ثانيًا: قواعد المنهج الظاهرياتي١

في حين أن لفظ «منهج» لم يُستعمل للإشارة إلى الظاهريات، بل استُعملت تعبيرات «الظاهريات الخالصة»، «الفلسفة الظاهراتية»، فإن الظاهريات هي أساسًا منهج.٢ لم يظهر لفظ «منهج» كما حدث إبَّان نشأة الفلسفة الحديثة عند ديكارت في «مقال في المنهج»،٣ أو في نهايتها «ضد المنهج» عند فايرآبند. ويتضح ذلك من الدراسات التي تمت حول المشاكل الفلسفية. كل منها يحاول تطبيق المنهج الظاهرياتي.٤ الظاهريات إذَن منهج للبحث أكثر منها عقيدة فلسفية، هي منهج تحليل للخبرات الحية أكثر منها مذهبًا حول النسق الهندسي للعقل.٥
وقواعد المنهج الظاهرياتي مغلَّفة داخل الظاهريات نفسها التي خرجت لتوها من مكتب مؤسسها. وما زالت في شكلها الخام في كل عمل في صياغته الأولى. ما زالت تحت البحوث الفاحصة التي خرجت منها.٦ من الضروري إذَن ضبط هذه القواعد ووضعُها في نظام وفي ترتيب واضح من أجل إمكانية تطبيقها، بل إنه من اللازم تبسيطها في عددٍ قليل من القواعد يمكن تطبيقها بطريقة واضحة بسيطة.٧
وكل منهج له قواعد، ولا يكفي إعطاء «أفكار موجِّهة» حتى يمكن تطبيق المنهج، فمن الضروري تحويل هذه الأفكار الموجِّهة إلى قواعد محكمة يمكن تطبيقها على نحو رياضي تمامًا. لا يكفي إعطاء البنية الداخلية للمنهج والمعروضة في «الرد» و«التكوين»، بل من اللازم تفصيل «الرد» في بنيات أخرى أكثر تحديدًا، ومن الضروري أيضًا تحويل عمليات «التكوين» في هذه البنية أو تلك إلى قواعد علمية مرتبة من أجل التطبيق. وهكذا يصبح المنهج الظاهرياتي منهجًا للاستعمال.٨
ومن المعروف أن المنهج الظاهرياتي يتكون من لحظتين: «الرد» و«التكوين». ومع ذلك تحتاج كل مرحلة إلى بيان؛ فالرد ليس وضعًا بين قوسَين مرة واحدة بل عدة مرات. لا يُمارَس التقويس مرةً واحدة وإلى الأبد، بل مرات عديدة كلما استدعى الأمر.٩ في كل مرة يتخلص التقويس من عنصر مادي من مضمون الشعور، يقلل الرد الظاهرياتي أو الترنسندنتالي الموضوع المادي في الاتجاه الطبيعي من أجل إدراك هذا الموضوع داخل الذات.١٠ ويقلِّل الرد النظري المضمون النفسي، وهو أيضًا مادي، للموضوع الحي من أجل إدراك دلالته وماهيته.١١ ولو ظلَّت الماهية مشابةً بمضمون نفسي يحدِّدها في الظروف المكانية والزمانية، للفرد أو للحضارة، فإنه يمكن ممارسة الرد مرةً ثالثة من أجل إدراك الماهية الخالصة؛ أي حقيقة إنسانية.
يُمارَس الرد عدة مرات حتى الوصول إلى الأنطولوجيا الشاملة، ولكن دون المخاطرة بالوقوع في الصورية التي تنكر تدريجيًّا سمات الظاهرة الإنسانية؛ فقد يكون ثمن الحصول على العمومية التضحية بفردية الوجود وخصوصيته، ينجح الرد عندما يحافظ في نفس الوقت على الضروري والحادث، والواقع والممكن، والعام والخاص، والشامل والفردي.١٢
وليس للتقويس اتجاه واحد بل عدة اتجاهات؛ فهو ليس موجَّهًا فقط ضد الاتجاه الطبيعي، الواقعة، بل هو موجَّه أيضًا ضد الاتجاه الصوري، المجرد. فكل موضوع للدراسة، سواء كان ماديًّا أو صوريًّا، موضوع بين قوسَين من أجل إدراك الموضوع حالًّا في الشعور؛ ومن ثَم فإن التصور في أي فلسفة تصورية والأولية في الرياضيات، بل وأيضًا «الله» في اللاهوت، موضوعات صورية توضع بين قوسَين.١٣ يمكن إدراكها فقط كخبراتٍ حية في الشعور الإنساني؛ فالتعالي هو عالم الوقائع المادية وعالم التصورات المجرَّدة.
وعالم الحياة في حاجة إلى بيان؛١٤ فهو ميدانٌ واسع للغاية للاستكشاف، يتضمن كل محتوى الشعور؛ الواقع والخيالي، الحقيقي والمتوهَّم، العاطفي والعقلي … إلخ. كل ما يتعلق بالشعور ينتمي إلى عالم الحياة دون أي تمييز بين الأنواع المختلفة للموضوع الحي. وهذا التمييز بين الواقعي واللاواقعي ضروري من أجل حسن التحكم في الاتجاه، الواقعي أو الخيالي، للظاهريات؛ إذ يمكن وصف العالم كواقع أو كصورة؛ ومن ثَم يمكن تصنيف الموضوعات طبقًا لدرجتها في الواقعية؛ موضوع واقعي، موضوع أقل واقعية، موضوع خيالي، موضوع لا واقعي … إلخ. وبالتالي يصبح كل موضوع في العلوم الإنسانية موضوعًا معيشًا، سواء كان أخلاقيًّا أو فلسفيًّا أو جماليًّا … إلخ، وفي مستواه الخاص بين الواقعي والخيالي.١٥
الموضوع إذَن هو إيجاد قواعد للمنهج الظاهرياتي؛ فبالإضافة إلى الخط العام بقي بيان القواعد والميادين. «الرد» و«التكوين» قاعدتان، في حين أن «الذاتية» و«الذاتية المشتركة أو المتبادلة» ميدانان.١٦
١  Ex. Phéno. pp. 71–74.
٢  Ideen I, II, III.
٣  Descartes: Discours de la méthode.
٤  انظر الفصل الثاني: الظاهريات النظرية، والظاهريات التطبيقية.
٥  Kant: La Critique de la Raison Pure, 2ème Livre.
٦  البحوث الفاصحة Les recherches Tâtonnantes.
٧  من المهام الرئيسية عرض Ideen I, II, III مثل «مقال في المنهج» لديكارت، و«قواعد لهداية الذهن» لاسبينوزا. وميزة منهج ديكارت أنه له أربع قواعد واضحة ومحدَّدة.
٨  قواعد المنهج عند ديكارت أربع، وعند هوسرل اثنان في الظاهر: «الرد» و«التكوين»، وثلاثة في الواقع: «الرد» و«التكوين» و«الإيضاح»، في Ideen I, II, III.
٩  التقديس ξΠοχή.
١٠  Die Idee der Phanomenologie pp. 36–43, pp. 108-109.
١١  Ideen I, p. 7.
١٢  الأنطولوجيا الشاملة L’Ontologie Universelle.
١٣  الأولية Axiome. انظر الباب الثالث، الفصل الثاني: تكوين الظاهريات.
١٤  عالم الحياة Lebenswelt.
١٥  الاتجاه الواقعي في الظاهريات عند ماكس شيلر نجد مصدرها في الموضوع الواقعي، وهو الموضوع الأخلاقي.
١٦  انظر الباب الثاني، الفصل الثالث: تأويل الظاهريات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤