبين الكل، وللإشارة إلى مجموعة من المجلدات
تكوِّن وحدة واحدة وعملًا واحدًا، مثال ذلك «بحوث منطقية»
عمل واحد مكوَّن من ثلاثة أجزاء، وكذلك «الأفكار» عمل واحد
مكوَّن من ثلاثة أجزاء،
١٩ الجزء هنا مفهوم كمي يتكون من عدة أجزاء
بالمعنى العام وليس بالمعنى الاصطلاحي، تتكون الظاهريات من
عدة أجزاء، أي من عدة مؤلفات، أشهرها «دراسات منطقية» أو
«الأفكار»، والباقي تطبيقات في المنطق «المنطق الصوري
والمنطق الترنسندنتالي»، أو في الفلسفة «الفلسفة كعلم
محكم»، أو في علم النفس «علم النفس الظاهرياتي»، أو في
الحضارة «أزمة العلوم الأوروبية».
(٩) المجموعة٢٠
تتكون المجموعة من عدد من الأجزاء كما يتكون الجزء من
عدد من المجلدات؛ فهناك أولًا المجموعة الرياضية من «فلسفة
الحساب» و«مفهوم العدد» و«مساهمة في حساب المتغيرات»،
وهناك ثانيًا المجموعة المنطقية التي تتكون من «بحوث
منطقية» (ثلاثة أجزاء)؛ «المنطق الصوري والمنطق
الترنسندنتالي» «التجربة والحكم»، وهناك ثالثًا المجموعة
المنهجية تضم «الأفكار الموجهة» (ثلاثة أجزاء)؛ «تأملات
ديكارتية» و«فكرة الظاهريات»، وهناك رابعًا المجموعة
النفسية مثل «محاضرات في الوعي الداخلي بالزمان»، «علم
النفس الظاهرياتي»، وهناك خامسًا المجموعة الفلسفية
الحضارية وتضم «الفلسفة الأولى» (جزءان)، «أزمة العلوم
الأوروبية» و«الظاهريات الترنسندنتالية».
وفائدة هذه القسمة إلى مجموعة رياضية ومنطقية ومنهجية
ونفسية وفلسفية حضارية، أنها تسمح بتتبع المسار الفلسفي
للظاهريات، والذي تابع كل هذه المراحل مجتمعة، فلم تُدرك
الظاهريات كعلم ثم التعبير عنها مرة واحدة، ولكنها خرجت من
البحوث الرياضية والمنطقية والنفسية والمنهجية والفلسفية
والتاريخية الحضارية، ثم اكتملت في علم مستقل في مجموعة
«الأفكار»، ثم عادت بعد ذلك إلى ميادينها السابقة التي
نشأت منها، وهي الرياضة والمنطق وعلم النفس والفلسفة
والحضارة، لتصبح ظاهريات تطبيقية.
ويمكن لقسمة النص الظاهرياتي بالمجموعة أن توضح جوانب
عديدة للظاهريات التي اكتملت في منهج، فقد ساهم التصور
الرياضي، والمقولة المنطقية، والخبرة الحية النفسية،
والوعي التاريخي، في اكتمال الظاهريات كعلم مستقل، وفي
صيغة منهجية ظلت «الرياضيات الشاملة» نموذجًا للظاهريات
كعلم شامل.
٢١ والأنطولوجيا الصورية التي تعطي الموضوعية
للظواهر الحية هي إعادة تفسير لمنطق القضايا الذي لا يتكون
من قضايا الفكر أو اللغة بل من مناطق الوجود.
(١٠) المطبوع٢٢
العمل المطبوع كله الذي لا ينقسم هو الوحدة الكلية للنص
الظاهرياتي، وإطلاق اسم «الظاهريات الترنسندنتالية» يبين
دلالته ويكشف عن ماهيته كعلم لظواهر الشعور، لقد كان مؤسس
العلم الجديد متخوفًا من النشر، وما نشر في حياته أقل
بكثير مما تركه لينشر بعد وفاته، ليس السبب خارجيًّا، ما
قد تتعرض له حياة الباحث لظروف سياسية خارجة عن إرادته، بل
لأسباب داخلة محضة؛ إذ كان يتشكك في إمكانية قيام مثل هذا
العلم؛ فلم ينشر في حياته إلا الجزء الأول من مجموعة
«الأفكار» و«الفلسفة كعلم محكم» في الكتاب السنوي الذي
أسَّسه للظاهريات، و«المنطق الصوري والمنطق
الترنسندنتالي»، وبعض المقالات الأخرى لدوافع النشر، مثل:
مقال دائرة المعارف عن «الظاهريات»، ونُشرت الترجمة
الفرنسية لمحاضرات باريس «تأملات ديكارتية» قبل النص
الألماني. وكل ذلك له دلالته؛ فالظاهريات علم لا يكتمل، هو
مسار الشعور في العالم وهو يحلل نفسه في علاقته بعالم
الآخرين وبعالم الأشياء، وكما وضح بعد ذلك في الجزأين
الثاني والثالث من مجموعة «الأفكار» هو عود للمعطى الحي
الأصلي الذي ينتهي بمجرد التدوين، ويعود من جديد بعده،
النشر في عمل مكتمل إيقاف لتيار الشعور، وموت للمعطى الحي؛
لذلك يحتاج العمل بعد تدوينه إلى إحيائه من جديد عن طريق
القراءة والتأويل، صحيح أن هناك سمة التكرار، وهذا طبيعي
لأن الحدوس الفلسفية قليلة، بل ترجع كلها إلى حدس واحد،
وباقي الأعمال هي مجرد محاولات للبرهان؛ فالتكرار سمة
المذاهب الفلسفية في تطبيق الحدس الرئيسي، مثل: «التفكير»
أو «النقد» أو «القصد».
(١١) المخطوط٢٣
ما زال العمل غير المطبوع سرًّا كبيرًا، وكل مرة يظهر
للعالم ويخرج من دائرة الخفاء إلى دائرة التجلي فإنه يلقي
بأضواء جديدة على مجموعات أعمال الظاهريات، خاصة فيما
يتعلق بتأويلاتها المقصودة، ولم تقل بعدُ كلمتها الأخيرة،
فإذا استمر قدر لا بأس به من الأعمال غير المنشورة في
إخضاع ظواهر الحياة الأخلاقية للمصادرات المنطقية، بل
وأيضًا المعادلات الرياضية، يحاول قدر آخر أن يعثر على
حياة عالم التجربة والزمانية كصور أصلية. هذا بالإضافة إلى
أن الجزء المتبقي من العمل غير المنشور، والذي تتم فيه
معالجة الخبرة الذاتية المشتركة كجماعة إنسانية تجعل
الظاهريات تقترب للغاية من التصوف والجماعة الروحية بل
والطرقية.
ما زال النص الظاهرياتي المخطوط أكبر بكثير من المطبوع،
فقد تجاوزت «الأعمال الكاملة» لهوسرل التي تنشر تباعًا بعد
وفاته العشرين مجلدًا ولم تنتهِ بعد،
٢٤ بل وتوقف مشروع النشر للنص الظاهرياتي بأكمله،
المؤلفات الباقية، والمحاضرات والتقارير والرسائل
واليوميات نظرًا؛ لأنها لم تعد تضيف جديدًا بالنسبة لما هو
معروف في المجموعات المتكاملة عن الظاهريات تطورًا وبنية،
مسارًا واكتمالًا.
٢٥
(١٢) اليوميات٢٦
ويوميات مؤسس الظاهريات التي يعبر فيها عن نفسه ويحلل
فيها شعوره تظل ربما أهم جزء من العمل المخطوط، هي المرآة
التي تكشف عن حقيقة صاحبها وصورته أمام نفسه، يصف فيها
مساره الفكري يومًا بيوم وربما ساعة بساعة. وقد دُوِّنت
اليوميات متزامِنة مع الأعمال الرئيسية الأخرى الأجزاء
والمجلدات والمجموعات، فقد توزع الفكر على مسارين؛ الأول
الموضوعي للعمل الرئيسي، والثاني الشخصي في اليوميات، وقد
يجد العمل الرئيسي تأويله الحقيقي في اليوميات.
٢٧
الظاهريات استبطان يتطلب قلب النظرة من الخارج إلى
الداخل، ورؤية الماهيات في الشعور من خلال تحليل الخبرات
الحية في الحياة اليومية، والظاهرياتي معمل متنقل، وشعوره
شعور يقظ، يقتنص الدلالات من عالم الوقائع بعد أن يضعه بين
قوسين، هو علم تأملي خالص يُعتبر ديكارت مؤسسها الفعلي في
«التأملات»، وربما قبله عند أوغسطين في «الاعترافات»،
«والسير الذاتية» عن الفلاسفة والصوفية، والأعمال الأدبية
التي تقوم على وصف تيار الشعور.
٢٨
ونظرًا لأن سرعة تيار الشعور أكبر بكثير من سرعة القلم،
اخترع مؤسس الظاهريات طريقة خاصة به في «الاختزال» غير ما
هو معروف به في «طريقة الاختزال» كي تتماهى السرعتان،
وتلحق سرعة القلم بسرعة التيار؛ لأن اللغة الألمانية لا
تُسعف؛ فالظاهريات ظاهرة معملية تتحقق في «ورشات العمل»
والوصف المشترك لخبرات الحياة اليومية؛ لذلك تحوَّلت بعد
وفاة مؤسسها إلى دوائر بحثية لمجموعات من الباحثين داخل
أروقة الجامعات.
٢٩