(١) الحركية في الظاهريات٤
تَسري بعض الحركية في الظاهريات؛ فالتمييز بين صورة
الشعور ومضمون الشعور لا ينطبق فقط على ميدان الحكم، بل
أيضًا على الدائرة الوجدانية والإرادية،
٥ ولكن يظل
تحليل القيمة والقرار، وهما الموضوعان المأخوذان كمثلَين
للميدانين، على المستوى النظري، وكأن العقل العملي جزء من
العقل النظري؛ فقد تم تنظير العقل العملي مثل العقل
النظري. وباختصار، أُعطيت الأولوية للعقل النظري على العقل
العملي أو رد العقل العملي كليةً إلى العقل النظري، على
عكس الفلاسفة بعد كانط الذين ردُّوا العقل النظري إلى
العقل العملي خاصةً فشته.
٦ وإن قيمة ظاهريات الشعور العاطفي والإرادي هي
في نفس الوقت بحث في إيضاح مشكلة تكوين القيم.
٧
وتظهر أولوية العقل النظري على العقل العملي أيضًا في
بحث التركيبات العقائدية، وهو الميدان النظري، في الدائرة
العاطفية والإرادية.
٨ فقد تم تحليل «الحب» كظاهرة يمكن تركيبها عن
طريق حرف العطف «و» أو حرف البدل «أو»، وتم تحليل أفعال
دائرة العواطف من أجل معرفة إلى أي حد يمكن التعبير عن
أحكام قائمة عليها! فتحوَّلت مشكلة الفعل الوجداني إلى
مشكلة الحكم النظري.
٩ والحقائق النظرية والقيَمية والعملية هي أنماط
عقلية مختلفة ومتشابكة؛
١٠ فالحقائق العملية تلحق بالحقائق النظرية، ثم
تنتقل إلى مستوى التعبير والمعرفة في صورة حقائق اعتقادية.
وهي حقائق منطقية على وجه التخصيص. وتُحل مشكلة العقل كما
هي موضوعة في دائرة الاعتقاد قبل حل مشكلة العقل الأخلاقي والعملي.
١١
وتجمع نظرية الأفعال التركيبية في نفس الوقت التركيبات
التي تمَّت طبقًا لأشكال الأنطولوجيا الصورية مع الأفعال
القيمية الوجدانية والإرادية. هنا توضع كل الأفعال النظرية
في نفس المجموعة. وللأفعال العملية شروطها في الأشكال
القيَمية الخالصة. وفي هذه الأشكال التركيبية المتعلقة
بهذه الدوائر يكمن بالفعل شرط إمكانية الحقيقة القيمية
والعلمية. وتنقلب كل العقلانية القيَمية والعملية الحقيقة
القيمية والعملية إلى عقلانية اعتقادية؛ ومن ثَم يتحول
العمل إلى نظر. وتكون حقيقة «البراكسيس» في «اللوجوس».
١٢
وفي تكوين الطبيعة المادية ثم تحليل الموضوع المادي في
مخطط الحركة والتغير في إطار وصفي نظري خالص من أجل
الانتهاء إلى استقلال الأشياء بالنسبة إلى ظروفها،
١٣ وفي تكوين الطبيعة الحية (المتحركة) ثم
الإثبات السريع لوحدة «الأنا» الخالص في تغيره.
١٤ واستُقطب الفعل بين «الأنا» من ناحية والموضوع
من ناحية أخرى.
وفي تكوين عالم الروح، تم التعرض للمشكلة العملية بطريقة
أوضح في أثناء تحليل الباعث باعتباره القانون الأساسي
لعالم الروح،
١٥ وتم تحليل «الأنا أقدر» تحت عنوان «الشخص»
كذات وكملكة العقل، وباعتبارها «ذاتًا حرة». وما تم تكوينه
هي فقط الأشياء باعتبارها أشياء منزوعة من أي صفة عملية أو
قيمية. اعتُبرت «الأنا أقدر» فقط كإمكانية منطقية أو
كاستحالة منطقية عملية، كشعور أصلي للقدرات (قوة ذاتية،
ملكة، مقاومة).
١٦ وتتجلى الإمكانية العملية في الفعل الإرادي،
ويمكن تجاوز العقبة أمام الفعل أو لا يمكن. والمثل المضروب
لتحليل الحركة هو رفع اليد لإثبات إمكانية العمل؛
١٧ فإذا وُضعت الطبيعة أولًا كموضوع عملي ثم كطرف
للبواعث التكوينية، فإنها تضع في نهاية الأمر ميدان العمل.
١٨ ومع ذلك فإن التمييز بين الإمكانية المنطقية،
الحكم، والإمكانية العملية، الفعل، أو بين الحركة
المباشرة، حركة اليد، والحركة المتوسطة، حركة المائدة تظل
تأملية خالصة. فهل تحليل الحركة هي لحركة اليد؟ فضلًا عن
ذلك فإن تغييرات الحياد في فعل عملي تضع صورة الشعور
ومضمون الشعور كفعلين متقابلين، كما اعتُبر الفعل العملي
مشابهًا للفعل الاعتقادي، و«البراكسيس» في موازاة
«اللوجوس». وأخيرًا استعمل «الأنا أقدر» كدليل على تقدير
الذات لنفسها وللبداهة، «أنا أقدر فأنا إذن موجود». وبعد
إثبات بداهة وجودي بواسطة «الأنا أقدر» أستطيع أن أعرف أسس
البواعث واتجاهاتها وقواها، أستطيع أن أوضح أحدها، وأقوِّي
الأخرى، وأثبت الثالثة.
١٩ وينتهي تحليل «الأنا أقدر» إلى وصف الحركة،
حركة اليد، والانتهاء إلى فعل الاعتقاد أو إثبات وجودي،
بداهته وبواعثه. فإذا أثبتت الذات الفاعلة والذات
الوجدانية الحرية فقد تم التعرض لهما فقط في تحليل نظري
للخبرة اليومية. وبسرعةٍ تم تغليف تطور الأنا المتحرك إلى
الأنا الإنساني في تحليل الذات كمُعطًى.
٢٠
وقد تم تحليل الجسد باعتباره عضو الإرادة أثناء وصف
مجموعة من الحساسية، حساسية الحركة. صحيح أن حركة الشيء
المادي متميزة عن حركة الشيء المتحرك؛ إذ تُعتبر هذه
الحركة الأخيرة فعلًا؛ فالجسد له دوره في التعبير بالحركة
عن حرية الذات في العالم.
٢١ ومع ذلك يظل هذا التحليل على مستوى الوصف
النظري الخالص لحركة الجسد في العالم.
وقد استُبعد العمل من المنطق كوصف معياري،
٢٢ وتُرك جانبًا كل تصور نمائي يعتمد على مبدأ التطور.
٢٣ ظهرت الحركية في التمييز بين الوحدة السكونية
بين الفكر الذي يعبر والحدس المعبَّر عنه أي المعرفة من
ناحية والوحدة الحركية بين التعبير والحدس وهو الوعي
بالملاء وبالهوية من ناحية أخرى.
٢٤ وتوجد علاقة الوحدة السكونية عندما يتأسَّس
الفكر الذي يعطي الدلالة على الحدس، ويتعلق بهذه الطريقة
مع موضوعه. وبصرف النظر عن هذا التوافق السكوني اللاحركي
بين الدلالة والحدس يُوجد أيضًا توافق حركي، وهو الشعور
بالامتلاء، ويوجد كنتيجة متواصلة تتحقق في الزمان، بينما
توجد العلاقة السكونية كنتيجة دائمة من هذه العملية
الزمانية؛ فالحركية في الظاهريات تظل أيضًا امتلاءً؛ أي في
علاقة بالمعرفة، وحتى على الرغم من وجود تدرُّج في
الامتلاء «الخرساني» أو امتلاء كامل في المادة القصدية يظل
ذلك دائمًا بالنسبة للوظيفة المعرفية للقصدية.
٢٥ وإذا تم التعرض للحرية فإنها حرية تكوين
المقولات للمواد المعطاة سلفًا؛
٢٦ ومن ثَم فإنه أثناء الفترة الأولى ما قبل
تكوين المنهج الظاهرياتي كانت حركية الفعل لها مكانها في
سكونية المعرفة.
وإذا أراد مبحث القيم، باعتباره علمًا محكَمًا، التخلص
من سيطرة النزعة الطبيعية فهو ليس الوحيد الذي عليه ذلك،
بل على كل علم أن يفعل ذلك، وقد نسب العمل إلى النزعة
الطبيعية التي على مبحث القيم التخلص منها. والبرجماتية
والوضعية كلاهما ينتميان إلى الفلسفة الطبيعية.
٢٧
وبعد تكوين المنهج الظاهرياتي وفي تطبيقاته المثالية في
المنطق الصوري، ظهرت الحركية كنشاط أصلي للحكم بالنسبة
لتغيراته الثانوية؛
٢٨ فالحكم أساسًا حكم فعال، ويمكن أن يولِّد
أحكامًا أخرى. والحكم بطريقةٍ فعالة هو توليد «موضوعات
فكر»، وتشكيلات للمقولات. وهذا هو معنى «أنا أقدر». ويمكن
أن يتكرر ذلك باطراد وإلى ما لا نهاية، ليس الحكم الفعال
هو الشكل الوحيد للحكم، إنما هو الشكل الأصلي، والأنماط
الأخرى إنما هي تغيرات قصدية. للقصدية إذَن تفسير سكوني،
تفسير «الفكرة» والقصد، وتفسير نشوئي تكويني موجَّه إلى
المجموع العياني كله يوجد فيه كل شعور وموضوعه القصدي من
حيث هو كذلك، والتكوين الزماني للقصدية هو تاريخها.
وتوجد أيضًا آثار نشوئية مزدوجة؛ إعادة التذكر وإعادة
الإدراك، كتنويعات قصدية على النمط الأصلي، إعادة التذكر
السلبي له أثره على تكوين الحكم كوحدة تفرض نفسها، وظهور
فكرة كانبثاق لإعادة الإدراك مثل انبثاق إعادة التذكر
السلبي. هذان المظهران يكوِّنان أنماطًا غير أصلية
للأحكام؛ ومن ثَم يمكن أن تتحول الأنماط السلبية للمعطى
إلى إيجابية بطريقة إرادية أو لا إرادية. يمكن إعادة تنشيط
الحكم؛ فالحكم أصلًا منتج بنشاطه الأصلي أو بتنشيطه
أحكامًا تم الحصول عليها من قبل، واللغة كنشاط ارتباطي
يقابلها النشاط المنتج للحكم.
٢٩
وتظل هذه الحركية التي تظهر في النشاط وفي إعادة النشاط
على المستوى النظري،
٣٠ ولا يكون عملًا فعليًّا في العالم، بل مجرد
نشاط للوعي القصدي.
وتتطلب العودة إلى الأشياء ذاتها من الذات مسارًا من
الاتجاه السلبي إلى الاتجاه الإيجابي، من السلبية إلى
الإيجابية، وموازاة لذلك مسارًا آخر للموضوع من حالة
الإمكان إلى حالة الفعل. العودة إلى الأشياء ذاتها هي عود
إلى الواقع، وإعادة تنشيط للذات في علاقتها بالواقع.
٣١
وتظهر من جديدٍ مواضيع إمكانية الحياة القصدية،
للاسترجاع والاستباق أو إمكانية الدائرة الأصلية، لحركة
الجسد، بنفس الطريقة التي ظهرت بها بعد تكوين المنهج الظاهرياتي.
٣٢ وتعود الحركية للظهور أيضًا في نفس موضوع
النشوء بالتعارض مع السكونية، والفعال بالتعارض مع السلبي.
٣٣ والحالات الحية توجد معًا في آنٍ واحد أو على
التوالي، والزمان هو الشكل الشامل لكل تكوين يتعلق بالذات،
ولا تسيطر العلية على التكوين بل يُحركه الباعث الذي يعطيه
وحدته وتاريخه؛ فالظاهريات إما سكونية أو حركية، تصاغ
الظاهريات السكونية أولًا، ووصفُها مماثل لوصف التاريخ
الطبيعي الذي يدرس الأنماط الخاصة وينظمها بطريقة نسقية،
أما الظاهريات الحركية فإنها تتعرض لمشاكل تكوين الأنا
متجاوزةً الشكل البسيط للزمان، وهكذا يكون من الملائم
التمييز بين الفكرة السكونية والفكرة الحركية، الفكرة
السكونية هي الماهية في حين أن الفكرة الحركية هي الوجود،
بناء حياة النشاط أو الصيرورة.
٣٤ وتمرُّ الزمانية الداخلية بخمس مراحل: التذكر،
والاسترجاع، والحضور، والاستباق، والانتظار.
٣٥
ويؤدي التمييز بين التكوين الإيجابي والإيجاب السلبي إلى
تمييز آخر بين العقل العملي والعقل المنطقي.
٣٦ في التكوين الإيجابي تتدخل الذات كاحتواء، وهي
وظائف العقل العملي بالمعنى العام والمحتواة فيه،
٣٧ وبهذا المعنى يكون العقل المنطقي هو أيضًا
العقل العملي؛ ومن ثَم فإن العمل ليس خاصًّا بالسلوك بل
يحتوي على كل نشاط الشعور.
٣٨
وفي مَعرض البحث عن الظاهريات كفلسفة أولى يتم استعراض
تاريخ الفلسفة. هناك تقدم في الشعور المشترك بين الذوات؛
٣٩ إذ يكشف كل عصر عن أحد جوانب الفلسفة الترنسندنتالية،
٤٠ والتطور له اكتماله في البنية، وتتكون الفلسفة
الأولى أولًا من تاريخ نقدي للأفكار حتى يظهر اكتماله
التدريجي من خلال التاريخ،
٤١ وبعد ذلك تتكون من نظرية في الرد الظاهرياتي
يضع تاريخ الأفكار بين قوسين لإدراك البنية المستقلة لصيرورته.
٤٢
وفي نظرية الرد الظاهرياتي لا تكاد الحركية تظهر؛ إذ يتم
البحث عن الفلسفة كباعث.
٤٣ الحاضر حياة للاستكشاف، تجد هويتها في الأنا.
٤٤ والوعي بالذات نشاط من أجل تأسيس علم شامل،
وكلا النظر والعمل ينتميان إلى هذا النشاط؛ الأول لتأسيس
علم شامل، والثاني من أجل إقامة نتاج حضاري. الأولى غاية
أبدية، في حين أن الثانية غاية زمنية (أرضية).
٤٥ ويسمح الرد الظاهرياتي بمسارات دائمة من أجل
تجليات مضامين القصدية.
٤٦ وفي الفلسفة الترنسندنتالية لا يوجد تحليل
نهائي، بل توجد دائمًا بدايات ثم بدايات جديدة.
وفي دراسة «علم النفس الظاهرياتي» تعود إلى الظهور نفس
الموضوعات التي تشير إلى بعض الحركية. الشعور له خاصية
التوجه والإرشاد.
٤٧ ويتم تحليل الشيء طبقًا لتنويعاته وتغيراته
بالنسبة للفكرة كعامل متغير.
٤٨ وتستطيع الأنا أن تجد نفسها ككلام في حالة
نشاط أو في حالة عادية.
٤٩ والقليل من الحركية تم تقليصها كتكوين زماني
من أجل إدراك بنية نظرية لا زمانية.
وأخيرًا تظهر الحركية بوضوح في وصف تطور الحضارة؛
فالتاريخ أساسًا تاريخ غائي،
٥٠ له غاية لتحقيقها. وتكشف كل مرحلة من التاريخ
أحد جوانب المثال. التطور تشييد للمعنى.
٥١ ويتأسس العلم تدريجيًّا في الذاتية المشتركة.
٥٢ ويولد كل موروث قديم بواسطة إنتاج إنساني ينمو
على نحو نسقي حتى تنكشف البنية الشاملة للماهية.
٥٣
وتمَّت دراسة تطور الحضارة من أجل الوصول إلى بنية
التجربة المشتركة الترستندنتالية. كان الهدف من البحث عن
بواعث الحضارة اكتشاف الأسباب الداخلية لتكوين العلوم أو
الطبيعة أو الروح،
٥٤ ومن أجل فهم أنماط البنية التاريخية من
الضروري إدراك البواعث وراء الوحدة، والتي تُسيطر على التطور.
٥٥
وقد وُجد حل أزمة العلوم الأوروبية في حركة تحول أي
عملية عود إلى المعيش،
٥٦ وكل الفلسفة في العصور الحديثة ليست إلا
نضالًا من أجل الإنسان.
وقد نُسبت إلى الحضارة الأوروبية صفة خاصة هي الاتجاه
النظري، وفي مقابل ذلك نُسب الاتجاه العملي إلى المجتمعات
التي تجري وراء همومها المادية! الفلسفة، ميزة أوروبا على
غيرها، ليست لها أي غاية عملية.
٥٧ صحيح أن المعرفة على علاقة بالعمل، بل ويجب أن
تكون كذلك، وإلا انقسمت الحضارة إلى ميدانين متباعدين، ومع
ذلك العلاقة بينهما علاقة الأنواع. النظرية نوعٌ أرفع في
حين أن العمل نوعٌ أدنى. لا تنفصل النظرية عن العمل، بل
هناك مركب بين الشمول النظري وفوائد العمل.
٥٨ ومع ذلك تظل السيادة للمستوى النظري في حالة
إذا تسلَّطت التقنية النظرية كما تسعى إلى ذلك النزعة
الطبيعية؛ ومن ثَم تراجع العمل إلى الدرجة الثانية في
الظاهريات، وناضلت ضده باعتباره نزعةً طبيعية، ونُسبت إلى
المجتمعات اللاأوروبية كمجموع عملي أسطوري ديني غايته
الرئيسية المصالحة بين الإنسان والقوى الخارجية من خلال
الجهد الصوفي. لا توجد «نظرية» إلا في أوروبا.
ويوضع نسيان الذات في نظام النشاط العملي والنشاط
الوجداني مثل عديد من القيم الأخرى. الحب الخالص، الحب
الشامل للجار، الحب المطلق.
٥٩
وليس الكمال من يُنازع فيه، بل رؤية رسالة. ليس «الله»
فعلًا، بل هو دائمًا في صيرورة. لا يكون إلا عملية تتحقق
فيها الألوهية بذاتها.
٦٠
وقد تمَّت دراسة العقل العملي في البحوث الأخلاقية فيما
يتعلق بميدان الوجدان؛ ونظرية القيم، والجمال، والأخلاق.
٦١ وتسود كلَّ هذه البحوث الموازاةُ بين المنطق
والأخلاق، أو بين العقل النظري والعقل العملي. وتقدم
البحوث المنطقية النموذج للبحوث الأخلاقية، ثم بحث علم
الأخلاق كعلم قبلي داخل أنطولوجيا صورية؛ ومن ثَم فإما أن
تُحال المشكلة الخلقية إلى المنطق أو إلى القبلي. هذا
بالإضافة إلى أنه لم تتم دراسة
المشكلة الخلقية على
نحو نسقي كما هو الحال في «المنطق الصوري والمنطق
الترنسندنتالي» أو في «اللازمة». وهذا يعني أن الأخلاق لم
تكن إلا نقطة تطبيق لنتائج تم الحصول عليها من قبل في
«بحوث منطقية». ومع ذلك يقدم مجموع المخطوطات مخططًا
ثلاثيًّا للمشكلة الخلقية؛ أولًا وضع الأخلاق داخل
الظاهريات، ثانيًا فكرة أخلاق خالصة، ثالثًا مخطط الأخلاق
التي تقترحه الظاهريات.
- أولًا: بعد تحوُّل الفلسفة إلى ظاهريات، وبعد
تأسيس الظاهريات كمنهج، أُحيلت الأخلاق
إلى المنطق دون أن تكون ميدان تطبيق، مثل
المنطق، للمنهج الظاهرياتي الذي تم تكوينه
من قبل. وبتعبير آخر، امتدَّ المنطق على
الأخلاق دون دراسة المشكلة الخلقية في حد
ذاتها. وقد رُفضت النزعة النفسية في
المنطق وفي الأخلاق على حدٍّ سواء، كما تم
رد الطبيعة المادية في المنطق وفي الأخلاق
معًا، وتم تفنيد النزعة الصورية في
العلمين معًا. وباختصارٍ كتبت «بحوث
منطقية» مرة ثانية في الأخلاق دون معرفة
عما إذا كانت الموازاة المنطقية الأخلاقية ممكنة.٦٢
- ثانيًا: توجد الموازاة الأخلاقية المنطقية أيضًا
في البحث عن أخلاق خالصة كعلم قبلي. وإذا
كان المنطق تقنية المعرفة، فإن الأخلاق
تقنية السلوك. توجد العمومية والشمول
والموضوعية في الأخلاق، ونموذجها عمومية
الرياضيات وشمولها. وبالرغم من رفض كل
موازاة بين الأخلاق والرياضة، وبين
الأخلاق والطبيعة، وبين الأخلاق واللاهوت،
إلا أن هذه الموازاة قد قُبلت في النهاية
بين الأخلاق والمنطق. فإذا رُفضت
العقلانية والصورية من الأخلاق، فكيف تصبح
الموازاة الأخلاقية المنطقية ممكنة دون
الرجوع إلى العقلانية والصورية
المستبعدتين؟ وطبقًا لهذه الموازاة منطق
العواطف له نموذجه في منطق الأحكام.
وأخيرًا، الأخلاق الخالصة علم معياري يتخذ
المنطق معيارًا.٦٣
- ثالثًا: يُطبق المخطط المنطقي إذَن في الأخلاق.
وكما ينقسم المنطق إلى منطق نظري، وهو علم
معياري، ومنطق عملي، وهو تقنية المعرفة،
كذلك تنقسم الأخلاق إلى مبحث القيم النظري
والعمل الخالص. وكما ينقسم المنطق إلى
منطق صوري ومنطق مادي، كذلك ينقسم مبحث
القيم الصوري إلى مبحث القيم الصوري ومبحث
القيم المادي. وكما ينقسم المنطق العملي
ينقسم إلى صوري ومادي،
كذلك
ينقسم العمل الخالص إلى عمل صوري وعمل
مادي. وهكذا تُطبق مبادئ الهوية وعدم
التناقض والثالث المرفوع في القيم، وأُخذت
هذه القضايا من المنطق الصوري كنماذج
لقضايا مبحث القيم الصوري. وهكذا أصبح
مبحث القيم مبحث المصادرات! وأُخذت
القضايا الشرطية المتصلة والمنفصلة كنمط
علاقات قبلي للقيم؛ كبير وصغير، كثير
وقليل، كلٍّ وجزء. ويتبع أيضًا اختيار
القيم قوانين كمية على التفضيل.٦٤ وتم أيضًا تحليل العمل الصوري
طبقًا لقياس مسبق بين حقيقة الإرادة
وحقيقة الأحكام.٦٥
قد يكون في هذا المخطط المقترَح تطبيق للمنهج الظاهرياتي
من أجل الكشف عن القصدية في الأخلاق؛ فمبحث القيم هو صورة
الشعور، والعمل هو مضمونه. وفي مبحث القيم، مبحث القيم
الصوري هو صورة الشعور، ومبحث القيم المادي هو مضمون
الشعور. وفي العمل، العمل الصوري هو صورة الشعور، والعمل
المادي مضمون الشعور. والحقيقة أن هذه القسمة إلى صوري
ومادي مستمدة من المنطق كنموذج للأخلاق. وهكذا فإن
الموازاة الأخلاقية المنطقية، وليست القصدية الأخلاقية، هي
أساس هذا المخطط المقترح للأخلاق.
وكل مصادرات
للأخلاق هو «رد» لمستوًى إلى مستوًى آخر بالرغم من أن
المستويَين مُتمايِزان. بين العقل والواقع هناك اختلاف في
النوع. وكل قسمة عقلية، مهما كانت جامعةً مانعة، لا تغطي
كل جوانب الواقع. الواقع أكثر اتساعًا من كل قسمة عقلية.
تُقدم كل قسمة عقلية حلولًا آلية تمامًا، في حين أن الواقع
له طبيعة حركية تهرب من كل اختيار آلي. تضم القسمة العقلية
إمكانيات محدودة للحلول، في حين أن الواقع يُقدم دائمًا
حلولًا جديدة.
الأخلاق علمٌ إنساني، ينتمي إلى منطق الظاهرة الإنسانية،
لها مستواها الخاص، ولا يمكن ردها إلى الرياضيات أو إلى
المنطق. يأخذ منطق الظاهرة الإنسانية في الاعتبار:
الانقطاع، عدم القدرة على التنبؤ، وعدم الرد، وأحيانًا عدم
القدرة على الفهم للظاهرة الإنسانية، ويقتضي الانتقال من
مستوًى إلى آخر قفزة؛ إذ يهرب مسار تطور الظاهرة من حتميةِ
قانونٍ ما حتى ولو كان ساكنًا أو محتملًا، طبيعة مضمونه
مخالفة لطبيعة التصورات. الظاهرة الإنسانية تجلَّت للوجود
الذي يهرب من المعرفة؛ فالحياة أحيانًا غير الفهم.
وتبلغ ذروة إنكار الحركة في أعمال هوسرل في كتاب «الأرض
لا تتحرك»، يقلب فيه الثورة الكوبرنيقية في دوران الأرض
إلى ثوره مضادة في ثبات الأرض، ويتعرض لمفاهيم المكان
والجسد والكرسي والأرض من أجل تحويل مفاهيم علم الطبيعة
إلى نظرة مثالية للعالم، وهو أشبه بمحاضرات «التحليل
الداخلي للزمان» لعام ١٩٠٥م. وعلى منواله نسج هيدجر «نشأة
العمل الفني»؛ فنحن نسير على البسيطة، ولكن الأرض هي كوكب
مثل باقي الكواكب، لها فلكٌ ثابت يجعل معنى الحركة والسكون
ممكنًا. ونسير في المكان حيث تختلط حركة الجسد وسكونه
بالكرسي الذي أجلس عليه، ولا يتكون المكان من أنماط متعددة
لتجسدي ولميادين مختلفة لحساسيتي، نحن نسير وسط الأشياء،
فكيف تتكون إذَن طبقًا للأساس الحاضر لإدراك العالم المحيط
الخارج عني؟ وكان قد تعرَّض هوسرل لنفس الموضوع في مخطوط
سابق (نشأة العالم) عن نشأة العالم في الشعور لحظةَ الوعي
به، وليس خلقه كما هو الحال في اللاهوت الطبيعي وفي علم الكونيات.
٦٦
ينشأ المكان في الشعور، وتنشأ الحركة فيه. فأنا الذي
أتحرك وليس الأرض، وأول صلة بالعالم هو الكرسي الذي أجلس عليه.
٦٧ الحركة والسكون بُعدان للجسد في المكان،
وكلاهما قصد للتوجه في العالم. وليس العامل هو الذي يتحرك
في الجسم، ولو قفز الجسم فوق العالم فإنه أيضًا يتحرك فيه
وليس خارجه. العالم ميدان للتوجه وميدان لحركة الجسم.
العالم صفة للجسم، والحركة والسكون صفتان للجسم. المكان
البصري خداع ناتج عن الإدراك، المكان الخارجي بين قوسين،
ولا يوجد إلا المكان كبعد للجسد.
الحاضر الحي هو الوحدة التصورية لمعطيات الإدراك الحسي،
هو العالم الأول قبل العالم الثاني خارج الشعور، ثم يأتي
تكوين الآخرين والكرسي كأول موضوع للعالم المحيط خارج مكان الجلوس.
٦٨
(٢) الحركية في التطور اللاحق للظاهريات وتحوُّلها إلى
أنطولوجيا ظاهراتية٦٩
يوجد في الظاهريات تيار أخَذ الحركة كمخطَّط «دينامي»
رئيسي، وهو تيار فلسفي أكثر منه تيارًا منهجيًّا.
٧٠ ويظل «العالم المعيش» الذي بدأت منه الظاهريات
في كل قوته كدافع وانبثاق وتقدم نحو المستقبل، إلا أنه
يتحول إلى الطرف الآخر رافضًا أي عملية تقوم على مخطط وكل
بطء منهجي.
٧١
ولم يتم تحليل العواطف والانفعالات أو القيم دائمًا تحت
عنوان الظاهريات،
٧٢ بل يُستعمل هذا اللفظ أحيانًا داخل التحليل
ملحقًا بلفظ آخر أو بمفرده،
٧٣ ويتم على العموم تحليل الحياة العاطفية
مباشرةً دون تطبيق بالمعنى الدقيق للمنهج الظاهرياتي. وقد
تم وصف الحقد، الحياء، الألم، الحب، المأساوي … إلخ دون
الاستعانة بأي مصطلحات ظاهرياتية. يأخذ المؤلف على عاتقه
مسئولية تطوير الظاهريات وتفسيرها بطريقته الخاصة.
٧٤
وتتطور الظاهريات
مرةً أخرى كي تصبح أنطولوجيا وجدانية،
٧٥ وتتسم باتجاه موضوعي وواقعي طبقًا للطبيعة
العيانية للمشاكل المعروضة، وهي المشاكل الأخلاقية
والدينية، تعطي الأولوية للوجود على المعرفة، وصُنف مؤسس
الظاهريات بين المفكرين الذين انشغلوا بالمشكلة الأساسية
لكل نظرية في معرفة العلوم الأخلاقية؛
٧٦ فهو أخلاقي أكثر منه إبستمولوجي، وفي المعرفة
اعتُبر مناصرًا للمثالية الغنوصية.
٧٧
ومن ثَم أصبحت القصدية العقلية قصديةً وجدانية، والقيمة
موضوع الوجدان الذي يتجه إليها. وإذا كان عالم الماهيات
المنطقية دائمًا في علاقة تضايف مع المسارات العقلية التي
تسمح لها بالظهور، كذلك يظهر عالم القيم كإجابة على كل
المسارات القصدية.
٧٨
ليس الرد
الظاهرياتي فقط عملية منطقية بل قلبٌ داخلي للوجود، ليس
مجرد توقف عن الحكم بل مشاركة فعلية في تكوين الموضوع، هو
اتساع وتعميق لهذا الزهد الذي يبدأ المعرفة الفلسفية
ويصاحبها؛ ومن ثَم فإن مؤسس الظاهريات لم يعمِّق بما فيه
الكفاية طبيعة «لحظة الواقع»، وتصور الرد على نحو منطقي
خالص تمامًا؛ فإذا أصبحت الأشياء ظواهر عند مؤسس
الظاهريات، فإن الظواهر تصبح أشياء في الظاهريات الوجدانية؛
٧٩ لذلك اعتُبر الرد الظاهرياتي «لا» قوية تُعارض
الواقع. الواقع ليس شيئًا ميتًا أعطى فيَّ حساسية خاصة، بل
هو إحساس بالمقاومة بالنسبة لدافع أو ميل أو دفعة حيوية
تُحرك الشعور. رد العالم ليس فقط التوقف عن الحكم على
الوجود، بل محاولة القضاء على صفة الواقع ذاته وإعدامه.
الرد هو استبعاد هذا الهم الأرضي عن طريق تحويل العالم إلى
مثال، والذي هو في الحقيقة زهد.
٨٠ وكما تميِّز الظاهريات بين المستوى الصوري
والمستوى المادي، فإنها تميِّز أيضًا بين الإحساس الوجداني
والحالة الانفعالية في الحدس الوجداني.
٨١
وفي نظرية الإدراك الحسي الخارجي تُعتبر لحظة التخارج
عصية على الرد وعلى التفسير بمجرد إسقاط الإحساسات.
٨٢ وفي الظاهريات العقلية تُركت مشكلة الواقع بلا
حل، وفي الظاهريات الوجدانية معرفة الواقع مختلفة تمامًا
عن معرفة الماهيات، المعرفة تأمُّل نزيه وقائمة على الدهشة
والتواضع والمحبة، في حين أن الإدراك الحسي للواقع والذي
يقوم على الرغبة في السيطرة له طابع عملي، ومرتبط بالعمل
وبالتطلعات وبالإرادة؛ فالواقع يقاوم الإرادة. وهكذا تتحول
الظاهريات العقلية إلى نوع من المثالية تعزو إلى معرفة
الدافع الطابع المنزه والتأملي الذي تتميز به المعرفة
الفلسفية للماهيات. إدراك الواقع مباشر وحدسي للموضوع كله،
ويظهر في أربع دوائر للوجود عصية على الرد النفسي، والعالم
الخارجي، والعالم الإنساني، والمطلق.
٨٣
ليست الماهيات دلالات خالصة بل موجودات موضوعية، ليست
فقط معقولة بل أيضًا لا منطقية. والأفعال التي تطابقها
أفعال وجدانية ترتبط بالجانب الوجداني للروح.
٨٤ لم يعد الحدس، كما هو الحال في الظاهريات،
تطابقًا كاملًا بين الدلالة ومدلولها؛ لأنه يوجد مضامين
ليس لها دلالات مباشرة ومع ذلك هي أفعال قصدية محددة،
وهناك ماهيات ليست مرتبطةً ارتباطًا مباشرًا بالدلالات،
ماهيات لا منطقية ولا عقلية خارج المعقولات. ظاهريات القيم
ميدان للبحث مستقل تمامًا، ولا يعتمد على ما يؤسس المنطق.
هناك إذَن قصدية عاطفية لا يمكن الوصول إليها، وعصية على
القصدية العقلية.
٨٥
وفي الظاهريات كل الماهيات تتصف بالعمومية، ومضامينها
عامة دائمًا، وفي الظاهريات العاطفية مضامن الماهيات
اللاعقلية فردية تمامًا على نحوٍ فردي كامل.
٨٦ وتمتلئ الرموز تمامًا بالحضور الشخصي
للشيء.
وتُوظف حدوس الماهيات بتحولها إلى معايير تنظم استعمال
الذهن المتجه نحو الوقائع الحادثة. وتوجد هذه الظاهرة في
الوظائف العاطفية وأيضًا في الإرادة.
٨٧
ويمكن تمثيل التحول من الظاهريات العقلية إلى الظاهريات
الوجدانية بالتحول من الشعور إلى الشخص؛ فالشعور القصدي
ليس هو شعور الأفعال الخالصة بل شعور الأفعال الوجدانية.
هذا بالإضافة إلى أنه لا يوجد شخص على العموم، كما يوجد
شعور شامل، بل يوجد فقط أشخاص عيانية وفردية.
٨٨
ولا يكفي التحول من الظاهريات العقلية إلى الظاهريات
الوجدانية لتحويل الظاهريات السكونية إلى ظاهريات حركية؛
ففي الظاهريات الوجدانية، الحب، ولا شك، حركة إلا أنه ليس
خالقًا، بل فعلٌ قصدي كما هو الحال في الظاهريات العقلية؛
ومن ثَم يُستبعد كل نشاط خلَّاق في سكون عالم الماهيات.
ويظل المنهج الظاهرياتي في الحدس الوجداني منهج تحليل
معزولًا، يمنع من أي تضارب للماهيات. ويتجلى غياب النشاط
الخلاق في الشخصية، وفي الفعل، وفي الماهية، وفي الإرادة.
صحيح أن الشخصية يمكن أن تتغير ولكنها لا تخلق نفسها
بنفسها بالفعل. والفعل في الظاهريات فعل الشعور أو فعل
الوجدان، ليس فعلًا حقيقيًّا؛ فالشخص ليس جوهرًا ثابتًا بل
مركزٌ ممكن للنشاط الخلاق، تنفتح أمامه دائمًا إمكانيات
جديدة، ويظل الفعل التركيبي بين الاستقلال والتبعية فعلًا
تأمليًّا من متفرج أكثر منه فعلًا مباطنًا لرسالة الإنسان.
ليست الماهية كيانًا ساكنًا بل هي خلق مستمر يُنتجه نشاطٌ
خلاق. وأخيرًا للإرادة أيضًا قصديتها في «الحدس-الفعل»،
وليس في مجرد حدس لا عاطفي. وباختصار لو كانت القيم
الساكنة في مواجهة الحدس الوجداني، فإن القيم الخلاقة تكون
في مواجهة «الحدس-الفعل».
٨٩
ويغيب أيضًا النشاط الخلاق في الظاهريات الوجدانية من
وصف القيم التي ما زالت منفصلة عن الحدس الإرادي، وغياب
النشاط الخلاق هو أيضًا غياب للحرية؛ فالحرية للفعل دائمًا
وليست إلا للفعل. وأخيرًا يغيب النشاط الخلاق في الظاهريات
الوجدانية في ازدواجية بين القيم الشخصية والقيم
اللاشخصية. توجد القيم الخلاقة في القيم بين الشخصية.
٩٠ ومع أن التحول من الظاهريات العقلية إلى
الظاهريات الوجدانية خطوة كبيرة نحو الظاهريات الحركية،
إلا أن النشاط الخلاق ما زال بعيد المنال.
٩١
وحتى لو تضمَّنت الفلسفات المتولدة عن الظاهريات بعض
الحركية واقتربت من الحياة الفعلية، فإنها تقدِّم أساسًا
اكتشافًا للوجود تظهر فيها الحركية في الزمانية،
٩٢ وقد تظهر في الفعل،
٩٣ وقد تظهر في حركة الجسد،
٩٤ ومن اللازم للظاهريات قبل أن تكون بحثًا في
الوجود أن تكتشف العالم في جانبه الحركي. وتصبح كل هذه
الحركات تدريجيًّا فلسفات مستقلة أكثر منها بحوثًا
ظاهراتية بمعنى الكلمة، ومن الصعب إيجاد صلة بين مناهجها
وأساليبها ونتائجها والظاهريات. كان كل باحث ظاهراتيًّا في
البداية، ثم أصبح فيلسوفًا كامل المسئولية في
النهاية.
وفي التحليل الوصفي للوجود توجد الحركية في التاريخانية
كبعد في الوجود الإنساني.
٩٥ والتحليل الوصفي للوجود، طبقًا للمعنى
الاشتقاقي للفظ، تحليل هو بالضرورة تفكيك نظري لكلٍّ شامل.
والعنصر الوحيد الذي يمكن اعتباره حركيًّا هو التاريخانية؛
أي تحديد الوجود الإنساني بالميلاد والموت،
٩٦ ويتحقق استمرار الحياة في الزمان بين البداية
والنهاية، ومن خلال التغير المستمر للحالات المعيشة تظل
الأنا في نوع من الهوية. ليست حركية الوجود هي مجرد حركة
الدافع البسيطة؛ أي الشيء المعطى؛ إذ تتحدد هذه الحركية
بامتداد الوجود الإنساني، هذه الحركية هي التاريخي.
٩٧ ولا يقوم المشروع الوجودي لتاريخانية الوجود
الإنساني أكثر مما كان موجودًا من قبل مطويًّا في «تزمين الزمانية».
٩٨ الموجود في وجوده هو وحده الذي له مستقبل في
الموت، وظواهر النقل والتكرار متجذرة في المستقبل.
وهكذا تظهر الحركية في تاريخية الوجود الإنساني. حركيته،
من الميلاد إلى الموت، نهائيته. ومع ذلك حركية الفعل
الخلاق والتخليد غائبة تمامًا، ليست التاريخانية والزمانية
مكونين للوجود الإنساني، بل هما أيضًا عاملان للتأبيد.
٩٩
وإذا أُخذت ماهية الفعل كمركز للتحليل، لأنه من
المستبعَد تحديدها، فإنها تؤخذ كنقطة بداية لاكتشاف الوجود
وراءه؛ ومن ثَم فإن ماهية الفعل ليست منفعتها في الواقع،
ماهية الفعل في إنجازه. والإنجاز ليس مجرد التحقيق، بل
تجلِّي الشيء في امتلاء ماهيته.
١٠٠ ويقتضي الإنجاز ما ينجز، وهو الوجود أولًا
وقبل كل شيء.
١٠١ والقدرة عنصر الفكر، رغبة الماهية أي رغبة
الوجود. وقدرة الفكر إمكانية الوجود أي واقعه، هي قدرة
الوجود أي وجوده،
١٠٢ حتى الصيرورة فإنها صيرورة الوجود.
ومن ناحية أخرى يحقِّق الفكر العلاقة بين الوجود وماهية الإنسان،
١٠٣ ليس الفكر فقط التزامًا بالفعل بل أيضًا بالحقيقة،
١٠٤ والإنسان هو حيوان ناطق.
١٠٥
والتقنية، التي تعبر عن نشاط الإنسان، طريقة الكشف عن الوجود.
١٠٦ ويعني فعل «عمل» «فعل».
١٠٧ لا يشير الفعل فقط إلى النشاط الإنساني بل
أيضًا إلى الطبيعة، طاقتها وتحققها؛
١٠٨ ومن ثَم ينتهي الفعل إلى الوجود. والانهيار
خراب عندما يوضع إنسان الميتافيزيقا، الحيوان الناطق،
كنحلة شغالة.
١٠٩ وتُعتبر ميتافيزيقا الإرادة ميتافيزيقا
الموجود وليس الوجود. ولن يغير الفعل وحده حالة العالم.
١١٠ ويعني البناء الذي يشير إلى الفعل السكن،
ويعني الوجود الفكر.
١١١ والشعر هو القوة الرئيسية في السكن.
١١٢
وتظهر الظاهريات الحركية في تحليل الفعل الذي يتحقق مرة
مع الوجود ومرة أخرى مع الملكية. الوجود والفعل يصنعان
مسألة الحرية. الفعل هو تغيير شكل العالم.
١١٣ والحرية الفاعلة للوجود الفاعل أساس كل عمل.
الفعل هو الذي يحدد غاياته ودوافعه. الفعل تعبير عن
الحرية. ليست للحرية ماهية، بل على العكس الحرية أساس كل
الماهيات. ليست الحرية شيئًا آخر إلا الإعدام. إنها العدم
نفسه داخل قلب الإنسان. إلى هذا الحد ينتهي تحليل الفعل:
الحرية العادمة ماهية الوجود.
ثم توجد فلسفة المشروع. الإنسان هو ما يفعل. الإنسان
أولًا مشروع ذاتي.
١١٤ الإنسان يختار بنفسه. والفعل الفردي يلزم نفسه
بالإنسانية كلها. وتتكون العاطفة بالأفعال، والفعل بلا
أمل.
الظاهريات تكوينية بالأساس، تبحث عن نشأة الماهية العيانية.
١١٥ ومع ذلك، يظهر الجانب الحركي كحركية في
ظاهريات الإدراك الحسي.
١١٦ صحيح أن مكانية الموضع ليست مثل مكانية الموقف
مما يسمح بالتمييز بين حركة الشيء، ويتم إدراكه بالنقاط
والأشكال، وحركة الجسد. وتدرك بالمخطط الجسدي، وهو تمييز
في علم النفس. ويظل تمييزًا علميًّا، والفعل أكثر من مجرد
طريق إلى مكانية الجسم، بل هو تجلٍّ للنشاط الخلاق كله،
ويثبت تحليل الحركية ميزة الحركات العيانية الضرورية
للحياة؛ أي ليس فقط ظهور المكان الجسدي دون قصد معرفي بل
نشأة العالم.
١١٧ صحيح أن التمييز بين الدلالة العقلية والدلالة
الحركية، بين قصدية نظرية وقصدية حركية، تدل مرة أخرى على
أن الجسد هو قوة في عالمٍ ما، ويمكن وضع هذا التمييز خطوة
أبعد بحيث تؤدي إلى الشخص كرسالة، وإلى الحياة كخلق، وإلى
الوجود الإنساني كمركز لنشاط ممكن. وإذا كان للحركية أساس
وجودي، وإذا كان لها وحدتها في «القوس القصدي» الذي يعبِّر
عن الوجود في كل علاقاته تتجاوز الحركية بنيتها كحركة
بسيطة، تكشف عن الوجود في نشاطه. وهكذا تظل الحركية كقصدية
للجسد على مستوى الواقعة، موضوعة بين قوسين؛ ماهية الحركية
هي النشاط، وماهية الجسد هي الشعور. والفرد أو الشخص هو
موقع انبثاق هذا النشاط. يظل المكان اتجاهًا طبيعيًّا.
المكان هو العالم كميدان للفعل، والعادة باعتبارها حصيلة
حركية لدلالة جديدة قد تكون دلالة، وتستطيع أن تعبِّر عن
النشاط الخلاق للذات.
١١٨
وإذا اصطدمت حركية الجسد بمسألة النشاط الخلاق بسبب
التحليل العلمي، تصطدم الحرية أيضًا بنفس المسألة بسبب
التحليل النظري،
١١٩ صحيح أن الحرية نقل النشاط الخلاق إلى المستوى
النظري الخالص، وكل تفكيك للسلوك إلى باعث، ودافع، وقرار،
واختيار، وإرادة، وموقف … إلخ، امتداد للروح العلمية
التحليلية على بداهة الوجود الإنساني، والبرهان لا يثبت
ولا ينفي واقعة ما. الواقعة من حيث هي كذلك لا تحتاج إلى
إثبات أو نفي. توجد نفسها بنفسها، تمتد أو تنكمش، تنكشف أو
تستتر، تقوى أو تضعف. إذَن التحليل العقلي للحرية، سواء
كانت موجودة أو معدومة، للأنا وللآخر، نقل لواقعة على
المستوى العقلي الخالص، ولن يتوقف العقل عن إسقاط تفكيكاته
وتجزئاته على الواقع.
١٢٠
(٣) الحركية في الظاهريات التطبيقية١٢١
إن غياب الحركية في الظاهريات تم استدراكه في الظاهريات
التطبيقية مثل «فلسفة الإرادة»، ونُقلت الحركية على
المستوى التجريبي اعتمادًا على المعطيات النفسية، ومرةً
أخرى على المستوى العقلي اعتمادًا على المعطيات الأسطورية.
وبتعبير آخر، أُدخلت الحركية مرة في الاتجاه الطبيعي ومرة
أخرى في الاتجاه الأسطوري الديني، ويُستبعد كلا الاتجاهين
بفضل الرد الظاهرياتي. صحيح أنه تم الرد في الحالة الأولى
من أجل اكتشاف قصدية ذات بنية ثلاثية: القرار، الموت،
الموافقة. والحقيقة أن الرد الظاهرياتي وحده الذي ينكر
«الواقعة» التي بين قوسين ليس كافيًا، ولا بد من إكماله
بالرد النظري الذي يستبعد كل اتجاه نفسي في بحث الماهية؛
لذلك فإن النتيجة التي تم الحصول عليها، العلاقة المتبادلة
بين الإرادي واللاإرادي، تتماس مع ماهية النشاط الإنساني
دون القبض عليها؛ ولذلك
تم اقتراح الحرية الخلاقة كمركز للأفكار المحددة لحرية
ليست خلاقة، لحرية تقوم على الباعث وحرية متجسدة تُعتبر في
حد ذاتها «يوتوبيا» الحرية.
١٢٢
الإرادي هو اختراع خالص من الغرور أو المذلة، يدَّعي
الفعل الخالق أنه إرادي، ويبرر غيابه باللاإرادي في حين أن
الفعل الخلاق لا إرادي باستمرار، تستدعيه الطبيعة. كل فعل
ينبثق من الطبيعة مركزة على الرسالة.
١٢٣
وهكذا قسَّم عقل مفرق حركية الإرادة بين التجريبي
والشعري، يقترب التجريبي من الحسي بل ومن المادي، في حين
يقترب الشعرى من العقلي وأحيانًا من الصوري. يوجد الحركي
تمامًا بين هذين الطريقين؛ أي في الإنساني. ويظل العالم
المعيش فوق التجريبي وتحت الصوري.
وقد نقلت شاعرية الإرادة الحركي على مستوًى عقلي خالص،
وخضع لتحليل ميكروسكوبي على مستوى التصورات: تحديد، اختلال
النسبة، خلط؛ ونسق ثلاثي جزئي: واقع، نفي، حد؛ أو: إثبات
أصلي، اختلاف وجودي، توسط إنساني.
١٢٤ ينتمي الحركي إلى الواقع الحي، ويتجلى بداهة.
والحركي كواقع حي يتجاوز كل ميتافيزيقا عقلية ميكروسكوبية.
١٢٥ وإن ترجمة الظاهرة الإنسانية إلى قضية عقلية
مثل ترجمتها إلى لغة رياضية؛ الأولى تستعمل اللغة،
والثانية تستعمل الرمز. من اللازم إذَن رد شعر الإرادة من
الصوري إلى الترنسندنتالي.
والتناهي شرط اللاتناهي. ويصبح تناهي الوجود الإنساني لا
تناهيًا بنشاطه الخلاق الذي يعطيه حضورًا دائمًا في
التجربة المشتركة. والعمل الذي يتم في التناهي يجعل الوجود
الإنساني لا متناهيًا في حضوره في شعور الآخرين؛ ومن ثَم
فإن الإحساس بالذنب هو
غياب أو وعي بالوجود الإنساني برسالته الخاصة. الذنب هو
جحد الطبيعة؛ فالطبيعة رسالة. الذنب إذَن هو جحد بالرسالة.
ورسالة الوجود الإنساني هي بالضبط التحول من النهائي إلى
اللانهائي. الإنسان المخطئ هو هذا الذي وُلد مرة ويموت مرة
وانتهى الأمر. ولا توجد خطيئة أولى ولا ذنب أول. الإنسان
بريء بطبيعته،
١٢٦ يكسب أفعاله، ويحرِّر «ناره» الداخلية من أجل
تحقيق رسالته.
وليس للشر وجود جذري. هو تفسير عقلي، مثل اللاإرادي،
يقوم على الغرور أو المذلة، وهزيمة الشر افتراض من الغرور،
ويقبل الشر بالمذلة. هناك فقط مستويات للوجود.
١٢٧ والفشل مؤقَّت من أجل نجاح قريب، والعقبة
قيمة، وخيبة الأمل يقين قادم، الشر انطباع وقتي خالص.
١٢٨
وقد أمكن العثور على الحركة في الظاهريات التطبيقية، ومع
المكان والزمان يمكن كتابة تاريخها الأنطولوجي القديم،
١٢٩ وبالرغم من ربط الحركة بالحركية والطاقة إلا
أنها لم تتجاوز مستوى تاريخها القديم.
١٣٠ ولم تستطِع الدخول في المنهج الظاهرياتي نفسه
من أجل خلق ظاهريات حركية.
وقد شعرت الظاهريات التطبيقية بضرورة الظاهريات الحركية،
ووضع تدرج مفهوم الوجود سؤال السكوني والحركي لمشاكل الوجود.
١٣١ وقد منعت التأملات الأنطولوجية حول الحركة في
الوجود من رؤية نسق الحركة والمنهجية الحركية لظاهريات
الفعل.
في الظاهريات التطبيقية، استدعى البراكس بين الحين
والآخر دون أن يصبح فكرة موجهة.
١٣٢ كانت موجهة نحو دراسة نظرية لموضوعات
للاستعمال أو موضوعات حضارية دون أن تؤدي إلى فلسفة مشروع
أو فلسفة فعل.
ويمثل «التركيب العملي» مقاربة إلى فلسفة الفعل.
١٣٣ والانتقال من النظري إلى العملي انتقال تأملي
خالص. ويصب التركيب العملي في أخلاق للسعادة والاحترام.
ومع ذلك هل يكفي ذلك؟ يمكن استبدال بنقد النظريات المختلفة
حول الإرادة رؤية تركيبية من هذه الجوانب كلها، وتكشف كل
نظرية عن جانب من الإرادة.
١٣٤ ويتم اكتشافها طبقًا لمزاج مؤلفها.
وأخيرًا لوحظ غياب الحركية في الظاهريات في الدراسات
الثانوية لحد القول إن الظاهريات قد تكسَّرت على حدود البراكيس.
١٣٥ وسواء كانت الظاهريات من الروح أو من الشعور
فإنها في كلتا الحالتين تأملية خالصة.
١٣٦
وقد نُقدت الظاهريات باعتبارها تفسيرًا ساكنًا للخبرة
الحية، وكنظرية لا شأن لها بالعمل، كمثالية يتجاوزها العمل
وتحليل الخبرة الحية.
١٣٧
ويدل غياب الحركية في الظاهريات على ضرورة وجود ظاهريات
للفعل؛ فتتحول حياة الظاهرياتي إلى معمل متنقل يعيش
الظاهرة، وتخضع لتحليله النظري لإدراك ماهيتها. وبتعبير
آخر تتبخر الخبرة الحية، وهي ليست إلا شحن طاقة بالتفكير
دون أن تتجلى في صورة فعل حقيقي.
١٣٨ كما يوجد نوع معين من التجارب الثقيلة للغاية
لدرجة أنها تعصى على التحليل النظري من أجل التوجه إلى
العمل. وأحيانًا يتطلب العمل قفزة من الفكر إلى العمل دون
أن يكون العمل انبثاقًا من أي تحليل نظري.
لقد تمَّت دراسة مشكلة العمل في كل مكان ولا في مكان؛
فقد تمَّت دراستها في كل العلوم الإنسانية؛ في الفلسفة، في
علاقة الفكر والفعل، وفي العلم في مشكلة العلم والعمل، وفي
الدين في دراسة المشكلة الخُلقية. درسها كل فلاسفة العصور
الحديثة بالإضافة إلى الفلاسفة القدماء.
١٣٩ وحتى الآن لم تتمَّ صياغة ظاهريات للفعل.
١٤٠